الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي
التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس (15-70):تفسير الآية 16، مراقبة الإنسان لنفسه ومن خلال هذه المراقبة يتقرب إلى ربه.

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2010-07-02

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الدنيا دار عمل و تكليف و الآخرة دار جزاء و تشريف :

الدنيا دار ابتلاء وليست دار استواء

أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الخامس عشر من دروس سورة التوبة، ومع الآية السادسة عشرة وهي قوله تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

أيها الأخوة الكرام، حقيقة هذه الدنيا أنها دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.

هذه الدنيا دار عمل وليست دار جزاء، هذه الدنيا دار تكليف وليست دار تشريف، هذه الدنيا دنيا، وبعدها حياة عُليا، دار دنيا ودار عُليا، الدار الدنيا فيها متاعب، فيها ابتلاءات، فيها أمراض، فيها هموم، فيها أحزان، فيها موت، فيها مرض، فيها فقر، فيها قهر، طبيعة الحياة الدنيا إعداد للآخرة، لذلك اعلم يقيناً أنك مبتلى شئت أم أبيت.

الأمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ سُئل: ندعو بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تمكن قبل أن تبتلى.

الدنيا دار ابتلاء وتأديب وإكرام :

لا تصدق أيها المؤمن أن تصل إلى الجنة التي عرضها السموات والأرض والذي فيها:

(( ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

لا تصدق أن تصل إلى الجنة من دون امتحانات، والدليل:

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

[ سورة المؤمنون]

المؤمن بين الابتلاء والتأديب والتكريم

الأصل في الدنيا أنها دار ابتلاء.

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾

[سورة البقرة]

أنت حينما توطن نفسك على أن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، حينما توطن نفسك أنه لا بدّ من أن يكون في حياة المؤمن نقطة سلبية يمتحن بها، أي بشكل أو بآخر المؤمن إن خالف منهج الله فأمامه تأديب، وإن استقام على أمر الله فأمامه ابتلاء، فلابد من أن تكون حياة المؤمن منطوية على ابتلاء، وتأديب، وإكرام، والأرجح أن حياته تستقر على الإكرام، لابدّ من مرحلة يؤدب فيها إذا خالف منهج الله، ولابدّ من مرحلة يمتحن فيها إذا استقام على أمر الله، ثم تأتي مرحلة التكريم، وهذه المراحل الثلاثة إما أن تكون متداخلة، أو أن تكون متمايزة.

لذلك الطالب عندما يوطن نفسه على أن العام الدراسي عام جهد كبير، وعام سهر طويل، وعام قراءة متأنية، وعام بعدٍ عن كل حظوظ الدنيا، من أجل أن ينال شهادة عُليا يتيه بها على الآخرين، عندئذ ينجح.

لا توطن نفسك أبداً على أن الدنيا دار استمتاع، دار استرخاء، دار نعيم، دار سرور، المؤمن يُسر، ويسعد، وينعمه الله، لكن هدفه طاعة الله، تأتي السلبيات والإيجابيات، يأتي الإكرام والتأديب، يأتي الامتحان والتكريم.

بطولة الإنسان أن يفهم حقيقة الدنيا ليستقبل متاعبها بالرضا و مصائبها بالشكر :

إذاً حينما تكتشف حقيقة الدنيا بل إن جزءاً من عقيدتك أن تفهم حقيقة الدنيا، هذه الدنيا ليست دار استقرار، ممر وليست مقراً، هذه الدنيا دار عمل لا دار جزاء، هذه الدنيا دار تكليف لا دار تشريف، الدنيا نخرج منها، أما الجنة:

﴿ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾

[سورة الحجر الآية : 48]

بطولتك أن تفهم حقيقة الدنيا، إن فهمت حقيقة الدنيا تستقبل متاعبها بالرضا، تستقبل مصائبها بالشكر، تستقبل جهدها الكبير بالرضا.

أيها الأخوة، الآية الكريمة :

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ﴾

أي هل من الممكن أن تدخل لجامعة، تنتسب لجامعة، تدفع أقساطاً، و لا يوجد فحص ولا دوام ولا متابعة وبعد أربع سنوات تمنح الليسانس بدون امتحانات؟ هل يوجد بالأرض جامعة تفعل هذا؟ هل يوجد في الأرض كلها جامعة تعطي شهادة من دون امتحان؟ مستحيل!.

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

إن كنا ممتحنين، اعتقد يقيناً وهذا جزء من آثار النبي عليه الصلاة والسلام.

الإنسان لن يُمكّن قبل أن يُبتلى :

الحياة لا تخلو من المحن والابتلاء

أعيد النص على مسامعكم مرة ثانية: إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، لا تستقيم لإنسان، الصحة جيدة، الدخل قليل، الدخل كبير هناك آفة في الجسم ـ مرض ـ لا يوجد مرض وهناك دخل كبير لكن الزوجة سيئة، الزوجة جيدة، الأولاد غير أبرار، الأولاد جيدون لكن الدخل قليل، أي طبيعة الحياة الدنيا لابدّ أن تمتحن من زاوية، إما من زاوية الدخل، أو من زاوية العمل، أو من زاوية الزوجة، أو من زاوية الأولاد، أو من زاوية المسكن، أو من زاوية الصحة، لا بدّ من أن تمتحن.

أعيد على مسامعكم قول الأمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ حينما سُئل: ندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تمكن قبل أن تُبتلى.

وهذه الآية تؤكد هذه الحقيقة،

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾

أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن تترك بلا امتحان، طعام، شراب، بيت فخم، دخل كبير، صحة جيدة، زوجة رائعة، أولاد، هكذا، موت إلى الجنة، مستحيل! هذا مستحيل وألف ألف ألف مستحيل،

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا﴾

الله عز وجل حكيم، قد يعطيك صحة ومعها امتحان، قد يعطيك بيتاً ومعه امتحان، قد يعطيك زوجة وفية ومعها امتحان، قد يعطيك أولاداً أبراراً ومعهم امتحان، اعتقد يقيناً بأنك لابد من أن تبتلى، والآية الدقيقة

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

والآية الثانية:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

[ سورة الملك الآية: 1]

بطولة الإنسان أن يقف من المصائب موقفاً كاملاً :

الابتلاء إشارة بمتابعة الله

الآن اسمع هذه القاعدة: ليست البطولة ألا تصيبك مصيبة، هذا مستحيل! لكن البطولة أن تقف من المصيبة موقفاً كاملاً، ليست البطولة ألا تصاب بمصيبة، لكن البطولة أن تقف الموقف الكامل من المصيبة، فالنبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، وسيد ولد آدم، هو نفسه يقول:

(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة ومالي طعام إلا ما واراه إبط بلال))

[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك]

جاع النبي الكريم، وخاف النبي الكريم، خاف، وجاعَ، وضيّق عليه الكفار، وهددوه بالقتل، وأخرجوه من بلده، فإذا كان سيد الخلق وحبيب الحق قد ابتلاه الله، فاعتقد يقيناً أنه لن ينجو مؤمن من الابتلاء.

لكن أحياناً ترى إنساناً غارقاً في المعاصي والآثام، ومع ذلك يتمتع بصحة جيدة، ومركز قوي، ودخل فلكي، ويتبجح، ويتكبر، ويتعاظم، نقول: هذا الإنسان له موقف عصيب بعد حين.

﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ﴾

[سورة آل عمران الآية : 13]

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾

[ سورة المدثر]

أحياناً الإنسان يتوهم أن الله عز وجل إذا أعطاه الدنيا فهو يحبه، ليس كذلك، والدليل:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾

ليس باباً بل أبواباً، ليس أبواب شيء بل أبواب كل شيء.

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾

[سورة الأنعام الآية:44]

أي الله عز وجل يرحم المؤمن فيعالجه على كل قضية معالجة سريعة، لكن غير المؤمن قد يسمح له أن يعلو، ويعلو إلى أن يصل إلى قمة العلو وهنا يسقط سقوطاً مريعاً، أيهما أفضل أن تعالج يومياً؟ أن تعالج عند كل مشكلة؟ عند كل خطأ؟ عند كل غفلة؟ عند كل نذم؟ أم أن تجمع لك هذه العقوبات في عقوبة كبرى ماحقة؟ والله الذي لا إله إلا هو إذا رأيت أن الله يتابعك، ويحاسبك على كل كلمة، على كل تقصير، على كل ابتسامة ساخرة، على كل تعليق لاذع، إن رأيت الله يتابعك فاعلم علم اليقين أنه يحبك، وهذه بشارة والله لمن يتابع.

الله عز وجل يسوق للإنسان المصائب ليتذكر أخطاءه :

الله عز وجل يسوق للإنسان المصائب ليتذكر أخطاءه

شيء آخر:

﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾

[سورة التغابن الآية: 11]

يهدي قلبه إلى سرّ المصيبة، جاءت مصيبة يا رب ما السبب؟ أين الخلل؟ أين الخطأ؟ أين التقصير؟ أين المعصية؟ والله سبحانه وتعالى يهدي قلبك أيها المؤمن حينما يسوق لك بعض الشدائد، يذكرك ببعض الأخطاء، هذه من أجل هذه، لذلك:

(( ما من عثرةً، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عودٍ، إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر))

[ أخرجه ابن عساكر عن البراء ]

مرة ثانية: بطولتك أن تكتشف عندما تأتي المصيبة أين الخلل؟ أين الخطأ؟ أين التقصير؟ لا تحابي نفسك، لا تتوهم أنها مصيبة ترقية، لا، ظن بأخيك ظناً حسناً، إن أصابت أخاك مصيبة، قل: إنها مصيبة ترقية ، أما لنفسك فقل: لابدّ من خلل، لابدّ من خطأ، لابدّ من تقصير،

﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾

لأنه مستحيل وألف ألف مستحيل، أن تساق لإنسان مصيبة بلا سبب، والدليل:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

[سورة النساء]

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ﴾

أي الله عز وجل حكيم يضعك في ظرف تكشف على حقيقتك، وكلما استطعت أن تخدع الناس تولى الله كشف الحقيقة.

الإنسان يعرف نفسه معرفة يقينية :

لذلك قيل في بعض الأمثال الأجنبية: بإمكانك أن تخدع معظم الناس لبعض الوقت، بإمكانك أن تخدع بعض الناس لكل الوقت، أما أن تخدع كل الناس لكل الوقت، فهذا مستحيل! بل أضيف على ذلك: أما أن تستطيع أن تخدع نفسك، أو أن تخدع ربك لثانية واحدة، فهذا مستحيل وألف ألف مستحيل، والدليل:

﴿ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾

[سورة القيامة]

والإنسان يعرف نفسه معرفة اليقين، لذلك مرة كتب على سرير في أحد الفنادق بألمانيا: إن لم تنم هذه الليلة فالعلة ليست في فرشنا، إنها وثيرة، لكن العلة في ذنوبك إنها كثيرة، وهناك فطرة والفطرة تحاسب، قال تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾

[سورة الروم الآية:20]

الإنسان ممتحن دائماً وإذا لم ينجح كان عدم النجاح حجاباً بينه وبين الله :

أيها الأخوة، كلفك الله أن تجاهد نفسك وهواك، يضعك في ظرف تعتذر، تنسحب، ترفض أن تشارك، ترفض أن تدفع، امتُحنت، صدق ولا أبالغ أنت ممتحن كل يوم، بل ممتحن كل ساعة، سألك سائل، طُلب منك لقاء، اعتذرت، مشغول، وأنت لست كذلك، امتحنك ولم تنجح

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

اعتقد أنك ممتحن في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل موقف.

دخلت للبيت، طلبت منك أمك دواء، قلت لها: الصيدليات كلها مغلقة، سكتت، وتعلم أنت علم اليقين أن هناك صيدليات مناوبة، هي سكتت، امتُحنت فلم تنجح.

أيها الأخوة، أنت حينما تعلم أن الله يمتحنك دائماً، فإذا نجحت في الامتحان تألقت، وكنت قريباً من الله عز وجل، وإذا لم تنجح كان عدم النجاح حجاباً بينك وبين الله،

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ﴾

طبعاً الله عز وجل عنده علم كشف، وعلم حصول، لكن علم الكشف لا يعد أصلاً في المحاسبة، أما علم الحصول فيعد أصل.

مثلاً: طالب كسول جداً، لم يكتب أية وظيفة، و لم يكتب إجابة لأي سؤال، وكلما سُئل يقول: لا أعلم، هذا الطالب راسب، هل من المناسب أن المدرس يصدر قراراً بترسيبه دون امتحان؟ مستحيل! يخضع لامتحان، وحينما يقدم الأوراق بيضاء، ويأخذ الأصفار، عندئذٍ يصدر قراراً برسوبه.

فعلم الله الكشفي لا تحاسب عليه، لكن تحاسب على علم الله الحصولي، العلم الواقع، وضعك بامتحان ولم تنجح، هذا العلم حصولي، أما الكشفي فليس لك علاقة به أبداً، فهذا الذي امتُحن ولم يجاهد، لم يبذل جهداً في طاعة الله، لأتفه سبب اعتذر، انسحب، لم يشارك، قال: لا أستطيع وهو ليس كذلك، طُلب منه قرض حسن لإنسان مؤمن صادق، اعتذر، يا ترى اعتذاره صحيح؟ لا يملك أم يملك ولم يقدم هذه العمل الصالح؟ فأنت لاحظ نفسك بأن الله يمتحنك دائماً.

علامة المؤمن أنه يستفتي الله ورسوله أما ضعاف الإيمان فيلجؤون للكفار :

الآن:

﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾

مدخل.

المؤمن قد يلجأ إلى مؤمن، لا يوجد شيء، وضع طبيعي، المؤمن قد يلجأ إلى رسول الله وضع طبيعي، قد يلجأ إلى الله وضع طبيعي، أما أن يلجأ إلى كافر ليظهر أمامه ضعيفاً ويتذلل أمامه؟.

(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))

[ البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾

المؤمن يتخذ من الله ومن رسوله

﴿ وَلِيجَةً ﴾

مرجعية المؤمن القرآن

أي يسأل القرآن عن هذا الموقف، أدخل القرآن في حياته، يسأل السنّة النبوية، ما حكم وضعي؟ دخل في السنة، دخل في القرآن، دخل فسأل عالماً، الدخل مشبوه أم صحيح؟ دخل على مؤمن، أو دخل السنّة، أو دخل القرآن، ليطمئن، أعتقد أن القرآن والسنة والمؤمنين هؤلاء مراجع له، فرجع إليهم،

﴿ وَلِيجَةً﴾

؛ أي مدخلاً، دخل عليهم، ليسأله، ليطمئن على وضعه، على دخله، على بيته، على ماله، لذلك فإن علامة المؤمن أنه يستفتي، يسأل، أما ضعاف المؤمنين أو غير المؤمنين فيلجؤون للكفار.

لذلك قالوا: من شكا إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى لكافر كأنما اشتكى على الله، الكافر يشمت، الكافر يدعوك إلى معصية، يدعوك لقرض ربوي، يدعوك لإلغاء عمل صالح، فالمؤمن لا يلجأ ولا يستفتي إلا مؤمناً يخاف الله، وقد يستفتي رسول الله من خلال سنته، وقد يستفتي ربه من خلال قرآنه، يرجع إلى القرآن، وإلى السنّة، وإلى من يثق من العلماء.

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا ﴾

ما اتخذ

﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾

بل دخل على الله من خلال قرآنه، ودخل على النبي من خلال سنته، ودخل على المؤمنين من خلال استشارتهم.

الله عز وجل يعلم حقيقة الأمور و مقاصدها :

الله يعلم خائنة الأعين

﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

هو الخبير، يعلم كل شيء يخطر في بالك، لا تخفى عليه خافية.

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾

[سورة غافر]

للتقريب طبيب يفحص مريضة، سمح الشرع له أن ينظر إلى مكان المرض لكن اختلس النظر إلى مكان آخر، من يكشفه؟ ليس على وجه الأرض كلها جهة تستطيع أن تكتشف خائنة العين، قال تعالى:

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾

﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

خبير بعملك، ما البواعث؟ ما الدوافع؟ ما الحيثيات؟ ما الظروف؟ ما الأهداف؟ ما الطموحات؟ والله عز وجل هو الخبير بما تعمل:

﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾

[سورة الإسراء الآية:17]

قد تقول كلاماً أحلى من العسل، وأنت موقفك من هذا الذي تقول له هذا الكلام ليس كما تقول، تتخذ هذا الموقف أسلوباً كي تصل لهدفك، من يعلم ذلك؟ الله عز وجل.

مرة إنسان عنده آلاف الدونمات، فأقنعه شخص قال له: إذا قدمت لجامع خمس دونمات مثلاً، تضطر البلدية أن تفرز أرضك إلى محاضر، فإذا فرزت إلى محاضر، ارتفع ثمن الأرض عشرة أضعاف، فهو قدم خمسة دونمات لمسجد، هو عند الناس محسن كبير، ما شاء الله! قدم خمسة دونمات لمسجد بنية إلى أن تضطر البلدية إلى تقسيم أرضه المشاع إلى محاضر، فلما قسمت إلى محاضر ارتفع سعرها أضعافاً مضاعفة، هو عند الناس محسن، أما عند الله ليس بمحسن، منتفع، فالله عز وجل يعرف

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾

ولاحظ هذه الملاحظة أن كل كلمة تقولها، وكل حركة تتحركها، وكل سلام تطرحه على الآخر، يعلم الله حقيقته، يعلم بواعثه، يعلم مقاصده، يعلم مؤداه، لذلك:

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾

أفضل أنواع الإيمان أن يعلم الإنسان أن الله معه :

أن تعلم أن الله مطلع عليك هو أفضل الإيمان

الإنسان حينما يوقن أن الله مطلع عليه يتأدب مع الله، بل إن أفضل أنواع الإيمان أن تعلم أن الله معك، يسمعك، أفضل أنواع الإيمان أن تعلم أن الله يعلم، هناك بعض الآيات في معرض الحديث عن الحج:

﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾

[ سورة المائدة الآية: 97 ]

إذا علمت بأن الله يعلم استقمت على أمره،

﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

العمل حجمه، بواعثه، العقبات، الصوارف، الحيثيات، المؤدى، كم كلفك هذا الموضوع؟ كم ضحيت من أجله؟ كل هذه الحيثيات يعلمها الله عز وجل، لأنه خبير بما نعمل.

من شروط العمل الصالح الإخلاص و الصواب :

بالمناسبة العمل لا يقبل عند الله إلا بشرطين: إلا إذا كان خالصاً وكان صواباً، خالصاً ما ابتُغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، شرطان أساسيان في تفسير قوله تعالى:

﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾

[سورة النمل الآية:19]

العمل الذي يرضي الله ينبغي أن يكون صواباً وفق السنة، يقول لك: يانصيب خيري، حفلة غنائية يرصد ريعها للأيتام، هذا عمل ليس صواباً، ينبغي أن يكون صواباً وخالصاً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، هذا العمل الذي يقبله الله عز وجل.

أيها الأخوة،

﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

لذلك الإخلاص ينفع معه كثير العمل وقليله، ومن دون إخلاص لا ينفع لا كثير العمل ولا قليله، العمل من دون إخلاص لا قيمة له.

(( يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثورة، قيل يا رسول الله جلهم لنا، قال: إنهم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلو من محارم الله انتهكوها))

[ ابن ماجه عن ثوبان]

لذلك: من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله.

بالمناسبة أيها الأخوة، الإنسان خارج بيته يلبس ثياباً جميلة، ويبتسم، ويتأنق ويتعطر، كله من أجل مكانته، لكن أخلاقه الحقيقية متى تظهر؟ في البيت، لا رقيب، ولا حسيب، أخلاقه الحقيقية تظهر في البيت، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:

((خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي))

[أخرجه الترمذي عن عائشة أم المؤمنين]

الأخلاق الحقيقية التي ينبغي أن تكون عليها تكون في البيت.

بطولة الإنسان أن يشعر أن الله يراقبه :

أيها الأخوة، إذاً

﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

فالإنسان أحياناً خارج البيت بهمه مكانته، يهمه منظره، يهمه ثناء الناس عنه، فإذا تجمل وتأنق وتواضع وابتسم، هذه من أجل مكانته، لكن متى تظهر أخلاقه على حقيقتها، في البيت، ما في رقيب ولا حسيب، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي))

ولمجرد أن تشعر أن الله يراقبك، وأن الله معك، وأن هذا العمل لا يرضيه، أو أن هذا العمل يرضيه، مراقبة الله للإنسان المستمرة أحد أكبر أسباب استقامته، راقب الله، لماذا دعوت فلاناً؟ لماذا مدحت فلاناً؟ لماذا تجشمت المصاعب لهذا السفر؟ لماذا غضبت؟ لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ لماذا تساهلت هنا ولم تتساهل مع هذا؟ أحياناًَ مع امرأة بمعاملة يتساهل الإنسان تساهلاً مذهلاً معها، يأتي مواطن ذكر، فيجد تعقيدات لا تحتمل، لماذا؟ لماذا تساهلت معها ولم تتساهل مع هذا الإنسان؟ والله كله فيه حساب.

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[سورة الحجر]

والبطولة أن تشعر أن الله يراقبك، بل إن حال المراقبة من أرقى الأحوال، إن الله يراقبك.

أيها الأخوة، هذه الآية

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾

أي مدخلاً

﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

البطولة أن تراقب نفسك في العمل، وأن تعلم يقيناً أن الله معك ويراقبك، والله عز ولله يقول:

﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾

[سورة النساء الآية:1]

والحمد لله رب العالمين

http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=3634&id=97&sid=101&ssid=257&sssid=258