الحقوق محفوظة لأصحابها

عائض القرني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .

سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

في غزوة اليرموك حضر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وبقية المسلمين لرفع لا اله إلا الله ,

وكان من قادة من حضر , من أعيان من حضر " عكرمة بن أبي جهل " قد قتل أبوه في بدر كافراً .

وعكرمة تأخر إسلامه , وهو في الأصل لما أراد أن يسلم خاف من الرسول عليه الصلاة والسلام ففر إلى البحر وقيل في جهة اليمن .

وأتت زوجته مسلمة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مؤمنة , ولكن حنينها إلى زوجها , وأخبرت أنه خاف من الرسول صلى الله عليه وسلم .

قالت : أريد الأمان منك يا رسول الله , وهو أحلم الناس واصبر الناس وأكرم الناس عليه الصلاة والسلام , فأعطاها الأمان .

قالت : أريد علامة .

قيل أعطاها عمامة وعصا , عصاه وعمامته صلى الله عليه وسلم .

فذهبت تشير إلى زوجها واقتربت , وقالت : هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ,

فأتى لما اقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنفه صلى الله عليه وسلم , بل قام صلى الله عليه وسلم ورحب به وحياه .

قال : مرحباً بالراكب المهاجر .

لم يقل المهزوم , أو الفر , أو الشارد , بل رفع معنويته وأعطاه اسم شرعي , اسماً عظيماً , قال : مرحباً بالراكب المهاجر .

أنت مهاجر الأن , واستمر عكرمة في الإيمان وحضر اليرموك في سبيل الله عز وجل .

ولما جاءت المعركة كان جيش الروم كثيراً وكثيفاً أكثر من مئة ألف , وحاول المسلمون دافعوا دفاعاً مستميتاً عظيماً وقتل منهم أبطال .

فلما رأى عكرمة أن صولات الجيش الباطل جيش الروم أصبحت تحطّم جيوش المسلمين أو صفوف المسلمين , وأخذ يشعرون أن البحر يدور أمام المسلمين .

قال عكرمة : من يبايعني على الموت ؟ .

لبس أكفانه وأخذ سيفه فبايعه أربعمائة .

قال : احموا ظهري .

فشق صفوف الروم , وضرب قلب الجيش , وأخذ يعيث فيهم قتلى وتجريحاً .

ثم عاد رضي الله عنه وقد أثقل بالجراح .

فلما وقع في الرق الأخير وإذا بابنه أيضاً جرح معه وأصبح في الرق الأخير يودع الحياة .

وإذا بعمه الحارث ابن هشام عم عكرمة , وهو أخو أبي جهل معهم أيضاً في سكرات الموت , ورجل رابع من المسلمين .

جمعهم خالد بن الوليد وكان قائد المعركة سيف الله المسلول , فكانوا يشيرون بعينهم يريدون ماءً .

وكان الجريح إذا أشرف على الموت وخاصةً في شدة الحر أحسن وألذ ما يطلب وأغلى ما يطلب الماء .

فأحضر خالد لهم ماءً بارداً من خيمة في كوز وفي كوبٍ كبير .

وانظر الأن قتلى وجرحى ومشرفون على الموت وظمئ فأتى بالماء وسلمه لعكرمة ليشرب .

فالتفت إلى عمه , وهم لا يستطيعون أن يتكلمون إنما بالعيون يشيرون فقط بالعيون , إشارات فقط بالعيون .

فأشار إلى عمه فهو أولى , فأعطوا عمه فرفض أن يشرب قبل الغلام الذي هو ابن عكرمة .

فسلموه للشاب الغلام فرفض أن يشرب قبل المسلم الأخر إيثاراً .

فأعطوا المسلم الرابع فوجدوه قد مات .

فعادوا الماء وهذا الإناء البارد بالماء إلى عكرمة فوجدوه قد فارق الحياة .

حولوا الماء إلى الحارث ابن هشام وإذا أيضاً مات ولم يشرب .

حولوا الماء إلى الغلام إلى ابن عكرمة , فوجدوه قد مات وقد فارق الحياة .

الأربعة لم يشربوا قطرة , لم يعني يظفروا بشيء من الماء ولا شربة , حرموا من الماء البارد , تداولونه في سكرات الموت ودماءهم تصب في الأرض وفي شدة الحر , ويرفض كل واحد أن يشرب قبل الأخر .

يا لله ! أي نفوس هذه النفوس ! , ما أعظم هذه النفوس ! , ما أرفع هذه الأرواح ! , ما أجلّ هذه الهمم ! .

في هذه الساعة يقول على ظمئ .

لو أن في القوم حاتماً على جوده ظنت به نفس حاتم .

ومع ذلك يرفض أحدهم أن يشرب قبل الأخر , ويدور الموت عليهم جميعاً قبل أن يدور عليهم الماء .

تساقوا شراب الموت عذباً بنهيةٍ فساروا إلى العليا كل مشرقِ .

فأتى هنا أتى خالد فأخذ الإناء وبكى رضي الله عنه .

والله انه مشهد مثير , ولو عندنا لهيب الإيمان لكنا انصدعنا قبل هذا المشهد , وانه والله لمشهد مؤثر .

أخذ الماء بيده , وينظر إليهم وهم ماتوا فارقوا الحياة , بقوا يتداولون الماء بينهم وما استطاع أن يشرب أحد قبل الأخر , ثم يحرمون الماء , فيبكي خالد

وكان عزيز الدمع ما يبكي إلا في مواقف مؤثرة .

لأنه شجاع وقوي سيف الله المسلول , وأخذه فرمى بالكوب , وقال : اسقهم من جنتك , والتفت إلى السماء يدعو الله سبحانه وتعالى فقد ماتوا وقتلوا في سبيلك يا رب العالمين .

أسأل الله أن يسقينا من جنات النعيم , وأن يجمعنا بهم في دار الكرامة .

فيالي هذه النفوس الكبيرة العظيمة ! .

وقصة عكرمة قصة رواه المؤرخون بأسامي ثابتة , وهي تدلك على الإيثار عند الصحابة , وعلى صبرهم , وعلى تحملهم .

يا اللـــه بل الواحد منا ونحن أصحاء لا يؤثر أخاه حتى بشربة أو بوجبة , أو بشيء من القوت , أو بشيء من اللباس , ونحن في الأمن وفي الصحة وعندنا ما يعوضنا الشيء الكثير .

بل بعضنا الأن يسكن القصر وبجانبه أناس يسكنون في بيوت الصفيح وفي الخيام ويسكنون في بيوت الطين , ولا يجدون شربة لبن ولا يجدون قطعة لحم , ولا كسرة خبز .

ومع ذلك يموت هو ويمرض بالتخمة , ويعالجه الأطباء من كثرة الأغذية التي تناولها .

فأين الرحمة ؟ .

وهؤلاء هم في سكرات الموت وجرحى , وعطشى , وفي شدة الحر ويطلبون ماءً ثم يرفض الواحد منهم أن يشرب قبل أخيه .

لا الابن , ولا الأب , ولا العم , ولا الرجل المسلم ويدور عليهم الماء البارد وهم بحاجة ماسة إليه ويرفضون .

ويلقون الله وهم ظمأ وهم في تلك الحالة , عسى الله أن يسقيهم من الكوثر .

أسأل الله أن يعيدنا إلى هذا الدين العظيم وان يخلقّنا بأخلاق سيد المرسلين وأصحابه الكرام .

والى اللقاء , وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته .

http://www.alresalah.net/#textsdetail.jsp?pid=324&sec_id=4426