الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرحبًا بكم ونستكمل معا "دعوة للتعايش".

يتحدث البرنامج ببساطة عن دعوة للتعايش وقد تحدثنا من قبل عن ماهية التعايش، أي هيا بنا نقبل بعضنا البعض، تعالوا بنا نتحاور مع بعضنا البعض، تعالوا بنا نفهم بعضنا البعض، تعالوا بنا نبني الجسور مع بعض بعضنا البعض، بدلا من أن نبني الجسور فيما بيننا، تعالوا بنا نحترم بعض البعض، حتى وإن لم نقبل آراء بعضنا البعض، تعالوا بنا نقدر بعضنا بعضاً، تعالوا بنا نبحث عن المساحة المشتركة فيما بيننا، ونقوم بتوسيعها فيما بيننا، جزء في دائرتك وجزء في دائرتي، هذا فكرك وهذا فكري، وأنه بالتأكيد بين فكرك وفكري يوجد مساحة في المنتصف. صحيح أن الله تعالى خلقنا مختلفين، وهذا جميل وثري، لِتُعَمَّر الأرض، ويزيد الخير، فاختلافنا عن بعضنا البعض ليس عيبا، ولكنه ميزة. فقد خلقنا الله هكذا مختلفين، وفي هذا الفرق تضع فكري على فكرك ننتج فكرة جديدة.



واليوم أخطر حلقة تطبق على الإمام الشافعي؛ لأن في الحلقات الماضية كنت أتحدث عن قصة حياة الإمام الشافعي، وقلت لكم عن عشر قواعد تساعدكم في إيجاد منطقة مشتركة - هي وصفة التعايش- ووضعناها في أول الحلقة الماضية لكي تربطهم بقصة حياة الشافعي. هذه القواعد العشرة للذي يريد أن يتعايش ويوجد مساحة مشتركة مع الآخرين، وهي ثوابها خطير كما قال النبي "صلى الله عليه وسلم" ((المؤمن إلفٌ مألوف...))، إلف مألوف: معناه الفكرة التي قلتها، أي أن الناس تألفه سريعا، وهو يألف الناس سريعا، يعني يعلم كيف يبني علاقات مع الناس سريعا. انظر إلى بقية هذا الحديث ((ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف))، وثوابها أنك مؤمن، أي أنك تعلم كيف تألف الناس؟ وكيف يألفك الناس؟



هذه القواعد العشرة للتعايش اجتهاد شخصي مني، وفي الوقت نفسه، فقد أحضرتها من تجربة شخصية، وكلام علماء في الغرب وعلماء في الشرق تحدثوا عن الإدارة، وكيف تبني علاقات مع الآخرين؟ وعندما استخلصت منها القواعد العشرة لكي نطبقها على الشافعي وإذا بالمفاجأة: هو الشافعي!



تطبيق القواعد العشرة على الإمام الشافعي:

القاعدة الأولى: اجتهد حتى تجد المنطقة المشتركة مع الآخرين.

كما أسلفت الذكر، مثلاً فقد تزوجت زوجتي لإيجاد منطقة مشتركة فيما بيننا، ألا وهي كنا نحب بعض حبًّا جمًّا، وقد انتهت هذه المنطقة مع الأيام أو لأي سبب آخر، إذن، هل انتهت العلاقة؟ لا لم تنتهِ . دعونا نبحث عن المنطقة المشتركة، الآن، تعني دعوة لكل زوج وزوجته، أنا أتحدث بداية من العراق ودارفور، أنا وابني المراهق. هذه الطريقة عظيمة حقًّا يا إخواني، بالإضافة إلى أنها طريقة تفكير، "اجتهد حتى تجد المنطقة المشتركة"، وكلمة "اجتهد" ليست سهلة، بل تحتاج مجهود وإرادة.



تطبيق القاعدة الأولى على الشافعي:

اجتهد حتى تجد المنطقة المشتركة مع الآخرين.

أولاً: أم الشافعي، فهي حقًّا أمًّا عظيمة! أتذكرون القصة؟ عندما ذهب الشافعي إلى مكة قالت: (يا بُني، مات أبوك، وأننا فقراء، وليس لنا مال، فأنا لن أتزوج من أجلك، وقد نذرتك للعلم، لعل الله يجمع بك شمل هذه الأمة)؛ لأن الفترة التي عاش فيها الشافعي كانت فترة صراع فكري رهيب، حيث مئات الأفكار والصراع الشديد: مذاهب إسلامية، مدرسة الحجاز، مدرسة العراق، الزنادقة -الذين ينكرون السُّنة -، المعتزلة، السُّنة، والشيعة وكان بينهما مشاكل، وفي الضمائر منذ مقتل عثمان (رضي الله عنه) ومنذ الفتنة الكبرى أيام سيدنا علي وسيدنا معاوية (رضي الله عنهما)، ثمة دولة مترامية الأطراف، غنىً كبير ومالٌ بكثرة في الدولة العثمانية، فظهر جيل من الشباب مترف يريد أن يستمتع؛ فيرفض آباؤهم هذا لأن أباءهم قد تربوا على أيدي الصحابة والتابعين، فيوجد مشكلة سنة 150 هـ. صحيح أن الدولة العباسية- في ذاك الوقت- كانت مسيطرة، لكن تحت الجنوب، يوجد صراع يغلي كالبركان. إذاً، فالدولة العباسية لو ضعُفت، سيتصارعون مع بعضهم البعض، وستتحول بغداد هذه، إلى حمام من الدم، كما هو حالها الآن.



ذهب الشافعي مع أمه إلى مكة وقد ألحقته بالكُتَّاب لكي يحفظ القرآن ويجيد التجويد، وقالت: هذه أول خطوة. هذه المرأة كانت تخطط لابنها، من سن 3 إلى سن 7 سيتعلم في هذا الكُتَّاب. ولكنه عندما التحق بالكُتَّاب أهمله المعلم، لأنه ليس غنيا، فيعود الشافعي إلى المنزل- أول درس في التعايش: كيف أجد منطقة مشتركة؟- يذهب باكيا إلى أمه قائلا: "يا أماه، لا أريد أن أذهب مرة أخرى إلى الكُتّاب فالمعلم يعاملني معاملة سيئة"، فتجيب أمه العظيمة العاقلة: "يا بُني، اذهب وتحايل على المعلم. فسألها: "كيف أتحايل؟" أجابت: "يا بُني، إذا وجدت المعلم يعلم أبناء الأغنياء، فاجلس بجوار الغني، واستمع دون أن تُشعر المعلم أنك تضايق عليه". يقول: "فعلتها مرة، واثنتين، وثلاثة، أدخل بأدب، لا يشعر بي المعلم وأستمع له وهو يعلم ابن الغني، حتى أجدتُ ما يقوله، فكان المعلم إذا قام - والتلاميذ جالسين- أقوم واشرح لهم، فيأتوني ويقولون: "اشرح لنا يا شافعي" -وكان يبلغ خمسة أعوام من عمره-، فيأتي المعلم فينظر فيجد أنني أُعَلِّم التلاميذ- فقد وجد المعلم المنطقة المشتركة وهي أن هذا الولد يساعدني في التعليم وأنا أستريح قليلاً، في مقابل ألا آخذ منه أجرًا، إذاً، أعلمه لأنه سيساعدني أكثر. فعدت إلى أمي أقول: "يا أمي، تعلمت الذل للعلم، والأدب للمعلم".

كأن هذا الدرس لطفل يبلغ الخامسة من عمره، الذي علمته له أمه هو كيف أعمل منطقة مشتركة بيني وبين الآخرين؟ وستظل معه إلى أن يبلغ الخمسين من عمره، لأنها أصبحت طريقة تفكير، ويا حبذا إذا قام الآباء والأمهات بتدريب أولادهم على هذه الطريقة. هل مِنّا مَن يُعلم أولاده حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) "المؤمن إلف مألوف"؟



النبي (صلى الله عليه وسلم) أول من عمل هذا. يا غرب، نحن من اخترعنا التعايش. صحيح أن كلمة "تعايش" بدأ بها الغرب لكن الفكرة نحن الذين بدأناها، فلا يوجد دستور في دساتير العلم يقول لأمته: “...وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...”(الحجرات13). انظروا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) - في أوج الخلاف مع قريش- التي كانت تقتل المسلمين وتكفر بالله ورسوله، يصنع حلفًا يسمى "حلف الفضول". قال (عليه الصلاة والسلام) "لو دعتني قريش إلى حلف الفضول...". حلف يعني مساندة المظلوم، فقد فكر في هذا صلى الله عليه وسلم (صلى الله عليه وسلم)بينما كانوا في خلافات شديدة معه، مقارنة بنا اليوم مثلاً؛ المرأة التي تتشاجر مع زوجها ولا تريد أن تسامحه وتنسى بعد ذلك فهي ليست مرنة ولا تريد أن تعيش، ومثلاً ابني الذي أرهقني سأوجعه ضرباً، ولكن قبل أن أضربه أبحث عن المنطقة المشتركة التي من الممكن أن نتقابل فيها ونفوز ببعضنا البعض. "لو دعتني قريش لحلف الفضول لأجبت".



ولذلك فأنا مازلت أركز على النقطة الأولى "اجتهد، اجتهد حتى تجد مساحة مشتركة مع الآخرين"، وانظر ماذا يحبون؟ أيحبون الكرة؟ إذن، تعلم كيف تلعب الكرة؟ من الذي تريد أن تتقرب منه؟ ابنك؟ كم يبلغ من العمر؟ يبلغ من العمر أربعة عشر عاما، ومولع بالكرة، إذاً، نوجد مساحة مشتركة بيني وبين ابني في لعب الكرة، لكي أجعله يقلع عن التدخين، أو أجعله يحافظ على رجولته ولا يندرج وراء شهوة من الشهوات، مثلاً، بنت تحب الموضة، إذن، ما هي أنواع الموضة التي من الممكن أن تجعل بيننا منطقة مشتركة؟



يا إخواني، الشافعي - قبل أن يقابل محمد بن الحسن- (أستاذ مدرسة العراق) وتلميذ أبي حنيفة، أنفق من ماله الخاص خمسين دينارا، وكان لا يملك غيرها، واشترى كل كتب أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن وقرأها لكي يبحث عن المناطق المشتركة بينه وبين محمد بن الحسن.



القرآن والمناطق المشتركة:

قال تعالى: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ..." وسماهم أهل كتاب ولم يسمهم بالكفار- "...تَعَالَوْاْ..." دعونا نبحث عن المنطقة المشتركة بيننا "...إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء..." نتفق عليها نحن الاثنين "...بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاًَ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ..."(آل عمران 64) بمعنى لا تسيطر عليّ وتفرض عليّ دكتاتورية، وتظلمني وتغتصب أرضي وتقول لي: (هيا بنا نتعايش)! أي أنه يريد أن يقول أن نبحث عن المنطقة المشتركة بأن ربنا الله.



لعل بفكرة المساحات المشتركة - هذه- يجمع الله رجلا بزوجته، لعل شاب يتقرب إلى أبيه، ويقول سأجتهد لكي أبحث عن المساحة المشتركة، لعل دم في العراق لا يهدر بسبب هذه الكلمة، وليس شرطا أن تكون مني. ممكن لأي شخص أن يتبنى هذه الفكرة ويُبَلّغُها، ويشهد الله أن هذه هي النية. قال تعالى: "...وَمَنْ أَحْيَاهَا..." الذي ينقذ نفسا بشرية "...فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً..." (المائدة32).



القاعدة الثانية: ابحث عن كل علم يساعدك على إيجاد المساحة المشتركة مع الآخر:

لا يكفي إيجاد مساحة مشتركة مع الآخر، ولكن لابد أن تتعلم بعضا الأشياء. فالشافعي قد تعلم اللغة، والقرآن، والحديث، والتفسير، فذات مرة، وجد الليث بن سعد إمام مصر العظيم، ووصل الليث بن سعد إلى مكة، وكان يلقي درساً ،وكان الشافعي آنذاك يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، فعندما جلس الشافعي ليستمع لخطبة الليث التي كان يقول فيها: "إن من أسباب فُرقَة الأمة واختلاف العلماء؛ غياب اللغة..."، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) عندما قال الأحاديث قالها باللغة، والقرآن نزل باللغة، فإن اللغة الآن تَميع، إذن، وأصبحت الناس لا تفهم مراد النبي (صلى الله عليه وسلم) من الكلمة لذلك ينبت الخلاف، فقال: "...فإذا قام الرجل وجمع اللغة مع القرآن والحديث، يجمع الله به هذه الأمة". فوثب الشافعي، تعلَّم. أيها المسلمون، يا من تعيشون في الغرب، كيف تؤثرون على الغرب وأنتم لا تعلمون لغتهم؟ فقد قام الشافعي ببعثة في قبيلة هزيل لكي يتعلم لغتهم، لأنها من أفضل القبائل في تعلم اللغة، واستغرق أربع سنوات ليتعلم الشعر، ويتعلم علم الأنساب، فظل يتعلم حتى حفظ أربعة آلاف بيت شعر، فأجاد اللغة. وأما بالنسبة لنا، فنحن كلما تعلمنا العديد من العلوم وإجادة مهارات زادت المنطقة المشتركة بيننا وبين الآخرين، مثال: أنت تجيد رياضة من الرياضات فتكون سببا في إيجاد مساحة مع شريحة معينة من الناس، أو تجيد الأدب أو المعمار فهذه شريحة أخرى قد أوجدت مساحة معها. أما الشافعي فقد كان معه علوم عدة وهي: القرآن، التجويد، الأحاديث، علم التفسير، علم اللغة، علم الأنساب (أنساب العرب)، الشعر، الرياضة (الرمي بالسهام)، علم الفراسة، علم الحجاز كله (الإمام مالك)، فقد تعلم عشرة علوم، ولكي يتعلمهم سافر عشرة بلاد، فقد تعلم أشياء صنع منها مناطق مشتركة.



القاعدة الثالثة:اندمج في المجتمع ولا تنعزل عنه:

يوجد شريحة من المتدينين تنعزل عن المجتمع، حتى المصطلحات التي تستخدمها ليست مألوفة للناس، وهي مصطلحات جميلة، أي أنه لا يتحدث مع الناس إلا بـ"جزاكم الله خيرًا"، فهي بلا شك كلمة جميلة ولكني أقصد كيف نبسط أسلوبنا وطريقتنا مع الناس ولا ننعزل عنهم؟ وكيف طريقتي في ملبسي، في معاملتي إلخ؟



الشافعي- على سبيل المثال-:

عندما أمضى الشافعي أربع سنوات في الصحراء مع قبيلة هزيل، قالت له أمه: "يا بُني، إنك ستبقى هناك سنوات، وإني أخشى عليك أن تسأم، وإني أوصيك بالرياضة، حتى لا تسأم، وحتى لا تختلف عن أقرانك"، لكي لا ينعزل؛ لأن في هذه الفترة كان الترف شيمة العصر فلكي لا يكون مختلفاً عن بقية أقرانه يقول: "فلما ذهبت كان همي في أمرين: الرمي، وتعلم العلم، فحفظت عشرة آلاف بيت وكنت أجيد الرمي، فأضرب العشرة من عشرة"، فلم ينعزل عن المجتمع. أتصدقون يا إخواني، أن الشافعي قد ألف مائة وأربعين كتابا - كلهم في الدين- إلا واحدا وهو كتاب أسماه (رياضه الرمي) في عام مائة وخمسين هـ، ولأنه مختلط بالمجتمع، حتى إن القرآن الكريم يقول على هذا الغرار: "وََمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه..."(إبراهيم 4)، أي يتحدث بلغتهم وثقافتهم ويعلم كيف يعيشون؟ يا مسلمين، يا من تعيشون في الغرب، لا تنعزلوا عن أهل البلد الذي تعيشون فيه لكي تؤثروا فيه، ولكي يُحتَرَم الإسلام في أوروبا، ولأننا نملك رسالة عالمية. قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ..."(سبأ 28). حرام علينا ألا نقدر على توصيل هذا الكلام للآخرين، ولكن الإعلام الغربي يستطيع أن يؤثر فيهم. إذن، ما الذي فعلناه؟ فقد سافر الإمام الشافعي عشرات البلدان وقضى عمره في الترحال لكي يجمع الناس.



عندما أتى الشافعي إلى مصر، لم يُعَلّم أحداً ولم يبدأ بالفتوى إلا بعدما درس أهل مصر "...بِلِسَانِ قَوْمِه..." لكي يعلم ما الذي يحبه المصريون، فوجد شيئين: الأول: أن المصريين يقدرون سيدة من السيدات لديهم تدعى "السيدة نفيسة" حفيدة الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما)، ومن ثَمَّ ذهب الشافعي يتلقى العلم على يد (السيدة نفيسة)، فأحبه المصريون قبل أن يتكلم. فقد قيل أنه ذهب للسيدة نفيسة وأخذ ورقة وقلماً وقال لها: "أتأذنين لي أن أتعلم على يديك ما لم يبلغني من العلم ؟" الثاني: أنه وجد أن المصريين يحبون التنكيت، كما وجد بهم بعض العيوب، وهي أنهم إذا وجدوا شخصاً ما يصنع أشياء تافهة يستهينون به. فذات مرة – بينما هو جالس في درسه- قال: "سأحكي لكم قصة تعجبوا لها." وبدأ يحكي مزحة "كنت أنا ومجموعة من العلماء قد سمعنا هذه القصة، أنهم وضعوا مائدة في الصحراء، ووضعوا عليها دجاجتين وكنا في غاية الجوع، وجاء وقت صلاة العشاء فقاموا لصلاة العشاء، فجاء ثعلب وخطف دجاجة وفرّ بها، وعندما انتهوا من صلاتهم لم يجدوا إلا دجاجة واحدة، فنظروا بعيدا فإذا بالثعلب يقف بعيدا وفي فمه الدجاجة. فتركها وجرى واختفى، فتركوا المائدة وجروا على الدجاجة، فإذا بها ليفة على شكل دجاجة، فجروا على المائدة، فإذا به قد أخذ الدجاجة الثانية!" فضحك المصريون، فسكت الشافعي ثم قال" يا أهل مصر، لا تستهينوا بأي ثعلب يأخذ منكم دجاجة، كونوا على حذر". أرأيتم كيف تعايش مع أهل مصر - ولم يمكث فيها إلا أربع سنوات سنوات-؟ حتى إنهم يقولون "ما بكت مصر لفراق أحد، قبل الشافعي كما بكت لفراقه"،! وصل مصر وهو في الخمسين ومات وهو في الرابعة والخمسين، في هذه الأربع سنوات، كان قد أهلكه المرض .



قال العلماء: "كان الشافعي يكلمنا بلغة، نقول ما أعظم هذه اللغة، إنها تستعصى علينا، فإذا جلس إلى العامة أو كتب في كتابه، بَسَّط اللغة، فلغة كتبه يفهمها الناس". وبسبب اندماج الشافعي في المجتمع، كان الشباب يحبه كثيرا؛ لأنه كان رياضيا، والشباب الذين كانوا يعيشون قصص الحب كانوا لا يذهبوا إلا إلى الشافعي، لأنه مندمج مع الناس، فقد كسب للإسلام بهذا الاندماج. فقد جاءه أحد شباب مصر الذين كانوا يعيشون قصص حب، ذات مرة، وكتب له رسالة على ورقة يقول فيها:

سَلِ المفتي المكي من آل هاشمٍ إذا اشتد وَجْدُ المرء كيف يصنع ؟

والوجد هو الحب، فعندئذ رد الشافعي عليه ببيت من شعر قال فيه:

يداوي هواه بالتقى ثم يكتم حبه ويصبر حتى يأتي الله بالفرج



فبدأ الشافعي يصنع منطقة مشتركة بينه وبين الشباب المترف، والشباب الرياضي. فقد كان له 140 مؤلفا منه مؤلف عن الرياضة.



القاعدة الرابعة: لا ترفض أي فكرة بشكل مطلق:

إخواني، نحن في بعض الأوقات نرفض فكرة ما ونقول أنها أكيد حرام، ولكن ماذا لو قمنا بتعديلها عشرة في المئة فتكون حلالا؟ انظر إلى الشافعي في تطبيقه لهذه القاعدة، كان هناك مشكلة كبيرة في الدولة العباسية، فقد كان ثمة ثلاثة علوم مرفوضة عند علماء الدين وهم: الشعر، لأن الشعراء كانوا يكتبون عن المجون، وعلماء الدين يقولون إن هذا الشعر حرام، مثل قضايا الفن والتمثيل في عصرنا الحالي، ولذلك كان بين علماء الدين والشعراء خلافات شديدة. فقد اقترح علماء الدين عليهم كتابة الشعر الديني فيرد الشعراء: لا نريد ولا نعرف كيف نكتب شعرا دينيا، فاحتدمت المشكلة فيما بينهم، فجاء الشافعي وأدخل نفسه في المنطقة المشتركة، وذهب إلى قبيلة هزيل وتعلم عشرة آلاف بيت شعر، فبدأ الشعراء يذهبون للشافعي يتعلمون على يديه الشعر، وقواعد اللغة. فقد كان الأصمعي تلميذ الشافعي! وكان أشهر أديب في الدولة العباسية، كان مدرسًا لهارون الرشيد، أي كان هارون الرشيد يسير وبرفقته الأصْمَعَيّ، وكان يقول: "صححت شعر الهزيليين، على يد شاب في مكة يقال له: محمد بن إدريس الشافعي، فتعلمت منه الشعر فكان يعطيني القرآن مع الشعر".



وكان الشافعي يصنع شيئاً آخر لكي يغير وجهة نظر علماء الدين إلى أنه ليس كل الشعر حرام. وكان يستخدم الشعر في تفسير آيات القرآن التي تحمل معاني صعبة، فيستخدم الكلمة في الشعر كشاهد يشرح به معنى الكلمة في الآية.

وفي هذا ما يدل أن للشعر فوائد، بالإضافة إلى ذلك، بدأ يكتب الشعر الاجتماعي حيث صنع مساحة بين الاثنين. واخترع فنًّا جديدا وهو الشعر الاجتماعي، وهو يعتبر أول شخص كتب في هذا النوع من الشعر وهو أيضا شعر أخلاقي، فبدأ الشعراء يقولون: "الذي يعلمنا اللغة يكتب شعرًا مثلنا، إذن، نكتب مثله"، ويقول علماء الدين: "لم نرفض هذا الشعر لأنه ليس حراما".



من أشعار الشافعي:

نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا وما لزمانِنا عيبٌ سوانا

ونهجوا ذا الزمان بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان إذًا هجانا

ويقول:

سافر تجد عِوَضًا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب

إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطِب

والأُسْدُ لولا فِراقِ الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصبِ

ويقول:

يخاطبني السفيه بكل قبحٍ فأكره أن أكون له مجيبا

فيزداد سفاهةً فأزيد حلماً كعود زاده الإحراقُ طيبا

إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت

فــإن كلمته فرجت عنه وإن خلّيته كمدًا يمــوتُ



الشافعي وعلم الأنساب:

كان علم الأنساب أيضا مرفوضا عند علماء الدين؛ لأن الدولة العباسية في هذا الوقت كانت في صراع، فعندما تذكر الأنساب فعندما كان يقول كل رجل: أنا أبي كذا، وجدّي كان كذا، كانوا

يتشاجرون معاً، وتشب بينهم الصراعات. ومن ناحية أخرى كان علماء الأنساب يريدون بشدة التحدث في الأنساب، فاختلفوا مع علماء الدين، فجاء الشافعي، وتحدث في الأنساب التي لا تنبت خلافا، وهي أنساب النساء، حيث يتكلم عن عظمة النساء في تاريخنا، لدرجة أنه - ذات مرة- كان الشافعي جالساً مع ابن هشام - صاحب مجلد "ابن هشام في السيرة النبوية"- وكان رائعا في الأنساب، فقال للشافعي: "حدثني عن الأنساب، يقولون إنك عالم أنساب"، فقال الشافعي: "دع عنك أنساب الرجال، فهذا كل الناس يجيدونه، ولكن تعالى نتكلم في أنساب النساء"، فقال ابن هشام: "تكلم"، فقال: "فلانة العظيمة أبوها كذا وكذا..". ومنذ ذلك الوقت بدأت النساء تحب الشافعي، لأنه كرمهن.



القاعدة الخامسة: لا تظلم مخالفا لك في الرأي فتحوله إلى عدو:

فإذا اختلفت مع زوجتك على سبيل المثال لا تظلمها، لأنك تحول العلاقة بينكما إلى علاقة مستحيلة، ولا تظلم شخصا ما مخالفا لك في الرأي، فتحوله إلى عدو شديد. حين ذهب الشافعي إلى اليمن وجد الزنادقة - وهم مخالفون له في الرأي وعقيدتهم فاسدة وينكرون السّنة- ووجد أنواعا أخرى من المعتزلة، ومن الخوارج، ووجد أن والي اليمن يظلمهم ظلماً شديدا، ويغتصب أراضيهم، لكي يضعفهم، والغريب في ذلك أن الشافعي – وهو إمام من أئمة السّنة- وقف أمام الوالي لكي يدافع عنهم، وقال له: "ما تظن لا يرضاه الله، ألم تسمع قول الله تعالى: "...وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..."(المائدة:8). وعندما ذهب إلى هارون الرشيد قال له: "يا أمير المؤمنين، فعلت ذلك من أجلك"، قال هارون الرشيد: "كيف" ؟، قال الشافعي: "إنك إن ظلمتهم فقدتهم، ولكن عامل بالحسنى وإن اختلفوا في الرأي".



القاعدة السادسة: كن صادق النية في تجميع الناس وإرادة الحق:

أي لا تصنع منطقة مشتركة بينك وبين الناس لكي تتحايل عليهم، ولا لكي تكسب، ولا لكي تأخذ ما تريده، وإنما تعمل هذه المنطقة المشتركة لتجميع الناس، كما في العراق ولبنان. كن صادق النية. اعمل لمصلحة بلدك بنية صادقة.



الشافعي وصدق النية في تجميع الناس وإرادة الحق:

رُقيّ الإمام الشافعي الذي كان يعمل به، لم تتحدث عنه كتب الغرب إلا في المئة سنة الأخيرة، فكل حياة الشافعي محاورات، لأنه كان يجمع أهل العراق على أهل الحجاز، ويذهب إلى أهل العراق يقول لهم: "هل يوجد مثل مالك؟ أفضل كتب الأرض "موطأ" مالك، ويذهب إلى الحجاز ويقول لهم: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة"، فتسأله الناس: "مع من أنت؟" يقول لهم: "أنا مع الحق أدور معه حيث دار". وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الرجل قضى عمرة في المناظرات، فيقول ابنه: "ما رأيت أبي يناقش أحدا قط ويرفع صوته". أرأيتم كم مناقشة؟ وأنت، كم مرة ناقشت زوجتك؟ مديرك في العمل؟ زملائك؟ الذي اختلف معك في الرأي؟ في الدين؟



يقول الشافعي: "ما ناقشت أحدا إلا، ودعوت الله وأنا أناقشه أن يُوَفَّقه، ويُسَدَّده، ويُؤَيَّد من الله". هل يوجد نظرية في الغرب تقول هذا؟ أنتم يا علماء الغرب، تقولون سبب جمود المسلمين فقههم وعلماؤهم، وأنا أحكي لكم عن الفقه الإسلامي والذين شكلوا الفقه الإسلامي، والذي وضع علم أصول الفقه، والذي أسس قواعد التفكير والاستنباط من القرآن. يقول الشافعي: "ما ناقشت أحدا وأحببت أن يُخطِئ". ونحن ننتظر للآخر ذلة. يقول أيضا: "ما ناقشت أحدا إلا على النصيحة". ويقول: "ما ناقشت أحدا بنيّة الغَلَبَة". ويقول: "ما ناقشت أحدا واختلف معي، الحق سيظهر على لساني، أو لسانه".



مناظرة الشافعي وابن حنبل:

كانا يجلسان أمام بعضهما، فقال الإمام أحمد ابن حنبل: تارك الصلاة كافر. - ليس جحودا ولكن الذي يتركها سهوا أو تعمدا-.

فيرد الشافعي: إنه ليس بكافر. ويستطرد الشافعي: يا أحمد، أتقول إنه يكفر؟

فرد أحمد: نعم.

فقال الشافعي: فبما يسلم؟

فقال أحمد: بأن يقول لا إله إلا الله.

فقال الشافعي: فالرجل يقول لا إله إلا الله، فبما يسلم؟

فقال أحمد: يسلم بأن يصلي.

فقال الشافعي: صلاة الكافر لا تقبل.

فسكت أحمد.

فقال الشافعي: يا أحمد، ما أردت أن أغلبك، ولكن أردت الحق.

فيقولون: فإذا بالشافعي يزور أحمد في بيته.

يقول الشافعي: "رأييّ صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". بينما الشافعي يموت قال: "وددت أن ينتشر العلم بين الناس، ولا ينسب إلي".



القاعدة السابعة: إذا أردت التعايش فاحترم الناس:

اختلف الشافعي في مسألةٍ مع شخصٍ يدعى يونس، واختلفا اختلافا شديدا وافترقا، ثم التقيا بعد سنة، فأمسك الشافعي بيده وقال له: "يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نختلف في مسألة ونظل متحابين" ؟ قال أبو موسى: "والله يا شافعي، معك نصف عقل أهل الدنيا"، فعادا متحابين. يا علماء الدين، يا فقهاء، هل يجوز لنا أن نظل متحابين ونحن على خلاف؟



وكان الشافعي، من شدة احترامه للناس، عندما يزور بلدا من البلدان، يزور قبر العالم الكبير لهذه البلدة، مثلاً: عندما أتى مصر زار قبر الليث بن سعد، وعندما زار المدينة زار قبر مالك، وفي العراق زار قبر أبى حنيفة. وعند وفاته قال: "اذهبوا لفلانٍ من المدرسة المالكية يدعو لي"، فيقول على غرار هذا:"ذلك تأليفٌ لقلبي وقلبه".



القاعدة الثامنة: كن مرنا:

وهذا ينطبق على الشافعي؛ لأنه عندما ذهب إلى مصر غَيَّرَ كل الفقه الذي كتبه في العراق ما عدا عشرين مسألة، لأنه وجد طبيعة أهل مصر مختلفة، فمثلاً : في العراق عندما يقول الرجل لزوجته: "أنتِ طالق بالثلاثة" تعد ثلاث طلقات، ولكن عندما أتى مصر وكان مثل ذلك القول شائع فيها، فغَيَّرَها وعدّها طلقة واحدة. وبالأخذ في الاعتبار، فإن الناس القاسية غير المرنة، توجد عندها صعوبة بالغة في التعايش. فقد قال سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) بعدما أذاه أبي سفيان: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". كن مرنا وإن ظُلِمت، ستكسب أكثر دنيا وآخرة.



الشافعي والمرونة:

دليل مرونته أنه غَيَّرَ كتاب "الأم" كله ماعدا عشرين مسألة فيقولون: (قال الشافعي في القديم... قال الشافعي في الجديد).



القاعدة التاسعة: كن إنساناُ:

ذات يوم، ذهبت امرأة للشافعي وقالت له: "كنت أنا وزوجي نحب بعضنا البعض حبًّا جمًّا، فجاءت امرأة وسعت بالنميمة بيننا، وافترقنا، وأنا أبكي ألمًا لفراقه"، فبكى الشافعي، وقال لها: "أتأذنين لي أن آتي فأجمع بينكما"؟



بينما يموت الشافعي أوصى ابنه قائلا: "يا بُني، لا ترفع سعرك، فيردك الله إلى قيمتك. يا بُني، ألا ترى أنه من طأطأ للسقف أظله السقف؟ وأن من رفع رأسه في السقف شجَّه السقف"؟ كان له صديق فقال له:

مرضَ الحبيبُ فعدته فمرضت من حذري عليه

أتى الحبيب يزورني فبرأتُ من نظري إليه



القاعدة العاشرة: التعايش ليس معناه فقْد الهُوِيَّة:

هذه النقطة تضبط انفعالات الشافعي، فهو وإن درس في كل المدارس إلا إنه لم يذب في أي ٍّ منها. فكان تلميذ مالك، ومع ذلك كتب كتابا أسماه "خلاف مالك". يقول الشافعي بينما يموت: "ليس من أحد في الأرض له عليّ أعظم من مالك".

فكانت أول كلمة كتبها في "خلاف مالك": "مالك الذي علمني العلم، لكني اختلف معه من أجل الحق".



هذه هي القواعد، وهذا هو الشافعي العظيم. يارب، تكون هذه القواعد سببا في حقن دمائنا، وجمع شملنا، وتجميع بيوتنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1091

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام