الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلاً بيكم في برنامجنا وفي حلقة جديدة من عمر صانع حضارة.

أحب أن أبدأ بكلمة عن رمضان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولله عتقاء من النار في رمضان، وذلك في كل ليلة" ففي كل ليلة يقول الله تعالى: "يا ملائكتي اكتبوا فلاناً من عتقاء ليلة كذا في رمضان" تُرى من منّا يذكر اسمه؟ ألا أدلكم على فكرة تجعلكم من العتقاء؟ تحرك في رمضان بكل كيانك مع الله وادعوه أن يعتقك من النار.

عُمر يتحرك بكل كيانه تجاه الفكرة

لعل هذا الكلام شديد العلاقة بعمر بن الخطاب وببناء الحضارة، فلكي نبني حضارة لا بد وأن نتحرك بكل كياننا، لا بد وأن نتمرن في رمضان أن نتحرك بكل ما فينا لوجه الله فيكون هو منهج حياتنا حتى في هواياتنا ومتعنا. هكذا كان عمر، متوجها لله بكل كيانه، مخلصاً للفكرة إن آمن بها. فقد كان كذلك قبل إسلامه وبقى بهذه الصفة بعد إسلامه.

ربما تجد من يحاربك في سعيك لأجل مصلحة أو منفعة خاصة، وربما تجد من يحارب سعيك لأنه مؤمن بفكرة معارضة، وشتّان الفرق بينهما، كما أنه شتّان الفرق بين من هو مؤمن بفكرة لمجرد الإيمان بها ومن هو متشبع بها مقتنع تماماً بها.

كان الناس في قريش يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم لأجل المصلحة، فمثلاً أبو لهب كان يحارب لكي لا يخسر ماله وأبو سفيان كان يحارب لأجل الزعامة، أبو جهل لأجل القبلية، وهكذا. أما عمر برغم أنه كان شديداً على المسلمين إلا أنه حاربهم لإيمانه بفكرة وحدة قريش. فنجده يجمع بني عدي كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً فيقول: "يا بني عدي، الحزم الحزم، والله من فارق ديننا إلى محمد لأضربنه ولأعذبنه ولا أفرق بين رجل وامرأة وبين كبير وصغير وبين خادم وعبد وسيد" كان من بينهم زيد بن الخطاب وفاطمة بنت الخطاب أخوته الذين أسلموا وسعيد بن زيد زوج أخته وأحد العشرة المبشرين بالجنة.

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم مازال يدعو الله: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب" ومن العجب أنه لم يدعو بها لعمه ولا لأسياد قريش مثل أبا سفيان، فماذا رأى من عمر كي يدعو له مثل هذا الدعاء؟ ذلك أنه إن آمن بفكرة تحرك نحوها بكل كيانه.

محاولات عُمر لمنع النبي صلى الله عليه وسلم

ذهب عُمر لأخيه زيد بن الخطاب قائلاً: "إنما أسن سيفي لأقتل محمداً" فقال: "يا عمر وما فعل فيك محمداً؟ إنه لم يرفع عليك عصا، لم يرميك بحجر" فرد عمر قائلاً: "دم رجلين أهون من دم الجماعة" ذلك أنه رأى أن لو قتله فسلم نفسه لبني عبد المطلب ليقتلوه لكان أهون. فقد وصل إيمانه بالفكرة أن فكر أن يقتل نفسه لأجلها. وظل يعذب في جاريته التي علم بإسلامها رفضاً منه للفكرة، بل زاد على ذلك أن ترك حاله وصار متتبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم في كل مكان فإن وجد شخصاً مقبلاً ليتحدث معه أبعده عنه حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما تتركني يا عمر ليلاً أو نهاراً".

حاول عمر حث قريش أن يتحدثوا لعمه أبو طالب فاقترح سادة قريش أن يشنوا الحرب على بني عبد المطلب، إلا أنه رفضه إيماناً منه بأهمية وحدة قريش والتي تعلو قيمتها فوق مجرد الانتصار. فقالوا: "حيرتنا فيك يا عمر، تحارب محمداً حرباً شديدة ثم لا تريد أن نحاربهم؟" قال: "إنما أريد وحدة قريش".

شخصيات هزت عُمر

ونفس الصفة وهي التحرك بكل ما فيه نحو هدفه كانت هي سبب انتقاله من شدة العداوة إلى شدة الإيمان. فمثل عمر يهتز بشدة إذا ما رأى من هو بنظره شخص عادي يثبت على فكرة ويدافع عنها، فقد كان عمر بن الخطاب يعرف بلال العبد الحبشي وكان يذهله ما يراه من تعذيب فيه لا يزيده إلا قول: "أحد احد" وكذلك جاريته التي كان يعذبها ويضربها حتى يتعب فتقول له: "أفرأيت كيف فعل الله بك فأتعبك وقواني!"، وقبل ذلك كانت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم السمحة المحببة، فما تلك القوة التي تمتع بها إذ ينادي من فوق جبل الصفا: "يا معشر قريش أرأيتم لو أن خيلاً من خلف هذا الوادي تريد أن تكون مغيرة عليكم أتصدقوني" قالوا نعم فقال: "فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فكانت قوته شديدة وكذلك حين قال لعمه: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو أموت في سبيله. كما رأى في هجرة الحبشة أم عبد الله بنت حفمة وهي امرأة ضعيفة تخرج بين جموع المهاجرين، فقال: "إلى أين يا أم عبد الله" فقالت: "أفر بديني منكم" فقال عمر: "تفري بدينك وتتركين بلدك" فقالت: "نعم، لله" فقال: "صحبكم الله يا أم عبد الله". ومن فرط ذهول المرأة ذهبت لزوجها تروي له فقالت: "لقد شهدت عجباً اليوم" فروت له حتى قالت: "فقال لي صحبكم الله" فرد زوجها: "أتطمعين أن يؤمن عمر!" قالت: "نعم" قال: "والله لا يؤمن عمر حتى يؤمن حمار الخطاب" فقد كان محط يأس من حوله من شدته.

قالت قريش وعلى رأسهم أبو سفيان وأبو جهل "إنما هاجر الضعفاء والمساكين"، فيرد عمر ويقول: "لا إنما أرى ممن هاجر عثمان بن عفان وأرى ممن هاجر جعفر بن أبي طالب والزبير بن العوام" فكان الصراع يعلو في داخله، فلماذا يتخلى هؤلاء عن رغد عيشهم ليهاجروا.

جاءه يوما زيد بن الخطاب أخاه المسلم الذي يخفي إسلامه فقال: "أنت تقول أن محمداً سيفرقنا ونحن متفرقين، فما نحن إلا قبيلة تضرب قبيلة، إنما نجتمع لنتفرق ونضرب بعضنا البعض، أما محمد فلا يفرقنا إلا ليجمعنا لنكون أمة من الأمم فنقيم حضارة" .ثم جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم". فتغير عمر وبدأ يسعى ليعرف ماذا يقول الرجل.

إسلام عُمر

ذهب عمر إلى الكعبة ليسمع قرآناً فقال بينه وبين نفسه: "هذا شعر" فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: }وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ{ سورة الحاقة أية 41 " فاهتز لذلك بقوة وقال في نفسه: "لا بد وأنه كاهن" فكانت الآية التالية: }وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ{ سورة الحاقة آية 42 فتأثر بشدة من كلمات القرآن.

ولأن عمر شخصية حاسمة فكان لا بد له أن يحسم أمره بقرار، فقرر أن يستل سيفاً ويواجه النبي صلى الله عليه وسلم به، وقد كان، وتوجه بسيفه إلى النبي وإذا برجل يكتم إسلامه يقابله في الطريق فيقول: "إلى أين يا عمر" فرد: "أقتل محمداً لنستريح" فرد الرجل: "أتقتل محمدا وتترك أختك" فسأل عمر: "ومالها أختي" فقال الرجل: "أسلمت هي وزوجها" فقال: "أوفعلا؟" فرد الرجل: "نعم" وهنا انطلق عمر متوجهاً لأخته في بيتها وكانت هي وزوجها ومعهما الخباب بن الأرت يقرآن صحيفة بها جزء من سورة طه، وبعد خبط عنيف وحين علموا أنه عمر ارتعب الجميع واختبأ الخباب وفتحت فاطمة الباب فقال لها: "يا عدوة نفسها بلغني أنك قد صبأت واتبعت محمداً" فقالت: "يا عمر أرأيت إن كان الحق على غير دينك؟" ثم تبعها زوجها سعيد بن زيد وقال: "أرأيت إن كان الحق على غير دينك؟" فما كان من عمر إلا أن ضرب سعيد بن زيد بعنف واستدار لأخته فلطمها حتى خلع الحلق من أذنها وجرح شفاها وسال دمها. توقف عند رؤية الدم ورأى الصحيفة التي وقعت من يدها فقال: "ما في هذه الصحيفة؟ أعطيني هذه الصحيفة" فقالت أنت لست طاهر إذهب فاغتسل ثم ائتني أقرأك" فبرغم جواز ان يقرأها إلا أنها أرادت أن تهزه من داخله وبالفعل ذهب واغتسل وخرج فقال: "أعطني الصحيفة" فأمسكها وقرأ ما بها، وبها مطلع سورة طه التي تتحدث عن حركة الكون كله لعبادة الله وهي أبرز صفات عمر إذ يتحرك بكل كيانه نحو الهدف فقرأ: }طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى * وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى{ وفي السورة قصة موسى وشخصيته تتشابه بقوة مع شخصية عمر، فكانت هي النهاية. قال عمر: "دلوني على محمد" فظهر الخباب بن الأرت بعد أن كان مختبئاً وقال: "هو في دار الأرقم بن أبي الأرقم" فتوجه من فوره نحوهم وطرق الباب وكان بداخل الدار أربعين رجلاً وامرأة مجتمعين مع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأون القرآن ويتدارسون أحوال المسلمون، فحين طرق الباب وذكر أسمه ارتعب من في الدار فقال حمزة القوي: "مالكم؟ إن كان جاء لخير فبها وإن لم يكن فأنا له" ففتح بلال الباب ودخل عمر فهم حمزة وقيده من خلفه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه يا حمزة، تعالى يا عمر" فدخل عمر فأمسكه النبي بقوة من ملابسه وهزه وقال: "أما آن لك أن تسلم يا بن الخطاب؟" فقال عمر: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله". هو نفسه عمر بن الخطاب الذي إذا آمن بفكرة التصقت به كظله، وآمن بها حتى النخاع، فقال: "يا رسول الله ألسنا على الحق؟" قال: "نعم" قال: "أليسوا على الباطل؟" قال: "نعم" قال: "يا رسول الله نخرج ونعلن الحق" فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا في صفين، الأول على رأسه عمر والآخر على رأسه حمزة والنبي صلى الله عليه وسلم بينهما وتوجهوا للطواف بالكعبة. وكان مشهدا مهيباً لكل مكة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الفاروق يفرق الله بك بين الحق والبالطل".

عُمر يُعلن إسلامه بقوة

لم يكتف عمر بما فعل بل توجه في نفس اليوم إلى أبا جهل فقال: "أما علمت يا أبا الحكم" قال: "ماذا؟" قال: "إنني أسلمت" فقال: "قبحك الله أفسدت علي يومي" وأغلق بابه. فتوجه إلى أبي سفيان وقال: "يا أبا سفيان أما علمت؟" قال: "ماذا؟" قال: "إنني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" قال: "قبحك الله أفسدت علي يومي" وأغلق بابه. فسأل من من قريش أسرع نقلاً للأخبار فقيل له جميل بن معمر فذهب إليه وقال: "يا جميل أأقول لك شيئاً ولا تخبر أحداً؟" قال: "قل يا عمر" قال: "إنني قد اتبعت محمداً ولكن لا تخبر أحداً" فظل الرجل يردد: "يا قريش أسلم عمر" فتوجه عمر إلى الكعبة كما هو عهده أن يتحرك بكل كيانه لأجل فكرته، وقد كان ما توقع إذ تجمع القوم عند الكعبة فقال بصوت عال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فضربوه وضربهم وظلوا يتضاربون حتى نصف النهار حيث تعب الجميع، فأخذ أحدهم ووضع يديه قرب عينيه وقال: "قل لهم يقوموا عني وإلا فقأت عينيك" فقال لهم فقاموا عنه، حينها قام فصلى عند الكعبة.

أتم صلاته وجمع بني عدي وقال: "يا بني عدي كنت قد نهيتكم عن اتباع محمداً، يا بني عدي أوصيكم بأن تتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأجاب زيد بن الخطاب: "أنا متبع لمحمد" قال: "يا زيد ولم تخبرني" قال: "كنت جباراً يا عمر" قال: "ومن الآن لن تجدني خواراً". عاد لأهل بيته وجمع أبناءه وقال: "أقسمت عليكم أن تسلموا" فرد عبد الله بن عمر وهو حينئذ صغير السن: "أنا مسلم يا أبي منذ سنة" فضربه وقال: "وتترك أبوك".

فقط في أول يوم خمس مواقف قوية، لنتعلم منه أن نتحرك بكل ما فينا نحو ما نؤمن به.

قام بتحريرها: قافلة التفريغ والإعداد بدار الترجمة

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كأنت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخرى فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

للاستعلام:management*daraltarjama.com