الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحدثنا سابقًا عن المعلم الأول في حياة الإمام أحمد بن حنبل ألا وهو الحفاظ على سُنة النبي وجمعها وتمهيد الطريق للبخاري بعده. واليوم نتحدث عن الأمر الثاني وهو شيء عظيم جدًّا ألا وهو الحفاظ على سلامة عقيدة المسلمين كما جاء بها النبي، وكما نقلها الصحابة إلى جيل التابعين.



بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد الصحابة، وبعد التابعين، وبعد انتشار الفتوحات الإسلامية بشكل كبير في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، ثم انتشار أكثر وأكثر في الدولة الأموية دخل الإسلام أعدادً كبيرة من الناس لا تُعد ولا تُحصى، ومن بيئات وعادات وتقاليد وأجناس وأفكار وفلسفات وأديان مختلفة. مِن هؤلاء من كان يريد فرض طريقة تفكيره، ومنهم من كان يريد تطويع الإسلام بما يناسب طريقة تفكيره، ومنهم من كان حاقدًا وكارهًا للإسلام ولم يدخله إلا لأنه لم يكن لديه بديل آخر بعد سقوط دولة فارس ودولة الروم، فبدأت تنشأ فِرَق ومجموعات لديها خطة لهزيمة الإسلام بالفكر - لأنهم فشلوا في هزيمته بالسلاح- وذلك عن طريق إدخال التعقيدات على عقيدة الإسلام السهلة الصافية حيث "لا إله إلا الله .. إله واحد أرسل أنبياءً أمرونا بعبادة الله وإعمار الأرض"، ومن هؤلاء منهم المعتزلة.



بدأ المعتزلة بنشر مجموعة من الأفكار لم يُنزِلها لنا الله تعالى، ولم يخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم لتصبح هي الغالبة على الإسلام، هذه الأفكار من شأنها أن تظهر الإسلام بأنه ليس بالدين السهل بل هو دين معقد وغير مفهوم، ومن هذه الأفكار فكرة عملوا عليها كثيراً ألا وهي خلق القرآن.



نحن المسلمين، كيف نرى القرآن؟ نراه بكل بساطة وسهولة كلام الله، ولكنهم قالوا إن القرآن مخلوق، وبالتالي فهو طارئ؛ لأنه لو كان قديما يصبح القدماء متعددين إذًا، تصير العقيدة وثنية؛ لأن فيها قدماء متعددين فهو - من المؤكد- ليس بالقديم، وبالتالي فهو مخلوق. ما كل هذا التعقيد؟ فلم تفهم أنت شيئًا، ولا أنا فهمت أي شيء! لكن المعتزلة أرادوا فتح باب تعقيد الإسلام. تقول الآية الكريمة "وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ "(البينة: 5)، هذا هو ديننا بكل بساطة.



ظل المعتزلة - طوال 50 أو 60 سنة- يبثون هذه الفكرة من خلال الجدل والحوارات والمناظرات، ولكنهم لم يستطيعوا إدخالها بسبب أبو حنيفة، فبدأوا يفكرون في خطة أخرى دخيلة تم صنعها في الإمبراطورية الرومانية ألا وهي أن يتسلقوا حتى يصلوا إلى الوزارة ويصيروا الوزراء الأساسيين للخليفة، فيقنعوه بالفكرة ويجعلوه يجبر الناس عليها، ومن لا يوافقهم يُضرب ويُوذى ويُقتل. فحاولوا في عهد المنصور لكن لم ينجحوا؛ لاستمساكه وحرصه على السُّنة، وعلى أن يكون العلماء الأفاضل من حوله، وفي الوقت ذاته، وجود أبو حنيفة بقدرته الهائلة على الحوار، ثم حاولوا في عصر هارون الرشيد ولم ينجحوا أيضًا لأن المستشار الأول له كان أبو يوسف تلميذ أبو حنيفة. حتى جاء المأمون ونجح المعتزلة في التسلق، وأقنع ابن أبي داوود المأمون بالفكرة، وبدأت تتحرك الفتنة، وتصير مثل قضية رسمية معلنة من الدولة. أرسل المأمون في كل مكان أن انشروا أن القرآن مخلوق، وانشروا أن على بن أبي طالب خير من أبي بكر وعمر، وأننا لن نرى الله يوم القيامة، وقضايا أخرى حولوها إلى فلسفة معقدة.



طبيعة شخصية الإمام أحمد بن حنبل وفقهه.. البساطة والتبسيط:

طبيعة الإمام أحمد بن حنبل كبني آدم تعشق البساطة والتبسيط - هذا هو مذهبه الفقهي-، فهو رمز من رموز رَفْضِ التعقيد، وهذا من التعايش. إذًا، لماذا تقول الناس إن هذا (حنبليًّا) –أي متصلب- على الرغم من أنه من أكثر المذاهب تيسيرًا؟ لأن موقفه في الفتنة كان شديدا، فاعتقد الناس أن هذه هي طريقة تفكيره في كل حياته. مثال على تلك البساطة والسهولة والتعايش: ما يرويه بنفسه عن زوجته الأولى "عباسة بنت الفضل" -أم ابنه الأول "صالح" والتي عاشت معه ثلاثين عامًا حتى توفاها الله، وبالمناسبة، فقد تزوج من بعدها "ريحانة" وأنجب منها "عبد الله" أشهر أبنائه؛ لأنه من حمل فقهه، وبعدها تزوج "حسنة" وأنجب منها ستة أولاد - فيقول: أقمت مع أم صالح أكثر من عشرين عامًا فما اختلفت - أنا وهي في كلمة-. ولأن الإمام شديد الورع، والزهد، والصدق فليس من الممكن أن يقول كلامًا مبالَغًاً فيه، ونفهم من كلمته هذه سهولة طبيعته.



مثال آخر: في يوم كان معزومًا على مأدبة كلها من العلماء المتحابين، وكان هناك الكثير من صنوف وألوان الطعام، فقال أحد الجالسين: هذا إسراف، فقال أحمد بن حنبل: لا، ليس بإسراف، والله لو أن الدنيا صغرت، وصغرت، وصغرت حتى صارت لقمة فجعلتها في فم أخي لما كانت إسرافاً. مثال آخر: جاءه أحدهم متأثرًا بفكر المعتزلة، فقال له: كم بيننا وبين العرش؟ فقال الإمام: بيننا وبين العرش دعوة صادقة من قلب مخلص. هل رأيت إلى أي مدى سهولة شخصيته؟ يأتيه شخص فيسأله: مَن الأفضل "عَلي" أم "عثمان" أم "معاوية"؟ ومن كان المخطئ في معركة "الجمل" و"صفين"؟ فيقول الإمام: تلك فتنة نجى الله أيدينا منها فلننجي ألسنتنا منها، كلهم على خير وكلهم أرادوا الخير، من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ، فله أجر واحد. هل رأيتم البساطة؟



يتخذ الإمام (العُرْفَ) كمصدر من مصادر فقهه. ما رآه المسلمون حسنًا، فهو حسنٌ في الإسلام - ما لم ينصُّ الشرع أنه حرام-. وما سكتَ عنه الحديث، أو القرآن فهو مباحٌ. أكثر مذهب ييسر في قضايا الزواج والطلاق هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ إن قال أحدهم لامرأته: أنت طالق. نسأله أولاً: هل كان يقصد التطليق أم كان يشد عليها باليمين؟ فإن كان يشد عليها، فلا يقع الطلاق.



كان "ابن التيمية" من تلاميذه، والذي قال إنه لو قال الرجل لزوجته أنت طالق بالثلاثة لا تقع إلا طلقة واحدة، أي أن طبيعة الإمام أحمد سهلة وبسيطة ومُيَسِّرة.



كان يطلب من ابنه "عبد الله" أن يكتب أسماء كل من سلموا عليه قبل ذهابهم إلى الحج حتى إذا رجعوا من الحج ذهب ليسلم عليهم.



خطة المأمون:

ترك المأمون المعتزلة يتحدثون بكل حرية، ثم بدأ يتبنى كلامهم، ثم كانت الخطوة الخطيرة والمتمثلة في إلزام وإجبار الناس بهذه الأفكار وأنه من المفروض أن يدين بها المسلمون - والموضوع ليس فقط مجرد فكرة أن القرآن مخلوق، ولكنه باب سيُفتح وراءه أبوابا أخرى لتغيير العقيدة أو لتشويهها، أو لتعقيد ما هو سهل-، وكان أن تمت هذه الخطوة الأخيرة في ربيع الأول سنة 218هجري، حيث أرسل المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد، وطلب منه أن يجمع له سبعة عشر عالمًا ليس من بينهم أحمد بن حنبل -وفي الوقت ذاته- من بينهم أعز صديق له، وكان يسافر معه إلى اليمن وهو يحيي بن معين، وقال له: قل لهم إما السيف، أو السجن، أو أن توافقوا على ما يأمر به المأمون، فوافق السبعة عشر عالما. فأرسل المأمون كتابًا آخر أن أعلن أن السبعة عشر قد وافقوا. فبدأ أحمد بن حنبل يعلن في دروسه أن ذلك ليس من عقيدة الإسلام. فطلب المأمون من إسحاق بن إبراهيم أن يجمع له أربعة من العلماء هم: أحمد بن حنبل، والقيرواني، ومحمد بن نوح، وآخر رابع. وكلهم لم يكونوا قد وافقوا بعد على ما يريد المأمون وأن يقوم بتهديدهم بالسيف، أو السجن، أو يوافقوا، فإن لم يوافقوا فعليه أن يحبسهم عنده. فتم حبسهم أيام وأيام، وبدأت تتحول إلى شهور . حتى وافق اثنان، وتم إطلاق سراحهم، وتبقى في كل الأمة محمد بن نوح، والإمام أحمد بن حنبل، ولم يلبث محمد بن نوح أن تنازل هو الآخر، وتبقى فقط الإمام أحمد بن حنبل في السجن. وكان من نتيجة ما فعله المأمون أن صارت الناس متعلقة بالكلمة التي ستخرج من فم أحمد بن حنبل، أي أن الإمام ازداد شهرة، وازداد تعلق الناس به، وصار رأس الأمة أمام المأمون وقوته.



صلابة الإمام من أجل الإسلام:

بدأ الإمام أحمد بن حنبل يُقَيَّد بالحديد حتى إنهم قاموا بتقييد أرجله بأربع قطع من الحديد. وبدأ المأمون يرسل إليه الناس، فيجيئه أحدهم ويقول له: يا إمام، لك أولاد، وتحتاج النفقة وتركت زوجتك، فقل لهم ما يريدون. فينظر إليه أحمد بن حنبل ويقول له: يا هذا، إن كان هذا هو عقلك فقد استرحت. ويأتيه آخر ويقول له: يا إمام، يقول الله ... "إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ..."(النحل: 106)، فيقول الإمام: الآية تقول "أُكْرِهَ" وليس خاف أن (يُكره). ويأتيه ثالث يقول له: يا إمام، قل لهم ما يريدون. فينظر الإمام أحمد بن حنبل من شرفة سجنه ويقول له: انظر إلى العالم، أترى الناس ينتظرن كلمة مني؟ فيقول له: نعم. فيقول الإمام: ذِلة العَالِم ذِلة العَالَم – أي إن ذللتُ أنا العالَم تَذِل-. يُساق الإمام وهو مقيد إلى المأمون لِيَمثُل بين يديه، وهو في طريقه، يقابله أعرابي بسيط يمسك الناقة التي أركبوه عليها ويقول له: يا إمام، أنت الآن رأس الإسلام، فإن ذللتَ، فكل هؤلاء الناس في عنقك يوم القيامة، فإن كنتَ تحبُّ الله اصبر. يقول الإمام: فبكت عيناي.



ويقف الإمام أمام المأمون، في اللقاء الوحيد بينهما، فيقول له المأمون: أقسمت بالله، لئن لم تجبني الليلة إلى ما أريد لأقطعن رأسك. فيقول له أحمد بن حنبل: اللهم اكفينيه بما شئت وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير. هذا الدعاء - في تاريخنا- خطير جدًّا، لقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن دخل عليه سُراقة، وهو ذاته الدعاء الذي قاله الغلام صاحب قصة الأخدود. يقولون: فقضى اليوم وجاء الليل ونحن نقول سيُقتل الليلة، ففي هذه الليلة مات المأمون، فاستيقظنا نقول: لا إله إلا الله، هذا من فِعل أحمد بن حنبل وظننا أن الأزمة ستنفرج فإذا بالمعتصم يتولى مكانه، وللمعتصم الكثير من الأيادي البيضاء؛ فهو الذي صرخت المرأة باسمه "وامعتصماه" فأرسل جيشًا وهو الذي فتح "عمورية" إلا أن بطانته كانت سيئة، فقد ابن أبي داوود ملاصقًا له، حيث أغراه بأن أحمد بن حنبل إذا ظل متمسكا بموقفه سيفقد العباسيون الكثير، وأن الحل هو أن يُضرب ويُؤذى. فيعلن المعتصم أنه إذا لم يجبه الإمام أحمد بن حنبل إلى ما يريد سيُضرب بالسياط. وهنا اهتز الإمام أحمد حيث قال كلمة عجيبة حيث قال: والله، ما أخشى السجن فما هو وبيتي إلا واحد. ووالله، ما أخشى القتل فإنما هي الشهادة، ولكني أخشى السوط. وفي اليوم التالي، جعلوه يمر بين أيدي الجلادين في طريقه للجَلْد أمام المعتصم، فقابله سارق اسمه "أبو هيثم الطيار" يُضرب كل يوم بالسياط، وعندما نظر إلى وجه الإمام أحمد شعر بأن هناك شيئا في وجه الإمام فقال: يا إمام، اثبت على الحق، فإن عِشتَ عِشتَ حميدًا، وإن مِتَّ مِتَّ شهيدًا. أتعرف يا إمام؟ لقد ضُربتُ في هذا السجن ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، فما ردَّني ذلك عن السرقة، فعلت ذلك من أجل الشيطان، فاثبت أنت من أجل الرحمن – الإنسان الصادق الجاد يثبّته الله عندما لا يكون قادراً-، يقول الإمام: فكأنني رجل جديد.



محاولة للإقناع بالعقل تتحول إلى ضرب وإيذاء:

- وعندما وقف الإمام أحمد أمام المعتصم قال له: أنا لا أحب إيذاءك، وإني لأشفق عليك فقل لي ما أريد.

- فقال الإمام أحمد بن حنبل: يا أمير المؤمنين، أرأيت هذا الذي تقوله لي أليس الله تبارك وتعالى قد أرسل لنا كتابه؟ ألم يقل الله "... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ..." (المائدة: 3).

- قال المعتصم: نعم.

- قال الإمام: أهي في كتاب الله؟

- قال المعتصم: لا.

- قال الإمام: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ ما أمره الله تبارك وتعالى؟

- قال المعتصم: نعم.

- قال الإمام: أَعَلِمَ رسول الله بهذه المسألة؟

- قال المعتصم: نعم.

- قال الإمام: فلِمَ لم يُخبر بها؟

فسكت المعتصم ونظر إلى ابن أبي داوود – مُحرّك الفتنة- وقال له: أجبه.

- فقال أحمد بن حنبل: يا بن أبي داوود، أعَلِمَ الصحابة بهذه المسألة؟

- قال: نعم.

- قال الإمام: فِلمَ لم يخبرونا بها؟

فسكت ابن أبي داوود وقال الإمام: يا أمير المؤمنين، أعطني شيئا من كتاب الله، أو من سُنة رسول الله لأقول به، ما كان عليه المسلمون، فدعهم على ما هم عليه.

- فقال ابن أبي داوود: يا أمير المؤمنين، إن لم تضربه ستغري الآخرين.

- فقال المعتصم: ائتوني بالجلادين.

فحضر إليه عشرة جلادين بسياطهم فقال المعتصم لهم: ليست هذه، ائتوني بسياط جديدة واشددوا عليه، وإلا قطعت أيديكم.



رجولة وثبات على المبدأ.. تعايش ضد الذوبان:

يقول أحد الجلادين: والله لقد ضربته ضربًا لو كان فيلاً لهددته. ويقولون: كنا نضرب السياط فنجد الحُفر في ظهره، فنقول الضربة القادمة ستخرج من فمه، فيُغشى عليه، فيقول المعتصم: أريقوا عليه الماء فيفيق.

- فيقول له المعتصم: قل ما أريد.

- فيقول الإمام: يا أمير المؤمنين، أعطني شيئا من كتاب الله، أو من سُنة رسول الله أقول به.

- فيقول المعتصم: أتريد أن تقهر كل هؤلاء؟

- فقال الإمام: يا أمير المؤمنين، كيف أجعل في حال المسلمين ما ليس في القرآن ولا في سُنة رسول الله؟ أعطني شيئا أقول به.

- فيقول المعتصم للجلادين: اضربوه أكثر.

فظلوا يضربونه بالسياط حتى أُغشِي عليه فعملوا على إفاقته، وبدأوا يسقونه الماء خوفا من أن يموت فتثور الناس عليهم، فقال لهم: لا أشرب إني صائم اليوم.



هل رأيت كيف تكون متعايشا وضد الذوبان؟ لا تفهموا (يا جماعة) أن التعايش يعني أن نفقد هويتنا، وشخصيتنا يا شباب، أو أن نقلد غيرنا. هل رأيتم أحمد بن حنبل النموذج؟



زار الإمام تلاميذه في السجن وقالوا له: يا إمام، لو شئت نثور. قال: لا تفعلوا؛ هو أمير المؤمنين. - وهذه الجزئية خطيرة؛ تخيلوا ما يحدث في بلادنا اليوم من تفجيرات، وقتل وتدمير بدعوى الإسلام نتيجة اختلاف البعض مع حكومتهم!- بعدها بعامين أو ثلاثة أعوام سينقذ المعتصم المرأة التي صرخت "وامعتصماه" حينما ضربها ملك الروم على وجهها وسيفتح عمورية فتخيلوا ماذا يقول أحمد بن حنبل - وهو الذي نام على بطنه مدة شهر جرّاء هذه السياط؛ لأنه لم يستطع النوم على ظهره وحتى مات ظلت هذه الآثار موجودة-؟ قال: المعتصم مني في حِلّ. فقالوا له: كيف؟ قال: بما فعله مع المرأة، ولفتحه عمورية. أي عقلية هذه؟ وكيف جمع أحمد بن حنبل بين الرقة والعفو الشديدين والصلابة الشديدة؟ هذا الشخص نادرًا في التاريخ! هذه دعوة إلى كل من يستمع إلى هذه القصة أن إياك والتخريب والتدمير في بلدك مهما اختلفت، ولكن حاور وفكر وانتصر لفكرتك. لم يلجأ أي إمام من الأئمة الأربعة إلى العنف مع أنهم كلهم ضُربوا وأوذوا.



رجل واحد ثابت على المبدأ في ظل توالي أربعة خلفاء:

علمنا أنه في عهد المأمون انطلقت الفتنة، وفي عهد المعتصم تم تعذيب الإمام، وبعد موت المعتصم أتى الواثق من بعده، ولا يزال الإمام أحمد بن حنبل في السجن، وظل هكذا شهورًا وسنين بالإضافة إلى أنه كان متوقفا عن التدريس، صحيح أنه قد تم تأسيس مذهبه لكنه منذ سن الخامسة والخمسين كان يعيش في المحنة حتى وصل إلى سن الثامنة والستين. ويموت الواثق بعد أن دام حكمه خمس سنوات فقط، ويأتي المتوكل الذي يقرر العودة إلى السُّنة بشيءٍ عجيب للغاية، فلقد تم القبض على شيخ بسيط - لا نعرف اسمه - يردد كلمات الإمام أحمد بن حنبل حيث إن كلماته كانت قد انتشرت بين الناس، وأتوا به ليقف أمام المتوكل الذي أتي بابن أبي داوود لتقوم بينه وبين هذا الشيخ البسيط مناظرة جميلة جداً.



مناظرة الشيخ وابن أبي داوود أمام المتوكل:

- قال الشيخ: يا بن أبي داوود، أخبرني عن مقالتك هذه، أهي مقالة واجبة في دين الله؟

- فقال ابن أبي داوود: نعم، طبعا واجبة في عقيدة المسلمين وفي دين الله.

- فقال الشيخ: فأخبرني عن رسول الله هل ستر شيئا من الإسلام؟

- قال ابن أبي داوود: معاذ الله أن يستر رسول الله شيئا.

- قال الشيخ: فلِمَ لم يُحَدِّثَ بها؟ فسكت ابن أبي داوود، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة.

- فقال المتوكل: نعم هذه واحدة.

- فنظر الشيخ لابن أبي داوود وقال: أخبرني حين قال الله "... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ..." (المائدة: 3)، أكان الله صادقا في إكمال دينه أم ستر شيئا؟

- قال ابن أبي داوود: لا، قد اكتمل.

- قال الشيخ: فأين هي في كتاب الله؟

- قال ابن أبي داوود: لا أجد لها مكانا.

- قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه الثانية، ثم نظر فقال: يا ابن أبي داوود، أعلِمها رسول الله أم جهلها؟

- قال ابن أبي داوود: عَلِمها طبعا.

- قال الشيخ: فهل دعا الناس إليها؟

- قال ابن أبي داوود: لا.

- قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أنكون نحن أحسن من رسول الله؟ ألا يسعنا ما فعله رسول الله؟

- فقال المتوكل: يا ابن أبي داوود، اخرج عني فلا تكون في وزارتي بعد اليوم. صدقت أيها الشيخ والله لانتهت هذه الفتنة من اليوم، ولا نلزم بذلك أحدًا، ولا يكون في وزارتنا معتزلة، وليخرج أحمد بن حنبل من السجن.



خروج الإمام من السجن ووفاته:

يخرج الإمام أحمد بن حنبل من السجن تَعِبً،ا ويعرض عليه المتوكل بكل وضوح المال والعطاء، فيقول: يا أمير المؤمنين، أكرمتني إذ أخرجتني، ولكني لا آخذ منك المال. فيرد عليه المتوكل ويقول: ولِمَ يا أحمد؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا المال ليس مالك، هذا مال المسلمين، وليس يحل لي أن آخذ من مال المسلمين.



وبدأ الإمام أحمد بن حنبل يحتضر، وتفد الناس إليه من كل مكان لتحيط بالبيت لدرجة أن الباعة في الشوارع البعيدة أغلقوا المحلات من كثرة الناس الذين يبيتون في الطرقات تسأل عن أحمد بن حنبل، ويأتي أحد الجلادين من بعيد يبكي ويُصرّ أن يقابل الإمام قبل أن يموت حتى دخل وقال: يا إمام، اجعلني في حِلٍّ – سامحني-. فقال له الإمام: أنت في حِلٍّ بشرط. قال: ما هو؟ قال الإمام: لا تفعل ذلك مع أحد بعدي. قال: لن أفعل ذلك. قال الإمام: أنت في حِلّ، ثم قال وضئوني للصلاة. فقالوا له: صلِّ جالسًا. قال الإمام: مازلت أستطيع ولكن أسند عليك يا عبد الله. كل هذا وهو في سن السابعة والسبعين.

دخلوا عليه في اللحظات الأخيرة فوجدوه يقول هذه الأبيات الجميلة من الشعر:



إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقلْ خلوتُ ولكن قُلْ علىَّ رقيبُ

سهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوبٌ على آثارهِن ذنـوبُ

فيا ليت أن اللهَ يغفرُ ما مضى ويأذنُ لي في توبةٍ فأتوبُ



مات الإمام أحمد بن حنبل، وحضر آلاف مؤلفة جنازته رجالاً ونساء، وحضر المتوكل الغسل والجنازة، وصلوا عليه مرات عديدة، وحُمِل نعشه، وكان قد أوصى أن توضع شعرتان من شعرات الرسول صلى الله عليه وسلم - كانت قد وصلت له- على عينيه وشعره وعلى فمه لتدفن الثلاث شعرات معه، وكأنه كان يريد أن يقول إنه بعينيه ولسانه قد حافظ على السُنة. والعجيب أن الناس في جنازته ساروا فيها وهم يلعنون من ظلموه، والغريب أنه وهو حي لم يفعلوا ذلك، وظلوا لمدة أسبوع يزورون قبره ويدعون له. رحم الله الإمام أحمد بن حنبل.



إمام عظيم بذل الكثير للإسلام وعلى الرغم من صلابته كان إماما في التعايش. وعليك أنت أيضًا أن تبذل وتعيش للإسلام. عليك أن تتعايش وأن تكون مرنا وفي الوقت نفسه قويا في الحق . هل رأيت ما فعله الإمام مع الأمير الذي ظلمه؟ هل رأيت كيف وزن أمير المؤمنين بحسناته وسيئاته وليس بسيئاته فقط؟ هل تستطيع وزن الناس مثله؟ هل تستطيع أن تتعامل مع الناس مثله هكذا؟ أتمنى من الشباب أن يجعلوا الإمام أحمد بن حنبل قدوة مثلما جعلنا الشافعي وأبو حنيفة.

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1103

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام