الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

قانون الالتفاف والانفضاض :

أعزائي المشاهدين ... أخوتي المؤمنين ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ولا زلنا في قوانين القرآن ، والقانون اليوم ( قانون الالتفاف والانفضاض )

من آمن بالآخرة و نقل اهتماماته إليها لابدّ له من عمل يصلح للعرض على الله :

الإنسان أيها الأخوة خُلق لجنة عرضها السماوات والأرض ، خُلق ليسعد إلى أبد الآبدين ، خُلق لينعم بالقرب من رب العالمين ، هذه الجنة لها ثمن ، ومن طلب الجنة من دون عمل فهذا ذنب من الذنوب ، ما ثمن الجنة ؟ أن يأتي الله بك إلى الدنيا ، وأن تتعرف إليه من خلال الكون الذي ينطق بوجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ، بل إن الكون مظهر لأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، فإذا تعرفت إلى الله ، وتعرفت إلى منهج الله ، واستقمت على أمر الله عز وجل يمنحك من كمالاته .

ودائماً وأبداً أقول : مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً .

إذاً : الإنسان الذي آمن بالآخرة ، وآمن أنه مخلوق للجنة ، ونقل اهتماماته إلى الدار الآخرة ، لابدّ له من عمل يصلح للعرض على الله ، لابدّ له من عمل صارخ يكون وسيلة للقرب من الله .

اعتماد الله عز وجل على قيمتي العلم و العمل للترجيح بين البشر :

لذلك الله عز وجل في قرآنه الكريم لم يعتمد الصفات التي يتفاضل بها بني البشر ، بنو البشر يرجح بعضهم بعضاً بقيمة المال ، بقيمة القوة ، بقيمة الذكاء ، بقيمة الوسامة ، لكن الله سبحانه وتعالى جعل مرجحين اثنين لا ثالث لهما ، المرجح الأول هو العلم فقال تعالى :

﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

( سورة الزمر الآية : 9 )

وقال أيضاً :

﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾

( سورة المجادلة الآية : 11 )

وقال أيضاً :

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾

( سورة الأنعام الآية : 132 )

هذا القانون قانون الالتفاف والانفضاض ، يعني من ؟ يعني المؤمن الذي عرف الله ، وعرف منهجه ، وأراد أن يتقرب إليه .

الدعوة إلى الله عز وجل أعظم عمل على الإطلاق :

أعظم عمل على الإطلاق من دون استثناء هو الدعوة إلى الله ، لقول الله عز وجل :

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

( سورة فصلت )

أي ليس في بني البشر إنسان أفضل عند الله

﴿ مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

الدعوة إلى الله فرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف :

أيها الأخوة الكرام ، هذه الدعوة إلى الله هي فرض عين ، وفرض كفاية ، فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل ، فرض الكفاية أن يتبحر الإنسان في العلم الشرعي ، وأن يتعمق فيه ، وأن يتفرغ له ، وأن يملك الحجج والبراهين ، ورد كل الشبهات ، هذه الدعوة إلى الله بهذا المستوى فرض كفاية ، إذا قام بها البعض سقطت عن الكل ، ولكن الدعوة إلى الله التي هي فرض عين دعوة من نوع آخر ، هو أن تدعو إلى الله في حدود ما تعلم ، ومع من تعرف ، ليس غير ، في حدود ما تعلم ، ومع من تعرف ، هذه الدعوة تؤكدها الآية الكريمة :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾

( سورة العصر )

فالتواصي بالحق ربع النجاة ، بل إن الله سبحانه وتعالى حينما يقول :

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

( سورة يوسف الآية : 108 )

فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ، وقالوا على بصيرة بالدليل والتعليل ليس متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا لم يكن متبعاً فهو لا يحب الله لقوله تعالى :

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 31 )

أي صلة بالله عز وجل من ثمار هذه الصلة اشتقاق الكمال من الله تعالى :

أيها الأخوة الكرام ، وصلنا إلى القانون الذي يحتاجه الدعاة إلى الله ، يحتاجه أي إنسان يحتل منصباً قيادياً ، يحتاجه الأب ، تحتاجه الأم ، يحتاجه المعلم ، يحتاجه رئيس الدائرة ، يحتاجه مدير المستشفى ، يحتاجه رئيس الجامعة ، يحتاجه أي إنسان يحتل منصباً قيادياً ، متى تنجح باختصاصك ؟ حينما يلتف الناس حولك ، حينما يحبونك ، متى تنجح في تحقيق أهدافك ؟ حينما يتطلع الناس إليك بعين المحبة والتقدير .

إذاً متى يلتف الناس حولك ؟ ومتى ينفضون ؟ وهذا محور هذا اللقاء الطيب ، بل محور القانون الذي نسميه قانون الالتفاف والانفضاض ، ما الذي يحكم هذا القانون ؟ يحكم هذا القانون هذه الآية الكريمة قال تعالى :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 159 )

أي بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم ، أي أن الإنسان إذا اتصل بالله اكتسب منه الرحمة ، إن اتصلت بالرحيم تشتق منه الرحمة ، إن اتصلت بالحكيم تشتق منه الحكمة ، إن اتصلت بالقوي تصبح قوياً لا تلين ، ولا تتضعضع ، ولا تتطامن ، بل تكون قوياً تأخذ حقك بشكل واضح صريح .

إذاً إن اتصلت بالحكيم تكون حكيماً ، بالرحيم تكون رحيماً ، بالقوي تكون قوياً ، بالعدل تكون منصفاً ، فأي صلة بالله عز وجل من ثمار هذه الصلة اشتقاق الكمال ، فالآية التي هي قانون الالتفاف والانفضاض هي قوله تعالى :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ ﴾

وهذه الباء عند النحاة باء السببية كقوله تعالى :

﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ﴾

( سورة النساء الآية : 160 )

هذه الباء باء السبب ، إذاً

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

يعني يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك كنت ليناً لهم ، هذه الرحمة التي في القلب انعكست ليناً في التعامل مع الآخرين ، هذا اللين في التعامل مع الآخرين سبب التفافهم حولك ، وإقبالهم عليك ، ومحبتهم لك ، وإخلاصهم لك .

أكبر رأسمال يملكه الإنسان هو أن يحبه الناس و يثقوا به :

لذلك أكبر رأسمال يملكه الإنسان هو أن يحبه الناس ، وأن يثقوا به ، وأن يتفانوا في تلبية دعوته التي يبتغي منها وجه الله .

فلذلك الدعاة إلى الله ، وأي إنسان يحتل منصباً قيادياً يريد أن يحقق أهدافه ، وأن ينصاع الناس له ، وأن يلتفوا حوله ، فعليه بهذه الآية :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

اتصلت بنا ، فاشتققت منا الرحمة ، انعكست الرحمة ليناً ، كان اللين سبب التفاف الناس حولك ، عندئذٍ حققت الهدف من حياتك ، ومن رسالتك ، فاستعنت بهؤلاء الناس الذين أحبوك ، وقدروك ، ورفعوك .

انعكاس القلب القاسي معاملة قاسية :

ماذا يقابل هذا القانون ؟ قال :

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 159 )

لو أن الإنسان انقطع عن الله عز وجل ليس في قلبه رحمة ، في قلبه قسوة .

﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾

( سورة الزمر الآية : 22 )

لا يرحم الآخرين ، يبني مجده على أنقاضهم ، يبني غناه على فقرهم ، يستغلهم يستعلي عليهم ، يؤذيهم ،

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ ﴾

يعني لو كان الإنسان منقطعاً ، عن ربه فكان في غلظة ما بعدها غلظة ، هذه الغلظة انعكست نفوراً من الناس فانفضوا من حوله ، سبحان الله ! وكأن الآية معادلة رياضية ، اتصال ، رحمة ، لين ، التفاف ، انقطاع ، قسوة ، غلظة ، انفضاض

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 159 )

احتياج الدعاة إلى الله عز وجل لقانون الالتفاف والانفضاض :

أيها الأخوة الأحباب ، هناك فكرة دقيقة لعلي أختم بها هذا اللقاء الطيب : الله عز وجل يخاطب سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم ، والذي آتاه الله الوحي ، والقرآن ، و المعجزات ، يقول له أنت ، أنت يا محمد ، مع كل هذه الخصائص ، ومع كل هذه الميزات ، ومع كل هذه الكمالات :

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

فكيف بإنسان ليس معه وحي ، ولا معجزات ، ولا قرآن ، وليس فصيحاً ، وليس جميل الصورة ، ومع ذلك هو فظ غليظ .

لذلك : من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ، ومن نهى عن منكر فليكن بغير منكر .

هذا قانون الالتفاف والانفضاض الذي يحتاجه كل الدعاة إلى الله ، بل كل أب وأم ، بل كل معلم ، بل كل من يحتل منصباً قيادياً .

أيها الأخوة الأحباب ، إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

والحمد لله رب العالمين