الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي
التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس (19-70):تفسير الآيات 20-22 ، تصحيح التصور يصحح الاستقامة.

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2010-07-30

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

كل إنسان جُبل على حبّ وجوده وحبّ كمال وجوده وحبّ استمرار وجوده :

أيها الأخوة الكرام، مع الدرس التاسع عشر من دروس سورة التوبة، ومع الآية العشرين وهي قوله تعالى:

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾

أيها الأخوة الكرام، في القرآن الكريم مصطلحات، وتحديد معنى المصطلحات جزء من العلم، لأن هذه المصطلحات مع مضي الزمن تأخذ معانٍ واسعة جداً، هذه المعاني الواسعة تضعف حديتها، تضعف مدلولها.

فالله عز وجل يقول في نهاية الآية التي هي موضوع هذا الدرس:

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾

كل إنسان يحب أن يكون فائزاً، الفوز محبب، النجاح والفوز تهفو إليهم النفوس، والإنسان كما تعلمون جُبل على حبّ وجوده، وعلى حبّ كمال وجوده، وعلى حبّ استمرار وجوده، سلامة وجوده باتباعه تعليمات الصانع، أنت أعقد آلة في الكون، أعقد آلة، تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز، لك صانع حكيم، لهذا الصانع تعليمات التشغيل والصيانة، انطلاقاً من حرصك على سلامتك، انطلاقاً من حرصك على سعادتك، انطلاقاً من حرصك على استمرار وجودك، ينبغي أن تطيع الله عز وجل، كل إنسان كائناً من كان في كل زمان ومكان، في أي قارة، في أي بلد، في أي إقليم، في أي مصر، في أي عصر، مجبول على حبّ سلامة وجوده، وعلى حبّ كمال وجوده، وعلى حبّ استمرار وجوده.

الجهل هو أزمة الإنسان وسبب شقائه :

لماذا الآلام والمصائب؟ هي أزمة علم فقط، الدليل أهل النار في النار:

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[ سورة الملك]

لا تنسوا أيها الأخوة أن الإنسان يتحرك، ما الذي يسبق حركته؟ التصور، إن صحّ تصورك استقامت حركتك، إن لم يصح تصورك انحرفت حركتك، المتحرك وفق منهج الله هو المؤمن، بالإسلام لا يوجد حرمان، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، الحرمان مستحيل، جميع الشهوات التي أودعها الله فينا لها قنوات نظيفة، والدليل:

﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

[ سورة القصص الآية: 50]

عند علماء الأصول المعنى المخالف المعكوس، أي الذي يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه، اشتهى المرأة تزوج، واختارها جميلة، اشتهى المال كسبه من طريق حلال.

فلذلك المشكلة أيها الأخوة أن أزمة الإنسان وسبب شقائه هو الجهل، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به.

لذلك: إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.

على الإنسان أن يأخذ إخبار الله وكأنه يراه :

إذاً في الإسلام مصطلحات، المؤمن مصطلح، الكافر مصطلح، المنافق، المشرك، الملحد، هذه كلها مصطلحات، أحياناً تضيع معالم هذه الكلمات، كل إنسان يدّعي أنه مؤمن، طبعاً أنت انتبه لهذه النقطة، لا يستطيع إنسان أن يتكلم كلمة بالطب إلا إذا كان مختصاً به، يستطيع فلان أن يفتح عيادة ويكتب الطبيب الفلاني وهو لا يقرأ ولا يكتب؟ ممكن؟ لا يستطيع، الحياة كلها اختصاصات، لكن سبحان الله! الشيء المؤلم وأبعد من الحدود أن كل إنسان يتكلم بالدين، هذه غير معقولة.

يقولون هذه عندنا غير جائز قال فمن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ

* * *

من أنت؟ إله، آية قرآنية، حديث صحيح، خالق الكون أعطى هذه الأمر.

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

[ سورة الأحزاب الآية: 36]

﴿ َمَا كَانَ﴾

أي مستحيل وألف ألف مستحيل،

﴿ َمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

رأيي كذا، إذا قال الله شيئاً انتهى كل شيء، لذلك مثلاً:

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾

[ سورة الفيل]

بربكم أنتم جميعاً لا أستثني واحداً منكم، هل واحد منكم رأى الحادثة؟ الله قال:

﴿أَلَمْ تَرَ﴾

والله ما رأيناها، قال علماء التفسير: يجب أن تأخذ إخبار الله وكأنك تراه، خالق الكون.

فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه :

أخواننا الكرام، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، كم هي المسافة بين خالق الأكوان وبين الإنسان؟ هي نفسها بين كلام الله وكلام خلقه، إله يقول لك: افعل كذا، أو لا تفعل، لك رأي في الموضوع؟.

أحياناً الدولة القوية بأي مفاوضات تقول: هذه القضايا لا يمكن أن تخضع للمناقشة، وأنت كمؤمن، أي إذا جاء حكمٌ في القرآن أو حكمٌ في الحديث الصحيح أقول لك: عطل عقلك، هذا كلام خالق الأكوان، عقلك إذا كان كلام بشر توازن بين كلام وكلام، أما كلام خالق البشر، الآية الدقيقة:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

كلمة آمن في القرآن تعني أن الإنسان بذل جهداً كبيراً حتى آمن وتعرف إلى الله :

أخواننا الكرام، الله عز وجل يقول:

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾

آمن، أنت تصدق إنساناً نام، استيقظ معه دكتوراه، هذا خيال، ابتدائي ست سنوات، إعدادي ثلاث سنوات، ثانوي ثلاث سنوات، جامعة أربع سنوات، دبلوم سنة، دبلوم ثانية، ماجستير، دكتوراه، تأليف كتاب، ثلاث وثلاثون سنة دراسة، حتى وضع جانب اسمه "د"، يموت تنتهي، تريد أن تقول: أنا مؤمن ولا مرة حضرت درس علم، و لم تقرأ القرآن، ولم تقرأ تفسيره، ولم تلازم العلماء، ولم تطلب العلم، متى آمنت؟

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

آمن، فلان تاجر، اشترى محلاً، ومستودعاً، ومكتب استيراد، وعيّن موظفين، معه رأسمال، سافر للمعارض، وأخذ وكالات، وعرض البضاعة، وباع البضاعة، وجمع ثمن البضاعة، ووزع الأرباح، كلمة تاجر فيها معان كثيرة، مؤمن! ما خطر بالك أن تحضر مجلس علم؟ ما خطر بالك أن تقرأ القرآن وتفهم تفسيره؟ ما خطر بالك أن تلازم عالماً من العلماء المؤمنين الصادقين؟

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

كلمة آمنوا في القرآن تعني بذل جهداً كبيراً حتى آمن، بذل جهداً، اقتطع من وقته وقتاً ثميناً، تعرف فيه إلى الله.

((ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء))

[تفسير ابن كثير]

بطولة الإنسان أن يعد لآخرته لا لدنياه :

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

آمن، لزم درس علم، التقى بعالم، قرأ القرآن، قرأ تفسيره، تابع قضايا الدين، سأل عن الحلال والحرام، قرأ سيرة النبي، تأثر بها، يقرأ كل يوم صفحات من كتاب الله، يلتزم بما أمر الله، ينتهي عما نهى الله عنه، يأتمر بما أمر، يقدم العمل الصالح، ينفق من ماله، أقام الإسلام في نفسه أولاً، وفي بيته ثانياً، وفي عمله ثالثاً، عندئذٍ نقول: أنت مؤمن

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

متى آمنت؟.

أخواننا الكرام، جنة للأبد ألا تستدعي أن تؤمن؟ عفواً نجد الإنسان يعيش كما قال النبي:

(( مُعْتَرَكُ المنايا ما بين الستين إلى السبعين ))

[أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة]

ستون سنة، حتى يأخذ بورد يحتاج أربعين سنة بالضبط، يقول لك: سبع سنوات بأميركا حتى أخذت البورد، وقبلها سبع سنوات إجازة بالطب، وقبلها دبلومات، وقبلها ماجستيرات، وقبلها ثانوي، وقبلها إعدادي، وقبلها ابتدائي، حتى صار معه بورد، أي الإنسان يعيش ستين أو سبعين سنة، أربعون سنة إعداد بعشر سنوات.

أيها الأخوة، حتى تؤمن للأبد من أجل عشر سنوات، عشرين سنة، تجد أكثر الناس عمرهم بين الستين و السبعين، والآن هناك جلطات يموت و هو في الثامنة و الثلاثين، فأنت ماذا تعد لما بعد الموت، هذا الأبد، معنى الأبد لا أعرف، أقسم لكم بالله: لا يستطيع إنسان أن يتصور الأبد.

مثال بسيط: واحد بالأرض وواحد على هذا الحائط، وثلاثة أصفار جنبه ألف، وثلاثة ثانية مليون، وثلاثة ثالثة ألف مليون، وثلاثة رابعة مليون مليون، كل ميلي صفر، ما هذا الرقم! على الحائط واحد لآخر الجامع، لآخر شيخ محي الدين، لآخر ركن الدين، لتدمر، للعراق، اترك الأرض، اصعد إلى السماء، واحد بالأرض و أصفار للقمر، ما هذا! واحد بالأرض و أصفار للشمس، 156مليون كيلومتر، كل ميلي صفر، هذا الرقم اجعله صورة والمخرج لا نهاية، قيمته صفر، أي رقم ينسب للانهاية قيمته صفر، الدنيا كلها صفر، عاش مئة و ثلاثين سنة، بلكيت يملك تسعين مليار دولار، صفر، لو عشت مئة و ثلاثين سنة وتملك تسعين ملياراً صفر، حديث للنبي الكريم:

((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يؤخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر))

[ الطبراني عن المستورد بن شداد]

اذهب إلى الساحل، اركب قارباً، أخرج إبرة و اغمسها في البحر، واحسب كم علق بها من الماء، والبحر المتوسط، والمحيط الهادي، والمحيط الهندي، والأطلسي، والمحيط الشمالي والجنوبي، احسب كم علق بهذه الإبرة من الماء بنسبة إلى البحار الخمس.

((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يؤخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر))

[ الطبراني عن المستورد بن شداد]

((عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم ، وقفوا على صعيد واحد وسألوني كل واحد منكم مسألتَهُ، ما نقص ذلك في ملكي، إلا كما يأخذ المِخْيَطُ إذا غمس البحرَ ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري]

من رجحت عنده كفة الإيمان أصبحت قناعاته أقوى من شهواته :

أيها الأخ الكريم، أنت حينما تحضر درس علم، تتشكل عندك قناعات، درس ودرس ودرس وكل أسبوع درس، بالشهر أربعة دروس، بالفصل تحضر اثني عشر درساً، بالسنة تحضر خمسين درساً، كل درس عمل قناعة.

آتي بمثل آخر: تصور الشهوة التي أودعها الله في الإنسان، لها وزن فرضاً، وزنها طن مثلاً، الدرس جمعت فيه عشر غرامات قناعات، كم درس تحضرهم حتى تتصور الحق واضحاً؟.

﴿ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾

[سورة هود الآية:28]

كل درس تحضره شكلت قناعات، القناعات إذا تراكمت أصبحت قوة كبيرة، هذه تقف أمام الشهوات.

مرة قال لي إنسان: عندما أسمع امرأة تمشي ورائي لا يوجد قوة بالأرض تجعلني أغض بصري عنها، أي ينظر إليها، هذه شهوة مدمرة، فعندما أنت تطلب العلم، صار عندك قناعات، يقينيات، هذه تقف أمام الشهوات، المؤمن مستقيم، استقامته ليست صدفة، استقامته من قناعاته، أحياناً تختلف مع إنسان، وراءه قوة كبيرة جداً، أنت لا ترى حجمه، قد يكون حجمه صغيراً، تنظر إلى من يقف وراءه، الآن دولة ضعيفة جداً وراءها أكبر دولة بالعالم، تهدد وتتوعد تتكلم بمن يدعمها أليس كذلك؟

التفكر في خلق السموات والأرض أحد سبل معرفة الله :

أنت حينما تعرف الله لك شأن كبير عند الله، وعند الناس،

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

تفكر في خلق السموات والأرض، هذا طريق.

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

[سورة آل عمران]

أحد سبل معرفة الله التفكر في خلق السموات والأرض، هذا طريق، طريق آخر:

﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

[سورة آل عمران الآية: 137]

حدثني أخ محام، قال لي: كنت أدافع عن إنسان مرتكب جريمة، طبعاً القاضي أصدر حكماً بالإعدام، وبلغته، قال لي: بلغته وما تحركت فيه شعرة، و هذا شيء نادر جداً إعدام! قال لي: حرصت حرصاً لا حدود له أن أحضر إعدامه، قبل أن يوضع الحبل في رقبته، قال هذا الكلام قال: أنا الآن سأشنق لأنني متهم بقتل إنسان، قال له: أنا ما قتلته أبداً، لكنني قتلت إنساناً من ثلاثين سنة، وذكر كيف قتله، إله عظيم.

قال لي قاض: حلف إنسان يميناً كاذباً على المصحف وهو واقف أمامي، أمسك المنصة بيده وحلف اليمين، رفع يده ليحلف اليمين، وحلف اليمين وبقي رافعاً يده، قال له القاضي: أنزل يدك، لم يرد عليه، كان ميتاً، بعد دقيقة سقط، الله كبير، عدله عظيم، لذلك:

(( ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء))

[تفسير ابن كثير]

على الإنسان أن يترك البيئة التي تدعوه لمعصية الله و يهاجر منها :

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

متى آمنت؟ كم ساعة بذلت من جهد كي تعرف الله؟ كل إنسان معه لسانس، يقول لك: عندي اثنا عشر مادة، أحياناً خمس عشرة مادة، وكل مادة لها دكتور، وكل مادة لها كتاب ثمانمئة صفحة، ومئتي مرجع، وكل مادة لها فحص شفهي وكتابي، بعد أربع سنوات يعطونه إجازة في الآداب، يكتب على بطاقته لسانس في آداب اللغة العربية وعلومها، كل هذا الجهد من أجل هاتين الكلمتين، أي من أجل أن تدخل الجنة إلى أبد الآبدين ألا يستأهل ذلك أن تعرف الله.

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

آمنت أي بذلت جهداً، قرأت القرآن، قرأت تفسيره، لازمت درس علم، اتخذت مرجعاً دينياً، أسأل عن كل قضية،

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا﴾

هاجروا.

أحياناً يكون هناك بيئة سيئة جداً، كل شيء في هذه البيئة يدعوك للمعصية، يصعب أن تطيع الله في هذه البيئة، لا بدّ من الهجرة، وأحياناً والعياذ بالله في المجتمعات الغربية الزنا على قارعة الطريق، لا حياء، ولا خجل، ولا أدب، والشيء مبذول بذلاً عجيباً، في مثل هذه البيئة، هذه لا تناسبك كمؤمن، ينبغي أن تأتي لبلاد المسلمين، هناك مساجد، و دروس علم، وبيئة إسلامية، و بقية حياء، وبقية خجل،و بقية رحمة، و بقية إنصاف، هناك فرق كبير جداً.

والله مرة كنت بأستراليا، قارة بأكملها يسكنها 18 مليون، الخيرات لا يعلمها إلا الله، قال لي رئيس الجالية وهو يودعني: قل لأخوتنا في الشام إن مزابل الشام خير من جنات أستراليا، قلت له: لِمَ؟ بالشام ابنك مسلم، أما عندنا هنا احتمال أن يكون ابنك ملحداً أو له حلقة في أذنه، في اليمين لها معنى سيئاً جداً، وباليسار أسوأ، وبالاثنتين أسوأ وأسوأ، إما ملحد أو شاذ، هنا أين نحن؟ بألف نعمة، عندنا بقية حياء، بقية خجل، الأب أب، والأم أم.

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾

بيئة سيئة جداً، ترتكب فيها المعاصي على قارعة الطريق، جريمة الزنا ليست بشيء هناك إطلاقاً، ولا يحاسب عليها الإنسان، شيء طبيعي جداً.

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾

انتقل إلى حي منضبط، اعمل عملاً طاهراً، هناك أعمال منحرفة كثيرة جداً، كلمة هجرة بالمعنى الواسع، اختر عملاً يعيك على دينك، أحياناً يكون لك عمل دخله محدود لكنه عمل صالح، وهناك عمل آخر دخله كبير لكنه يعيش مع العصاة والمذنبين، هذه مشكلة.

من يتعرف إلى الله في وقت مبكر يشكل حياته وفق منهج الله :

لذلك:

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾

أعطيكم معنى الهجرة الواسع، قد تنتقل من حي إلى حي، من حرفة إلى حرفة، من مجموعة أصدقاء إلى مجموعة أصدقاء، مرة إنسان على خلاف المألوف أثناء درس من دروسي وقف، فاستغربت أنا، قال لي: أستاذ نسمع درسك نتأثر كثيراً، نذهب إلى البيت نرجع كما كنا، ما هذه القصة! الله ألهمني كلمة واحدة، قلت له: غيّر الطقم، معه طقم أصدقاء سيئين، يجب أن تصادق المؤمن.

((لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنا، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ ))

[أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

أنت تحتاج إلى بيئة مؤمنة، صديق مؤمن، صديق نصوح، صديق محب، صديق وفي، عندما تؤمن بوقت مبكر تشكل حياتك تشكيلاً إسلامياً، تختار زوجة صالحة مؤمنة، أهلها صالحون، هذه تعينك على دينك.

فلذلك أنت حينما تتعرف إلى الله في وقت مبكر تشكل حياتك وفق منهج الله، والله الذي لا إله إلا هو لا أغبط إن أردت أن أغبط إلا شاباً نشأ في طاعة الله، سيتزوج زواجاً إسلامياً، سيختار فرعاً يعينه على أمر آخرته، سيختار حرفة تعينه على أمر دينه.

بطولة الإنسان أن تكون مقاييس الفوز عنده مطابقة لمقاييس الفوز عند الله :

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾

انتقل لبيئة صالحة،

﴿ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾

بذل جهداً، طبعاً التكاليف ذات كلفة، إن عمل الجنة حزن بربوة، وإن عمل النار سهل بسهوة، المعاصي سهلة جداً، كُل من شئت، تأمل من شئت، افعل ما شئت، بلا قيد، ولا ضابط، ولا منهج، ولا مبدأ، ولا قيم، هذا الانحراف، أما المؤمن يسأل هذه حرام؟ هذه حلال؟ ما حكم هذا العمل؟.

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾

بحث عن بيئة صالحة تعينه على طاعة الله،

﴿ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾

جاهد: بذل أقصى الجهد في سبيل الله مخلصاً

﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾

طبعاً الله عز وجل بدأ بالأسهل، إنفاق المال أسهل، وأحياناً يقتضي ذلك أن تبذل حياتك في سبيل الله، قال: أعظم درجة عند الله

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾

أين بطولتك؟ أن تكون مقاييس الفوز عندك مطابقةً لمقاييس الفوز عند الله، الفائز عند الله آمن، وهاجر، وجاهد،

﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾

هذه مقاييس الخالق، مقاييس المخلوق أخذ أرضاً تضاعف سعرها مئتي ضعف، صارت حالته جيدة جداً، هذا مقياس عند الناس، تسلم منصباً رفيعاً هذا مقياس أيضاً، زوجته بارعة الجمال هذا مقياس آخر، دخله فلكي، هذه مقاييس البشر، أي كمال في الشكل، دخل فلكي، قوة، شبكة اتصالات، معارف، مكانة اجتماعية، وسامة، لكن هل يستطيع الواحد ـ أنا أخاطب الجميع وأنا واحد منكم ـ منا أن يستيقظ كل يوم كاليوم السابق إلى ما شاء الله؟ عندنا بوابة خروج، بالمطارات يوجد بوابات، كل واحد منا له بوابة خروج، حتى يغادر الدنيا، فهذا البطولة، أن تعيش المستقبل، أن تعيش هذه اللحظة، المغادرة صعبة كثير، بيت أربعمئة متر، كله رخام، ثريات، أثاث، كل ما لذّ وطاب بهذا البيت، من هذا البيت لقبر تحت الأرض، هل هناك إنسان منا جميعاً ينجو من القبر؟ أبداً كلنا، أين ذكاؤك؟ فبطولتك وحكمتك أن تعد لهذا الساعة.

والله مرة شيعت أحد أخواننا عندما فتحوا النعش، وحملوه، ووضعوه في القبر، البلاطة أقصر من الفتحة وضع الحفار كم حجرة، وأهال التراب، أنا أعتقد أنه نزل فوق المتوفى خمسة كيلو من التراب، عندك حمام، عندك أثاث فخم، وكله درجة أولى، هذا قبر.

والله توفي والد صديقي، فتحوا القبر فوجدوا مياهاً سوداء، لأن المجاري مفتوحة على القبر، سألوا ابنه، قال: ماذا نفعل؟ ضعوه، يقول لي مدير معمله: أنا شهر لم آكل ،أين وضعوا معلمي؟ في قبر فيه مياه سوداء، أين بطولتنا بهذه اللحظة؟ ماذا أعددنا لهذه اللحظة؟.

رحمة الله عز وجل مطلق عطائه :

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾

مخلصون

﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾

هذه مقاييس الفوز عند الله، اسأل نفسك بكل جرأة ولا تتحفظ، ولا تحابي نفسك، ما مقاييس الفوز عندك؟ هناك مقاييس كثيرة، تكون غنياً، يكون بيتك فخم جداً، عندك مركبة فارهة، عندك معارف أقوياء، طبعاً سهرات، سفر، فنادق، طعام طيب، زوجة جميلة، مكانة اجتماعية، هذه مقاييس الفوز عند الناس، لكن هل يستطيع إنسان أن يبقى من دون أن يغادر الدنيا؟

﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾

[سورة المدثر الآية:9]

إذاً

﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾

بطولتك أن تملك مقاييس للفوز مطابقة للقرآن الكريم لا أن تملك مقاييس للفوز تخالف منهج الله عز وجل.

أحياناً يتوفى إنسان من أغنياء البلد، تذهب للتعزية تجد بيتاً واسعاً جداً، من اشترى البيت؟ المرحوم، تجد ثريات ليس معقول جمالها، من اختار الثريات؟ المرحوم، التزيينات بالبيت من صممها؟ المرحوم، من اشترى البلاط؟ المرحوم، من اشترى الأثاث؟ المرحوم، أين المرحوم؟ في القبر، هذا شيء واقعي، أما غير الواقعي إنسان اشترى بيتاً بأحد أحياء دمشق الراقية، و لم تعجبه الكسوة، كسر كل الكسوة، وكساه بأذواق مذهلة، بعدما انتهى وسكن، بعد أربعة أيام جاءه ملك الموت، البطولة أن تعد لهذه الساعة، هذه بوابة الخروج

﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ ﴾

هؤلاء الذين عرفوا الله في الدنيا،

﴿ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ﴾

مطلق عطاء الله رحمة الله عز وجل.

﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

[سورة الزخرف الآية:32]

الآية الدقيقة:

﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ ﴾

عطاء، وترحيب، ورضوان،

﴿ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾

مقيم إلى أبد الآبدين، لا يوجد التهاب مفاصل، ولا خثره بالدماغ، ولا جلطة بالقلب، ولا ابن عاق، ولا زوجة سيئة،

﴿ نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾

إلى أبد الآبدين،

﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾

هذا الذي يزهد بعطاء الله أحمقاً، يزهد بما عند الله، هذا الإله يعصى؟ ألا يخطب وده؟ ألا ترجى جنته؟ ألا تخشى ناره؟.

تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال شنيعُ

لـو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحـب يطيعُ

* * *

والحمد لله رب العالمين

http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=4099&id=97&sid=101&ssid=257&sssid=258