الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أهلاً بكم، ونحن مستمرون معكم في قصص القرآن ونعود فنذكّر بشعار الحلقات: "سأحيا بالقرآن". يتناول البرنامج قصص القرآن، وهدفنا أن يخرج بعد هذا البرنامج شباب وبنات وقد أحبوا القرآن بعدما فهموه وفهموا قصصه، ومن ثم يعلموا كيف يتعاملوا مع باقي القرآن؟

القرآن ورمضان:



إلى أين وصلنا في ختمات رمضان؟ كم جزءٌ من القرآن قرأنا؟ سأل "عبد الله بن عمر بن الخطاب" النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟" قال النبي: "قال اقرأه في شهر"، قال: "يا رسول الله إني شاب أطيق أكثر من ذلك (وأنا أوجه هذا الحديث إلى الشباب وخاصة ونحن في بداية العام الدراسي) قال: "اقرأه في عشرين" قال: "إني أطيق أكثر من ذلك" قال: "اقرأه في خمسة عشر" قال: "إني أطيق أكثر من ذلك قال: "اقرأه في عشر" قال: "إني أطيق أكثر من ذلك" قال: "اقرأه في ثلاث ولا أقل من ثلاث". لكن نحن نقدر ظروفنا ووضعنا وانشغالات العصر، وأن هناك أشياء كثيرة وضرورات عديدة نقوم بها، ولكن على الأقل نختم ختمتين وختمة واحدة في التراويح. اللهم أعنا وافتح علينا!

يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يقرأ القرآن والذي لا يقرأه كمثل الحي والميت"، يا من لم تتحرك بعد مع القرآن أنت لست بحي كما يقول النبي(ص): "الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب". ولكن من الناحية الإيجابية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" فتخيل كمية الحسنات التي يمكن أن تأخذها خاصة في رمضان مع تضاعف الحسنات! يجب أن نقرأ القرآن بتدبر "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" ( الآية 24: سورة محمد ) فيجب أن نعيش بقلوبنا وعقولنا في القرآن.

الفكرة الرئيسية للحلقة (حسن وسوء الخاتمة):

اليوم قصة جديدة وفكرة جديدة، أريد أن أبدأها بمعنى يمكن أن تهتز منه قليلا وهي قصة سريعة: بينما رجل يحارب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة فقاتل ومات، فقال الصحابة: "هنيئًا له الجنة" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هو في النار" فقالوا: "كيف يا رسول الله؟" قال: "أثخنته الجراح فاتكأ على سيفه فقتل نفسه".

يتناول موضوع اليوم حسن وسوء الخاتمة. تُرى كيف سيختم لنا؟ وكيف ستكون النهاية؟ فالعبرة بالخواتيم، ثمة أناس ظلت تعمل طوال حياتها واختتمت بسوء. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة حتى إذا جاءت الوصية..." فوصى للأولاد على حساب البنات "فيختم على عمله بِشَرّ فلا يدخل الجنة". والحلقة اليوم مقسمة إلى جزأين: أولهما قد يثير الخوف والقلق ولكن النصف الثاني يبعث على الاطمئنان. ففي القسم الأول، سنعرض المشكلة والقصة، وفي بقية الحلقة سنعرض القانون الذي يضمن لك حسن الخاتمة.

وهناك قصة الصحابي الذي حاول الصحابة تلقينه الشهادة أثناء موته فلم يستطع نطقها على الرغم من سهولتها على اللسان، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أله أم؟" قالوا: "نعم يا رسول الله" فناداها وقال لها: "أفي صدرك شيء؟" قالت: "نعم يا رسول الله، كان يأتي بالطيب من الفاكهة لزوجته وأولاده ويعطيني أنا أسوأ ما فيها" تُرى من منا يُغضب قلب أمه عليه؟ فأراد النبي أن يرقق قلبها فقال: "أشعلوا نارًا وألقوه فيها"؛ لأن هذا هو جزاؤه إذا مات وهي غاضبة عليه فقالت: "رضيت يا رسول الله" فإذا بالصحابة يقولون: "يا رسول الله لقد نطق الرجل بالشهادة".

يعلمنا النبي فيقول: "إنما الأعمال بالخواتيم" ودائما ما كان يدعو: "اللهم إني أسألك حسن الخاتمة"، "اللهم اجعل خير أعمالي خواتيمها" لماذا؟ تخيلوا صائما أفطرَ قبل آذان المغرب بدقائق، أيحق صيامه؟ أو مصليا انتقض وضوؤه قبل التسليم، هل تجوز صلاته؟ لو أن شخصا ما عاش عمره كله طائعا وأبطل كل ما فعله قبل أن يموت.. ماذا نفعل؟ هل هناك قانون؟ كيف أطبق هذه الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" ( الآية 102: سورة آل عمران) كيف أضمنها؟ هناك حديث:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" لماذا؟ لأنه يعمل بالظاهر فقط لكن من داخله هناك شيء سيئ أفسد عمله تماما؛ مثل الإناء المتسخ إذا وضعنا فيه لبنا كذلك هو. هناك شيء ما مريض في هذه النفس جعلت الكتاب يسبق عليه، نريد في هذه الحلقة أن نصلح هذا الشيء.

قالت الصحابة عند اختيار سيدنا أبو بكر الصديق لعمر بن الخطاب ليكون خليفة للمسلمين: "أتوليه علينا وهو شديد؟" قال: "ذلك رجل أعلم أن سرّه أفضل من علانيته"؛ مثل جبل الجليد: 20 بالمائة منه فوق المياه و80 بالمائة تحت المياه والناس تهتم فقط بالجزء العلوي منه على الرغم من أن الجزء الأعمق أجمل وأهم. نحن نريدك أن تهتم بالجزء الداخلي، فجميع الناس تنظر في المرآة على الوجه، غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم كما حسّنت خَلقي فحسن خُلُقي". يا نساء، ويا بنات، كلما نظرتن في المرآة رددن دعاء النبي.

قصة اليوم:

قصة اليوم وردت قي القرآن في سورة الأعراف الآية 175، وهي تحكي قصة رجل يدعي "بلعام بن باعوراء". كان هذا الرجل عالمًا ومؤمنًا وتقيًّا وعابدًا، ولكن كان بداخل هذا العالم شيء ما سيء؛ حب المكانة والمنزلة، حب الشهرة والرئاسة، فكان يطلب العلم حبًّا في المكانة. والآيتان 175-176 من سورة الأعراف تحكي القصة: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا.." فهو قد انسلخ من العلم والدين كالجلد عندما ينسلخ من الجسد. والقصة كانت في عهد موسى عليه السلام وبني إسرائيل بعدما أنقذهم الله من آل فرعون، ففي طريقهم إلى فلسطين مروا بأرض بني كنعان، وكان هؤلاء القوم متحالفين مع فرعون كارهين لموسى عليه السلام. كان بلعام رجلا مؤمنًا، وكانوا غير معترفين به ولا مهتمين به، وكان هو يبغي المنزلة بينهم وعند مرور بني إسرائيل بأرض كنعان بأعدادهم الكبيرة قرروا أن يعسكروا بجوارهم، فخاف منهم بنو كنعان فطلبوا من بلعام بما أنه رجل دين أن يدعو على آل موسى، فقال: "ويلكم هذا نبي الله ومعه الملائكة ومعه المؤمنون" فقالوا: "لك عندنا المنزلة والمكانة ولا نقطع أمرًا إلا بك حتى تخلصنا منهم"، فمازالوا به يمنونه بالمكانة حتى جلس يدعو على موسى وعلى بني إسرائيل، ولكن دون أن يحدث شيء. فقالوا له: "ويحك، لم يحدث شيء لهم" فقال: "أما وقد خسرت آخرتي فلن أخسر دنياي، سأدلكم على حيلة ومكر تمكروه بموسى ومن معه من بني إسرائيل يخلصكم منهم: آتوا بنساء القبيلة فجملوهن وأعطوهن بضائع يبيعونها لبني إسرائيل ومُرُوا النساء ألا يمنعن أنفسهن عن أي رجل من بني إسرائيل- تخيل الانحدار الذي وصل له هذا العالم العابد وكل هذا من أجل الشهرة والمنزلة والأنا- ففعلوا ذلك فانتشروا بين بني إسرائيل، فعلم موسى فدعا عليه فعاش عمره وطال عمره وهو مكتوم.

تُرى كيف سيغفر لنا الله؟ تُرى ما شكل آخرتنا؟ انظر إلى الآيات مرة أخرى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ (نزع جلده، أي نزع دينه وعلمه) فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" فأتعبته نفسه المريضة والشيطان فكان من الغاويين فأكمل حياته ضائعا. يا نساء، ويا فتيات، حذار أن يُحبِبكن الله في الدين والحجاب وتنسلخن منه. "..وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث.." وهذا ليس سبابًا في الكلب فالكلب دائمًا يلهث بسبب أو دون سبب كذلك الرجل الذي أخذ يلهث على الدنيا في كل حال فأكمل حياته على ذلك النحو واختتمت حياته على ذلك "..ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ". تلك هي قصة اليوم، وهي قصة قصيرة ولكنها ذات مدلول على حسن وسوء الخاتمة. السؤال الآن: كيف تريدين خاتمتك؟

نماذج من حسن الخاتمة:

دعوني أذكر لكم أمثلة من الخواتيم الجميلة التي كتبها الله لعباده الصالحين: فها هو سيدنا "بلال بن رباح" عند موته تقول زوجته: وامصيبتاه! فقال لها: "لا تقولي وامصيبتاه بل قولي وافرحتاه غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه". أذكر رجلاً قابلته بنفسي في عرفة منذ ثلاث سنوات، في الخمسينيات من عمره هو وزوجته، وكان يختم القرآن على عرفة، وكان ذلك قبل المغرب بساعة فدعا زوجته ليختما سويًّا، وبدأ يشعر بألم في سورة الإخلاص ثم قاوم ليختم، فختم ثم دعا فمات.

يا شباب، كيف تريدون الخاتمة؟ هناك شباب يموتون وهم يتعاطون المخدرات داخل دورات المياه، وهناك من يموتون وهم شاربون للخمر والأمثلة كثيرة لذلك، وهناك قصة حقيقية لشاب كان شاربًا للخمر فاصطدم بسيارة، فقال قبل أن يموت: "أنا خايف من مقابلته... مش قادر أقابله"..فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" ( الآية 22: سورة ق) فاليوم ترى الملائكة وكل شيء واضح أمام عينك.

انظر لخاتمة سيدنا "حذيفة بن اليمان" فأثناء موته دخلت امرأته تبكي فينظر لها ويقول: "مرحبًا بالموت، حبيبٌ جاء بعد غياب، أيُّ وقت الآن؟" فقالوا: "الليل" قال: "أيُّ وقت من الليل؟" قالوا: "قبل الفجر بساعة" قال: "اللهم إني أسألك ليلة مساؤها في الدنيا أن يكون صباحها في الجنة".

هل تريد أن تموت مثل الشيخ "الغزالي"- الذي مات وهو يدافع عن الإسلام ضد من يحارب الإسلام عندما فاجأته الذبحة الصدرية وهو يقول: "لا إله إلا الله... لا إله إلا الله" فيموت ويدفن بالبقيع على الرغم من أنه مقيم بمصر؛ لأن المحاضرة كانت بالمملكة العربية السعودية، حتى إن من قام على دفنه كان مندهشًا عندما لم يجد مكانا لدفنه إلا بين الإمام مالك و إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم فدفن هناك-؟

هل تريد أن تكون خاتمتك مثل خاتمة "عمر بن عبد العزيز" - الذي أخذ يبتسم وهو يموت قائلا: " تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" ( الآية 83: سورة القصص ) ثم مات كأن الآية تتحدث عنه وكأن الله أنطقه بها في اللحظة الأخيرة-؟

أمثلة لسوء الخاتمة:

هناك أمثلة عكسية: يحكي لي صديق أنه أثناء سفره بالطائرة من القاهرة إلى لندن، جلس إلى جانبه رجل ترى عليه ملامح الوجاهة ومعه حقيبة حريص عليها جدًّا، وفي أثناء الرحلة جاءه ملك الموت، فبدأ يعرق ويختنق وبدت عليه أمارات الموت، فعرف هذا الصديق على الفور أنه يموت فبدأ بتلقينه الشهادة فيرد عليه: "أعطني الحقيبة.. كل ما أملك في هذه الحقيبة" فيقول له: "فقط ردد لا إله إلا الله" فيقول له: "أعطني فقط الحقيبة.. هذه الكلمة ثقيلة على لساني ولا أستطيع ترديدها" فالكلمة على الرغم من سهولتها يمكن أن يخونك لسانك بها في أكثر يوم تكون محتاجا لها. أعرف أحد الأغنياء قال وهو يموت: "لو كنت أعلم أن عمري قصير لهذه الدرجة ما كنت فعلت ما فعلته".

قانون ضمان حسن الخاتمة:

ما هو قانون حسن الخاتمة الذي إذا طبقته تضمن حسن الخاتمة؟ إن شاء الله هناك قانون، وتستطيع تنفيذه، ورمضان فرصة لتنفيذه والتدرب عليه والتركيز فيه؛ لأنه محتاج إلى تركيز. يتلخص القانون في كلمة واحدة (الإخلاص الشديد لله) كلمة واحدة فقط، هل تريد أن تطمئن لحسن الخاتمة؟ أَخْلِصْ بصدق.

معنى الإخلاص:

ما معنى الإخلاص؟ أن تريد بحياتك وعملك وتصرفاتك الله سبحانه وتعالى: فالصلاة لك يا الله، المحاضرة التي ألقيها لك يا الله كي أحبب الناس فيك، ليست قضيتي أن أكون مشهورًا. وَأحاول أن أضغط على نفسي لأن الموضوع ليس سهلاً، أنا أحيا لأجلك يا رب. حاول من حين لآخر أن تخلق بينك وبين الله سرًّا ما كصدقة وتنويها بمنتهى الإخلاص، أو تأخذ بيد أحد ما، أو تصلح في الأسرة وتنوي الإصلاح لله وتجاهد نفسك، وتدعو الله أن يرزقك الإخلاص وتنوي الإخلاص وتحيا بالإخلاص " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" ( الآية 162 : سورة الأنعام ) صدقوني يا جماعة، جميع النماذج السيئة التي ذكرتها من قبل لم يكن الله رقم (1 ) في حياتهم، مشكلتهم الأساسية أن هناك شيئا ما بداخلهم جعل كل أعمالهم لهدف آخر غير الله. حينما تراودك نفسك مرة أخرى و تغريك بالشهرة والناس جاهدها واقنعها بالإخلاص حتى تكتب لنا حسن الخاتمة وننطق الشهادة قبل الموت وتظل تدفع فيها.

الآيات التي تتحدث عن الإخلاص:

انظر إلى الآيات التي تتحدث عن الإخلاص: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء.." ( الآية 5: سورة البينة)، " قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ" ( الآية 11: سورة الزمر)، "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.." ( الآية رقم 3: سورة الزمر) اجعل حياتك لله؛ إذا نجحت في ذلك -إن شاء الله- تضمن حسن الخاتمة، بمعنى أن نعيش لله ونحول العادات إلى عبادات، أي نحول كل ما نريده في الدنيا لشيء يرضي الله.

فقرار الزواج والإنجاب يمكن أن يتحول بقرار في العقل ونية تأخذينها لله كإنجاب أطفال تعبد الله وتسجد له، أو أن أنجب صلاح الدين الجديد فعندئذ كل جهد يبذل في تربية وتعليم الأولاد في ميزان حسناتك؛ لأنك أخلصت النية لله، أو أمنية اكتساب المال هل لمصلحة شخصية؟ فإذا ما تم تحويل النية لله كالإنفاق في سبيل الله ومساعدة أسرتي والفقراء، ولأكون نموذجا جيدًّا للغني المنفق في سبيل الله فتكون كل دقيقة جهد لجمع المال في ميزان حسناتك، وكذلك المذاكرة إذا ما جعلتها بنية أن أكون مثلا لنجاح المسلمين، وخلق اختراعات أفيدهم بها فبالتالي، كل جهد وتعب وسهر في ميزان حسناتك، والمحاضرة التي ألقيها ما هدفي بها؟ الشهرة؟ بل أضغط على نفسي وأدعو الله بالإخلاص أن يتقبلها مني بنية أن أحبب الناس في الله حتى تكون كل دقيقة تقرب للناس لله وكل جهد في التحضير في ميزان الحسنات وهكذا نحول العادات إلى عبادات.

وبالمناسبة ليس شرطا أن نقوم بالأفعال سرّا لنضمن الإخلاص، فقد يكون هناك شخص يبكي بمفرده في حجرته ويتمنى أن يراه الناس، وهناك من يعبد الله وسط ألف شخص ولا يشعر بهم ولا يراهم؛ لأنه يقصد الله بعمله، يقول تعالى: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً.." (الآية274: سورة البقرة) وإخلاص العلانية ثوابه كبير فالأنبياء والصحابة كانوا مشهورين.

ثمة كلمة مأثورة جميلة: "من لزم الإخلاص أربعين يومًا ظهرت ينابيع الحكمة على وجهه وعلى لسانه". هل تستطيع الإخلاص أربعين يوما بتركيز؟ فالإخلاص ينجيك في حياتك دائمًا. ما الذي أنجى يوسف عليه السلام غير الإخلاص؟ "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" (الآية 24: سورة يوسف)، وكيف أصبح موسى كليم الله؟ بالإخلاص "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا" ( الآية 51: سورة مريم)، من هي الفئة التي لن يقدر عليها إبليس؟ "..فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{36} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ{37} إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ{38} قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{39} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{40}" ( الآية 36- 40: سورة الحجر) فأبليس كافر، ومن كفره يريد أن يغوي الناس أجمعين، ولكن الكافر لا يقدر على المخلص.

الإخلاص عنوان الحج و العمرة:

جعل الله سبحانه وتعالى الإخلاص عنوانًا للعمرة والحج، فانظر إلى ما نقوله في التلبية: لبيك اللهم لبيك (أنا قادم إليك يا رب). لقد اعتدت على الذهاب إلى العمرة كل عام مع مجموعة من الشباب، نبدأ بالمدينة ثم نذهب إلى مكة. ونحن بلباس الإحرام، وقبل التحرك أقول لهم يا جماعة لن نردد إلا هذا الدعاء لأن الرسول علمه للصحابة، وسيدنا جبريل علمه إياه، وكانت الصحابة تردده حتى تبحّ أصواتهم. "لبيك اللهم لبيك (أنا قادم إليك يا رب) لبيك لا شريك لك لبيك (أنا قادم لك وحدك يا رب.. لماذا؟ لأن) إن الحمد و النعمة لك و الملك (لذلك نردد من جديد) لا شريك لك لبيك، "ليتنا نردد نشيد الحج الرائع هذا طوال رمضان حتى ولو لم نذهب إلى العمرة. يا كل المسلمين في كل الجاليات العربية، حاولوا أن ترددوها بإخلاص حتى تضمنوا حسن الخاتمة بعون الله. وهذا أحد التابعين الذي ظل يردد التلبية طوال سفره حتى قال في النهاية: "والله لو كان مازال شركًا لاضمحل".

قصة اليوم قصيرة ولكن معناها كبير: حاول أن تخلص وتضمن ظل عرش الله يوم القيامة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.." في يوم تدنو فيه الشمس من الرؤوس وقد زيد في حرّها، فتحرقهم ولا تقتلهم، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل العرق إلى سرته، ومنهم من يصل العرق إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق، ومنهم من يسبح في عرقه، ومنهم من يغرق في عرقه. وأنت تقف في ظل عرش الرحمن؛ لأنك أخلصت "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه" فهو يستخفي لأنه يريدها لله.

حاولوا أن تخلصوا واكتشفوا الحلاوة التي ستغمر القلب. تفكر في الآية: " وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ" ( الآية 66: سورة النحل ) فالله سبحانه وتعالى يتكلم هنا عن معجزة إخراج اللبن من بطون الأنعام، فهو يخرج اللبن من بين مكان التبول والدم، فكأنه يقول لنا انظروا كيف أخرج لبنًا خالصًا ليس به آثار للدم أو البول. فهل تستطيع أن تعبد الله في رمضان هذا العام كاللبن الخالص الذي يخرج دون نقطة فاسدة؟ هل تنوي الإخلاص وتعمل أشياء مفيدة وتأخذ بأيدي الناس وتدعو الله أن يرزقك الإخلاص ويعينك عليه؟

أول طريق الإخلاص هو أخذ النية عند القيام بأي عمل: فعند شراء ملابس جديدة مثلاً تكون النية أن أكون نموذج للمصلية العابدة المتدينة الأنيقة، فيكون كل ما تنفقينه في ميزان حسناتك. كذلك لعب الرياضة يكون فيه نية أيضًا لكي نفرغ الطاقات المكبوتة فينا بدلا من الطرق الحرام ولتقوية الإرادة والتحمل لعمل شيء للإسلام فتتحول كل نقطة عرق وجهد ونفَس وتعب إلى حسنات.

صدق النية:

يقال إن "عمر بن عبد العزيز" لم يخطُ خطوة إلا وله فيها نية. هل نستطيع أن نكمل رمضان بهذه الطريقة؟ ولا تنسوا يا جماعة: "إنما الأعمال بالخواتيم". لا تضيعوا ثواب العمرة في آخر أسبوع بسبب شيء ما بداخلك وفي قلبك. فالإخلاص يحرق كل شيء حرام في القلب، وكذلك يحرق العيوب كالكبر والحسد والطمع والبخل. ثم تأتي الخطوة الثانية: أن ندعو بالإخلاص في كل سجدة، في كل يوم "اللهم ارزقني الإخلاص – اللهم اجعلني مخلصا في رمضان هذا العام". في أثناء زياراتي لقضاء العمرة أو الحج وعند شربي لمياه زمزم آخذ النية "ماء زمزم لما شرب له"، و كان سيدنا "عمر بن الخطاب" يقول: "أشربه لحر يوم القيامة وعطش يوم القيامة" والشافعي كان يشرب زمزم لتعلم العلم. ولقد فتح الله علي بفكرة أنفذها من وقتها: فأنا أشرب زمزم بنية أن كل قطرة تصل إلى خلاياي تمدها بالإخلاص، وأتخيل وأنا أشرب أن كل قطرة ماء تصل يصل إليها الإخلاص. وبالمناسبة عندما تتيقن أنك مخلص اعلم أنك انتهيت، فالإخلاص هو أن تفقد رؤية الإخلاص، فطالما أنتِ حريصة على إخلاصك اطمئني.

نماذج من المخلصين:

نحن نريد إخلاص "خالد بن الوليد" فعندما عزله عمر بن الخطاب وهو القائد المنتصر وجدوه يعمل أكثر من ذي قبل، فسألوه لماذا؟ فيجيب: "أنا أفتح الشام لله لا لعمر بن الخطاب". نريد إخلاص "زين العابدين بن الحسن بن علي" الذي ظل يتصدق بالطعام، ويضعه أمام بيوت الفقراء والمساكين دون أن يعرفوه، وظل كذلك طوال حياته، ولم يكتشفوا إلا بعد موته أثناء عملية غسله، عندما وجدوا خطا أسودَ على كتفه من أثر ما كان يحمله على ظهره كل يوم. وهكذا المخلص لابد أن يكشفه الله ولو بعد موته ليعلم الناس، وليعليه في عيونهم. نريد إخلاصا في السجدة، في الأخذ بأيدي الناس، فلو صدقتِ في النية والدعاء يضع الله سبحانه وتعالى الإحساس في قلبك، فالإصرار سر من أسرار الله. يقول الله في الحديث القدسي: "الإصرار سرٌّ من أسراري استودعته قلب من أشاء من عبادي" فيعطيكِ إخلاصا تصلحين به الدنيا. نريد إخلاص الصحابي الذي رفض في أحد المعارك مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ نصيبه من الغنائم، وانتفض وقال: "لا والله ما لهذا بايعت رسول الله وإنما بايعته على سهم هاهنا، في اليوم التالي، وجدوه مقتولا بالسهم في المكان نفسه الذي أشار إليه، فذهبوا إلى رسول الله فقال: "أهوَ هوَ؟" قالوا: "هوَ هوَ يا رسول الله" فقال: "صدقَ اللهَ فصدقَهُ اللهُ".

موضوعنا اليوم "الإخلاص" كيف أكتسبه؟ بالدعاء، وأخذ النية عند كل عمل، وقراءة القرآن بنية أن يرزقك الله الإخلاص وتذكره باستمرار.

اللهم ارزقنا حسن الخاتمة. تعلمنا قصة "بلعام بن باعوراء" شيئا واحدًا: الانسلاخ من آيات الله جاء نتيجة مرض في القلب. احرق أمراض قلبك بنور الإخلاص.

المصدر: http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=3406&Itemid=88