الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
الحمد لله رب العالمين، أهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامجنا "عمر صانع حضارة". ما أخبار كل من الصيام والإيمان والقرآن والدعاء والعبادة؟ هل بذلتم جهدكم وفي نية كل منكم أن يُصيب ليلة القدر هذا العام؟ وكل واحد منا يعبد الله؛ ويا حبذا لو لم يكن كل واحد بمفرده؛ فالتكامل والتشجيع على العبادة تكسبنا قوة. فتتفق كل واحدة مع أمها أو صديقتها لختم القرآن سويًّا، أو صلاة ركعتين مع بعضهما البعض، أو ليصليا التراويح سويًّا. كل شاب مع أصدقائه يحثون بعضهم على الصدقة أو أن يتشاركوا في تعبئة حقائب رمضان. التكامل جميل جدًّا في رمضان حتى أن الله سبحانه وتعالى جعل للأمة نظامًا في أن يتناولوا الإفطار والسحور سويَّا، ووصى النبي- صلى الله عليه وسلم- بعدم تأخير الفطور لتفطر الأمة وتتكامل مع بعضها.

شروط قيام الحضارات

هذا الشكل من أشكال التعبد هو شرط من شروط قيام الحضارات. حتى تقوم حضارة لا ينفع أن يقوم كل واحد بمفرده، بل يجب أن توضع الأيدي مع بعضها وتتكامل. من ذا الذي يستطيع أن يقيم حضارة بمفرده؟! الحضارة عريقة؛ فهي كلمة كبيرة جدًّا تشمل: النهضة، والتنويع، والمعمار، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق، والنجاح، وتفاهم المجتمع. من يستطيع أن يقيمها بمفرده؟ لابد وأن تتكامل الجهود؛ فهذا يصنع حضارة، وأولئك صناع حياة يشد بعضهم على أيدي البعض، ويعملون سويًّا. فهذه هي القصة الأساسية لقيام الحضارة التي لا يمكن أن تقوم بدونها. اعبدوا ربنا هكذا مع بعض في رمضان حتى يعيننا الله وتتوحد الجهود.

نحن لدينا إشكالية في العالم العربي؛ وهي: أننا فرديين ولا نجيد العمل الجماعي. ودعوني أذكر لكم قصة طريفة توضح هذا المعنى: كان هنالك منافسة في التجديف بين فريق عربي وفريق ياباني، وبدأت المنافسة فأحرز الفريق الياباني تقدمًا هائلًا وكسب السباق. فعندما حَلَّلُوا سبب هزيمة الفريق العربي وجدوا أن الفريق الياباني قسم الأدوار بحيث كان هنالك قائد واحد وتسعة يقومون بالتجديف، بينما كان في الفريق العربي تسعة قادة وواحد فقط يقوم بمهمة التجديف. فأخبروا الفريق العربي بذلك وأعادوا السباق من جديد وجاءت النتيجة كسابقتها! ولما أعادوا التحليل وجدوا أن الفريق الياباني مكون من قائد واحد وتسعة مجدفين، بينما الفريق العربي بعد التعديل أصبح مكونًا من قائد واحد، ومُدِيْرَيْ إدارات، وأربعة مدراء فرعيين، وواحد في مهمة التجديف، فأرادوا حل المشكلة فقاموا بعزل من يقوم بمهمة التجديف! فنحن لدينا مشكلة في أننا لا نجيد العمل الجماعي الذي هو شرط من شروط قيام الحضارات. ألسنا بصدد قيام الحضارات ونطبق على نموذج الخليفة عمر؟ لا يمكن أن تقوم حضارة دون أن يجيد الناس التكامل.

في إحدى الغزوات قال النبي: من يتصدق؟ فكان لدى عمر بعض المال فقال: الآن أسبق أبا بكر- فنحن بشر- فأتى بنصف ماله ووضعه أمام النبي، وأتى أبو بكر بماله كله. فسأل النبي أبو بكر وعمر فقال عمر: والله لا أسبقك يا أبا بكر أبدًا. فحسم الأمر في نفسه، وعلمته مواقفه مع النبي أن يتكامل مع أبي بكر لا أن يتنافس معه. هل لك أن تتكامل مع قرنائك بدلًا من أن تنافسهم من أجل أن نبني؟ آه لو تعلمنا هذه الصفة فوالله سنصنع حضارة عظيمة، لكن ما دام كل منا يعمل بمفرده فلا يمكن أن نبني حضارة. هيا بنا لنرى عمر بن الخطاب في خلافة أبي بكر الصديق كيف بَنَيَا سويًّا وتكاملا سويًّا ومَزَجَا بين شدة عمر ولين أبي بكر فاجتمعا لمصلحة المسلمين وبُنِيَتْ حضارة عريقة.

أبو بكر وعُمر: تكامل وتفاعل

من هو نصفك الثاني لكي تقيم نهضة؟ هل تعتقد أنه من الممكن أن تقوم حضارة بجهود فردية من أشخاص يعمل كل منهم بمفرده؟ هذه نهضة؛ أي أنها حضارة أمة. يا جماعة صحيح أن حاصل جمع واحد مع واحد في الحساب يساوي اثنان، لكن من أجل أن تبني حضارة فالناتج يساوي مائة بل قد يساوي ألفًا، فقُوَّتُك تساوي فولتًا واحدًا ولكن قُوَّتُك مع قُوَّتِي يصبحون مائة فولت أو ألف فولت. وأقسم بالله أن الحضارات لا تقوم إلى على أيدي أناس يتكاملون ويشد بعضهم على أيدي بعض. ابحث عن نصفك الثاني، ابحث عن شخص تضع يدك في يده. أيها البنات والشباب ورجال الأعمال والحكام ويا كل من يريد أن يصنع نهضة: النهضة لا يمكن أن تقوم إلا على تكامل الجهود. فكرتي وفكرتك ليست فكرة ثالثة؛ إنما هي بمثابة انشطار الخلية، هي عدد لا نهائي من الأفكار. عنوان اليوم: أبو بكر وعمر، وكيفية تكاملهما وتفاعلهما، وأن نتاج يد كل منهما مع الآخر هو شيء آخر لم يسبق له مثيل. أنا سأحكي لكم ولكني أخاطب كل واحد منكم الآن: من هو نصفك الثاني؟ مع من ستعمل يدًا بيد لتصنعوا نهضة.

يُجَسِّد أبو بكر وعمر نموذج تكامل رائع. فنرى الأصالة في أبي بكر؛ لأنه حذا حذو النبي في كل شيء، ونرى الإبداع والابتكار في عمر. أبو بكر يدير الأزمة، وعمر يستشرف الأزمة قبل وقوعها. ما أروع هذا التكامل! ولهذا فقد حكم أبو بكر لمدة سنتين ليثبت الأصالة، لكن الإبداع يحتاج إلى عشر سنوات. ولهذا أيضًا حكم أبو بكر في وقت الأزمة في حين أن عمر- رضي الله عنه- حكم بعد أن انجلت الأزمة.

كانت الأزمة هي حروب الردة، حيث ارتد الكثير من الناس في مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وبما أن أبا بكر هو أحكم من يدير هذه الأزمة، أدرك كيفية الخروج من الأزمة وهو في خضم هذه الأزمة. فرأى أن العرب الذين منعوا الزكاة، لن يلبثوا أن يتركوا الصلاة ومن ثم سَيَتَمَلَّصُوا من شعائر الدين ويهاجموا المدينة، فكان لابد له من أن يحسم الأمور من بداياتها. فوقف بمنتهى القوة وقال:" واللهلومنعوني عقالاكانوا يؤدونه إلى رسولاللهصلىاللهعليه وسلم لقاتلتهم على منعه". منتهى القوة والصلابة، وإذا بالمفاجأة؛ عمر يختار اللين! ما هذا؟ عمر القوي الشديد يختار اللين! نعم فلما وجد أن أبا بكر مال إلى الشدة اختار هو اللين. ما هذا؟ هل استطاع أن يغير صفته من أجل أن يتكامل ومن أجل إقامة النهضة؟

ماذا فعل عمر؟ ذهب لأبي بكر وقال له: يا أبا بكر لا طاقة لك بحرب العرب، وقال له: أن النبي- صلى الله عليه وسلم يقول:(...فإذا قالو ا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم...) فوقف أبو بكر في منتهى القوة وقال له:" يا عمر أجَبَّار في الجاهلية خَوَّار في الإسلام؟ رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك". فوقف عمر إلى جانب أبي بكر. فاختيار عمر للِّين في حين أن أبا بكر قد اختار الشدة هو من باب التكامل. وقد قالها عمر حيث قال: أعرض على أبي بكر كل ما يقول الآخر- أي: آرآء بقية الناس حتى يستطيعان التوصل لقرار وسطي لحل الأزمة- ويحكي عمر: فما أن وجدت إصرار أبو بكر حتى قلت: والله إنه الحق فعزمت معه. فأصبحت شدة أبو بكر عبارة عن شِدَّتَين وقُوَّتَيْن؛ قوة أبو بكر وقوة عمر. فأبو بكر هو الأحكم في خضم الأزمة، وعمر هو اللي يقف جنبًا إلى جنب مع أبي بكر ويختار اللين. ما أجمل هذا التكامل!

معارك الردة

بدأت معارك الردة، ولقي كثير من الصحابة الذين يحفظون القرآن مصرعهم في تلك المعارك كمعركة اليمامة وغيرها، فأشار عمر على أبي بكر بأن يجمع القرآن،

- فقال أبو بكر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟!

- قال عمر: هو والله خير.

عمر ينظر للابتكار والابداع للمستقبل لأن القرآن هو محرك النهضة والحضارة وهو قوة الأمة فلابد من المحافظة عليه. وأبو بكر متمسك بالأصالة، فيتكاملان مع بعضهما البعض.

- فقال أبو بكر نفس مقولة عمر: فما أن وجدت عمر قد شرح الله صدره لهذا الأمر حتى عرفت أنه الحق.

ماهذا التكامل! ما هذه الروعة! كيف لشخصين أن يتكاملا ليصنعا نهضة أمة؟!

وهنالك أيضًا مثال جميل آخر: أتى بعض المرتدين والمؤلفة قلوبهم حديثي العهد بالإسلام الذين كان النبي يخصهم بالعطايا وقالوا لأبي بكر: مُرْ لنا بأرض في بطحان- التي نتواجد بها الآن- فقال لهم أبو بكر: أعطيكموها ولكن اسألوا عمرًا. فلما ذهبوا لعمر مزق الورقة التي كتبها أبو بكر وقال: لا، ما عاد لكم أن تأخذوا أرضًا من أرض المسلمين أبدًا. فعادوا لأبي بكر وقالوا له: والله لا ندري أيكما الخليفة أنت أم هو؟ فرد عليهم أبو بكر بقوله: هو إن شاء. ويقول أبو بكر: إنما يشتد عمر لِلِينِي. هما يعلمان أنهما يكملان بعضهما البعض. فيا من يَسْمَعُنِي الآن اعلموا أن التكامل شيء جد رائع. ولا حضارة تُبنى إلا بالتكامل. ما أروع أبو بكر وعمر، جزاك الله خيرًا يا أبا بكر وجزاك الله خيرًا يا عمر يا من جعلتم هذه الأرض للمسلمين ولم تعطوها لآخر يستفيد منها. أرأيتم التكامل؟ هل ستسلكون نهجهما في العمل الجماعي؟

كيفية بناء حضارة الأمة

إن الصحابة لم يعيشوا في الفراغ، وهذه الحضارة الجديدة التي نشأت في المدينة لم تكن الوحيدة في العالم؛ بل كانت هنالك حضارات أخرى ودول أخرى في غاية القوة تواجه المسلمين والذين هم في بداية المطاف. نحن الآن في الشام في مقر الحضارة الرومانية قديمًا، فالرومان يقطنون الشام منذ سبعمائة سنة، وقد بلغ عدد القوات الرومانية في الشام آنذاك ستمائة ألف مقاتل بالإضاقة إلى القوات الاحتياطية التي قوامها ستون ألف مقاتل، كما وقد أُصدِر قرار في الدولة الرومانية بالقضاء على هذه الحضارة الجديدة الوليدة. هؤلاء المسلمين الذين حاربوا في غزوة مؤتة وانتصروا على الرومان والغساسنة. صحيح أنهم لا زالوا قوة صغيرة لكنهم أخافوهم جدًّا فاتخذوا هذا القرار للقضاء على المسلمين وعلى المدينة والصحابة. وقد كانت الشام هي مقر إقامة هرقل ملك الروم الذي يدير منها دولته.

هل استشعرتم ما يواجهه أبو بكر؟ أضف إلى ذلك أحد عشر حرب ردة ضد المسلمين في داخل الجزيرة العربية، إلى جانب الفرس الذين يقفون وراء عدد لا بأس به من القبائل المرتدة لتحريضهم ودعمهم في حربهم ضد المسلمين. إذن كل من الروم والفرس والمرتدين يهاجمون هذه الدولة الوليدة ويتربصون بها الدوائر. من يستطيع أن يتحمل جميع هذه الأمور بمفرده؟ يجب أن تشد الأيدي على بعضها البعض. تخيلوا لو أن أبا بكر وعمر لم يكونا يدًا واحدة! تخيلوا لو لم ينسجما مع بعضهما ولم يتكاملا! يا جماعة نحن أيضًا أصبح وضعنا في منتهى الصعوبة، يجب أن نشد على أيدي بعضنا البعض، حتى نُقِيم حضارة جديدة. تخيلوا أن الروم والفرس والقبائل المرتدة كلهم يتكاتفون للقضاء على هذه المدينة الصغيرة! كيف أقام المسلمين هذه الحضارة؟ ذلك لأنهم أناس يعملون بتكاتف مع بعضهم البعض، يعملون مخلصين لله لا لحظوظ أنفسهم، أناس يريدون البناء ويحملون طاقة غير اعتيادية. أترانا مثلهم الآن؟ هل عرفتم كيف قامت حضارة المسلمين؟ بهؤلاء الرجال. هل كانت ستقوم هذه الدولة لو لم يكن أبو بكر وعمر على هذا الوفاق؟ ضعوا أيديكم في أيدي بعضكم البعض يا أيها الشباب، ويا أيها العلماء، و يا أيها الحكام والسياسيين، ويا أيها الإعلاميين، دعوا الجهود لتتكامل حتى تُبنَى نهضة الأمة.

هل رأيتم كيف كان الوضع السياسي والعسكري في الشام، وما يواجهه أبو بكر ودولته الناشئة الصغيرة من أعداد القوات المتواجدة في الشام. كما أن هنالك أيضًا بلاد فارس في العراق –أنا أصور الآن من أمام نهر الفرات- فالفرس يقطنون العراق منذ ألف سنة، مارسوا فيها صنوف الظلم والقهر والذل والاضطهاد للعراقيين، إضافة إلى العقيدة الفاسدة وعبادة النار، والانحلال الخلقي والفساد. كما أن لهم قوات عسكرية هائلة جدًّا يريدون أن يستخدموها للقضاء على حضارة المسلمين، وإخضاع الجزيرة العربية لحضارتهم بأي شكل من الأشكال. فهذه الحضارة التي استمرت ألف سنة ولديها كل هذه المقومات من القوات العسكرية والحصون وغيرها تريد القضاء على الأمة الإسلامية الناشئة التي تعتبر تهديدًا لها، ولم تدخر جهدًا في نشر القلاقل في الجزيرة العربية.

أنا كنت في الشام قبل قليل والآن انتقلت إلى العراق لأتمكن من التصوير من أمام نهر الفرات، وإن كان المسير طوال الاثنتي عشرة ساعة والانتقال من مكان إلى آخر بواسطة السيارات قد أرهقنا جدًّا، فيا ترى ماذا كان يواجه أبا بكر وعمر؟ إذا كنا نحن وفريق التصوير بلغ منا الجهد هذا المبلغ لنصور هاتين اللقطتين، فكيف كان حال أبو بكر وعمر وهما يخوضان غمار هذه المواجهة؟ كان لابد لهما من أن يكونا يدًا واحدة. جزاك الله خيرًا يا رسول الله لتعليمك لهما بأن يكونا يدًا واحدة. لو لم يكن أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمع يدًا واحدة لما انتصروا.

إياكم أن تُصَدِّقوا أن الصحابة كان بينهم ضغائن، وأن عليًّا- رضي الله عنه- على خلاف مع عمر بن الخطاب، وأن عمر يكيد لشخص آخر. لو كان الوضع هكذا لما قامت الدولة الإسلامية؛ لولا تكاتفهم والحب الذي يغمرهم والتفاني والإخلاص والتجرد والشعور بالتكامل لما قامت حضارة المسلمين. وأنا أكرر هذا المعنى: لن تقوم لنا حضارة إلا بتكامل الجهود. لننسى أنفسنا قليلًا، ولننسى من نكون وما هي مناصبنا ودرجاتنا، ولنرجع خطوة للخلف حتى ندفع بالحضارة خطوة إلى الأمام، لنتعلم من أبي بكر وعمر، وقد رأينا ما واجهوه من التحديات في الشام وفي بلاد فارس. فلولا أنهم كانوا يدًا واحدة لما قامت لهم قائمة. أرجوكم يا جماعة أقيموا هذه الحضارة بوضع أيدكم في أيدي بعض ولا ينفرد منكم أحد ويحاول البناء لوحده.

حقيقة العبادة والإسلام

لكن من غير المجدي أن يقوم التكامل لبناء الحضارة بشخص أو اثنين فقط؛ بل هناك حاجة للمجوعات، وفرق العمل، وأناس يخلط بعضهم شدته بلين البعض الآخر، ويدمجون قوتهم بأفكارهم. فوالله يا إخواني هذه هي العبادة. ومن قَصَرَ العبادة على الصلاة والصيام لم يفهم الإسلام حق الفهم؛ الإسلام: أن تقيم حضارة، وتصلح، وتبني، وتزرع، وتُعَمِّر. حرص أبو بكر على هذا التكامل حتى آخر دقيقة في حياته. إياكم أن تصدقوا أن أبا بكر قام بتعيين عمر دون أن يستشير الناس ويتكامل مع كبار الصحابة، بل استشارهم فردًا فردًا، فاستدعى عمرًا –نحن الآن في آخر لحظات أبو بكر الصديق حيث شعر بقرب وفاته-

- فقال: يا عمر، إني أريد أن أُوَلِّيك الخلافة- ليس معنى ذلك أنه قد عَيَّنَه بل استشاره- .

- قال: لا حاجة لي بها. –انظر إلى عدم التكالب على المناصب-.

- فقال أبو بكر: لكنها في حاجة إليك. –انظروا إلى عظمة أبي بكر ورؤيته، أين العظماء الذين يقدمون مصلحة الأمة على مصالحهم الشخصية كأبي بكر-.

فسكت عمر، وبدأ أبو بكر يستشير أناسًا كثر، فاستشار أبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، فاستشف الآراء أولًا. ثم أخذ يستطلع آراء المهاجرين والأنصار فمنهم من قال: أنه خير الناس. والبعض الآخر– كعثمان بن عفان- قال: ذلك رجل أعلم أن سره أفضل من علانيته. يا ليتنا نصبح بهذا الإخلاص كَعُمَر، وتصبح سرائرنا أفضل من علانيتنا لا العكس.

وانتقد بعض الصحابة عمر فقالوا: أَتُوَلِّيهِ علينا وهو غليظ؟ فقال أبو بكر: إنما كان يشتد لِلِينِي. وقال آخرون: ماذا ستقول لربك إذا وَلَّيْتَهُ علينا وهو شديد؟ فقال أبو بكر: أتخوفني بالله؟ أقول لله: وَلَّيْتُ على الناس خير الناس. فحتى الذين انتقدوا عمرًا انتقدوا فيه الشدة والغلظة التي علم أبو بكر أن الأمة بحاجتهما في المرحلة المقبلة، فلما انتقدوه كان ذلك تأكيدًا لرأي أبي بكر ومن وافقه. وبدأ الإجماع على عمر، وأخذ التعب يشتد على أبي بكر، فنادى عثمان بن عفان في لحظاته الأخيرة وقال له: اكتب يا عثمان وَلَّيْتُ عليكم من بعدي ثم أغمي عليه لدقائق، فخاف عثمان أن تتنازع الأمة وقد علم سلفًا إجماع الناس على عمر فكتب عمر بن الخطاب قبل أن يقولها أبو بكر. فلما أفاق قال: ماذا كتبت؟ قال: كَتَبْتُ عمر بن الخطاب. فقال أبو بكر: الله أكبر هذا ما أردت جزاك الله خيرًا يا عثمان.

لم يعش عثمان لنفسه فهو ليس من أهل الدنيا كمن نراهم اليوم. وتكامل الصحابة، واختار أبو بكر عمر بن الخطاب، وكُتِب عمر بن الخطاب، ومات أبو بكر الصديق، وبايع الناس كلهم عمر.

عظيم جدًّا هو عمر بن الخطاب، وعظيم جدًّا أبو بكر الصديق. أسلم عمر بن الخطاب فانتهى النزاع في مكة، وهاجر عمر بن الخطاب فهاجر الناس معه إلى المدينة، وبايع عمر بن الخطاب أبا بكر الصديق فانتهى النزاع بين المهاجرين والأنصار، وتَوَلَّى عمر بن الخطاب فتوقف الخلاف عشر سنين.

كم أتمنى أن أرى سيدنا عمر في الجنة، أحد الشباب في أثناء التصوير قال لي: أتمنى أن أرى عمر بن الخطاب ويحتضنني ويقول لي أنت من الذين صنعوا الحضارة كما صنعتُ الحضارة. وتولى عمر بن الخطاب قيادة المسلمين.

إنها أمة متكاملة وليست متنازعة، قَلِّدُوا أبا بكر وعمر، واحذوا حَذْوَ الصحابة، ودعونا نبني حضارة عظيمة.

في اللحظات الأولى من تولي عمر بن الخطاب خلافة المسلمين، خرج عمر من بيته متجهًا إلى المسجد فلاحظ أن الناس يهابونه. وقد كان الأطفال يركضون لأبي بكر ويحتضنونه عندما يمشي في الشارع بينما كل الناس يهابون عمر ويخافونه. فصعد المنبر وقال:" أيها الناس بلغني أنكم تهابون شدتي، وأنكم خفتم غلظتي، تقولون: كان عمر مع رسول الله شديدًا علينا فكيف وقد مات رسول الله؟ وكان عمر بن الخطاب مع أبي بكر الصديق شديدًا علينا فكيف وقد مات أبو بكر الصديق؟ أيها الناس من قال ذلك فقد صدق، ولكن كنت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عبده وخادمه، وكان رسول الله أَلْيَنَ الناس، قال الله فيه:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة: 128). فأردت أن أضع سيفي وقوتي مع لِين النبي- صلى الله عليه وسلم- فإن شاء أطلقني وإن شاء وضعني. فظللت على ذلك حتى جاء أبو بكر الصديق وكان أَلْيَنَ الناس كرسول الله، فكنت خادمه وكنت عونه، وخلطت شدتي بِلِينِه، فكنت أقول: أضع شدتي بين يديه، وأكون سيفًا بين يديه إن شاء استخدمني وإن شاء وضعني. أما الآن وقد مات رسول الله وقد مات أبو بكر فاعلموا أيها الناس أن هذه الشدة قد ضَعُفَت، وأن هذه الشدة ستكون على أهل الظلم والجور، وسأكون أَلْيَنَ ما أكون عليكم، فأنا أبو العيال".

ما أجمل كلامك يا عُمر! يريد أن يقول لهم أنه كان يتكامل مع أبي بكر ومع النبي فحيما كانوا هم اللين كان هو الشدة، لكنه الآن سيغير صفاته فيجمع اللين والشدة سويًّا ليحقق مصالحهم. أتمنى أن نجتمع به في الجنة ونفرح به. هلُمُّوا بنا نبني الحضارة مع عمر بن الخطاب من الحلقة القادمة.

قام بتحريرها: قافلة التفريغ والإعداد بدار الترجمة

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كأنت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخرى فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

للاستعلام:management*daraltarjama.com