الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام، وجعل الله رمضان هذا العام بركة على المسلمين، ويعزنا وينصرنا ويحفظ بلاد المسلمين، العراق وفلسطين ولبنان والسودان ومصر والمغرب والمملكة العربية السعودية وكافة بلاد المسلمين، ونشهد أيام عز وبركة ونهضة للأمة، ويحفظ أبناءنا.

مقدمة لموضوع الحلقة:

حلقة اليوم هي الجزء الثاني من "موسى – عليه السلام- والخضر"، فسوف تكون الحلقة اليوم عن العلم الذي سوف يكتسبه موسى من الخضر، وكما قلت لكم من قبل فالخضر شخصية غامضة، فلقد ظهر فجأة كما اختفى فجأة في قصة سيدنا موسى – عليه السلام-، فلا نعرف اسمه ولاعمره ولا بلده، واليوم سوف نُفسر هذا الغموض.

لكن دعونا أولاً نتطرق لموضوع سوف يقودنا للتفاصيل، فحياة البشر مليئة بالمشاكل والمصائب والكوارث، فقد تُطلق امرأة وهي صالحة بينما تستقر الأخرى غير الصالحة في حياتها، وأخرى لم تنجب طوال حياتها وكانت ترغب في أن يكون لها أطفال، وأخرى أنجبت فتركت أطفالها وتخلت عنهم، وقد يفقد أحدهم ابنه الوحيد في حادثة، بينما قد يكون لآخر أحد عشر طفلا لا يهتم بهم، وفلاح بسيط لا يملك سوى بقرة واحدة تعينه على المعيشة هو وأطفاله التسعة فماتت البقرة، وجاره يملك تسع وتسعين بقرة ولم ينجب أطفال، وآخر رجل صالح وأصيب بالسرطان ويعاني من آلام شديدة؛ فـ"أم رشا" ابنتها من صناع الحياة، كانت من المشاركات معنا في حركة "حماية" ضد المخدرات، وأثناء عملها في الحملة توفيت، وهي لم تتجاوز الثامنة عشر، وفي الشهر نفسه توفيت أختها، فقد فقدت الأم اثنتين من بناتها الثلاث في شهر واحد، ولم يتبق لها سوى ابنتها إيمان، حفظها الله. ونحن نشهد الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل في الصين وتركيا، وموت الآلاف بسببها، وغير ذلك تسونامي وإعصار كاليفورنيا اللذين سببا موت أطفال بينما نجا آباؤهم ومات آباء بينما نجا أطفالهم، فلماذا لم يموتوا سويًّا؟ غرقت العبارة المصرية مما تسبب في موت البسطاء، فأين الحكمة في هذا؟ أين رحمة الله؟ ما تفسير هذا؟

الرضا والإيمان بالقدر خيره وشره:

حلقة اليوم تتمحور حول ركن من أركان الإسلام، وهو الإيمان بالقدر - خيره وشره- والرضا، فلا يمكن أن تؤمن بالقدر - خيره وشره- ولا يمكن أن ترضى إلا إذا فهمت ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى وهي: اسم الله "العليم"، واسم الله "الحكيم"، واسم الله "الرحيم"، فبقدر إيمانك ويقينك وثقتك بهذه الأسماء، ترضى عن قدر الله في حياتك وترضى عما لا تجد له تفسيرا في الكون وعما تراه متناقضا في الكون، وتبكي من حبك لعلمه ورحمته. يقول ابن القيم: "الرضا باب الله الأعظم ومستراح العابدين وجنة الدنيا". أقسم بالله لم تسقط ورقة من شجرة إلا بعلم ولحكمة من الله – عز وجل- فما بالك بإعصار أو بحادثة سير؟ يقول الله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }(الأنعام59)، فلا شيء إلا ويحدث لحكمة من الله وكل حكمة متعلقة بالخير المتلقى، فلا يصدر عن الله الشر أبدًا، وإن بدا لك أن ما يحدث متناقضا أو شرًّا فلا يمكن أن يكون إلا خير، وهذا ما توضحه قصة "موسى – عليه السلام- والخضر".

أمثلة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم عن الرضا:

انظر للنبي يوم توفيَ ابنه، فلا مصيبة تصيب الأب أكبر من موت الابن، وقد مات للنبي سبعة أطفال، وهذا آخر ولد له وكان النبي – صلى الله عليه وسلم- في الحادية والستين من عمره، قبل وفاته بسنتين، وقد توفى إبراهيم ابن النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو يبلغ سنتين من عمره، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم- يحبه حبًّا جمًّا ويحمله ويريه للصحابة، فعندما توفي إبراهيم بكى النبي – صلى الله عليه وسلم- لكنه قال: "لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك". فالعليم، الله – سبحانه وتعالى- يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان، كيف كان يكون؟ فمثلاً، إن لم تكن الحرب العالمية الثانية، كيف كانت الأرض؟ والحكيم لا تتحرك ذرة في الكون إلا بحكمته، والرحيم "فالخير كله بيديك والشر ليس إليك"، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(آل عمران26)، فعلى الرغم من عدم علمنا للحكمة وراء كثير مما نراه فيجب الإيمان بأنه من أقدار الله وعلينا الرضا.

فيوم غزوة بدر، كان العباس عم النبي – صلى الله عليه وسلم- قد أسلم ولا يعلم بإسلامه إلا النبي – صلى الله عليه وسلم-، وقد جعله النبي – صلى الله عليه وسلم- يخرج مع جيش قريش الذي سوف يقاتل المسلمين، ليُثبط قريش بعد المعركة حقنًا للدماء حكمةً ورحمةً، لذا يقف النبي بين المسلمين ويقول: "من لقي منكم العباس في المعركة فلا يقتله"، فقال صحابي: "أنقتل آباءنا وإخواننا ونتركه لأنه عم النبي" لو رأيته سوف أقتله"، فقد فعل النبي – صلى الله عليه وسلم- ذلك رحمةً وحكمةً، يقول الصحابي: "فلما علمت الحق، ظللت أتصدق وأبكي وأصلي استغفارًا لسوء ظني برسول الله – صلى الله عليه وسلم-". وهذا مثال برسول الله – صلى الله عليه وسلم- البشر فما بالك بالله – سبحانه وتعالى- العليم، الحكيم، الرحيم؟

حال موسى عليه السلام عند لقاء الخضر:

فلقد جاء سيدنا موسى عليه السلام للخضر من مأزق، بعد إيذاء فرعون وتسلطه عليه، وكان هذا هو المخرج، أن يخرج من العالم الذي كان فيه، لينطلق مع الخضر، ولذلك يكون الحديث أثناء الرحلة بكلمة "فانطلقا"، فعلم الخضر الذي أعطاه لموسى – عليه السلام- كان عمليًّا، وهذا أفضل طريق لتدريس العقيدة، التدريس العملي في الحياة وبالقرآن، والعلم الذي يملكه الخضر هو علم الغيب، علم الرضا عن الله –عز وجل-، علم القضاء والقدر وعلم اليقين بأسماء الله الحسنى الثلاثة: العليم، الحكيم، الرحيم. باختصار الخضر تجسيد للغيب، ولقضاء الله – سبحانه وتعالى- وقدره، وسيُريَ الله – عز وجل- موسى – رضي الله عنه- ثلاث قصص في الحياة، فقد اختار الله – عز وجل- لموسى – عليه السلام- أكثر ثلاث قصص تمسنا كبشر: قصة الرزق، وقصة فقد الأحباب، خاصةً الأولاد، وقصة تأخر الرزق بما يحتويه من تأخر الزواج، وتأخر المال ومنال هذا الرزق لأحد آخر - في نظرك- لا يستحقه. فسوف نرى ماذا يحدث في هذه القصص في الجزء الأول؟ ثم نرى كيف يحولها القدر إلى خير في آخر الأمر؟ فإذا كان فرعون قد آذى موسى – عليه السلام- فقدر الله – سبحانه وتعالى- بما به من حكمة وعلم فوق فرعون، أن يعود موسى – عليه السلام- ونفسيته مختلفة بعدما حدث في بني إسرائيل.

لعله خير:

فقصة "موسى – عليه السلام- والخضر" تذكرنا بقصة "لعله خير": يحكى أنه كان هنالك ملك ووزير، فكلما حدث شيئٌ للملك قال الوزير "لعله خير"، ولم يرَ الملك الخير في كل مرة مما يحدث. فذهب الملك مرة ليصطاد، فجرحه الرمح وتسبب في قطع إصبعه، فقال له الوزير: "لعله خير"، فثار الملك وأمر بسجنه، فقال الوزير: "لعله خير". وبعد ذلك ذهب الملك ليصطاد، فرأته قبيلة تقدم قرابين بشرية للنار، فعندما عاينوه لاحظوا ما أصاب إصبعه، فتركوه كي لا يقدموا قرابين معيوبة للنار، فرجع الملك للوزير وأفرج عنه، ولما سأله لما قال لعله خير عندما سجن؟ فرد الوزير قائلاً: "يا مولاي لو كنت معك لأخذوني". فكما قال الله تعالى: " {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }(البقرة216) "فانطلقا"، وهنا تشعر بخروج موسى – عليه السلام- إلى عوالم الله العظيمة لكي ينظر إلى الكون، والثلاث رحلات تتضمن علاقات بين الناس ومشاكلهم، فهي رحلة بحرية ورحلة برية ورحلة قدرية، فرحلة مع مساكين ورحلة مع شباب ورحلة مع بخلاء وأيتام، فأدخلته – عليه السلام- الرحلات الثلاث في وسط المجتمع، فيجب على رجال الدين أن يكونوا وسط الناس ومشاكلهم اليومية ليعرفوا شعورهم وأحوالهم.

الرحلة الأولى:

يحكي رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى إذا مرت سفينة، فناداها الخضر، فعرفوه، فطلب منهم أن يركبوا معه، فركبوا ورفضوا أن يأخذوا منهم الأجرة". فعلى ما يبدو أن هذه سفينة ركاب تنقل الركاب من بر إلى بر، ويبدو أنهم مساكين وبسطاء ولكنهم يتميزون بالشهامة، وعلى الرغم من احتياجهم للمال فقد سمحوا لموسى والخضر أن يركبا معهم بلا مقابل، تقديرًا وحبًّا للخضر. يحكي الرسول – صلى الله عليه وسلم- عندما ركب الخضر وموسى –عليه السلام-: "فإذا بعصفور يأتي على السفينة، ثم يمد منخاره إلى الماء ويأخذ قطرة أو قطرتين" فبدأ الخضر التعليم بوسائل الإيضاح الطبيعية، فقال لموسى – عليه السلام-: "كم أخذ هذا العصفور من ماء البحر؟"، فقال موسى –عليه السلام-: "قطرة أو قطرتين"، فقال الخضر: "يا موسى، والله ما علمي ولا علمك إلى علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر" ليريه قلة علمه أمام علم الله – سبحانه وتعالى-، لأنه سيرى بعد ذلك ما لا يفهمه. أتعلم عندما يحفر الأطفال على الشواطئ حفرة صغيرة ويريد بخياله الواسع أن يضع ماء البحر بأكمله في هذه الحفرة، فبدأ بالتعليم العملي، وبوسائل الإيضاح الطبيعية.

الخضر يُحدث خرقًا في السفينة:

وإذا بالخضر عندما بدأت السفينة في الحركة، ينزل إلى قاع السفينة بعد أن يتأكد أن لم يره أحد من بحارة السفينة، فيخرق السفينة بحيث لا يتسبب في غرقها، أي يسبب عيبًا في السفينة فقط، وعندما علم موسى بذلك أخذ لوح الخشب الذي نزعه الخضر ورماه في البحر، قال تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}(الكهف71) فالخضر قليل القول وهكذا القدر، فقد لا تعلم حكمته إلا بعد سنين أو لاتعلمها أبدًا، ولكن الأهم أن تكون راضيا بقضاء الله وقدره قال تعالى: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا }(الكهف73) عندما يتركا السفينة، وسيدنا موسى – عليه السلام- يعلم بالمشكلة في السفينة، ولم يخبرا البحارة، لأن الخضر قد فعل ذلك خلسة، لكي لا يعلموا.

الرحلة الثانية:

ونزلا من السفينة، وموسى – عليه السلام- من وجهة نظره أن ما فعله الخضر في الرحلة الأولى كان شرًّا، حيث أفسد حياة بشر، وعندما دخلا القرية وجدا شبابا يلعبون، فوقف الخضر ينظر للشباب، عندما رأى غلاما منهم، فيقول الله تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا* قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرا)(الكهف74-76).

الرحلة الثالثة:

وصلا إلى القرية، وحتى الآن لم يأكلا شيئًا وكلاهما جائع قال تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا...} (الكهف77) فأهل البلد بخلاء حيث لم يرض بيت في القرية أن يعطيهما طعامًا، فطفق الخضر في القرية ينظر إلى البيوت، وسيدنا موسى – عليه السلام- صابر لا يعلم إلى أين هما ذاهبان وهو جائع؟ قال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ...} (الكهف 77 )، وبدءا في ترميم الجدار، فلم يستطع سيدنا موسى – عليه السلام- أن يصبر، فقد أفسد الخضر سفينة المساكين الذين أركبوهما بلا مقابل، وهو الآن يرمم جدارًا في بلدة أهلها بخلاء لم يعطوا موسى – عليه السلام- ولا الخضر شيئًا لإطعامهما، فرأى أنه خير في غير موضعه، قال تعالى: {فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شئتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا* قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ...} (الكهف 77-78 ) هكذا كان العهد بينهما وكانت هذه ثالث مرة خرج فيها موسى – عليه السلام- عن الاتفاق، وكان اعتراض موسى – عليه السلام- لأنه فوجئ بما حدث، فقد نتج عن الرحلة الأولى – من وجهة سيدنا موسى – عليه السلام- شرًّا والثانية شرًّا أكبر والآن يأتي الخير فاعترض، قال تعالى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}( الكهف {78}).

لقد أمرنا الله بقراءة سورة الكهف كل يوم جمعة، كما قال "صلى الله عليه وسلم": "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء الله له نورًا بين السماء والأرض"، لترضى عن الله وقضائه، فعقل الإنسان يشبه الحديقة، إما أن تزرعها زهورًا من تفاؤل وتوقع الخير للغد، وإما أن تملؤها بالمبيدات الحشرية من اليأس والتشاؤم قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }(البقرة216) فهذه الآية حياة.

تأويل القصة الأولى:

يقول الخضر لموسى – عليه السلام- عن الرحلة الأولى والسفينة التي ثقبها الخضر، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الكهف 79)، فهذه السفينة كانت مِلكًا لمساكين، تعتبر مشروعهم الاقتصادي، وهي للقرية كلها، هؤلاء البحارة يكسبون الرزق للقرية بكاملها بهذا المشروع البسيط، وكانت هذه السفينة في طريقها في الإبحار إلى البلد المجاور لهم، ولم يعلموا، أن بها ملكا يأخذ أي سفينة سليمة ليضمها إلى أسطوله، فخاف الخضر على القرية، وكان الحل أن يضرّ الخضر السفينة ضررا أصغر ليحمي السفينة من ضرر أكبر، فعندما يعاين الملك السفينة لا يأخذها لما فيها من خرق، فيحمدوا الله على ذلك. فلنتخيل إن لم يخرق الخضر هذه السفينة، فماذا سيحدث؟ كان الملك سوف يستحوذ على السفينة، وإن اعترض أحد البحارة سجنه أو قتله وستتيتم أطفاله، وسيضيع رزق قرية بأكملها، كان هذا واردًا إن لم يتدخل الخضر.

معنى وقيمة الرضا:

قد تكون أي مشكلة تؤرقك في حياتك خيرا لا تعلمه أنت، وإن حاولت أن تتذكر أكبر إنجازات في حياتك، فسوف تجد قبلها أزمة شديدة أدت إلى هذا الإنجاز، فبسبب قصة ذبح إسماعيل – عليه السلام- التي قد تبدو في أولها أزمة، كانت سببا بعد ذلك في إطعام فقراء العالم إلى يوم القيامة في عيد الأضحى، ومن دون أزمة السيدة هاجر وابنها إسماعيل – عليه السلام- ما كانت تفجرت عين زمزم، ولولا إلقاء يوسف – عليه السلام- في البئر ما نجت مصر من المجاعة، فبسبب الصراع بين الأوس والخزرج، وجد الأنصار الخلاص عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقبلوه، ولولا حروب الردة وما كان فيها من تدريب للمسلمين، وما انتصروا على الفرس والروم، مما أدى إلى إسلام مصر والعراق وفلسطين.

جزاء الرضا:

احمد الله وارضَ عنه ووارض بقضائه وقدره في حياتك، فكلمة "الرضا" تعني ترك الاعتراض على الله –سبحانه وتعالى- في ملكه، وأن تقف مع الله حيث أراد، لذا فمن قال حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: "رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً-" وجب على الله –سبحانه وتعالى- أن يرضيه في ذلك اليوم، ولذا أيضًا بعد كل آذان: " رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً-" غفرت له ذنوبه، ولذا يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً "، فهذا هو المؤمن بحق. جاء رجل للرسول – صلى الله عليه وسلم- يقول: "أي العمل أفضل؟" قال الرسول – صلى الله عليه وسلم-: "إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله" فقال الرجل:"هل هناك شيء أهون من ذلك؟" فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "ألا تتهمه في ملكه، ألا تتهمه في شيء قضاه". كأن الله يقول لنا إن لم ترضوا بقضائي فاخرجوا من تحت سمائي. فتخيل ابنًا مرض ولابد من بتر يده وإلا مات وأمه ترفض أن تقطع يده، والأب مصر على قطع يده، فمن أشد رحمة بالولد؟ أبوه أشد رحمةً به لأنه سيموت إن لم تقطع يده، يقول الله تعالى: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(المائدة3 )، فقد رضي الله لك به، فهلا ترضى أنت؟

تأويل القصة الثانية:

يقول الله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (الكهف80-81)، فالله العليم يعلم كيف سيكون مستقبل هذا الولد؟ فهذا الغلام الذي لم يبلغ بعد سيكون طاغية، وكلمة (طاغية) معناها في القرآن أشد بكثير من (ظالم)، وكلمة طاغية لا يوصف بها إلا القلائل من عُتاة الإجرام في الأرض، من أمثال هتلر وغيره، وسبب طغيانه في الآية هو كفره، لأن كفره لنفسه، أما بطغيانه سوف يفسد في الأرض، ويأتي هنا السؤال عن الحكمة وراء خلق الفتى، ربما كتب لوالديه درجة عالية في الجنة، لا يبلغاها إلا بوفاة ابنهما، أو ربما يرزقهما الله بعدها بولد آخر فيعيشان حامدين لله باقي العمر، أو قد تكون وفاته رحمة للشباب أمثاله ليأخذوا عبرة ويرجعوا إلى الله، أما الولد فكان إن بلغ سيكون مصيره إلى النار لطغيانه، أما بوفاته قبل بلوغه فقد أصبح مصيره إلى الجنة، فمن وراء موته انتفع المجتمع وانتفع والداه وانتفع هو.

أمثلة أخرى للرضا:

لقد زرت أمًّا فقدت ابنها، وكانت الأم منهارة، فأخبرتها أن أحيانًا يموت الابن في سن صغيرة لحكمة، فإن استغفرت له واعتمرت له وبعثت له من الحسنات يكون مصيره الفردوس الأعلى، قد يكون منالها له صعبًا إن بقي على قيد الحياة، ولولا موته ما كنت أقدمت على هذه الحسنات، فيكون موته رحمة لك وله. فقد ذهب عروة بن الزبير لزيارة أمير المؤمنين، وكان معه ابنه الصغير، فأتاه ألم شديد، ونصحه الأطباء ببتر ساقه لمرضه، وفي اللحظة نفسها كان ابنه يلعب مع الخيل، فدهسته الخيل ومات، ففي اللحظة نفسها فقد ساقه وولده، فعندما أتاه الناس لا يدرون بما يواسونه، فينظر لهم ويبتسم ويقول لهم: "اللهم لك الحمد كان عندي سبعة عيال، أخذت واحدا وأبقيت ستة، وكان عندي أربعة أطراف، فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فلك الحمد، فإن كنت أخذت فقد أبقيت، وإن كنت منعت فقد أعطيت، فلك الحمد"، فقد أصاب الصحابي "عمران بن حصيل" مرض مُقعد، يجعله لا يترك فراشه، وقد لازم فراشه شهورا وسنين، فعندما يأتي له الناس لزيارته، يقول لهم: "شيء أحبه الله أحببته، والله ما لي في الأمور من هوى إلا مراد الله".

عندما قُتل سيدنا حمزة – رضي الله عنه- يوم بدر، ومُثل بجسده وجاءت هند وشقت بطنه لتأخذ كبده، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- للزبير، ألا تراه السيدة صفية أمه وأخت حمزة، فوقف الزبير ليمنع السيدة صفية من المرور، فقالت له: "أتخشى علي، والله إن ما حدث لحمزة بجوار عطاء الله لنا لقليل، ولقد أرضانا كثيرًا"، فلما سمع النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: "أئذنوا لها أن تره".

لي صديق اسمه عاصم، فقد ابنته وكانت في الثامنة عشر من عمرها منذ شهرين، رحمها الله، وقد تألم كثيرًا، ولكنه يقول لي، أنه عاش مع ابنته ثمانية عشرة عامًا، وقد أنعم الله عليه بمتعة قضاء هذه الأعوام مع ابنته، التي كانت ترسل له رسائل تقول له فيها كم تحبه وهما في بيت واحد! فنعم بهذه الأعوام القليلة ما لم ينعمه من قضى مع أولاده عشرات السنين، فإن رضيت على الله رضى عنك، ألم تسمع بالآية: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }(المائدة119)؟

تأويل القصة الثالثة:

قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف 82) فلعلم والدهما بأن القرية كلها بخلاء فقد أخفى الوالد الكنز تحت هذا الجدار، لكي يأخذ الولدان الكنز عندما يبلُغا أشُدهما، فعندما مر موسى – عليه السلام- والخضر على الجدار كان الولدان لا يزالا صغيرين، فخاف أن يتهدم الجدار فيظهر الكنز، فرمم الجدار، فإن كنت أبًا صالحًا لا تخف فقدر الله سيرعى أولادك، فقد يتأخر رزق هاذين اليتيمين، ولكن قد تكون الرحمة في تأخر هذا الرزق، لادخاره لهما عندما يبلغا أشدهما، فإن تأخر الزواج أو الإنجاب، فاصبروا ففي تأخر الرزق رحمة وخير، وفي هذه القصة قيمة أخرى، ألا وهي ادخار شيء للأبناء لمستقبلهم، فلا تسرف فيما معك، واعلموا يا شباب، أن لآباءفي القصة الثانية والثالثة كانوا صالحين، ولحب الله للآباء فقد توفى الله الابن الطاغية في القصة الثانية، فاحذروا العقوق يا شباب، فقد مات الفتى لأجل والديه، وسينال الغلامان في القصة الثالثة الكنز من أجل أبيهما الصالح.

الرحمة محور الحياة:

ففي النهاية كان خرق السفينة رحمة، و كان قتل الغلام رحمة، و كان تأخير الرزق رحمة؛ فالرحمة هي مدار الحياة، فالأمومة رحمة، والنبي – صلى الله عليه سلم- رحمة كما قال عليه الصلاة والسلام :"إنما أنا رحمة مهداة"، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }(الأنبياء107)، والأنبياء رحمة، ووجود الوالدين رحمة، والزواج والأسر رحمة، لقد قام الكون على الرحمة، قال تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }(الأعراف156)، قال الله تعالى في الحديث القدسي: "إن الله كتب تحت العرش إن رحمتي سبقت غضبي".

ما استفاده موسى عليه السلام من هذه الرحلات:

فقد كان سيدنا موسى – عليه السلام- بحاجة لتعلم الصبر، وعلمته هذه الرحلات الثلاث الصبر، لكي يستطيع أن يكمل دعوته لبني إسرائيل، وغير ذلك فقد جاء موسى – عليه السلام- من أزمة فرعون وطغيانه للخضر، وفوق طغيان فرعون ومحاربته للحق قدر الله – سبحانه وتعالى-، فيرجع موسى – عليه السلام- وكله استبشار بالمستقبل لما يعلمه من رحمة الله في قدره، وقد نجى موسى – عليه السلام- بعد ذلك بالقدر عندما عبر البحر، وقد ذهب موسى – عليه السلام- للخضر وهو يحمل مشكلة أمة، فأراه الخضر كيف يحل قدر الله –سبحانه وتعالى- مشاكل الأفراد؟ فما بالك بمشاكل أمة؟ أيعقل أن يهتم الله كل هذا القدر بالأفراد ولا يهتم بالأمة؟! هذه القصة تبث الأمل للأمة الإسلامية اليوم، فكل ما يحدث لنا الآن ينطبق عليه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }(البقرة216 )، في حياة الأمة وفي حياة الأفراد. تخيل يوم القيامة عندما يرينا الله حياتنا ونهاية كل من الأزمات برحمة الله وقدره، وقد تكون تلك إحدى لذات الجنة، فتذوب حبًّا لله – سبحانه وتعالى- ولذلك قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }(يونس10) وعندما يدخل أهل الجنة يقول لهم الله: "هل رضيتم؟" فيقولون: "ومالنا لا نرضى وقد بيضت وجوهنا وأدخلتنا الجنة" فيقول الله –سبحانه وتعالى-: "بقى شيء أن أرضى عنكم فلا أسخط بعدها أبدًا"

المصدر: http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=3734&Itemid=88