الحقوق محفوظة لأصحابها

راغب السرجاني
تجمعت جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد وجيوش الرومان بقيادة وردان في أجنادين، ودارت معركة من أشرس معارك فتح الشام وفلسطين، شهدت الساحة الإسلامية قبل المعركة مجموعة من الخطب التربوية الجهادية، التي تحتاج إلى عميق دراسة، ولعل أبلغ الخطباء في أجنادين كان خالد بن الوليد ومعاذ بن جبل، فكيف كانت اللحظات التي سبقت المعركة؟ وكيف حمل عليهم خالد؟ وكيف كانت أحداث المعركة؟ وأهم نتائجها؟ وكيف تحرك خالد بن الوليد بعد المعركة؟

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم , ان الحمد لله , نحمده و نستعينه ونستغفره ونستهديه .

ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له .

وأشهد أن لا اله وحده لا شريك له , واشهد أن محمد عبده ورسوله .

أما بعد فأهلا ومرحبا بكم في هذا اللقاء المبارك وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذه اللحظات في ميزان حسناتنا أجمعين .

مع الحلقة الرابعة عشر من حلقات فتح فلسطين والشام , وتحدثنا في الحلقة السابقة عن تجمعات رومانية كبيرة جدا في أرض أجندين في فلسطين في الجنوب الغربي للقدس .

وبلغت القوات الرومانية أكثر من مئة ألف مقاتل , وكانت فمواجهة الجيش الإسلامي الذي هو كان قوامه حوال ثلاثة وثلاثين ألف مقاتل بقيادة خالد ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه .

ذكرنا التعبئة التي قام بها خالد ابن الوليد رضي الله عنه , ترتيب الجيش وجعل نفسه على المقدمة وجعل في القلب على المشاة أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنهم .

وعلى الميمنة العالم الجليل معاذ ابن جبل رضي الله عنه , وعلى الميسرة سعيد ابن عامر رضي الله عنه من الصحابة الأطهار .

وكذلك على الفرسان سعيد ابن زيد رضي الله عنه , من العشرة المبشرين بالجنة .

الحقيقة كان جيش في منتهى العظمة , جيش من الصحابة والتابعين وعلى رأسه سيف الله المسلول خالد ابن الوليد رضي الله عنه .

الحقيقة الخطب الكثيرة التي قيلت في الجيش الإسلامي في يوم أجندين تحتاج الى تمحيص والى تربية وتعليم لنشأ المسلمين وجيوش المسلمين ولشعوب المسلمين .

فيها من معاني العقيدة ومعاني الاتكال على الله عز وجل ومعاني الإعداد ومعاني الصبر ومعاني البلاء ومعاني القوة والنجدة والبأس والحرب القوية المجاهدة التي لا يتوانى فيها المسلمون عن بذل كل ما يملكون من أرواحهم وأموالهم .

فيها الكثير والكثير ولكن أقف فقط في هذه الحلقة على موقفين من مواقف الخطباء المسلمين .

الموقف الأول لخطيب قد لا نظنه خطيبا ولكنه سبحان الله يخطب بقلبه ويخطب بلسانه ويخطب بعقله , خالد ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه .

ليس فقط مجاهدا في أرض الميدان وليس فقط حاملا للسيوف وليس فقط موجها للجيوش , ولكنه كان أيضا خطيبا مفوها يخطب من قلبه ومن عقله ويكلم قلوب وعقول المسلمين .

قال رضي الله عنه وأرضاه , يخاطب الجيش الإسلامي في هذا الموقف العصيب واحد لثلاثة .

ثلاثة وثلاثين ألف ضد مئة ألف , يقول اتقوا الله عباد الله , اتقوا الله عباد الله , قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله .

ولا تنقصوا على أعقابكم , ولا تهنوا من عدوكم , ولكن أقدموا إقدام الأسد وأنتم أحرارا كرام .

ثم قال إنكم قد أبيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة .

انظروا الى المعنى الدقيق , الجيوش العلمانية أو الجيوش المادية أو جيوش الأرض من غير المسلمين دائما تحفز أصحابها وتحفز أهلها بأن يحفظوا على أرواحهم .

أن يقاتلوا حفاظا على أرواحهم طلبا للدنيا , أن يقاتلوا طلبا لاغتنام الغنائم , واغتنام الأموال واغتنام الأراضي .

يعدونهم بالتعويضات المادية المناسبة وبالأجور العالية من متاع الدنيا , أما خالد ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه فيحفز جيشه بأنه من طلاب الآخرة.

أنكم قادمون على الموت , أنكم الآن تبايعون الله عز وجل على ترك الدنيا وعلى الإقدام على الآخرة , شتان يا إخواني .

بين جيش يطلب الآخرة وجيش يطلب الدنيا , ثم قال كلمة جميلة قال ولا يغلنكم ما ترون من كثرتهم , فان الله عز وجل منزل عليهم غضبه ورجزه .

هذا جيش يحارب الله ورسوله , هذا جيش يحارب المؤمنين , لا تخشوا هذا الجيش ولا تخشوا أعداده ولا تخشوا عدته .

ان هذا الجيش سينزل ربنا سبحانه وتعالى عليه غضبه ورجزه , ثم قال كلمة رائعة , ذكرناها سابقا والآن هو التطبيق الواقعي لهذه الكلمة .

قال أيها الناس , ان رأيتموني حملت فاحملوا , خالد ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه .

القائد الأعلى لجيوش المسلمين في أرض الشام , هو الذي سيبدأ بنفسه القتال في سبيل الله .

إذا رأيتموني حملت فاحملوا , أول ضربة من الجيش الإسلامي ستكون على يد خالد ابن الوليد سيف الله المسلول .

أسأل الله عز وجل أن يرزقنا مثله وأمثاله حتى نستطيع أن نعيد العزة لبلاد المسلمين .

معاذ ابن جبل , الوقفة الثانية واللقطة الثانية من الخطباء , نحن قلنا نقف مع وقفتين .

وقفة من خالد ابن الوليد ووقفة من معاذ ابن جبل , امام العلماء , الرجل الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم أعلم أمتي بالحلال والحرام .

هذا الرجل يترك الآن المساجد ودور العبادة وينتقل الى أرض الجهاد , وهو شاب صغير في ذلك الوقت كان يبلغ من العمر تقريبا واحد وثلاثون سنة أو اثنان وثلاثون سنة .

ويقف ويحمس الناس ويقول يا معشر المسلمين أشروا نفسكم اليوم لله , يعني ماذا أشروا ؟ يعني بيعوا .

بيعوا نفسكم اليوم لله , يعني القضية منتهية , يعني لا تقتلوا لأجل البقاء , ولكن قاتلوا لأجل الموت في سبيل الله .

ثم يقول فأنكم ان هزمتموهم اليوم , انتبه من الكلمات في منتهى الأهمية .

فإنكم ان هزمتموهم اليوم , صارت هذه البلاد بلاد الإسلام أبدا , انظروا الى الكلمات .

انتصرتم في هذه الموقعة , صارت أرض فلسطين بلاد الإسلام أبدا , هذه أول المعارك الكبرى على أرض فلسطين .

موقعة أجندين , قبل ذلك قلنا موقعة العربة وداثنة في أوائل الفتوح الإسلامية في الشام , لكنهم كما ذكرنا كانت مواقع بسيطة .

أما هذه المواقع موقعة أجندين , فهي من أكبر المواقع في تاريخ الإسلام والمسلمين .

يقول انه ان انتصرتم , ان هزمتموهم اليوم صارت لكم هذه البلاد , بلاد الإسلام أبدا .

الكلام هذا يا إخواني ليس كلام عاطفي , الكلام هذا كلام واقعي وكلام عسكري وكلام فيه حسابات مادية مدروسة , بالإضافة الى يقينه الكامل في نصر رب العالمين سبحانه وتعالى .

من أين يقول الكلام هذا , نقول الكلام هذا لأن مثل ما قلنا , المائة ألف هؤلاء فيهم سبعين ألف مقاتل روماني هم الحامي الأصلية الموجودة في أرض فلسطين .

بمعنى أنه إذا هزم هذا الجيش فان الحامية الرئيسية تكون قد هزمت وبالتالي تصبح فلسطين محكومة بالجيش الإسلامي وليس فيها حامية قوية من جيوش الرومان .

طيب خالد ابن الوليد مفروض يبدأ القتال لكنه كان منتظر , ضاعت ساعات الفجر الأولى في إعداد الجيوش وأصبح أمامه الآن الوقت في وقت الضحى .

ومن الممكن أن يقاتلوا لكنه انتظر ولم يقاتل , لماذا ينتظر خالد ابن الوليد مع تمام عدته .

لشيء غريب جدا , كان ينتظر الى أن يحين الظهر , لأن هذه سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم .

يا سلام , النعمان ابن مقرن رضي الله عنهم كرام الصحابة ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم , أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا لم يقاتل في ساعات اليوم الأولى قاتل بعد صلاة الظهر .

وقال ان هذا الوقت الذي تهب فيه الريح وينزل فيه النصر , هذه سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم .

وكان خالد ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه يريد أن يطابق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

عرفتوا كيف النصر يأتي ؟ نصر لا يأتي من أجل خطة أعدت فقط وان كان هذا من أهم عوامل النصر , ولكن هذا الرجل يريد إتباع السنة فيكل صغيرة وكبيرة في حياته حتى في ميدان المعركة .

ممكن أحد يقول والله هذا كان خصم الجزيرة العربية , يعني رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يؤجل القتال الى بعد صلاة الظهر لكي يأخذ الوقت المناسب من رطوبة الجو من ذهاب الحرارة .

لكن خالد ابن الوليد ليس له علاقة بالكلام هذا , هو له علاقة بإتباع السنة النبوية .

والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول أن في هذا الوقت ينزل النصر , تهب نسائم النصر .

فلأنتظر حتى وقت الظهيرة , الى أن يأتي الوقت الذي كان يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الرومان هجموا على الميمنة , ولم يصدر خالد ابن الوليد أمره بالقتال , فصبرت الميمنة على قتال الرومان وعلى قيادتها معاذ ابن جبل رضي الله عنه وأرضاه .

وصدوا الهجمة الرومانية , فهجم الرومان على ميسرة المسلمين بقيادة سعيد ابن عامر رضي الله عنه وأرضاه وصبر المسلمون على قتال الهجوم الروماني أو على هجوم الميمنة الرومانية على ميسرة المسلمين .

وبدأ الرومان يلقون الرماح على الجيش المسلم , هنا اضطر خالد ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه اضطرارا أن يقاتل قبل أن يأتي الظهر .

فأمر المسلمين بالقتال بعد أن صبروا طويلا على ضربات الرومان , فيقول المؤرخون الذين عاصروا هذه الموقعة .

فما صبر الرومان للمسلمين فواقا , ما هو الفواق ؟

الفواق هو الوقت الذي يمر بين حلبتين للناقة , ممكن تحلب الناقة في الصباح , تحلبها في الظهيرة أو في بعض التفسيرات هو الوقت الذي بين أن تضع يدك على الضرع لتحلب الناقة , وبين أن تبسط يدك من على الضرع .

يعني وقت قليل جدا , هذا مثل يضربه العرب للسرعة , يعني ما صبر الرومان للمسلمين لحظات قليلة .

ارتطم المسلمون ارتطاما كبيرات شديدا , أعداد قليلة من المسلمين في مواجهة أعداد كبيرة جدا من الرومان .

لكن هذه الأعداد كلها ما كانت تساوي شيئا , ما صبر الرومان للمسلمين فواقا كما يقول المؤرخون .

وانطلق المسلمون يقتلون في الرومان وانطلق الرومان لا هم لهم الا الهروب من أرض القتال , وفي لحظات القتال الأولى قتل وردان قائد الرومان .

وبذلك انهارت عزائم الرومان , وصاروا في كل مكان , اتجهوا الى القدس واتجهوا الى دمشق , واتجهوا الى حمص .

ومنهم من وصل في فراره الى إنطاكيا , يا إخواني ويا أخواتي قتلى الرومان في موقعة أجندين كانوا ثلاثة آلاف مقاتل .

أما شهداء المسلمين في موقعة أجندين فكانوا أربعة عشر شهيدا فقط .

انظروا كم الفرق الرهيب بين قتلى المسلمين أو شهداء المسلمين وبين قتلى الرومان , هذا انتصار قوي جدا من انتصارات المسلمين .

وهرب الرومان في كل مكان , ومن شهداء المسلمين في هذه الموقعة كان أبان ابن سعيد ابن العاص رضي الله عنه وأرضاه , الذي تزوج قبل هذه الموقعة بليلة واحدة .

ولكنه مع حوره العين كما وعد ربنا سبحانه وتعالى بعد هذه المعركة , ترى ماذا حدث بعد أجندين , هذا ما سنعرفه بعض الفاصل فابقوا معنا .

---------------------------------------------------------------------------------

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله , قبل الفاصل تكلمنا على موقعة أجندين وعلى أن الموقعة حدثت بشكل غريب جدا .

سرعة غريبة جدا , انتقل المسلمون من الدفاع الى الهجوم مباشرة , وفي هذه اللحظات القليلة قتل من الرومان ثلاثة آلاف وفر بقية الرومان في كل حد وصوب .

منهم من بلغ في فراره الى حمص والى أنطاكيا على بعد عدة مئات من أرض أجندين وهذا نصر الله عز وجل الذي نصر به أحبابه وجنوده وصحابته .

الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذه الموقعة الخالدة موقعة أجندين , أولى المواقع الفاصلة الكبرى على أرض فلسطين المباركة .

نسأل الله عز وجل أن يحرر أرض فلسطين بكاملها , بعد هذه الموقعة أو يعني من شهداء هذه الموقعة كما ذكرنا أبان ابن سعيد رضي الله عنه وأرضاه .

ومنهم كذلك هشام ابن العاص أخو عمر ابن العاص ومنهم اثنين من أولاد عم خالد ابن الوليد رضي الله عنه .

وهذا كله يدل يا إخواني وأخواتي على أن القادة المسلمين وأقارب القادة المسلمين ما كانوا ينئون بأنفسهم عن الخطر , بل كانوا دائما في المقدمة , وكانوا دائما من المجاهدين وكانوا دائما من شهداء المسلمين .

وعلى فكرة أبان ابن سعيد هو أخو خالد ابن سعيد أول المتطوعين للجهاد في حرب الشام .

طبعا هذه دلالة على إقدام عائلة خالد ابن سعيد بكاملهم على القتال في سبيل الله .

بعد النصر العظيم خالد ابن الوليد رسالة يبشر فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه بنصر مبين على المشركين , وقال له في هذه الرسالة كلام جميل جدا .

قال له لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم , من خالد ابن الوليد سيف الله المصبوب على المشركين .

أولا بدأ بأبي بكر الصديق إجلالا وأدبا , ثم مع نفسه وذكر الصفة التي يحب , الصفة التي وصفه بها الرسول عليه الصلاة والسلام , صفة سيف الله .

فقال من خالد ابن الوليد سيف الله المصبوب على المشركين , ثم قال أما بعد , سلام الله عليك فأني أحمد الله الذي لا اله الا هو وأخبرك أيها الصديق أنا التقينا نحن والمشركون وقد جمعوا لنا جموعا كثيرة باجندين .

وقد رفعوا صلبانهم ونشروا كتبهم وأثو بقساوستهم , وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنون أو يخرجون من بلادهم .

فخرجنا إليهم واثقين بالله , متوكلين على الله , فطاعناهم بالرماح ثم انتقلنا الى السيوف فقارعناهم في كل فجا وشعب وغائط .

وأحمد الله عز وجل على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنيع لأوليائه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

كلمات موجزة قصيرة نسب فيها النصر بكامله لله عز وجل , ذكر أنهم التقوا مع الرومان بأعدادهم الغفيرة فما نظروا إليها لأنهم واثقين بالله متوكلين على الله , نعم الجيش هذا الجيش .

ونصره الله عز وجل هذا النصر الم المؤزر .

وصلت هذه الرسالة الى المدينة المنورة في ظروف لعلنا سنتحدث عنها إنشاء الله لاحقا , لكن لنا الآن يعين ارتباط أو نظر الى حال المسلمين بعد موقعة أجندين .

بعد هذه الموقعة الكبيرة ماذا فعل خالد ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ؟

توجه خالد ابن الوليد بعد ذلك الى ... مرة ثانية , عينه مباشرة على دمشق العاصمة , لأنه لو سقطت هذه المدينة لسقطت معنويات الرومان بشكل كبير جدا لأنها تمثل أكبر قوة عسكرية في أرض الشام .

لكن ممكن أحد يسأل سؤال ويقول لماذا ما اتجه خالد ابن الوليد بجيشه الى القدس ؟ .

والقدس مثل ما أنتم تعرفون الآن قريبة جدا من أجندين , يعني على بعد عدة كيلو مترات من أجندين .

حوال عشرين أو ثلاثين أو أربعين كيلو على أقصى تقدير من أجندين .

فيقول أولا القدس ليست العاصمة في أرض الشام , يعني ليست فيها القوة العسكرية الكبرى الموجودة في أرض الشام , وبالتالي قد ينفق أمامها وقتا طويلا .

بينما تبقى الجيوش الرومانية بكامل أهبتها وكامل استعدادها في أماكن أخرى غير القدس .

الحاجة الثانية , القدس أسوارها عالية جدا , وكانت في منتهى الحصانة ولعلها في ذلك الوقت كانت أحصن أصلا من مدينة دمشق وبالتالي فسوف يضيع وقتا طويلا جدا في فتح هذه المدينة الحصينة .

الحاجة الثالثة , القدس طبعا لها مكانة كبيرة جدا جدا في قلوب النصارى في هذا الزمن , وكانت يعني عقر دار الدين النصراني .

وكان الرومان والعرب الغساسنة المتنصرين يهتمون بها اهتماما كبيرا , فلو سقطت هذه المدينة أو حوصرت هذه المدينة على الأقل فان هذا سيهيج مشاعر النصارى في بلاد الشام بكاملها .

وبالتالي قد يتجمعون بأعداد غفيرة لا قبل للمسلمين بها , فأراد خالد ابن الوليد رضي الله عنه أن يؤخر فتح القدس .

المهم أنه هو رضي الله عنه وأرضاه اختار حصار دمشق ولم يتجه إليها من الشمال ولكنه التف من حول البحر الميت حتى لا يدخل في الطرق الداخلية ويعرض نفسه لكمائن الرومان .

( تظهر خريطة لاتجاه خالد ابن الوليد للشام )

منتهى الحيطة ومنتهى الحذر وبالفعل وصل الى دمشق وبدأ يحاصر أرض دمشق وقد ترك عمر ابن العاص في منطقة فلسطين .

وترك شرحبيل ابن حسنة في منطقة بصرى , وذلك حتى ييسر نوع من الحماية لظهره إذا انطلق الى دمشق .

عندما وصل خالد ابن الوليد الى دمشق اكتشفت مخابرات خالد ابن الوليد توجيه قوة رومانية جديدة من إنطاكيا الى دمشق .

هذه القوة كانت تهدف الى نجدة الرومان في أرض أجندين , أو نجدة الرومان في دمشق .

اكتشفت مخابرات خالد ابن وليد هذه القوة وهي في بعلبك , وأخرج لها خالد ابن الوليد جيشا والتقت هذه القوى مع خالد ابن الوليد في موقعة كرج الصفر الثانية .

كنا قلنا قبل ذلك أن في موقعة مرج الصفر الأولى التقى فيها خالد ابن الوليد ابن سعيد بفرقة من جيشه منعزلا عن جيش أبي عبيدة ابن الجراح وهزم فيها المسلمون .

وكان هذا في أوائل أيام الفتح الإسلامي , بعد أجندين بعشرين يوما يلتقي خالد ابن الوليد رضي الله عنه الرومان في مرج الصفر للمرة الثانية ولم تذكر الكتب عدد الجيش الروماني وان كان في غالب الأمر عددا كبيرا .

لأن الموقعة كانت من المواقع العسيرة على الجيش الإسلامي وبعد صبر طويل استطاع المسلمون أن يحققوا النصر على الرومان في موقعة مرج الصفر .

يعني ما شاء الله انتصار بصرى ثم انتصار أجندين ثم انتصار مرج الصفر ولكن سقط من المسلمين في هذه الموقعة خمسمائة شهيد .

كانت من المواقع الكبرى , سقط من المسلمين خمسمائة شهيد وسقط من الرومان خمسمائة قتيل , وأسر من الرومان خمسمائة , ولم يؤسر من المسلمين أحد .

وفر الجيش الروماني بعد ذلك ومن من سقط شهيدا في هذه الموقعة كان خالد ابن سعيد رضي الله عنه وأرضاه .

ولما نقول اسمه بالذات من شهدا المسلمين في موقعة مرج الصفر , لأنه كان قائد المسلمين في الموقعة التي هزم فيها المسلمون في هذا المكان بالذات وكأنه ألراد أن يكفر عن خطيئته وأراد أن يكفر عن خطأه العسكري في الموقعة الأولى .

فثبت ثبات عجيبا , وكان في مقدمة المسلمين , وكان دوما بين المسلمين وبين المشركين حتى رزقه الله عز وجل الشهادة دلالة على صدق قلبه وعلى عمق يقينه .

ولقي الله عز وجل بعد موقعة في نفس المكان الذي هزم فيه قبل ذلك , وعلى فكرة خالد ابن سعيد رضي الله عنه وأرضاه قبيل هذه الموقعة بليلة واحدة كان يتزوج من أم خولة رضي الله عنها بنت حكيم .

وبعد أن علمت باستشهاده بعد ليلة واحدة من زواجه حملت على خيمتها وخرجت تقاتل في سبيل الله , فقتلت أربعة من الرومان .

المرأة المسلمة في هذا الزمن تقاتل في الرجال والنساء أعداء الله عز وجل , تستطيع أن تقتل بعمود خيمتها وليس بسيف وليس برمح , تستطيع أن تقتل أربعة من الجيوش المحترفة الرومانية .

طبعا قارن هذا الوضع بين الأوضاع التي تملكه الدنيا من قلوب المسلمين , رأينا المرأة من التتار تقتل العدد الكبير من رجال المسلمين .

بيت القصيد يا إخواني أن النصر في يد المسلمين إذا ارتبطوا بالله عز وجل .

لأن الله هو الذي ينزل نصره , فإذا رأى الله عز وجل من المسلمين قرب منه واعتمادا عليه وتوكلا عليه , والتصاق بكل صغيرة وكبيرة في الشرع الإسلامي .

فانه ينزل نصره عليه حتى تستطيع المرأة المسلمة أن تقتل عددا كبيرا من جنود الرومان .

وإذا تخلى المسلمون عن شرعهم وابتعد المسلمون عن دينهم وابتعدوا عن سنة حبيبهم صلى الله عليه وسلم .

فان المرأة من أعداء الإسلام تستطيع أن تقتل العدد الكبير من رجال المسلمين .

قارئ التاريخ يدرس هذه الأمور بعمق ويدرس هذه الأمور بوضوح , وينظر الى عبرة التاريخ والى عبرة القصة الإسلامية فيدرك بواعث النصر أو عوامل النصر وعوامل الهزيمة كما رأينا في التاريخ الإسلامي .

موقف مهم جدا ينقله الرواة عندما رجع المسلمون الى حصار دمشق بعد انتصار مرج الصفر ينقلوا أنه في هذه المعارك كان المسلمون يجمعون الغنائم وينقلونها الى مكان معين حتى توزع بين المسلمين .

وكان الرجل من المسلمين إذا أتى بكبة من الصوف أو إبرة مخيطة كان يضعها في الغنائم سبحان الله .

يعني حتى لو كانت الغنيمة شيء بسيط جدا , شيء تافه جدا , لا يساوي شيء .

ما كان يسحله المسلم , بل كان يضعه في الغنيمة لا غلول مطلقا للمسلمين في هذه المعارك , وهذا يدل على عمق الأمانة في الجيش الإسلامي .

أنا أريدكم أن تراجعوا معدلات الفساد الموجودة في تقارير الشفافية لحال الأمة الإسلامية حتى تعلموا لماذا يتأخر النصر على المسلمين .

لعلكم لو رجعتم تقارير الشفافية الموجودة كل سنة تأتي من الأمم المتحدة ستجدوا أن العالم الإسلامي للأسف الشديد معظمه يأتي بخمسة من عشرة .

تقرير الشفافية هذا يدرس حالات الفساد , حالات الاختلاس , حالات الرشوة , حالات التزوير , حالات الفساد الإداري , الفساد المالي , الفساد الاقتصادي , الفساد السياسي .

كل هذه المظاهر من الفساد للأسف الشديد , استشرى الفساد الشديد في بلاد المسلمين بل استشرى الفساد أحيانا في بعض الأماكن الحساسة جدا والتي أحيانا ترفع لواء الحرب ولواء الجهاد ولواء المقاومة .

فان هذا الأمر يا إخواني لا يصلح أبدا معه نصر , إذا نظرنا الى حال الجيش الإسلامي وحالة الأمانة العظيمة التي لا يقبل فيها مسلم أن يأخذ شيئا لا يساوي درهما .

لا يأخذه ولا يستحله , بينما الآن نجد أموال المسلمين هنا وهناك تستحل وتستباح وثروات المسلمين تنتهك ويأخذها أبناء المسلمين الذين يحكمون المسلمين .

فان هذا ولا شك يضع أيدينا على المشكلة الكبيرة التي يعاني منها العالم الإسلامي .

وإذا أردنا أن نعود الى زمان العزة , وإذا أردنا ان نعود الى ما كان عليه الصحابة السابقين , وما كان عليه الجيوش المنتصرة الفاتحة .

فان علينا أن نعود الى الإسلام جملة واحدة , لا نختار من الإسلام ما يناسبنا ونترك ما لا يناسبنا .

ولكن نأخذه جملة واحدة , قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } .

ترى ماذا حدث بعد موقعة مرج الصفر ؟ , وهل يترك الرومان المسلمين ينتصرون في الموقعة والآخرة .

وماذا سيفعل هرقل ؟ وماذا سيفعل خالد ابن الوليد ؟

هذا ما نعرفه في الحلقة القادمة , أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه , ويعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا في ما علمنا , انه ولي ذلك والقادر عليه .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .