الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي
التفسير المطول - سورة الأعراف 007 - الدرس(37-60): تفسير الآيتان 130 - 131، تأتي المصائب تأديباً من الله عز وجل

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-04-25

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

أيها الأخوة الأكارم ... مع الدرس السابع والثلاثين من دروس سورة الأعراف .

نسبة المصائب إلى النعم قليلة لذلك يؤرخ بها :

مع الآية الثلاثين بعد المئة ، وهي قوله تعالى :

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾

أيها الأخوة ، السنة هي العام ، والسنوات جمع سنة ، والسنين والسنون جمع آخر ، عندنا جمع مذكر سالم ، وجمع مؤنث سالم ، وجمع تكسير ، لكن هنا السنين المصائب لماذا ؟ السنوات الاعتيادية تتابع ، لكن في يوم خطير يؤرخ به .

التاريخ المعاصر يقول لك : الحادي عشر من أيلول هذا يوم قبله في سياسة ، وبعده في سياسة ، الأصل أن النعم تترا على الإنسان ، لكن المصائب نسبتها إلى النعم قليلة جداً ، إذاً يؤرخ بها ، هذا معنى

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ﴾

لأن الله عز وجل ثبت وحرّك ، ثبت ملايين ملايين القوانين ، قانون الدوران ، قانون السقوط ، قانون الجاذبية ، قانون التميع ، قانون الانصهار ، ثبت ملايين القوانين ، ثبت حركة الأفلاك ، ثبت خصائص المواد ، ثبت خصائص النفس الإنسانية .

الله عز وجل ثبت بعض القوانين و حرك بعضها لحكمة منه :

طبيب درس بأمريكا ، يعمل بعقد عمل في الخليج ، عنده مريض من الهند ، الدواء صنع الصين ، لولا أن البنية التشريحية للإنسان واحدة ، مكان الشريان ، مكان الوريد مكان العصب ، لولا أن البنية التشريحية للإنسان موحدة ، ولولا أن الوظائف الفيزيولوجية موحدة ما كان في طب أساساً .

لو تتبعنا هذا الأمر ، القلب من أجل أن يجري عملية قلب مفتوح نحتاج إلى أن نوقفه ، نوقفه بالتبريد ، يقف ، نجري هذه العملية ، نرقع شرياناً ، نزرع شرياناً ، نرقع دساماَ ، نزرع دساماً ، وننتهي بعد سبع ساعات ، نعطيه صعقة كهربائية يتحرك ، لو لم يتحرك ، لو أن القلب مصمم أنك إذا بردته لا يتحرك ألغيت عمليات القلب كلها ، لو أن العظم لا يلتئم ألغيت عمليات جبر العظام .

فالإنسان في أصل خلقه يعني :

﴿ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾

( سورة التين )

عنده صيانة ذاتية ، سمعت بحياتك أن إنساناً كُسر معه عمود في سيارته ، فذهب إلى من يصلحه له قال له : تلتئم وحدها ؟ مستحيل !.

الله عز وجل حرك الصحة والرزق ليكون التأديب عن طريقهما :

إذاً الله ثبت القوانين ، والخصائص ، البذور هي هي ، تزرع جوزاً تحمل جوزاً تزرع فستقاً تحمل فستقاً ، لو أن الحديد يغير خصائصه ، ننشئ بناء ثلاثين طابقاً ، غيّر خصائصه الحديد ، من حالة إلى حالة وقع البناء ، ما الذي يمنحك الأمن ؟ بناء لن يتزعزع ، إلا إذا شاء الله طبعاً ، يوجد قوانين ثابتة ، خصائص المعادن ، خصائص المواد ، خصائص أشباه المعادن ، قوانين الدوران ، قوانين الأفلاك ، قوانين الفيزياء ، قوانين الكيمياء ، قوانين الضوء قوانين الحركة ، كل هذه القوانين ثابتة ، ثبات سرمدي أبدي ، لذلك المحصلة استقرار ، عدننا قوانين ، عندنا مقدمات ، عندنا نتائج .

لكن الله عز وجل لأنه رب العالمين حرك أشياء بحياة الإنسان ، حرك له صحته ، وحرك له رزقه ، فالصحة غير ثابتة ، يكون في أعلى درجات نشاطه تنمو بعض الخلايا نمواً عشوائياً ، انتهت حياته ، فالله عز وجل حرك الصحة وحرك الرزق ، ليكون التأديب عن طريقهما .

التهطال والجفاف يوزع من الله عز وجل على البلاد تربية وتأديباً :

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ﴾

أمطار غزيرة جداً ، محاصيل وفيرة ، نحن بلدنا الطيب في عنا تقريباً ستة ملايين طن كل سنة ، وحاجتنا إلى مليون طن ، عنا ستة أضعاف حاجتنا ، مع أن المطر الذي يهطل من السماء لا تختلف من عام إلى عام على مستوى الأرض وهذه حقيقة من أدق الحقائق ، بعد وضع مقاييس للمطر في أنحاء العالم لو جمعنا الأمطار التي هطلت في كل البلاد نفاجأ بأنه ما من عام أمطر من عام ، كما قال سيد الأنام :

(( ما من عام أمطر من عام ))

[أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عباس ]

لكن الله يوزع التهطال والجفاف على البلاد تربية وتأديباً ، ودائماً وأبداً تقنين الله عز وجل تقنين تأديب ، لا تقنين عجز ، الدليل :

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾

( سورة المائدة الآية : 66 )

القرآن الكريم منهج من الله تعالى علينا تطبيق أوامره لا أن نقدسه ظاهرياً فقط :

نحن كمسلمين ولو أننا أقمنا القرآن الكريم ، طبعاً ممكن نقرأه ، ممكن نتبارك به ، ممكن أن نضعه في مقدمة مركبتنا ، أو ممكن أن نضع آيات في صدر محلاتنا :

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾

( سورة الفتح )

لكن هذا العرض ، وهذا التقديس الظاهري ، وهذه الطبعات الرائعة الملونة هذه لا تقدم ولا تؤخر ، لأن القرآن منهج .

شخص مريض وزار طبيباً وصف له أدوية ، جاء بهذه الورقة التي عليها خط الطبيب اعتنى بها ، جعل لها برواز ، وعلقها في غرفته ، قال : يا له من طبيب ! أدويته ناجحة جداً لكن ما اشترى الدواء ، ولا استعمله ، العناية بهذه الورقة ، وتغليفها ، ووضع إطار لها ، هل يشفي صاحبها ؟ هذا حال المسلمين اليوم .

القرآن نقرأه ، نضعه في مكان مقدس في بيتنا ، في الصدر ، في مكان مرتفع ، لكن القرآن يجب أن يُعمل به :

(( رب تالٍ للقرآن ، والقرآن يلعنه ))

[ ورد في الأثر]

الشدائد التي تصيب الإنسان رسائل من الله تعالى ليرجع إليه و يتوب :

إذاً :

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ﴾

لأن الله رب العالمين ، الله يؤدبنا ، يربينا ، لو أن الناس شردوا عن الله والله تركهم ، لكان معظم الناس من أهل النار ، لكن الله عز وجل يسوق الشدائد ، يضيق على عباده ، يقلل الأمطار .

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾

( سورة الأنعام الآية : 65 )

هذه الصواعق ، وحديثاً الصواريخ .

﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾

( سورة الأنعام الآية : 65 )

الزلازل ، وحديثاً الألغام .

﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾

( سورة الأنعام الآية : 65 )

الحروب الأهلية .

﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾

( سورة الأنعام الآية : 65 )

الله عز وجل رب العالمين ، يسوق لعباده الشدائد حتى يرجعوا إليه ، حتى يتوبوا إليه ، حتى يصطلحوا معه ، حتى تكون هذه الشدائد رسالة من الله لهم .

اطمئنان المستقيم و خوف الظالم في البلاد العادلة الطيبة :

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾

أحياناً الإنتاج الزراعي بكم هائل الأسعار تنخفض ، من أسماء الله الحسنى المسعر ، الله هو المسعر ، وأحياناً تقل هذه المحاصيل الأسعار ترتفع .

لذلك دخل مرة على عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي وفد ، تقدمهم غلام صغير فلما رآه غضب ، فتوجه إلى حاجبه وقال : ما شاء أحد أن يدخل عليّ حتى دخل ، حتى الصبيان ! فهذا الصبي الصغير كان فصيحاً ، قال له : أصلح الله الأمير ، إن دخولي عليك لم ينقص من قدرك ، ولكنه شرفني ، أصابتنا سنة أذابت الشحم ، في عظم ، في لحم ، في شحم أول سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم (بالتعبير الدارج جلدة وعظمة) ، وسنة دقت العظم جفاف ، سنوات عجاف ، وبيدكم فضول أموال ، فإن كانت لعباده فعلامَ تحبسونها عنهم ؟ نحن عباده ، وإن كانت لكم تصدقوا بها علينا ، وإن كانت لنا نحن أحق بها ، فقال هذا الخليفة : والله ما ترك لنا هذا الغلام في واحدة عذراً ، فصاحة ما بعدها فصاحة .

أنا مرة ذكرت غلاماً صغيراً ، رسم منهج دولة ، أطفال في أحد أزقة المدينة يلعبون رأوا سيدنا عمر ، كان ذا هيبة كبيرة ، تفرقوا إلا واحداً منهم ، لفت نظره ، لما وصل إليه قال : أيها الغلام لمَ لم تهرب مع من هرب ؟ قال له : أيها الأمير لست ظالماً فأخشى ظلمك ولست مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك .

البلاد الطيبة المباركة يجب أن يطمئن المستقيم ، وأن يخاف المذنب ، فأنت لست ظالماً فأخشى ظلمك ، وأنا لست مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك .

أصناف المصائب :

أيها الأخوة الكرام ،

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾

المصائب يمكن أن تصنف خمسة أصناف ، صنفان للمؤمنين ، وصنفان للعتاة والمجرمين ، وصنف للأنبياء المرسلين ، أما صنفا المصائب التي تصيب المؤمنين مصائب الدفع ، سرعة بطيئة ، في تكاسل ، في تواني ، في إهمال ، فتأتي مصيبة تدفعك إلى باب الله ، وأحياناً ترضى بعمل صالح قليل مع أن إمكانياتك أن تعمل عملاً صالحاً كبيراً ، المصائب الأولى مصائب دفع ، أما الثانية رفع ، فالله عز وجل يسوق للمؤمنين بعض المصائب ليدفعهم إلى بابه ، أو ليرفع مستوى أعمالهم الصالحة ، الآية قال تعالى :

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾

( سورة البقرة )

لأن الله يحبنا ، لأن الله يريد أن يرحمنا ، لأن الله يريد أن يتوب علينا ، لأن الله يريد أن يطهرنا ، لأن الله خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض ، يريد أن يؤهلنا إليها ، يسوق لنا هذه المصائب .

(( وعزتي وجلالي لا أقبض نفس عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه ، إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده ، أو اقتاراً في رزقه ، أو مصيبة في ماله أو ولده ، حتى أبلغ منه مثل الذر ، ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، أو خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، حتى أبلغ منه مثل الذر ، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت ، حتى يلقاني كيوم ولدته أمه ))

[ ورد في الأثر ]

تتابع المصائب على المؤمن من أجل تطهيره :

أقسم لكم بالله أن المؤمن الذي تأتيه المصائب متتابعة من أجل تطهيره معنى ذلك أن الله يحبه .

كنت مرة بتركيا بمتحف توبي كبي ، في ألماسة بحجم البيضة ، قالوا : إن ثمنها يزيد عن 150 مليون دولار ، القصة من عشرين سنة ، الآن أغلى بكثير ، 150 مليون ، والألماس أصله فحم ، لو أتينا بفحمة بحجم هذه الألماسة كم هذه ثمنها ؟ ليرة ما في ، والألماس أصله فحم من شدة الضغط أصبح ألماساً ، الآن في ألماس صناعي ، فحم مضغوط يسمونه زيركون ، فالفحم على الضغط الشديد ، وعلى المعالجة الشديدة ، وعلى الحرارة الشديدة ، صار ألماساً .

وأنت أيها المؤمن كلما أخطأت يأتي التأديب ، أحد إخوانا عنده معمل ألبسة متواضع ، أخ كريم علم أن عنده معمل ألبسة ، قال نشتري من عنده على العيد ، عنده أولاد ودخله محدود قال له : أريد لهذا الولد ، انزعج صاحب المعمل ، يبيع جمله هو ، يبيع مئتي دزينة ، ثلاثمئة دزينة كيف قطعة قطعتين ؟! قال له : أنا لا أبيع مفرق ، قال له : لا تؤاخذني بكل أدب انسحب ، أقسم لي بالله : 33 يوماً ما دخل لمعمله إنسان ، تكبرت أن تبيعه ؟ قطعة واحدة أو قطعتين ؟ بعد هذا الدرس يبيع قطعة واحدة ، وبكل احترام ، الله يؤدب .

كلمة غلط ، كلمة قاسية ، يؤدب ، إنسان خبير بالكمبيوتر للمعامل ، القصة طويلة لكن ملخصها طلب سعراً من معمل ، ضغط عليه كثيراً ، قال له : هذا سعري ، أنا ما لي بحاجة لك ، أنت بحاجة لي ، تحب سأعمل ، أقسم بالله العادة ساعة ، ساعتين ، يوم ، أول يوم ثماني ساعات ما بيّن معه الخلل ، ثاني يوم ثماني ساعات ، ثالث يوم ، رابع يوم ، خامس يوم ، سادس يوم ، سابع يوم ، ثامن يوم ، قام وقف ، طلب إجازة يوم ، راجع نفسه ، أين الخطأ ؟ تذكر أنه قال له : أنا ما لي بحاجة لك ، أنت بحاجة لي ، فاستغفر الله ، ودفع صدقة ، وباليوم العاشر ربع ساعة حلت القضية .

بطولة الإنسان أن يكون له مكانة عند الله عز وجل :

الله يؤدب ، لو أنك تفهم على الله الكلمة الغلط وراءها في تأديب ، تصرف غلط في تأديب ، ابتسامة بغير محلها في تأديب ، استخفاف بإنسان في تأديب ، الله كبير ، فالله يربينا فالمربى غالي ، يصير ألماساً ، متواضعاً ، أديباً ، واقعياً ، أحكامه موضوعية ، ما فيها شطح ، ما فيها مبالغة ، يقدم واجباته بالتمام والكمال ، يرعى حق الصغير ، يحترم الكبير ، يحترم الفقير .

زرت مرة بيت أحد إخوانا توفي رحمه الله ، غرفة الضيوف عنده ما مرّ معي غرفة صغيرة جداً ، كراسي ، والمسافات الفارغة قليلة جداً ، خجل ، قلت له : تخجل ! سيد الخلق وحبيب الحق كانت غرفته لا تتسع لصلاته ونوم زوجته ، ومن أنت ؟ ارتاح سبحان الله .

ألقيت محاضرة بحي فقير جداً ، ذكرت أثراً للنبي الكريم ، دخل أحد الصحابة وقف له قال له : أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ، هو فقير جداً الصحابي ، قال له : أومثلي ؟! قال له : نعم يا أخي ، خامل في الأرض علم في السماء .

يا إخوان ! بطولتك أن يكون لك مكانة عند الله .

(( ابتغوا الرفعة عند الله ))

[ أخرجه ابن عدي في الكامل عن ابن عمر ]

والرفعة عند الله بيدك ، باستقامتك ، بإخلاصك ، بصدقك ، بأمانتك ، بتواضعك ، بخدمة الخلق .

بطولة الإنسان أن يعرف ربه في الرخاء قبل الشدة :

أيها الأخوة ،

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾

لماذا ؟ هنا السؤال ،

﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾

يعني يوجد ماء بأرضك ، حفرت بئراً في ماء ، لكن أحياناً يغور هذا الماء ، يا رب أمطرنا ، يكون بيدك أسباب ، بين يديك ، أنت مرتاح ، عندك بيت ، عندك مركبة ، كله ميسر ، لكن أحياناً هذه الأسباب التي بين يديك تختفي فتبحث عن مسبب الأسباب .

أحياناً الإنسان يكون غارقاً بالنعم ، لكن ينسى أن يعزوها إلى الله ، لكن بساعة من ساعات الغفلة يفتقد بعض النعم .

والله أيها الأخوة ، صديق صديقي درس في فرنسا ، اختصاص نادر ، وتعين ببلدنا بمرتبة عالية جداً دون وزير بقليل ، وبيت بأرقى أحياء دمشق ، ومركبة ، وشباب ، وهو شاب وسيم ، أموره كلها كما تمنى ، فقد بصره ، راعوه شهر ، يرسلون له البريد إلى البيت ، وموظف كبير يقرأ له المعاملة ، يقول له موافق ، لست موافقاً ، بعدها سرحوه ، زاره مرة صديقي ، قال له : والله أتمنى أن أتسول في الطريق وليس في ملكي إلا هذا المعطف ، وأن يرد الله لي بصري .

يكون في أسباب بين يديك ، تفقد واحدة تتذكر الله عز وجل ، ليتك تذكره والدنيا بين يديك ، ليتك تذكره وأنت معافى ، وأنت شاب ، وقوي ، المشكلة نحن جميعاً من دون استثناء عند الشدة نذكره .

من أغرب ما سمعت في بلاد عاشت سبعين سنة ترفع شعار لا إله فقط ، نحن لا إله إلا الله ، هم لا إله ، ملحدون ، في عدد من خبراء هذا البلد ملحدون أيضاً ، كانوا على متن طائرة ، دخلت هذه الطائرة في سحابة مكهربة ، فاضطربت اضطراباً شديداً كانت على وشك السقوط يقسم لي أحد الركاب ، كان في طريقه من دمشق إلى موسكو ، يقسم لي بالله أن هؤلاء الخبراء الملحدين رفعوا أيديهم إلى السماء ، ودعوا ربهم ، راكب طائرة مرتاح واضطربت ، يا رب ، ما في غيرك .

ما في مانع الإنسان عند الشدة يقول يا رب ، لكن البطل يقول يا رب وهو قوي وهو صحيح ، وهو غني ، وهو في ريعان الشباب ، لا يوجد عنده ولا مشكلة ، كل شخص عند الشدة ما له إلا الله عز وجل ، لكن البطولة أن تعرفه في الرخاء .

ورد في بعض الآثار :

(( ابن آدم اعرفني في الرخاء أعرفك في الشدة ))

من عزا المصائب التأديبية من الله إلى الدين فهذا شأن إبليس :

أيها الأخوة ،

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾

الآن :

﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

( سورة الأعراف )

هذا شأن الغافل عن الله ، كل إمكانياته إيجابية يقول : أنا درست ، تعبت ، بنيت نفسي ، تحديت الزمن ، انتصرت على واقعي المر ، بذلت جهوداً جبارة ، دربت نفسي على العطاء ، كل ما عنده معه شهادة علمية عالية ، أو تجارة رائجة ، أو عنده زوجة وأولاد ، بتعبي ، وكدي ، وعرق جبيني ، الله عز وجل يرسل له مصيبة ، لماذا الخيرات كلها تنسبها إلى ذاتك ، وإذا الله عز وجل أدبك تأديباً بسيطاً تعد تدينك سبب هذه المشكلة ؟ هذا موقف غير صحيح .

﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ ﴾

هذا جهدي .

﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾

( سورة القصص الآية : 78 )

﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ﴾

لو ما كنت بهذا السلوك هذه المشكلة لم تأتِ ، لأنني كنت ملتزماً فجاءتني هذه المشكلة ، معقول أن تعزو المصائب التأديبية من الله إلى تدينك ؟ هذا شأن إبليس .

﴿ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ﴾

معنى

﴿ يَطَّيَّرُوا ﴾

العرب في الجاهلية من جهلهم يمسك أحدهم طيراً ، ثم يحفزه ، فإن طار عن يمينه معنى ذلك هذا المشروع جيد ، ويقدم عليه ، وإن طار عن شماله هذا المشروع سيئ ويبتعد عنه ، كلام مضحك ، غير علمي ، ما له معنى إطلاقاً ، هذا اسمه التطير ، يعني التشاؤم ، إن طار عن يمينه يتفاءل ، وإن طار عن شماله يتشاءم .

كل أنواع التشاؤم لا أصل له و لكن الله يعاقب كل إنسان على عمله :

الآن في خرافات لا يعلمها إلا الله ، رقمه 13 يتشاءم ، اليوم الأربعاء يتشاءم ، لا طيرة ، ولا هامة ، كل أنواع التشاؤم خرافات ، أخذ صفقة ، قبل التوقيع دخل إنسان يقول لك فقست ، قدمه شؤم ، غير صحيح هذا الكلام ، ارتكب معصية كبيرة فعاقبه الله عقاباً كبيراً ، يقول من الزوجة قدمها نحس ، لا غير صحيح هذا الكلام ، هذه كلمات الجهلاء ، خيرك منك ، لا من زوجتك ، وشرك منك ، لا من رقم محلك ، كل أنواع التشاؤم ما لها أصل أبداً ، لا يوجد إلا الله عز وجل .

﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ ﴾

كل الخير الذي هو فيه يعزوه إلى ذكائه ، وخبرته ، وجهده ، واجتهاده ، ودأبه ، فإن جاءت مشكلة يعزوها إلى تدينه ، لو ما كنت هكذا ما كان صار معي هذا الشيء ، سألوا عني طلعت مستقيماً ، ملتزماً ، لا يريدون ملتزماً .

من عزا أخطاءه إلى السحر و الشعوذة فهو إنسان جاهل و لو كان مثقفاً :

﴿ أَلَا إِنَّمَا مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ﴾

ما في إلا الله ، ويعاملك على عملك ،

﴿ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

فالله عز وجل قال :

﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾

( سورة البقرة الآية : 102 )

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾

( سورة إبراهيم الآية : 22 )

في آية أوضح من هذه الآية ؟

﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾

هذه آية ثانية :

﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾

( سورة الإسراء الآية : 65 )

والله أيها الأخوة ، مع الأسف الشديد مثقفون ، ومثقفات ، يعزون أخطاءهم إلى السحر والشعوذة ، هذا موقف ،

﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ ﴾

نستحقها بجهدنا ، وتعبنا ، وعرق جبيننا ، ودأبنا ،

﴿ َإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾

بما قدمت أيديهم ،

﴿ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ﴾

يعني أحياناً يكون ابن صالح جداً ينصح والده بعمل خيري ، الآن أي مشكلة تأتي إلى هذا البيت أنت ورطتني ، لو لم تنصحني ما كان صار معنا شيء ، ينتظروه على واحدة أي مشكلة تأتي بسبب نصيحتك ، تورطنا ، هذا خطأ كبير ،

﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ﴾

ما في إلا الله ، لا إله إلا الله ، لا معطي ، ولا مانع ، ولا خافض ، ولا رافع ، ولا معز ، ولا مذل إلا الله ،

﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

الفعل فعل الله والاختيار اختيار الإنسان :

تروي الروايات أن الأمطار في عهد سيدنا موسى حبست أمداً طويلاً ، فخرج مع قومه للاستسقاء ، فدعوا ربهم كثيراً ولم يمطروا ، كان كليم الله ، ناجى ربه ، فسمع من الله أن فيكم عاصياً ، فقال سيدنا موسى لأصحابه : من كان عاصياً لله فليغادرنا ، ما أحد غادر والأمطار انهمرت كأفواه القرب ، سيدنا موسى سأل ربه ، قال له : يا رب من هذا العاصي ؟ الذي كان عاصياً ، ورد في بعض الروايات عجبت لك يا موسى أستره وهو عاصٍ وأفضحه وهو تائب ؟.

إخوانا الكرام :

(( الخير بيدي ، والشر بيدي ، فطوبى لمن قدرت على يده الخير ، والويل لمن قدرت على يده الشر ))

[ ورد في الأثر ]

الفعل فعل الله ، والاختيار اختيار الإنسان ، الإنسان يختار الله عز وجل يقلب اختياره إلى فعل ، فالفاعل هو الله ، أما العمل يقيّم من خلالك ، أنت الذي اخترته .

أفعال الإنسان من كسبه و الله عز وجل لا يجبر أحداً على فعله :

لذلك :

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾

( سورة السجدة )

يعني الله عز وجل لا يجبر أحداً على فعله ، ولو أجبر الناس على أفعالهم لما أجبرهم إلا على الهدى ، ولكن أفعال الإنسان من كسبه .

﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾

( سورة البقرة الآية : 286 )

والحمد لله رب العالمين

http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=1918&id=97&sid=101&ssid=253&sssid=254