الحقوق محفوظة لأصحابها

راغب السرجاني
نتعرف في الحلقة الحادية عشر على قيمتين غيرتا وجه التاريخ الإسلامي في كل عصوره، وهما العلم والجهاد، فقد خرجت الحركات الجهادية من شمال العراق الواحدة تلو الأخرى لنصرة المسلمين في الشام، وسبب خروج هذه الحركات الجهادية يرجع إلى انتشار العلم في أرض العراق بشكل عام وفي أرض فارس، وكذلك قلة المذهبية الطائفية ومحاولة الناس جميعًا التجمع حول رأي سليم يجتمع عليه أفراد الأمة دون تعصب :

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ،و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،إنه من يهده الله فلا مُضلّ له ،ومن يُضلل فلا هادية له ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد،

فأهلا ومرحبا بكم ،في هذا اللقاء المبارك ،وأسأل الله عز وجلّ أن يجعل هذه اللحظات في ميزان حسناتنا أجمعين،

في الحلقة السابقة تحدثنا عن قصّة الموصل وشمال العراق ،ولماذا أتت الحركات الجهاديّة من هذا المكان تحديدا دون غيره في هذا التّوقيت ،و ذكرنا أن من أهمّ الصّفات التي كانت تميّز هذه المنطقة هو انتشار فكر الجهاد في هذه المنطقة بكاملها ،منذ أيام دولة السلاجقة ،أو منذ علوّ نجم السلاجقة بعد موقعة ملثكرد وجهود طُهر البيك وجهود ألبرلسان وجهود ملك شاه رحمهم الله جميعا وهم من سلاطين السلاجقة المرموقين الأتقياء الورعين الذين اشتهروا بالعلم والجهاد وحبّ الفضيلة وحبّ التقوى وقيام الليل وصيام النهار وما إلى ذلك من الفضائل...

انتشر بذلك حبّ الجهاد في هذه المنطقة وبالتالي كان سهلا على هذه الشعوب أن تُخرج المجاهدين في سبيل الله ليذهبوا إلى حرب الصليبيين حتى وإن لم يكونوا يُهددون منطقة الموصل بذاتها.

لكن الحقيقة هناك قضية أخرى أثرت تأثيرا مباشرا على منطقة شمال العراق وعلى منطقة بغداد وعلى منطقة فارس وهي قضية نظام الملك رحمه الله نظام الملك الطوسي وكان من أعظم الوزراء في تاريخ الإسلام وكان وزيرا لقلب أريسلان ثم وزيرا لملك شاه الذي حكم من سنة 465 إلى 485 يعني انتهت فترة حكمه قبل الحروب الصليبية بقليل حوالي خمس سنوات ونظام الملك هذا أوصى بأمور كثيرة جدا كانت لها أثر مباشر على تغيير مسيرة الحياة في منطقة العراق ومنطقة فارس وما حولها من مناطق تحت سيطرة السلاجقة ،هناك أمر في غاية الأهمية أوصى به نظام الملك الطوسي ،هذا الوزير المسلم التقيّ ،وكان له أكبر الأثر في حركات الجهاد التي خرجت بعد ذلك من العراق إلى منطقة الشام لحرب الصليبيين ،هذا الشيء هو محاولة نظام الملك أن ينشر العلم بشكل منظّم و مرتّب و منسق وبشكل يصل به إلى كلّ مكان في أرجاء الدولة السلجوقية الواسعة.

ماذا فعل نظام الملك رحمه الله؟

ذهب إلى ملك شاه وعرض عليه الأمر بشكل لطيف للغاية ،قال له:" أليس الله عزّ وجلّ قد منّ عليك بسلطان واسع ومُلك كبير؟!

مُلك مَلِك شاه كان يصل من الصين إلى بلاد الشّام يعني مساحات شاسعة هائلة من الأراضي.

فقال له: "أكثير على الله عزّ وجلّ أن تُعطيه بعد ما أعطاك هذا الملك الواسع ثلاث مائة ألف دينار تنفقها على طلبة العلم الذين يطلبون علمه و يرجون شريعته و يحافظون على دينه ؟"

فطريقة العرض أن الله أعطى كثيرا وكثيرا وكثيرا لملك شاه وهذا حقيقيّ ويشاهده ملك شاه ويقرّ به ويعترف ،فيقول له أعط من هذا المُلك الكبير فقط ثلاث مائة ألف دينار من الذّهب لطلبة العلم وعلماء الشريعة ،طبعا هذا رقم هائل من المال مبلغ ضخم جدا وكبير جدا لكن طريقة العرض أن هذا جزء بسيط زهيد بالقياس إلى ما أفاض الله عزّ وجلّ عليه ،على ملك شاه ،وعلى سلاطين السلاجقة ،طريقة العرض هذه لاقت قبولا حسنا في قلب الملك شاه.

فقال:"ماذا نفعل ؟"

فقال :"نؤسس المدارس".

المدارس التي تعلم الناس العلم ،التي توقّر في قلوب النّاس حبّ الشريعة ،ومن ثم وافق الملك شاه على هذا الأمر وأعطى هذه الميزانية الهائلة ونظام الملك أيضا بدأ يُنفق من جيبه الخاص بالإضافة إلى هذه الميزانية الضخمة وبدأ يؤسس ما يسمى بالمدارس النظاميّة في الدولة السلجوقية ،المدارس النظامية نسبة إلى نظام الملك الطوسي رحمه الله وكان حريصا على تأسيس مدرسة أو أكثر في كل مدينة من المدن في الملك السلجوقي بكامله بل وصل الأمر إلى تأسيس بعض هذه المدارس في بعض القرى ،فانتشر العلم بشكل كبير في كل أرجاء الدولة السلجوقية.

طبعا مركز الثقل في الدولة السلجوقية كان في منطقة فارس ومنطقة العراق ومنطقة فارس كانت تقريبا العاصمة تنتقل أحيانا من تبريز إلى أصفهان أو العكس ومركز ثقل الآخر بغداد لكون الخليفة العباسي مستقرا في بغداد ولكون السيطرة الأكبر لأكبر مدينة في العالم الإسلامي كله أو أكبر مدينة في العالم أجمع كانت مدينة بغداد فكان هناك ثقل كبير لهذه المنطقة وكذلك منطقة الموصل التي كانت تسيطر على قطاعات واسعة من الجزيرة و منطقة تركيا ومنطقة الشام ومنطقة العراق لهذه الأماكن المهمة استراتيجيا وعسكريا و سياسيا واقتصاديا ركّز نظام الملك على إنشاء المدارس في هذه المناطق واستقدم لها كبار العلماء من العالم الإسلامي وممن هم من المشاهير الذين درّسوا في هذه المدارس كان الإمام الغزالي رحمه الله الذي هو صاحب الإحياء المشهور ،وكان منها أيضا الإمام الجويني الذي كان إمام الحرمين ،يعني كانت مجموعة من كبار العلماء أتت إلى هذه المنطقة ،وبالتالي انتشر في هذه المناطق حب العلم بشكل بارز و واضح.

إذن هناك قيمتان ظهرتا بشكل واضح في منطقة العراق بشكل عام ومنطقة فارس في هذا التوقيت وهي قيمة الجهاد في سبيل الله وقيمة العلم وخاصة العلم الشرعيّ.

هذه المدارس أيضا قاومت الأفكار الضالة التي انتشرت في ذلك الزمن : أفكار علماء الكلام الذين كانوا يُناظرون ويُجادلون في أمور نظرية بعيدة عن صلب العقيدة الإسلامية السليمة أمور الفلاسفة التي كانت تعتمد في أساسها على الأفكار اليونانية الأمور الباطنية وأفكار الإسماعيلية التحريفات الكثيرة في العقيدة التي كانت موجودة في ذلك الوقت والتي انتشرت للأسف الشديد في بلاد الشام في هذا الوقت وأدّت إلى الكوارث التي رأيناها عند دخول الصليبيين ،هذه الأفكار كلها حاربها العلماء المخلصون الأتقياء الورعون الذين نشروا مجالس الوعظ في كل مكان وكان منطلقهم من المدارس النظاميّة التي أسسها نظام الملك رحمه الله برعاية الملك شاه ،سلطان السلاجقة.

هذه المدارس أيضا خرجت جيلا من الأطفال الذين يحفظون القرآن الكريم الذين يعرفون الفقه ويعرفون الحديث الذين ترقّ قلوبهم لسماع ذكر الله عزّ وجلّ و خاصة أنّ هذه المناطق أُشتهر فيها في ذلك الوقت الوعظ الروحي والطرق الصوفية وكان هذا له تأثير كبير جدا على حركة القلب مع حركة العقل وبالتالي كُوّن إنسان متكامل يستطيع أن يرى أحوال أمته ويحاول أن يغير هذه الأحوال بقدر ما يستطيع.

في هذه البيئة يا إخواني ، نشأ المجاهدون في سبيل الله ،في هذه البيئة نشأ كربوغة الذي ذكرنا قصته في أوائل الحلقات أنه كان أول من حاول أن ينصر البقيع عندما حوصرت نشأ في هذه البيئة بعد ذلك سنرى قصة مودود وهو من كبار المجاهدين في تاريخ الإسلام ثم نشأ بطل قصتنا عماد الدين زنكي رحمه الله في منطقة الموصل وسنذكر بإذن الله بالتفصيل في الحلقات القادمة كيف وصل عماد الدين زكي إلى منطقة الموصل؟ و في هذه المنطقة أيضا تربى نور الدين محمود وتربى سيف الدين ابن عماد الدين زنكي وتربى الكثير والكثير ممن أسهم اسهامات مباشرة في حركة الأمة الإسلامية ،وهذه كلها كانت آثار مجيدة لوجود هذه المدارس بوجود هذا الفكر الجهادي في هذه المنطقة.

واللطيف للغاية أن اجتماع الجهاد في سبيل الله مع الفكر السليم يؤدي حقيقة إلى ظهور شخصية متوازنة متكاملة .

لأن إذا ظهر الفكر الجهادي في غياب العلم فقد يؤدي إلى كوارث كبيرة جدا على الأمة و كلنا يذكر قصة الخوارج الذين كانوا يضحون بأنفسهم ويبذلون أرواحهم ومع ذلك كما وصف حبيبنا صلى الله عليه وسلم يخرجون من الدّين كما يخرج السّهم من الرميّة .

لم يكن للخوارج مانع في بذل الأرواح وكانت عندهم حمية كبيرة جدا وشجاعة ولكن كانوا يفتقرون إلى العلم الذي يضبط هذا الجهاد في سبيل الله.

لذلك إذا أراد المسلمون حقيقة أن يعيدوا نشأة الأمة من جديد لعلنا الآن نضع أيدينا على أول الطريق.

أول الطريق حقيقة هو هؤلاء العلماء الأجلاء الذين نشروا العلم الصحيح ثم في ذات الوقت نشروا الفكر الجهادي المبني على علم صحيح و كما نعلم جميعا الحقوق التي أخذت بالقوة لا يمكن أبدا أن ترد إلا بالقوة وهذا ما كان متعارفا عليه في أرض العراق في ذلك الزمن أو في أرض فارس أو قُل في كل أملاك الدولة السلجوقية .

أيضا في منطقة شمال العراق بعض القبائل الأخرى وبعض الأعراق الأخرى وبعض الأمور التي ساعدت على أن يكون هناك فكر جهادي أصيل في هذه المنطقة والتي ساعدت على تصدير الحركات الجهادية بعد ذلك من شمال العراق إلى منطقة الشام لعل من أبرز هذه القبائل والأعراق كانت قبيلة الأراتقة ،و الأراتقة هم أولاد أرتك الأرتكماني وهم أيضا من الأتراك كالزنكيين وهذا الرجل كان حاكما على فلسطين وكان صديقا شخصيا لملك شاه ،سلطان السلاجقة ،وكان رجلا ورعا وتقيا وعيّنه ملك شاه على فلسطين فترة من الزمن بعد أن حررت من الاحتلال العبيدي ولكن عندما جاء الاحتلال العبيدي مرة ثانية في سنة 490 هجري واحتل بيت المقدس واحتل فلسطين بكاملها عندها خرج أولاد أرتك ابن أرتك الأرتكماني وخرجوا إلى شمال العراق وأسسوا هنالك بعض الممالك وكان من أشهرهم سكمان الأرتكيّ و الغازي الأرتكيّ أولاد مؤسس الدولة فهذا الفكر أيضا الذي يعتمد على التقوى والورع الذي انتشر في قبائل الأراتقة في ذلك التوقيت كان له اسهاما مباشرا في تغيير طبيعة الناس في هذه المنطقة .

أيضا ممن كان يعيش في منطقة شمال العراق كان هناك الأكراد والأكراد شعب إسلامي أصيل قديم جدا دخل في الإسلام منذ سنة 21 هجرية تقريبا ،كان معظم الأكراد دخلوا في الاسلام في ذلك الوقت وكانوا يقطنون في منطقة شمال العراق بالقرب من الموصل وكانت لهم أيادي بيضاء كثيرة على الجهاد في سبيل الله في أثناء مسيرتهم الطويلة في الإسلام و منهم طبعا خرج نجم الدين أيوب وكان يعيش في هذه المنطقة أيضا في شمال العراق ومن نجم الدين أيوب خرج بعد ذلك صلاح الدين الأيوبي ونجم الدين أيوب كان مساعدا ومعاونا لعماد الدين زنكي ثم بعد ذلك لنور الدين محمود وهذا الذي مهّد كذلك لخروج حركة الجهاد بعد ذلك من الأكراد ،كل هذه العوامل جعلت شمال العراق مهيئا ومقدّما لتقديم النّصرة والمساعدة لحرب الصليبيين في أرض الشام وإن كانوا لم يتعرضوا مباشرة لضربات الصليبيين.

عرفنا قيمة انتشار العلم وقيمة الجهاد في سبيل الله في منطقة شمال العراق ومن ثم تكون الشعب على هذه المعاني وعلى هذه الأفكار ،والواقع أن المدارس النظاميّة لم تكن هي المصدر الوحيد للعلم في هذه المنطقة ولكنها مجرد نشرت فكر حب العلم وطلب العلم والسعي للمدارس للتعليم وفكر حماية الدولة ورعاية الدولة للمتعلمين والإنفاق عليهم واستقدامهم من كل مكان في العالم الإسلامي أنا أذكر أنّ من نواتج هذه المدارس أمرين كانوا في غاية الأهمية في منطقة العراق و منطقة فارس:

1) الأمر الأول هو : استقدام العلماء من كل مكان في العالم الإسلامي:

فجاء العلماء من مناطق شرق العالم الإسلامي من مناطق اليمن من مناطق مصر وغيرها من الأماكن وخاصة أنّ الكثير من هذه الأماكن كانت تعاني ظلما فاحشا وكانت تعاني تغييرات كبيرة جدا في العقيدة يقودها بعض الظالمين أو بعض المفسدين في الأرض فحدث نوع من الاضطهاد للعلماء هنا وهناك فأصبحت هذه المنطقة متنفس للعلماء وصارت مثل المدينة المنورة التي تجمّع الصالحين من هنا وهناك لنشر دولة صالحة في هذا المكان فأول شيء أنه بدأ العلماء يأتوا من هنا وهناك ليستقروا في منطقة العراق وبالتالي أثروا تأثير مباشر جدا على المسلمين الموجودين في هذه المناطق ولم يأتي العلماء بفكر علميّ واحد فقط ،وهذا الشيء في غاية الأهمية غيّر من طبيعة الأوضاع في منطقة شمال العراق.

ماذا يعني هذا الكلام؟

يعني المناطق الإسلاميّة كانت يغلب عليها اتجاه مذهبي معين في مدارس الفقه المختلفة في بعض المناطق مناطق شافعية ،مناطق حنفية أو حنبلية أو مالكية لكن عند استقدام العراق لكل العلماء من كل البلاد بدأ يتكون فيها فكر يقبل الرأي الآخر وهذا الشيء كان في غاية الروعة ،وعملوا الحكام الذين كانوا موجودين في منطقة الموصل ورغبوا فيه حتى إن بعض العلماء في هذه المناطق كانوا يجمعوا بين مذهبين وكان هذا أمرا غريبا جدا في هذه الآونة ،ولعلنا نذكر الزمان الذي حدث فيه قبل ذلك نوع من الاضمحلال والضعف في الدولة الإسلامية كان هناك صراع بين الطوائف المختلفة وكان يأتي على المسلمين زمان لا يتزوج فيه الشافعيّ من حنبليّة و لا يتزوج فيه المالكيّ من حنفيّة وما إلى ذلك من الأمور العجيبة جدا التي مرت بالأمة الإسلاميّة ورأينا بعض المساجد في بغداد في زمن الضعف في زمن بني بويه عندما انتشرت المذهبية ،وجدنا أن هناك أربع صلوات تقام في المسجد الواحد :صلاة لكل مذهب ولا يصلي أصحاب المذهب مع مذهب آخر وكأنه ديانة مختلفة كل هذه الأمور تغيرت في هذه الفترة واستطاع العلماء أن يُنشئوا جوا من الفكر الذي يقابل الفكر الآخر بالحجة والبرهان والدليل في جو من الحب والمودّة والألفة وعدم الصراع وعدم الشقاق بين المسلمين ،كل هذه الآثار غيرت كثيرا جدا من طبيعة الشعب في هذه المنطقة وجعلت من همه الوصول إلى الحقيقة ،بصرف النظر عن العالم الذي جاء بهذه الحقيقة ،ونذكر من العلماء الذين عاشوا في هذه المناطق وأثروا فيها تأثيرا مباشرا كان الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو من كبار المفكرين ومن كبار العلماء ومن كبار المنتجين أنتج عددا كبيرا من المؤلفات وكان أيضا من أصحاب التصوّف لكنه كان متصوفا عاقلا لم يكن يؤثر البدع وكان يحارب هذه البدع بشكل كبير وكان رحمه الله من علماء الفقه الحنبلي ومن علماء الفقه الشافعي وكان يفتي بكلا المذهبين وهذا يدل على سعة علمه وعلى سعة أفقه أنه كان ليس عنده التعصب لمذهب معيّن إنما كان عنده الدليل غايته فيصل إلى الدليل و يكلم به الناس ويفتي به للعالم ، هذه الأمور الحقيقة خلقت جوا رائعا أثرى الأمة الإسلاميّة ليس فقط في العراق ولكن في كل الأمة الإسلامية التي انتشر فيها العلماء بعد ذلك من العراق إلى غيرها من الأماكن.

الأمر الثاني المهم جدا غير استقدام العلماء من أماكن مختلفة:

كانت أن هؤلاء العلماء سلكوا مسالك أخرى لتعليم الناس يعني غير المدارس النظامية

2) أصبحت المساجد منارات تعليم حقيقية :

كانت المساجد في فترة بني بويه قبل قدوم الدولة السلجيقية وقبل نظام الملك وقبل الفكر العلمي كانت المساجد مجرد للصلاة وقصّ بعض القصص على المصلين بعد الصلوات لكن سبحان الله تحولت المساجد إلى محاضن تربوية حقيقية أو قل بالأحرى عادت المساجد إلى دورها الذي كانت عليه أيام حبيبنا صلى الله عليه وسلم عندما أنشأ المسجد وجعله مكانا للصلاة وجعله مكانا لتعليم الناس وجعله مكانا لشفاء وعلاج المرضى وجعله مكانا لإيواء الغريب وجعله مكانا للمفاوضات والمعاهدات التي تقام مع غير المسلمين ،حتى مع غير المسلمين كانوا يستقدمون داخل المسجد وجعله مكانا لإعداد الجيوش وجعله مكانا للخطب والوعظ والإرشاد للناس يعني كان مكانا حتى وصل الأمر إلى أن أصبح المسجد مكانا لإعلان الأعراس ومكانا لألعاب المسلمين بعضهم البعض و ما أكثر ما شاهد حبيبنا صلى الله عليه وسلم في المسجد المباريات التي كانت تقام بين الحبشة و الضحك الذي كان يكون بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فكان كل حياة الصحابة في داخل هذا المسجد ،انتقلت هذه الروح العظيمة من المدينة المنورة في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المساجد التي أسست في عهد قوة المسلمين أو في عهد فهم المسلمين الحقيقي لدينهم فكانت هذه الصورة في شمال العراق في ذلك الوقت وغير المساجد كذلك تحرك العلماء إلى الأماكن البعيدة ومنهم حتى من وصل في سعيه إلى أماكن الجبال وأسس هناك مثل الرباط الذي يرابط فيه المجاهد في سبيل الله كانت هناك أربطة يقيم فيها العالم يعلّم الناس في هذه الأماكن النائية ولعل من أشهر العلماء في هذه المنطقة وكان يعيش في منطقة جبال الأكراد وكانت الأكراد قبل أن يذهب إليها في هذه المنطقة قد بعدوا بعدا كبيرا عن الدين وأفسدوا افسادا كبيرا في الأرض وحدث نوع من الخلل الأمني في مناطق شمال شرق الموصل ذهب إليهم أحد كبار العلماء ونشر إليهم هذا الفكر العلمي الراقي كان هذا العالم هو عديّ ابن مسافر رحمه الله وهو من كبار علماء المسلمين ولعل الكثير من المشاهدين والمشاهدات لم يسمعوا أصلا عن اسم هذا العالم الحبر الجليل وهذا يدل على ضعف الاهتمام حقيقة بتاريخنا لأن هذا الرجل يذكر في حقه على سبيل المثال ابن تيمية رحمه الله أنه كان رجلا صالحا تقيا ورعا وكان له أتباع صالحون ، ويذكر الذهبيّ رحمه الله أنه عندما ذهب عديّ بن مسافر إلى مناطق الأكراد عمّ الأمن في هذه المناطق وارتدع المفسدون وتاب على يديه خلق كثير وأسلم على يديه كثير من اليهود ومن النصارى في هذه المنطقة ويقول في حقه عبد القادر الجيلاني رحمه الله يقول:لو كانت النبوّة تُنال بالمُجاهدة لنالها عديّ ابن مسافر من شدّة تقواه ومن شدّة ورعه رحمه الله ،ويقول:" ابن كثير تبعه في ذلك خلق كثير وأصبح له من الأعوان ما لا يُتخيل في هذا الزمن الذي عاش فيه ".هناك زمن قصير مدّة محدودة.

طبعا هذه الروح العلميّة وهذا التوقير لكبار قادة الأمة من العلماء والوعاظ والفقهاء وهذا الانبساط في الفكر وتقبّل الرأي الآخر وشيوع المذاهب الفقهيّة المختلفة وهذه الروح الجهاديّة العالية كلّ هذه الأمور لابدّ أن تفرز في النهاية اخواني وأخواتي إنسانا متكاملا أو شخصا فاهما أو شعبا مؤثرا على الجهاد و محبا له وموقرا للشريعة ومُحبّا للقرآن الكريم ومُحبّا للسنّة المطهرة .

لاشكّ أنّ الذي ينتج من كل هذه التفاعلات سيكون إنسانا متوازنا يحقق النصر والرجاء للمسلمين .

هذه الصورة رأيناها في شمال العراق ،لكن إذا نظرت على الوجه الآخر إلى منطقة الشام وراجعت التاريخ الذي كانت عليه منطقة الشام فهمت البون الشاسع الذي كان بين هذه المنطقة ومنطقة العراق ،نجد أنّ منطقة الشّام احتلت من قبل العبيديين من سنة 359 هجرية وظلت في هذا الاحتلال لسنة 477 هجرية يعني أكثر من مائة سنة متصلة كان من همّ العبيديين الإسماعليّة في ذلك الوقت من همّهم الرئيسي قتل علماء السّنة أو تهجيرهم إلى خارج منطقة الشّام و هذا كان عاما على كل بلاد الشام في بلاد الشام في سوريا ،في لبنان ،في الأردن ،في فلسطين ،ففرّغت هذه المناطق تماما من علمائها ،لم يعد هناك من علماء السنة من يُعلم الناس دينهم ومن يُفقههم في شريعتهم من يُحبّب إليهم القرآن من يُوقر عندهم السنة من يحبب إليهم الجهاد في سبيل الله ،وكان الجهاد في سبيل الله أمرا محرما عند العبيديين وكانوا يعتبرونه مقاومة لهم ولأفكارهم المنحرفة ،كانوا يخشون من أولئك الذين تظهر عندهم هذه النزعة فكانوا يقمعونها بكل طرقهم ،فإذا اختفى العلم واختفى الجهاد ،فأيّ أمل يرجا في البلاد ، لذلك رأينا هذه الانحدارة الكبيرة جدا في مستوى بلاد الشام في ذلك الزمن للأسف الشديد أنه حتى بعد أن حررت البلاد من الظلم العبيدي ومن الاحتلال العبيدي حررت على يد تُتُشْ ابن أرسلان الذي كان رجلا كما وصفناه في الحلقات السابقة رجلا ظالما مستبدا قاهرا لشعبه غير محب للشريعة و غير محب للعلماء وأحدث الكثير من الفتن وقاتل سلاجقة الروم وأثر تأثيرا مباشرا على اقتصاديات البلاد وعلى أحوال العباد وكان رجلا ظالما بمعنى الكلمة و حتى عندما قُتل تتش سنة 488 من الهجرة أورث البلاد من بعده لولديه وكانا على شاكلته من الظلم وكانوا على شاكلته من الفساد رضوان الذي حكم منطقة حلب ودُقاق الذي حكم منطقة دمشق كلاهما كان يتنافس و يتصارع ويتقاتل مع بعضه البعض و كانوا أحيانا يتعاونون مع الصليبيين وكانوا أحيانا يتعاونون مع الأعداء للأمة سواء كانوا من الاسماعيلية أو من غيرهم حتى إن رضوان ابن تتش ابن أربلسلان تشيّع واتجه إلى مذهب الاسماعيلية وحارب علماء السنة في بلده في حلب يعني الأوضاع كانت مختلة بشكل كبير وهذا أعطى الشعب انطباع أن لا فرق كبير بين العبيديين وبين تتش ابن أربلسلان وأولاده وبين الصليبيين أنفسهم ،وهذا دفع للأسف الشديد بعض أفراد الشعب الذي كان يعيش في الشام في ذلك الوقت إلى العمل والتعاون المباشر مع الصليبيين ،طبعا هذا الشيء كان مفزع و مؤسف ولكن إذا نظرت إلى الخلفيات ووجدت التربية التي تربى عليها الشعب على مدار أكثر من مائة سنة متصلة إلى 130أو 140سنة إذا ضممت فترة حكم تتش إلى فترة حكم العبيديين تجد أنه من السهل جدا على هذا الشعب قبول فكرة التعامل مع الصليبيين العمل في مزارع الصليبيين ،العمل في متاجر الصليبيين العمل في موانئ الصليبيين التعامل معهم بشكل كبير خاصة وأنّ الصليبيين كانوا يجزلون لهم العطاء ويؤمنونهم في المقام الأول على أرواحهم هذا بون شاسع كبير جدا بين منطقة العراق وبين منطقة الشام وهذا يفسر لنا أول الطريق لتحقيق النصر ولتحقيق بناء الأمة:

وحدة وجهاد و توقير للشريعة .

ونسأل الله عزّ وجلّ أن يفقهنا في سننه وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه وليّ ذلك والقادر عليه .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته