الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالدسعد العتيبي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. حلقة اليوم ستركز على الدعوة للتعايش في منطقة خاصة جدًّا ألا وهي منطقة المذاهب الإسلامية والمدارس الإسلامية والفقهية. سنتكلم عن الإمام أحمد بن حنبل بنية الدعوة للتعايش، ومعنا فقيه من المملكة العربية والسعودية؛ لأنه من المعلوم أن مذهب أو مدرسة الإمام أحمد بن حنبل – كمدرسة فقهية - متمركزة في المملكة العربية السعودية ومنها ينتشر هذا الفكر لأرجاء العالم، فمعنا اليوم الدكتور "سعد بن مطر العتيبي" عضو هيئة تدريس في قسم السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء، وأستاذ في جامعة الملك "محمد بن سعود" في المملكة العربية السعودية، وكل مقالاته وكتبه وآراءه موجودة على موقع مسلم دوت نت.



أ. عمرو خالد: ما سر تمركز مدرسة الإمام أحمد بن حنبل في الخليج أو في المملكة العربية السعودية، وأثر ذلك على انتشار المدرسة عالميا؟ وما أثره على العلاقة بالعالم الإسلامي؟



د. العتيبي: حقيقةً، مسألة المذاهب الفقهية هي مدارس قانونية، بمعنى أن هذه المذاهب لا تتعلق بمسألة العقائد، فكل أصول العقائد مُتفق عليها، فانحصرت المذاهب في العمليات والنظريات الفقهية وما يتعلق بها. على مر التاريخ الإسلامي، كانت الدولة الإسلامية تتبنى مذهبا معينا، لعالِم معين ذي مكانة، مثلاً: المذهب الحنفي، كان على مر التاريخ الأكثر وجودا في الدول الإسلامية، فكون الدولة تتبنى مذهب معين، تجد المذهب ينتشر وتكون له مكانة، فتجد أنه حتى المناهج الدراسية تسير في ذلك الاتجاه، ولكن لا تنحصر فيه والمناهج والمدارس الفقهية موجودة وتشهد بذلك على مر التاريخ، وكذلك المنهج المالكي، عندما كان له دولة في الغرب، كان له شرافة، فالمغرب العربي معروف باتباعه، بينما المذهب الحنبلي لم يُقَّدر أن تكون هناك دولة تتبناه فيما مضى، ولكنه كان مذهبا موجودا ولا شك، وله مدارسه و فقهاؤه ومُنَّظروه. في الجزيرة العربية، - مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي دعوة تصحيحية وإصلاحية- كان المذهب الفقهي الذي يتبناه هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل نفسه، وقد قامت الدولة السعودية بتحالف "محمد بن سعود" و"محمد بن عبد الوهاب"، وهو الذي أعطى المذهب الحنبلي مكانته، حيث إنه وُجد في الدولة التي ترعاه، فاستمر بهذه الطريقة، وأثـَّر على الدولة السعودية الأولى حيث كانت أوسع وتصل إلى البصرة، فانتشر المذهب بهذه الطريقة. وفي العصور المتأخرة، تبنت الجهات والمؤسسات الشرعية والدعوية في المملكة طباعة الكتب وتأليفها والتشجيع عليها، وكان هناك علماء كالشيخ "محمد الفقي" والذي كان له الكثير من المؤلفات، والشيخ "محمد رضا" كان له أثر أيضا، وفي الحقيقة، هي مدرسة، صار لها وجود أوسع، ولكن مازال لدينا من المدارس الفقهية مثل: الشافعي والمالكي، تجدهما في الإحساء وبعض المناطق الأخرى.



أ. عمرو خالد: هل تُقابل المذاهب الأخرى بالقبول أم بالرفض من كبار علماء المملكة العربية السعودية؟



د. العتيبي: هذه قضية أحب أن أؤكد عليها، مسألة تبني مدرسة فقهية لا يعني التعصب لها، بل إن منهج جميع الأئمة الأربعة أنهم جميعا يمقتون التعصب.



أ. عمرو خالد: في الدقائق الأولى من البرنامج قمتَ بحل مشكلة كبيرة، فقد قلتَ إن الاتفاق في الأصول وفي القضايا الأساسية والعقائدية عند الأئمة الأربعة مُنتهٍ وشئٌ أساسي، وأن الاختلاف في العمليات.



د. العتيبي: تماما، لذلك كنت أقرأ في كتاب دائرة المعارف الحُسينية، ومؤلفها من الشيعة، فذكر أحد مذاهب أهل السنة، وقارنها بمذهبه، وانتهى إلى تشابه مذاهب السنة، وهذا ما يعرفه الآخرون. عندما تريد أن تحكم دولة، لابد أن يكون هناك قانون سائد، لا يمكن أن نترك قضية اختيار القانون لكل مذهب، فنحكم بذلك المذهب، وعادة يرشح العلماء الأشياء الأرجح. فمثلاً في بداية الدولة السعودية الثالثة، كان هناك بعض الكتب الحنبلية المختصة بالقضاء، فكان الرجوع لها في القضاء أمر وارد، ولكن الآن القضاء لا يلتزم بالمذهب الحنبلي، وأيضا لا تحارب المذاهب الأخرى، فهي موجودة حتى الآن ولها مدارسها الفقهية، ولكن هناك بعض الأمور العقائدية التي نقوم بعمل إصلاح لها.



أ. عمرو خالد: نحن الآن في دعوة للتعايش، ولكن نلاحظ أن الصورة في بعض الأحيان تكون غير ذلك، فتكون الصورة أن هناك في المذهب الحنبلي تشددًا ورفضا لأي مذهب آخر غير المذهب الحنبلي.



د. العتيبي: دائما في أي قضية تُطرح نقول "هاتوا برهانكم"، فهل ردده أحد من العلماء؟ أبدا؛ هي قضية شائعات وأشبه بالحملات الإعلامية أحياناً. الحمد لله العالم الإسلامي الآن في مرحلة تختلف عن المرحلة الماضية، ففي ظل الفقهاء الأربعة كانت الأمور تسير على أبدع ما يكون، ولكن جمد بعض الأتباع المقلدين على بعض النصوص الحرفية للأئمة هنا أتت المشكلة، فهنا خالفوا الكتاب والسنة وأيضاً خالفوا أئمتهم؛ لأن الأئمة يقولون إن مذهبنا موافق للكتاب والسنة، هذه قضية مهمة جداً. فعندما نأتي للواقع وندرس المذهب الحنبلي، نجد أن هناك سعة كبيرة جداً.



أ. عمرو خالد: سنأتي إن شاء الله لهذا الموضوع، حضرتك أستاذ في قسم السياسة الشرعية، فلنتكلم عن عظمة الفقه الإسلامي، فعندما نتكلم عن مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فنحن نتحدث عن عراقة الفقه الإسلامي، فلنبدأ بعهد ما قبل الإمام أحمد بن حنبل وعظمة الفقه الإسلامي، وكيف علينا أن ننظر إليه؟



د. العتيبي: في الفقه الإسلامي كلام جميل، قاله الشيخ شلتوت شيخ الأزهر -رحمه الله-، في كتاب "الإسلام عقيدة وشريعة": "علماء الإسلام نهلوا من الكتاب والسنة، فأثرُوا الحياة الفقهية والعلمية بالنظريات والعمليات وليس بالمعتقدات؛ لأننا كلنا على عقيدة واحدة..." فالقانون الإسلامي بلغة العصر حقيقة قائمة، حيث إنه قد أُخذ من الكتاب والسنة. والفقهاء أشبه ما نسميه اليوم بـ"شُرَّاح القانون"، فهذا دورهم فقط، ولم يكن لهم أي دور في التشريع؛ فهذا شرع الله.



أ. عمرو خالد: لكن قد يرى الغرب أن الفقه الإسلامي سبب جمود المسلمين، أو لنكن أكثر صراحة: قد يرى الغرب الفقه الحنبلي الموجود في المملكة العربية السعودية السبب في كل مآسي المسلمين.



د. العتيبي: فلنعود إلى قضية الفقه الإسلامي مرة أخرى، أنا لا أريد أن آتي بشهادات حنابلة ولا فقهاء مسلمين، بين يدي بعض النصوص لبعض الغربيين، يقول "هوب كنغ" أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد في كتاب اسمه (روح السياسة العالمية): "إن سبيل تقدم الدول الإسلامية، ليس في اتخاذ الأساليب المفترضة، التي تدعي أن الدين ليس له أن يقول شيئا في حياة الفرد اليومية، أو عن القانون والنظم السياسية، ويتساءل البعض أحيانا عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أفكار جديدة، وإصدار أحكام مستقلة تتفق مع ما تتطلبه الحياة العصرية؟ والجواب – يجيب هو- على هذه المسألة أن في نظام الإسلام كل استعداد داخلي للنمو. وأما من حيث قابليته للتطور فهو يقبل كثيرا من النظم والشرائع المماثلة، والصعوبة لم تكن بانعدام وسائل النمو والنهضة في الشرع الإسلامي، وإنما في انعدام الميل إلى استخدامه".... إما بسبب الاستعمار أو التقصير ... "، يقول "وإنني أشعر أنني على حق حين أكرر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على المبادئ اللازمة للنهوض". إذن فالمشكلة فينا نحن.

هناك كلام أكبر من هذا قيل من قِبل عميد كلية الحقوق في جامعة فيينا، حيث قال في مؤتمر الحقوقيين عام 1927: "إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها؛ إذ أنه رغم أُميته، استطاع في أربعة عشر قرنا أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة". يعني نبتعد عن الكلام والإعلام والشائعات والأهداف السياسية ، فمن يريد الحقيقة فليبحث عن البرهان، ولوجد أن هؤلاء ليسوا مسلمين، فهذا كلام لا ينبعث عن عاطفة أو قانون، فهو ليس مفكر عادي أو عام.



أ. عمرو خالد: فوجئتُ في فيينا في مؤتمر خاص بالأكاديميين الحقوقيين أنه قد قُدمت ورقة عمل من أستاذ سويسري يقول فيها إن القانون الدولي أول من كتب فيه رجل اسمه "محمد بن حسن الشيباني" تلميذ أبو حنيفة؛ حيث إن أبو حنيفة كان يفكر في الآراء المستقبلية، وأن الكلام الذي كتبه هو نفسه الذي استعان به الغرب عند نشأة الأمم المتحدة في وضع القانون الدولي. لننتقل إلى نقطة أخرى وهي مجال عمل المذاهب الإسلامية، وما هي حدودها؟



د. العتيبي: عنوان هذه الحلقات وأهدافها هو "دعوة للتعايش"، وأنا في الحقيقة لا أستطيع أن أفصل السؤال عن هذه القضية. عندما تكون المذاهب الفقهية والحدود المذهبية الفقهية محصورة في جانب النظريات الفقهية، وما يتعلق ببعض من جزئيات العمليات في الفقه سواء كان في المعاملات الدينية أو في شروط يسمونها الشروط الجعلية؛ كأن يكون هناك متعاقدان كل منهما يريد أن يضع شروطا ولكن الضرورات وأصول العقائد هذه متفق عليها، وإذا تعايشنا عليها فلا نحتاج أن نتعايش على شيء آخر؛ لأن هناك ضوابط لكيفيه الاختلاف في الآراء الاجتهادية، وقد أكد أئمتنا على هذه الضوابط.



أ. عمرو خالد: إذًا، فما معنى كلمة "أنا منتسب للإمام الشافعي، أنا شافعي"؟ "أنا منتسب للإمام أحمد بن حنبل، أنا حنبلي" ما معناها وما حجمها؟



د. العتيبي: عندما تنتسب إلى مدرسة وليس تقليدا في ذات الأقوال، وإن خالفت الكتاب والسُّنة فهذا ليس فيه إشكال، حتى المناهج التعليمية الآن تبدأ من نقطة معينة قد لا يتفق عليها الجميع، لكن النقطة تؤسس لتُكَّون فكر ورأي وثقافة معينة، فهذه الفكرة نفسها، حيث يَدرس الإنسان على مذهب معين ثم ينطلق الانطلاقة التي حث عليها العلماء؛ وهي أن نتبع الدليل من الكتاب والسنة، وهذا ما حث عليه الأئمة.



أ. عمرو خالد: دكتور، أنت بهذا تتحدث عن الإطار النظري، ماذا عن الإطار العملي؟ فأنا أرى في بعض مساجدنا، وفي بعض مفتينا، وبعض علمائنا – عندما أسأل عالماً كمسلم لا كداعية ولا عن رأيه في موضوع ما، فيجيبني، فأستنتج أن هذا هو رأي الإسلام، ولكن إذا ما اتجهت إلى عالم آخر، يقول لي إن هذا الرأي خطأ، وقد تكون القضية في الصلاة كقضية الجمع والقصر، فأحدهما يقول يجوز ليوم واحد والآخر لثلاثة أيام، فبهذا نقع في الخطأ، ونجد أن أحدهما ينتمي للمذهب الحنبلي والآخر للمذهب الشافعي. هل على المفتي أن يقول "إن الصواب هو أن تفعل كذا وكذا" أم عليه أن يقول "الآراء تقول كذا وكذا وأنا أفضل كذا"؟



د. العتيبي: في الحقيقة، هذا المنطلق مهم جدا، يذكر الإمام الشافعي في كتاب "الأم" الذي ألفه في الفقه، هو فقه خلاف، فيه الآراء ويناقشها، ولو كان يرى أن رأيه الحق ولا يجوز تجاوزه، لوضع رأيه وانتهينا، لكنه -رحمه الله- علمنا هذا المنهج، أن نبحث عن الدليل وعن الحق، وبذلك يُعدّ الإمام الشافعي مؤلف الفقه المُقارن. فحقيقة، من يقرأ هذا الكتاب يرى ذلك واضحا جدا، فهذا شيء جميل جدا ويعطي ثقة في ذات العالم الذي لم يتجاهل آراء الآخرين.

لاحظت أن الشيخ "بن باز" -رحمه الله- عندما كان يفتي في بعض البرامج يقول: هذه المسألة هي الراجحة في أصح قول العلماء، وهو يشير إلى أن هناك رأيا آخر، وأنا كمتلقٍ عام أريد أن أعرف الحكم فقط فعندما يُشير الشيخ لهذا الأمر شئ جميل والله، وفي وقت معين ما كان هناك وضوح لأهمية هذه الإشارة، لكن بعد ظهور القنوات الفضائية عليك أن تعرف الرأي الآخر، فتتعرف عليه، وتختار رأياً. فكمفتٍ عليَّ أن أكون قد درست هذه الآراء وفحصتها واعتنيت بها، وتعاملت معها وخرجت بنتيجة وهي أن الراجح هو هذا الرأي.



أ. عمرو خالد: للإمام أحمد بن حنبل في بعض القضايا رأي واثنان وثلاثة، فتجد للمسألة الواحدة عدة آراء متعددة. وأحب أن أنوه أنه في هذه الحلقة ندعو للتعايش في مذاهبنا وقضايانا والفتاوى الخاصة بنا، فقد اختصرنا الموضوع في ثلاثة نقاط:



· الأولى: أن الخلاف بين المذاهب ليس في العقائد ولا في أصول الدين، إنما الخلاف في بعض القضايا العملية التي تسمح وتقبل بوجود خلاف بيننا وبين بعضنا، وليست في قضايا محورية، وليس الخلاف في المعلوم بالضرورة إنما في بعض التفاصيل مما يجعلنا قادرين على التعايش، فالهدف الأساسي لهذا البرنامج هو لم الشمل.



· الثانية: نقولها للسادة العلماء والدعاة والمفتيين على الفضائيات، وعلى منابر المساجد، وعلى الإنترنت، هو أنك عندما تقول أو ترجح رأيا، عليك أن تذكر أن هناك آراء أخرى، حتى إذا ما سمع المرء رأيا آخر لا يندهش ويخالفه.



· الثالثة: نقولها لمن يسألون؛ فإن سألت عالما وذكر لك رأيا، ثم سألت عالما آخر، فذكر لك رأيا آخر، فلا تقل إنك قد تهت أو ضعت بين هذه الآراء.



د. العتيبي: يقول الشخص الذي ليس لديه دراية بالفقهيات للعلماء أن هذا يقلد، يقلد من؟ الأعلم والأفقه، فإن بحث عن الأعلم والأفقه وسأله، فيجب أن يأخذ رأيه دون أن ينظر إلى شئ آخر؛ لأنه الأعلم والأفقه. أما أن يذهب ويتتبع الرخص ويبحث عن من سيقوم بتسهيل الأمر له فهذا لا، ولكن عليه أن يسأل بإخلاص، ومن أجل العلم والمعرفة ولله.



أ. عمرو خالد: في الوقت نفسه، ألا تجد حاجة إلى وجود كلمة نوجهها إلى علمائنا بأن نحرص على هذا المبدأ دائما؟



د. العتيبي: كنت أقرأ كتابا لـ "العز بن عبد السلام" وفيه كلام جميل جدا، حيث قال: "يَحرم على العالم أن يفتي إذا كان لا يعرف الظرف، ولا يعرف الزمان، ولا السائل من أين أتى؟..."، أمر خطير وما المسألة بسهلة، وقد يحرم بالإجماع، ولذلك أقول في مسألة الفضائيات مثلاًإن السائل الذي يسأل لن يكون له مدرسة محددة، فهنا العالم عليه أن يذكر كل الآراء ثم يقول إن الراجح هو كذا.



أ. عمرو خالد: جزاك الله خيرا، ولكني أريد أن أدخل أكثر في حياة الإمام أحمد بن حنبل، ولو تحدثنا عن الظروف التي عاش فيها أحمد بن حنبل، لكي نصل إلى مدرسته، فماذا نقول عن الظرف الاجتماعي الذي أحاط به؟



د. العتيبي: قد عاش الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في بيئة اجتماعية غريبة. فهو من أسرة عريقة التي هي شيبان، ويلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في مزار بن عبد، أمه هي صفية، وهي شيبانية أيضا، ووالده كان قائدا عسكريا، وجدّه لأمه كان قائدا عسكريا له مكانة. كان بإمكانه أن يصل إلى مناصب وإلى رتبة إلخ، ولكنه لم يلتفت إلى كل هذا، وسبحان الله تربى تربية خاصة، حتى وهو صغير. فكان عمه مخبرا. ومرة من المرات كان لدى عمه تقرير، فقال له أن يوصله إلى الوالي فلان. وكان الإمام أحمد بن حنبل صغيرا في اك الوقت، وبعد فترة سأله: أين الأوراق؟ فقال له: ألقيتها في البحر، ما كنت لأعين ظالما؟ ويبدو

أنه لم يكن واثقا بأمانة التقرير الذي كُتب. وقد عاش أيضا في عهد اتسع بالفتوحات الإسلامية، وقت هارون الرشيد الذي كان يقول للسحابة "أمطري حيث شئتِ سيأتني خراجك"، قضية اتساع النهضة العلمية والفقهية، وكان من المشايخ الذين لهم عدد من الكتب الست، وكان أستاذا لهؤلاء الأئمة، فدرس المذهب الحنفي وقرأ كتب الحنفية، التي هي مدرسة الرأي، وتتلمذ على يد الشافعي، والحقيقة أنه درس في أكثر من مدرسة، فخرج برؤية مستقلة.



أ. عمرو خالد: كان ابن حنبل في زمن انفتاح، ودرس بانفتاح على المدارس الأخرى، أتريد أن تقول إن الرؤيا لديه كانت متسعة للغاية؟



د. العتيبي: نعم، جدا ولذلك عندما نأتي للنقطة التي ذكرتها لكم، في قضية نظرته للرأي الآخر سنجد أشياء عجيبة جدا، سنجد أنه درس في مدرسة صار فيها نموذجا للتصوف الصحيح في الزهد، وفي الورع. وفي إحدى المرات آتاه سائل وطرق الباب، قال الأمام أحمد: من بالباب؟ فرد الطارق: سائل. ففتح الإمام الباب وقال له: ماذا لديك؟ قال: يا إمام ماذا تقول في النشيد؟ قال: مثل ماذا؟ قال: يا إمام كقول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فنظر الإمام إليه ثم استدار إلى داخل الدار، وأخذ يردد: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني، وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني. أي أنه أخذ موعظة من السائل، وتأثر بها نفسيا، وكفت في الجواب، فأي روح هذه؟ للأسف نحن الآن تعودنا على طريقة (حلال، حرام) كأننا نتعامل بالقانون، وليست كأنها تكاليف إلهية.



أ. عمرو خالد: كيف ينظر الإمام أحمد بن حنبل للرأي الآخر؟ وما هو رأيه في المدارس الأخرى؟ وما رأي المدارس الأخرى فيه؟ فلم أر كلمة للإمام أحمد بن حنبل يتكلم فيها بالسلب عن أي مدرسة آخرى؟



د. العتيبي: الملاحظ حقيقية، كان الإمام أحمد رحمه الله لا يشتد على أحد إلا في حالة واحدة؛ إذا رأى أن هذا الشخص خالف الكتاب والسنة، وهناك دليل واضح، وهذا الدليل بلغ هذا الشخص، فهنا يأخذها من زاوية أخرى، أي لا يأخذها على أنها رأي فقهي يحتمل الخطأ والصواب، بل يأخذها بنص، وليس بالضرورة، أحيانا قد يشتد العالِم، ولكنه لا يشتد بقصد أنه أخذ بنفسه على فلان، قدر ما يريد أن يربي من حوله على أن المهم عندنا هو الكتاب والسنة وليس الأشخاص، نحن لا نقدس أشخاصا، وإنما نقدس نصوصا، ونحترم الأشخاص، فهذا مبدأ مهم جدا في قضية الإمام أحد، حتى خصومه في المحنة كان كلامه معهم عجيبا جدا، حتى إنه قال: لا أريد أن يدخل أحد النار بسببي.



أ. عمرو خالد: إذن، وماذا قال الآخرون عن الإمام أحمد بن حنبل؟



د. العتيبي: يوجد بعض الأشياء في هذا الجانب؛ يقول الإمام الشافعي رحمه الله مثلا: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أفقه، ولا أورع، ولا أزهد، ولا أعلم، من الإمام أحمد. تخيل عندما يقول أستاذ عن تلميذه هذا الكلام! كذلك يقول الإمام الشافعي للإمام أحمد: إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به، أذهب إليه حجازيا، أو شاميا، أو عراقيا، أو يمنيا. أي انفتاح أكبر من هذا؟ المهم هو الحديث. يقول يحيى بن معين وهو من أحد مشايخ الإمام رحمه الله: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله، لا نقوى، على ما يقوى به أحمد، ولا طريقة أحمد. يقول مصعب الزبيدي –رحمه الله-: ومَن في ورع أحمد وعبادة أحمد؟ يرتفع على جوائز الخلفاء حتى يُظَن أنه الكِبر، ويُكِره نفسه مع الحمّالين حتى يظنُ إنه الذل، ويقطع نفسه عن مُباشرة الناس وغَشيانِ خاصتهم، فلا يراه الرائي إلا في مسجد، أو عيادة مريض، أو حضور جنازة، ولم يقضِ لنفسه بعض ما قضينا من شهوات. يقول أبو زُرعة: ما رأت عيني مثل أحمد بن حنبل؛ يسأله بعض من حوله في العلم يقول في العلم، والزهد، والفقه، و المعرفة، وكل خير، ما رأت عيني مثله!

يقول الحافظ الذهبي وهو شافعي -رحمه الله-: هو عالم العصر، وزاهد الوقت، ومحدث الدنيا، ومفتي العراق، وعالم السنة، وبادٍ نفسه في المحنة، وقل أن ترى العيون مثله، كان رأسا في العلم والعمل، والتمسك بالأثر ذا عقل رزين، وصدق متين، وإخلاص مكين، وخشية ومراقبة للعزيز العليم، وذكاء، وفطنة، وسعة علم، هو أجلُّ من أن يمدح بكَلِم، وأن أفوه بذكره بفمي. هناك أيضا أراء كثيرة للعلماء عن هذا الإمام، وكان هو عندما تُعرض عليه أراء الآخرين، ينتقد على تلاميذه أن يشتدوا في هذا الأمر. فذات مرة، سأله سائل فقال له: ماذا تقول في شخص يريد أن يتقدم للناس يريد أن يصلى بهم، وعليه لباس من جلد الثعلب –الثعلب ليس من بهيمة الأنعام-؟ فقال: إن كان تأول أيما إهاب دبغ فهو طهوره. وهذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، إن كان تأول هذا الحديث فليُصَلَىَ خلفه، قال بعضهم وإن كان تأويلاً خاطئا؟"، قال: وإن كان تأويلاً خاطئاً، يُصَلَى خلفه، إنما تأول. وهذا الكلام نقله بعض أئمة المالكية عن الإمام أحمد. ذات مرة، كنت أتحدث مع سماحة المفتي، فقرأت عليه هذه الجملة، قال لي: ما سبق أن قرأت هذه العبارة التي نقلها بن عبد البر المالكي، عن الإمام أحمد في كتب الحنابلة أنفسهم، فظلوا يبحثون عن فقهه، وآرائه، وتربوياته حتى في المغرب العربي، والإمام بن عبد البر من كبار المُحَّدِثين.



أ. عمرو خالد: إذن، من أين أتت فكرة أن فقه الإمام أحمد بن حنبل فقه التعسير؟ وهل هي

حقيقة أم أشاعة؟



د. العتيبي: للأسف، أحيانا إنها تنتشر حتى تكون وكأنها حقائق، لكن الحمد لله أن الأمور بالإمكان التأكد منها من الواقع، فمذهب الإمام أحمد بن حنبل من أوسع المذاهب في باب المعاملات، وهذا بالاتفاق، وأن أستاذنا حسن الشاذلي له كتاب يسمى "نضيرة الشرق" تكلم كلاما جميلا جدا عن هذه القضية. وكان أوسع المذاهب في تقرير مسألة الشروط في العقود، هو مذهب الإمام أحمد بدون أي كلام. كثير من الأشياء التي توجد في المصارف الإسلامية يذهبون فيها لآراء الإمام أحمد، والحقيقة له مسائل كثيرة، أضرب مثلاً بمسألة ملامسة الرجل للمرأة، أي عندما يلمس الرجل يد المرأة وهو يسير في الطريق، عن طريق الخطأ، فقد قال الإمام أحمد: "لا ينتقض الوضوء لأنه ليس بشهوة". لو افترضنا هذا المثل وأخذنا بالآراء الأخرى، إذن فكيف يطوف المرء في الحرم؟ وأنا لا أستبعد أن كان في بدايتها كثير من التعصب من المقلدين والأتباع.

دعني أقول لك حقيقة أكبر من هذا: مثلاً تكلم الإمام ابن عابدين وهو من أئمة الحنفية، كلاما جميلا جدا في رسائل اسمها "رسائل ابن عابدين"، يقول: كثير من القيود التي يذكرها المتأخرون، إذا لم نستطع إثباتها عند الأوائل، فلا يصح أن نأخذها علنا فعلاً، حتى لا نضيق الشرع بكلام الناس، وليس بحقيقة أدلة الشرع. وأنا أقول تجربة، وهي عندما أرجع إلى كلام الفقهاء المتقدمين، أجد فيه السعة في الأحكام، وكلما أذهب إلى كتب المتأخرين يأجدهم يضعون قيودا؛ لأن كل شخص لديه مؤثرات مجتمعه، طبيعة الأعراف التي كان فيها، فيضع قيودا للوقت الذي يعيش فيه، فيأتي شخص متأخر، ويظن أن هذا القيد على طول الخط، وعندما نعود للأصل - الكتاب والسنة- سنجد السعة بمعناها الحقيقي، وسنجد هذه الحقيقة ساطعة جدا في قوله تعالى: ".. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ..".(الحج: 78). فقه الصحابة رضي الله عنهم، والسلف الصالح "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، هنا سنجد السعة الحقيقية، لما نعرض الإسلام بطريقة أضيق من حقيقته؟ والسبب: هذه القيود التي وضعها المقلدون على مر التاريخ، عفوا، أحيانا ليس مقلدا، ولكن طبيعة المرحلة تقتضي أن تضع قيودا لها، ولكن لماذا أضع هذه القيود على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وكل الأزمان، والظروف، والأحوال؟ وكل هذا الكلام قاله عديد من العلماء، أمثال ابن العز الحنفي، والإمام ابن تيمية، والكرافي تكلم عنها وبشدة قائلا: "لا يجوز أن نجمد على المنقوص"، ويُقصد بالمنقوص كلام نصوص الفقهاء، ولأن الفقهاء يكتبون أحيانا في عصر معين، فيتكلم عن قيود تتعلق بعصر معين تختلف تماما، أي ممكن أن تكون مصطلحات في مكان لها معنى، وفي مكان آخر لها معنى مختلف، فهذه الأمور لابد أن يراعيها الفقيه، وإذا راعاها اتسعت الدائرة. ونحن الآن في فترة بها بعض من التعايش أكثر من السابق، فقد وصل التعصب في فترة من الفترات أن الذي يحرك أصبعه في التشهد من الأتباع والمقلدين يكسره، أي يقوم بعمل جريمة جنائية في الشرع، والمُقلد ليس بعالم وهو الذي يأخذ الحكم بغير دليل، ولاشك أن هذه الأمور لا يُقرها أي أمام ولا أي فقيه عاقل. فقد تكلم الشيخ محمد رشيد- رحمه الله- في مقدمة كتاب "المُغني" عن هذه القضايا وأتى بأمثلة، وأنا عندما قرأته وجدت أننا في مرحلة متقدمه جدا من السعة، ففترة الجمود في التاريخ الإسلامي كانت فتره قصيرة.



أ. عمرو خالد: هل ترى أننا أكثر تشددا في تعاملنا مع الفقه الإسلامي في العصر الحالي عن

المنابع الأولى الصافية؟



د. العتيبي: إذا نظرنا إلى المدارس الفقهية القديمة، وجدنها لاتزال موجودة إلى اليوم كمدرسة أهل الرأي، ومدرسة أهل الأثر، ومدرسة الظاهرية، والحقيقة أننا لابد ألا نتضايق من هذا التقسيم إطلاقا؛ هذه منهجيات في تفسير نصوص، يجب أن نعرضها فقط على المحك الحقيقي وهو أصول الفقه، فما كان فيها صالحا فيؤخذ به، وما كان غير ذلك فلسنا ملزَمين بأحد، المشكلة عندما يتعمد شخص أن يقلد رأيا معينا، والمعروف عن هذا الرأي أنه يخالف الدليل، ويتعصب له، ويؤلف به مؤلفات جديدة. والعجيب أنني كنت أقرأ للإمام الذهبي كلاما عظيما جدا، حيث قال: لو أن كلام العلماء بعضهم في بعض أحرقه إنسان بقصد التقرب إلى الله، يكون هذا قربة. أي أن تجميع الأمة أولى من هذا الكلام الذي قد يكون له آثار تفرق بين الناس، وتفرق الأمة، وإذا قرر أحد الولاة أن يحرق هذه الكتب التي ليس فيها علم، وإنما هي مجرد شحناء وبغضاء، يقولون إنه بهذا يكون مأجورا! انظر إلى ماذا يريدون أن يفعلوا؟ ولكننا الآن تطورنا أكثر، بنينا المجامع الفقهية، وهذه انطلاقة جيدة، ومرجعية الكتاب والسنة أصبحت قضية مُسَّلَمًا بها عند الجميع، وقد بينت المسلمين حقًّا مذهب أهل السنة عن بقية المذاهب الأخرى، وجعلته ظاهر وواضح، وأنا متفائل.



أ. عمرو خالد: ونحن نقول يا شباب، يا بنات، يا نساء، يا شباب يا متدين مزيدا من التعايش ومزيدا من الحب، نحن في حاجة للتآلف، والاجتماع؛ حتى لا نؤكل. نحن في حاجة لأن نشعر بأننا أمة مترابطة، لا نريد أن نأكل بعضنا على خلافات فقهية، فيقهرنا أعداؤنا، ونخسر بلدنا، ونكون معتقدين أننا نُحسن. سنسبب باختلافنا هذا مزيدا من الفرقة والضياع. بالله عليكم يا شباب يا متدينين، يا أئمة المساجد، يا علماءنا، اجعلونا نأتلف، اجعلونا نتكلم عن فقه الإتلاف، اجعلونا نتحدث عن الحب، والتآخي، والوحدة، اجعلونا نتعايش من أجل هذه الأمة، وإلا إذا مكثنا هكذا مختلفين، سنضيع، وتضيع أرضنا، وديننا، وبلدنا، والعدو متربصا. دعونا أن نكون عاقلين، دعونا نتآلف "... وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا..."(الأنفال: 46)، اصبروا على الأخوة، على الألفة، على الوحدة.

أسأل الله تبارك وتعالى، أن ينفعنا بهذا الكلام، وأن نجتمع ولا نفترق، وأن تزيد مساحة الاتفاق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1104

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام