الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهلاً بكم وبرنامجنا "دعوة للتعايش". مازلنا مع الإمام الشافعي مستمرين في الربط بين فكرة التعايش

والأئمة الأربعة والإمام الشافعي، وأنهم يمثلون نماذج لتطبيق التعايش. نحن لا نحكي قصة الإمام الشافعي لنقول للشباب والفتيات: اذهبوا وادرسوا الفقه، فكل علم له متخصصوه، ونحن نريد أن يتفوق كل شخص في مجاله، لكننا ندرس الإمام الشافعي لنقول: انظروا، هذا نموذج للتعايش، هيا لنطبق هذا النموذج على حياتنا.



أنا أعتقد بينما أذكر أن الإمام الشافعي إمام التعايش، وأطلق هذا اللقب على الإمام الشافعي، ودعوني أخبركم أن الإمام الشافعي له الكثير من الألقاب أطلقها عليه علماء كُثُر، ولعل من أشهر هذه الألقاب "ناصر السنة" - اسم جميل جدًّا- لكنني أتمنى أن يفرح بنا الإمام الشافعي عندما نلقاه إن شاء الله يوم القيامة ونحن نتكلم عن العصر الذي نعيشه، وننظر لحياته من زاوية أخرى، من بُعد جديد، بُعد القدرة على التعايش، القدرة على معرفة كيفية عمل منطقة مشتركة بيني وبين كل إنسان.



طوال قراءتي في قصة الإمام الشافعي وأنا أتعجب وأقول: لا يمكن هذا! علماء الإدارة في هذا الوقت والأناس الذين يطرحون كيفية التآلف مع الآخرين لم يصلوا لعبقرية هذا الرجل، وقد ذكرت لكم في الحلقة الماضية أنني سأضع عشر قواعد؛ هذه القواعد العشرة سنقرؤها سوياً، وكل واحد منكم يحضر ورقة وقلماً، ولعلنا نكمل ذلك في حلقتنا اليوم. سنعرض عليكم القواعد العشرة مرة أخرى، لتحضروا ورقة وقلمًا وتكتبوا هذه القواعد العشرة، ليتمكن من لم يشاهد الحلقة السابقة من الاستماع إليها في هذه الحلقة. ستستفيدون من هذه القواعد يا شباب ويا بنات في حياتكم إن شاء الله، هي جهد متواضع لكن إن شاء الله سيكون فيه الفائدة، اكتبوها. بخصوص ماذا هذه القواعد العشرة؟ هي تعلمك كيف تخلق مساحة مشتركة مع أي شخص من بني آدم في هذه الدنيا إن أنت طبقتها. اكتبها وأنا سأحكي وأكمل اليوم قصة حياة الشافعي دون أن أذكر كيف نطبق هذه القواعد العشر عليه؟ سأحكي فقط وأنت عليك أنت تربط هذه القاعدة بذلك الموقف، وتلك القاعدة بذاك الموقف، ثم نأتي في الحلقة المقبلة إن شاء الله لنطبق سويًّا، وتكون أنت قد كتبت، وأنتم قد راسلتمونا على موقعنا، بعد أن يكتب كل واحد منكم كيف طبق حياة الشافعي على هذه القواعد العشر؟ ويرسلها على الموقع، ويتم فرزها، آتي في الحلقة القادمة لأقول لكم تعلمت من رسائلكم كذا وكذا، ونكون بذلك قد أوجدنا مساحة مشتركة فيما بيننا، ونكون قد تعايشنا سويًّا، واستخلصنا من حياة الشافعي كذا وكذا ، ومن لا توجد لديه وسيلة اتصال بالشبكة العنكبوتية فليحتفظ بالورقة ويتابع معنا في الأسبوع القادم.



لنبدأ بالقواعد العشرة، سنذكرها للمرة الثانية في عجالة لنذكركم بها، لأن فيها إفادة إن شاء الله:



القاعدة الأولى: اجتهد حتى تجد المنطقة المشتركة مع الآخر. فكر في الشيء الذي يحبه هذا الشخص؟ يحب الكرة، إذن، أحدثه عن الكرة لأنك عندما تتحدث معه في هذا الموضوع بالتأكيد ستوجد منطقة مشتركة، ماذا تحب فلانة؟ تحب الموضة ولكن لا رغبة لدي في هذا الشأن، بيد أن هنالك أنواع من الموضة تصلح، ماذا لو بحثت عن نوعية من الموضة تناسب كلتينا؟ وهكذا، ترى ماذا يحب فلان؟ يحب شيئًا حرامًا، لا، لا يصلح لأن من التعايش ألا أذوب في الآخر، لمَا لا أبحث عن شيء حلال أو مباح يكون بديلاً عن هذا الحرام؟ وهكذا، أن تجد منطقة مشتركة تدخل من خلالها، هذه هي النقطة الأولى.



القاعدة الثانية: ابحث عن كل علم يساعد على إيجاد منطقة مشتركة مع الآخر. ما هي العلوم التي تساعدك؟ لو أنني متمرس في رياضة كذا، لو أنني ماهر في قيادة الدراجات النارية، لو أنني بارع في كذا لكنت صاحبت فلانا. معنى ذلك أنه يجب علي أن أتعلم هذا العلم وهذه الرياضة،. هو يحب التجول في مواقع الشبكة العنكبوتية وأنا لا خبرة لي في هذا المجال، حسنًا لأتعلم، ابحث عن كل علم. كل هذا ينطبق على الشافعي.



القاعدة الثالثة: اندمج مع المجتمع ولا تختلف أو تنعزل عنه. انتبه، هذه النقطة ستحكمها أكثر نقطة أخرى مهمة جدا في آخر هذه القواعد: لا للذوبان. أنت صاحب فكرة، انتبه، سيتعلم الشافعي على يد جميع الناس ومع ذلك فهو مستقل، ويحترم الناس جميعا وهو مستقل، ويندمج مع الناس جميعا وهو مستقل. هل تستطيع فعل ذلك؟ كأنني أقول في هذه النقطة للمسلمين في الغرب أيضاً نعم للاندماج الإيجابي في المجتمع الغربي مع الاعتزاز والافتخار بالإسلام. لا تعارض البتة بين الأمرين. لما ذهب المسلمون إلى الحبشة، عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وهم قلة مستضعفون، ذهبوا إلى الحبشة واندمجوا في المجتمع، وعرفت الصحابيات أن أهل الحبشة يحبون المصنوعات الجلدية، فأصبحن يصنعنها ويبعنها لأهل الحبشة بأثمان زهيدة؛ حتى يندمجوا في المجتمع ويكسبوا محبتهم، فرجعوا للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة ومعهم سفينتان فيهما أحباش قد أسلموا! إذن، اندمج في المجتمع ولا تختلف أو تنعزل عنه، هذه هي النقطة الثالثة.



القاعدة الرابعة: لا ترفض أي فكرة بشكل مطلق، لاستغرابك إياها أو أنه لم يسبق لك أن سمعتها، فهي بناءً على ذلك مرفوضة، وهي خاطئة ويكتنفها الحرام. فكر قليلا وتريث،. لم لِمَا لا نحاول أن نعدلها قليلا؟ فقد نجد لها مخرجا للحلال. عدل الشافعي في كل ما قيل عنه أنه حرام ليحيله حلالا ويكسب الناس. لا ترفض أي فكرة بشكل مطلق حتى تجد إمكانية الاستفادة منها في منطقة مشتركة.



القاعدة الخامسة: لا تظلم المخالف لك في الرأي فتحوله إلى عدو. فبدلا من التعايش يكون هناك صراع، اسمع الآية: { ........وَ َلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ.........}( الأنفال: 46). أنتم مختلفون! اختلافكم هذا غنى للبشرية. أنا أختلف عنك، وهذه الدولة مختلفة عن تلك، ليحدث التبادل. خلق الله الأرض لِتُعَمَّر، فهدف الخلق إعمار الأرض، فكيف لها أن تُعَمَّر إن كان الكل يفكر بفكرة واحدة؟ اختلافنا ثراء يؤدي إلى غاية خلق البشر (إعمار الأرض). لكن الخطأ أن نتنازع، فعندما تظلم من أمامك من أجل فكرتك فتشوهه، أو تجرحه، أو تشهر به في الصحف فأنت بذلك تحوله إلى عدو، وليس هذا هو الإسلام (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) هذا هو المسلم.



القاعدة السادسة: كن صادق النية في تجميع الناس وإرادة الحق، أي أن تكون نيتك فعلا صادقة في تجميع الناس لا تهدف لتحقيق شهرة أو شيء من ذلك. وأنا أسأل الله تبارك وتعالى أن أكون أنا أيضًا صادقًا وتكون نيتي صادقة، فعلاً، أنا لا أريد بهذا البرنامج سوى أن تجف دماء العراق، ولبنان، ودارفور، أن يعرف شبابنا وبناتنا كيف يتكاتفون في وسط الناس؟ علماء الدين والدعاة، كفى خلافات، تعالوا بنا يا علماء، ويا فقهاء نتكلم في "فقه الائتلاف" فقه نسميه بهذا الاسم "فقه الائتلاف"، كيف نتآلف؟ النقطة: كن صادق النية.



القاعدة السابعة: إذا أردت التعايش، احترم الناس تكسب قلوبهم. احترموا الناس. سترون الشافعي ودرجة احترامه لجميع الناس المخالفين له.



القاعدة الثامنة: كن مرنًا.



القاعدة التاسعة: كن إنسانًا. تعامل كإنسان، أحب الإنسان، أحبوا الإنسان، لأنه مخلوق من الله، أحب الإنسان وكن إنسانًا.



القاعدة العاشرة: التي تحكم التسع نقاط؛ التعايش ليس معناه الذوبان وفقدان الهوية؛ أنا معتز بشخصيتي، أنا فخور بإسلامي.



هذه هي العشر نقاط، لن أطبقها اليوم على الشافعي، أنا اليوم سأحكي القصة: قصة الشافعي، ليس من أجل أن أحكي قصصا فحسب، إنما من أجل التعايش، لأن التعايش غاية كبيرة جدًّا تحتاجها الأمة، والمسلمون يحتاجونها، والغرب يحتاجها، والعالم يحتاجها، لأننا اكتفينا من الصراعات، هذه هي نية وهدف البرنامج، وما الشافعي إلا نموذج للتعايش نعرضه عليكم ونعرفكم عليه.



يبلغ الشافعي من العمر الآن ثلاث عشرة سنة، ويأتي الإمام الليث بن سعد – إمام مصر العظيم – إلى مكة ليلقي الدروس، فيجد طفلا عمره ثلاث عشرة سنة يزاحم الكبار، بيده ورقة وقلم، ويكتب خلف الليث بن سعد، فيسمع الليث بن سعد يقول: إن من أسباب افتراق الناس – لأنه من الواضح أن هنالك أزمة –اختلافهم على اللغة . أي أنه عندما تذكر آية أو حديث يختلف فهم الحديث من بلد لبلد، فهذا هو سر الخلاف بينهم ، لماذا لا تكون أنت يا ليث بن سعد؟ لأنه تقدم في العمر كما أنه يعيش في مصر واللغة الصحيحة ليست موجودة هناك! أين توجد إذن ؟ سيذكر الليث مكان وجودها. يقول الليث بن سعد: فهل من رجل يتعلم اللغة على أصولها ويجمع التفسير والحديث فيجمع الله به هذه الأمة؟ ترن الكلمة مع رسالة الأم في أذن الشافعي، ألهذه الدرجة موضوع التعايش هذا موضوع كبير جدا؟ موضوع جَمْع الناس شيء كبير جدا، لماذا أصبح الخلاف عندنا شيئًا سهلا جدا؟ هناك قاعدة جميلة جدا تقول: "لو أن ألف شخص على وفاق معك وشخصا واحدا بينك وبينه خصومة، اهرع لهذا الواحد لتصلح ما بينك وبينه. هذا الفقه ليس موجودا عندنا؛ فالمحاكم تعج بآلاف القضايا لأن الخلاف بالنسبة للناس أصبح أمرا سهلا جدا. انظر للشافعي، ترن الكلمة في أذنه (لو جمعنا اللغة مع القرآن والحديث نجمع الأمة)، ثم يكمل الليث بن سعد: وهذا غير موجود سوى في قبيلة هذيل. هي من لديها هذا العلم. يرجع الشافعي لأمه يقص عليها ما حدث في حلقة الليث بن سعد فتقول: إذن تذهب إلى هذيل. أول بعثة علمية، ولكنها ليست كاليوم، بعثة علمية في الصحراء، من غير راحة ولا رواتب ولا نقود، سيذهب ليمكث أربع سنين، بعثة لتعلم اللغة العربية. يسافر الشافعي ويترك أمه فيقول لأمه: وأتركك؟ قالت: ستأتيني من حين لآخر ولكن الأمر أعز -هذه الكلمة ضع تحتها خطاً- الأمر أعز مني، تجميع الناس أعز، الرسالة أعز، هذه المرأة نذرته فعلا، عقدت النذر فعلا، تذكرني أم الشافعي، والله، بأم مريم لمّا قالت: {......... إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً......} (آل عمران:35) حرٌّ لك وحدك يارب. يا نساء، هل تفعلن فعل أم الشافعي؟ هل رأيت عظمة نسائنا في التاريخ؟ الغرب الذي يزعم أن الإسلام لم يكرم المرأة، الناس التي تقول بأن الإسلام لم يحترم المرأة، وأن الحجاب هو الذي فعل ما فعل بالمرأة، هل رأيتم المرأة العظيمة المؤمنة كيف ربت الشافعي؟



رحلات الإمام الشافعي لطلب العلم:

يخرج الشافعي متجها لقبيلة هذيل، مكث هناك ما بين سن الرابعة عشرة والثامنة عشرة ثم عاد في سن الثامنة عشرة ومعه القرآن والحديث والتفسير، كما تعلم في هذيل ثلاثة أمور جديدة: عشرة آلاف بيت شعر، وأجاد اللغة العربية فلم يكن يخطئ البتة حتى إن ابن هشام مؤلف السيرة يقول: عاشرت الشافعي عشر سنين فما أخطأ مرة في كلمة في النحو، وتعلم أنساب العرب، أي قبيلة وأي شخص يسأله الشافعي: ما اسمك؟ فكان بمثابة ما يسمى الآن في وقتنا الحاضر مديرية الجوازات، ألا يخرج موظف الجوازات تاريخك وما إلى ذلك؟ الشافعي كان كذلك، مصلحة جوازات متحركة، عنده علم الأنساب كله، تعلم مع ذلك أيضًا الرمي – تعلم الرياضة – فهو يقول: لم يكن همي وأنا في الصحراء في هذيل – فهذيل هذه قبيلة في الصحراء- سوى أمرين:

1- الرمي، فكنت أصيب في العشرة جميعها- لا يخطيء أي سهم فأصبح رياضيًّا متفوقا. انتبه، لأن هذه النقطة ستؤثر في الشباب بشدة، حيث إنهم يتعاملون مع رياضي وفقيه في آن واحد.

2- وفي الوقت ذاته، تعلم عشرة آلاف بيت شعر، وعلم الأنساب ثم سيعود إلى مكة.



يعود إلى مكة فيقول له علماء مكة: أما آن لك أن تفتي؟ فيعود إلى أمه فتقول له كلمتها المشهورة: لا تجلس للفتوى الآن، فإنك إن أفتيت الآن صرت طرفا – أي: ستصبح وسط الصراع الموجود آنذاك – لكن تعلم علم جميع الموجودين، فتكون لديك وقتها على نظرة شمولية تستطيع من خلالها أن توجه كل الموجودين للصواب. فقرر الشافعي أن يذهب ليتتلمذ على يد الإمام مالك، وفعلا يستعد، ويرهن البيت الذي لا يملكان سواه لأنهما لا يملكان نقودا ، ويذهب للإمام مالك. يعيش مع الإمام مالك تسع سنين، منذ أن كان عمره عشرين عاما وحتى التاسعة والعشرين من عمره، فيأخذ كل علم مالك حتى إن قصة طريفة حدثت: ذات مرة، استأذن الشافعي الإمام مالك في أن يذهب إلى العراق ليتعرف على علم أبي حنيفة – وهو المدرسة العكسية لمدرسة مالك – فيأذن له الإمام مالك ويقول له: اذهب تعرف على هذه المدرسة، فقال: ولكن ليس معي مال، قال مالك: أنا أعطيك – سيعطيه المال أيضا!- يخرج الشافعي ويجلس في العراق مابين شهرين إلى ثلاثة أشهر يتعرف على تلميذ أبي حنيفة محمد بن الحسن – وهذا الاسم من الأهمية بمكان – ويعجب محمد بن الحسن بانفتاح الشافعي، حيث إنه أول من قدم عليه. كان تفكير محمد بن الحسن منحصرا في أنه شخص مُعَقَّد قادم من الحجاز، منغلق، إلا أنه وجده منفتحًا جدا فأحبه. انتبه لهذه اللفتة الرقيقة جدا، ما الميزة التي جعلت محمد بن الحسن يحب الشافعي؟ أنه منفتح وقدم من أجل أن يتعرف على العراق، وكانت الصورة عند محمد بن الحسن مغايرة تماما عن أهل الحجاز بسبب بعد المسافة فلم يقابلوا أهل الحجاز من قبل.



رجع الشافعي من العراق وتحدُث حادثة لطيفة: كان الإمام مالك جالسا يعطي درسه، ودخل الشافعي فاستحى أن يسلم على الإمام مالك خشية أن يفسد الدرس أو أن يكون التصرف غير لائق، فجلس مستترا دون أن يشعر به الإمام مالك، فقال مالك: من يجيب عني في المسألة الفلانية؟ فلم يجب أحد، فسأل: من يجيب عني في المسألة الفلانية؟ فلم يعرف أي من الطلبة الإجابة أيضا والشافعي غير موجود، من يجيب عني في المسألة الفلانية؟ فلم يجب أحد، فاستاء الشافعي وصعب عليه أمر مالك، وهو لا يريد أن يتكلم حتى لا يفسد الحلقة، فقال للذي بجواره: قل له الصحيح في المسألة كذا وكذا، فقال الذي بجواره للإمام مالك: الصحيح في المسألة كذا وكذا، فاستغرب مالك إجابة الطالب حيث إنه لم يعهده كذلك، ثم طرح مالك مسألة أخرى، فقال الشافعي للذي بجواره: قل له الإجابة كذا وكذا، فقال له: الإجابة كذا وكذا، فقال له مالك: من أين لك بهذا العلم؟ فقال: من الذي بجواري – ظن الطالب أن إجابة الشافعي خاطئة فاعترف عليه – فرآه مالك، ماذا سيفعل مالك؟ مالك أكبر من الشافعي بسنين طويلة ففارق السن بينهما يقارب أربعين أو خمسين سنة، فقد كان الإمام مالك مُعَمِّرًا، مات عن أربعة وتسعين عاما، فنهض مالك عن كرسيه ونزل ماشيا بين الطلبة حتى وصل إلى الشافعي فعانقه وقال له: آن لك أن تجلس على هذا الكرسي لتفتي مكاني. هل يعقل؟ ما هذا ؟ هذا هو تاريخنا، هذا تاريخنا يا مسلمين، يا من لم تستطيعوا الاتفاق فيما بينكم، هذا هو تاريخنا يا غرب، هذا تاريخنا.



فقال الشافعي: لا يا إمام، حتى أستكمل علم العراق، حتى يكون معه علم المدرستين، ويعلنها له صراحة، أنا ضد الذوبان، لا يعني كوني تلميذك أن أكون جزءا من المدرسة فحسب، أنا سآخذ علم المدرسة الأخرى لأعمل على التوفيق ما بينكما في المدرستين، فقال الإمام مالك: يكون إن شاء الله. لم يقل له: لا مدرستي فقط، أنا الحق وهم على خطأ، لم يقل ذلك، نحن من يقول ذلك، ولكن مالكا لم يقل ذلك. ومات مالك، وقرر الشافعي أن يذهب للعراق، ولكن لا مال معه، فلا حل سوى أن يعمل ليجمع قدرا من المال يعينه في رحلة الطلب، أين سيعمل؟ سيذهب إلى اليمن.



يذهب إلى اليمن ليعمل هناك، ويتعلم في رحلته إلى اليمن علم الشيعة، معه علم مالك ويتعلم الآن علم الشيعة، ويأخذ كل علم الشيعة، على الرغم من اختلافه معهم، ويبين لهم بعد ذلك أنه مختلف معهم في كذا وكذا، ولا يوافقهم الرأي في كذا وكذا، لكن أتعلم علمكم ليتسنى لي أن أجد مجالا للحوار معكم، ولكي أجد منطقة مشتركة بيني وبينكم، فيتعلم علم الشيعة. أنا لا أقول هذا الكلام لأقول للشباب يجب على الكل أن يتعلموا علم الشيعة، أنا أقول هذا الكلام لينظر كل شخص لمن يريد أن يتشارك معه ويتقرب منه، ما المساحة المشتركة التي يمكن إيجادها بينك وبينه، هو رجل مختص بالعلم الشرعي، حسنا أتعلم العلم الشرعي. يدرس علم الشيعة كاملا ثم يجد في اليمن علما جديدا اسمه "علم الفراسة"، فيقول: والله لأنافسه، ولكن بقية العلماء يكرهون هذا العلم، سأدرسه لأعرف ما في الدنيا ولأزيد علما، ويدرس علم الفراسة.



وهو في اليمن تحدث حادثة غريبة، ماذا يحدث؟ الذي يحدث أن والي اليمن من قبل الخلافة العباسية كان يظلم الشيعة ويظلم أصحاب الفكر المنحرف في الدولة الإسلامية أمثال الزنادقة الذين كانوا ينكرون السنة، وأمثال الخوارج وغيرهم ليضرب على أيديهم بيد من حديد، فكان يظلمهم بسلب أراضيهم واستضعافهم ..لخ. فرفض الشافعي هذا الكلام ووقف أمام الوالي ليقول له كلاما شديدا جدا، وعندما كان يتكلم الشافعي لا يستطيع أي والٍ أن يرد عليه لقوة حجته فهو قوي الحجة ومعه كم هائل من العلوم، فقال له: أنا منكم ولكني أخالفكم في ظلم الناس، فوالله إن الظلم سيؤدي إلى مزيد من الكراهية للعباسيين – أي أنهم يحدثون مشكلة أكبر فبظلمهم للناس يزيدون الصراع ولا يحلونه – فأحس الوالي أن هذا الرجل يُعَصِّي عليه الناس، كما أنه اشتاط منه غضبا، فبعث رسالة لهارون الرشيد: عندي رجل هاهنا مع تسعة آخرين من الزنادقة يؤلبون الناس عليك يا أمير المؤمنين، وحتى يكمل حبك خطته، أتى بتسعة من الخارجين الذين يثيرون المشاكل، وبالطبع الشافعي ليس كذلك، فأتى بهؤلاء التسعة وأكمل العشرة بالشافعي، فقال هارون الرشيد: يرسلون إلي مكبلين بالحديد. أين يريد الشافعي؟ العراق، أليس كذلك؟ سيذهب إلى العراق، صحيح أنه مكبل بالحديد ولكن أين تريد أنت في الأصل؟ ولماذا ذهبت إلى اليمن؟ لتجمع المال المطلوب لتذهب للعراق؟.هل جمع المال؟ لم يجمع بعد إذ أن مكوثه في اليمن لم يتجاوز السنتين. كم عمر الشافعي آنذاك؟ عمره اثنان وثلاثون عاما ، ولم يستكمل جمع المال بعد، ولكن الله سينقله إلى العراق.



يصل العشرة، ويبدأ هارون الرشيد باستجوابهم واحدا تلو الآخر فيتأكد أنه خارج فعلا فيقتل، فقتل تسعة أمام الشافعي، يقول: فلم أجد قبل أن أدخل عليه إلا اسم الله اللطيف، أن أدعو الله بهذا الاسم، فأخذت أقول: يا لطيف الطف بي، يا لطيف الطف بي، يا لطيف الطف بي، -بركة الدعاء باسم من أسماء الله الحسنى وقد كنا نقول باسمك نحيا "باسمك نحيا" ونتحدث عن أسماء الله الحسنى الحسنى، فالشافعي سيدخل على هارون الرشيد بهذا الاسم- يقول: فوقفت بين يدي الرشيد، فقال لي: أأنت ألبت الناس علي وقلت كذا وكذا؟

فقلت له: كيف أؤلبهم عليك وأنا ابن عمك؟ - كيف ابن عمه؟ لأن العباسيين يقولون أنهم أعمام النبي - والشافعي قرشي-.

فقال له: من أنت؟

قال: محمد بن إدريس بن شافع بن سائد الشافعي القرشي.

فقال هارون الرشيد: لماذا تؤلب الناس علي؟

قال: يا أمير المؤمنين، فعلت ذلك خوفا عليك لا حقدًا عليك.

قال: كيف؟

قال: يا أمير المؤمنين، الظلم يزيد الناس كراهية والعدل يزيد الناس إنصافا.

جملة نحتاجها في وقتنا اليوم، الظلم، الاحتلال، كل هذا لن يؤدي إلى تعايش، الظلم لا يمكن أن يأتي بتعايش،. الظلم يولد الظلم. انظر إلى القاعدة التي قالها الشافعي لهارون الرشيد. انظر لرؤية الشافعي: وإنني مختلف معهم وأرفض ما يقولون ولكننا بذلك نزيد الصراع يا أمير المؤمنين.

فقال هارون الرشيد: إن لك عقلا لكن من يدريني بأنك صادق؟ فنظر الشافعي – وانظر بركة اسم الله اللطيف – إلى جانب هارون الرشيد فإذا بمحمد بن الحسن جالسا إلى جواره - وهذه هي ميزة السفر والتعايش، فقد تَعَرَّف على محمد بن الحسن لمّا استأذن مالكا ليذهب للعراق لاستطلاع مدرسة العراق، فقابل تلميذ أبي حنيفة محمد بن الحسن. وجد الشافعي محمد بن الحسن في مجلس الرشيد. لو كنت أنت مكان محمد بن الحسن، ودخل شخص من مدرسة أخرى بينك وبينها صراع، وهذا الشخص حياته مهددة والكلمة والحكم الأخير بيدك؛ إذ أن الشافعي لمّا رأى محمد بن الحسن قال لهارون الرشيد: واسأل العالم، -أي اسأل محمد بن الحسن- اسأله عني.

فقال هارون الرشيد لمحمد بن الحسن: أتعرفه؟ هنا يظهر التعايش. هناك أناس ينظرون إلى أنها فرصة للتخلص من المخالف، فضلا عن أنه من الواضح أنه سيظهر ويلمع، إضافة إلا أنه سيأتي للعيش في العراق فسيشكل منافسا قد يصرف عني الأضواء، هناك أناس يفكرون هكذا، لكن التعايش ليس هكذا، الاحترام ليس هكذا، الحق ليس هكذا.

فقال محمد بن الحسن: يا أمير المؤمنين هذا الرجل ثقة، هذا الرجل سيكون عالم الأرض.

فقال هارون الرشيد: أعلم منك؟ - سيكون أعلم منك؟-.

قال: نعم، ياللإنصاف! أرأيتم تاريخنا؟

فقال هارون الرشيد: إذن، خذ خمسين ألف دينارا، أنفق بهم على حياتك. كان الشافعي يقول: يا لطيف الطف بي. فاللطيف سبحانه وتعالى أتى به إلى العراق؛ لأنه كان يريد الذهاب إلى العراق، وفوق ذلك خمسون ألف دينارا يصرف بها أمور معيشته في العراق، فأرسل لأمه كي تأتي لتعيش معه في العراق، وتزوج، وبنى بيتا، ورزق بطفلين، وعاش في العراق لمدة سنتين، منذ كان عمره أربعة وثلاثين عاما وحتى السادسة والثلاثين من عمره. تعلم كل علم أبي حنيفة على يد محمد بن الحسن، وتتلمذ على يده كما تتلمذ على يد الإمام مالك. بعد هاتين السنتين، كم معك من العلوم يا شافعي؟ معه علم المدرستين. كم بلدا سافر إليها؟ سافر إلى مكة، والمدينة، واليمن، والعراق. كم علم معك؟ معه قرآن وحديث وتفسير ومعه علم أنساب. أرأيتم كم معه من العلوم؟ ومعه شعر وعلم فراسة، ومعه علم الشيعة وعلم مالك وعلم أبي حنيفة. هو الآن مجمع، الآن يستطيع أن ينظر نظرة شاملة على الفقه فيستطيع أن يجمع بين المدرستين، أي مدرستين؟ مدرسة العراق التي ترى الأخذ بالأحاديث الضعيفة، وتؤمن بإمكانية التوسعة قدر المستطاع في طريقة فهم الحديث، وإدخال آراء العلماء فيه بشكل مختلف، ومدرسة الحجاز – مدرسة مالك- التي ترى الأخذ بالحديث دون اللجوء إلى توسعة فهم الحديث بل يترك فهم الحديث على ما هو عليه. المدرستان مختلفتان، وهو الآن معه علم كليهما. ماذا سيفعل؟ سيهاجر مرة أخرى. إلى أين؟ إلى مكة فقد استكمل علم المدرستين.



يجلس الشافعي أول مرة للإفتاء، ونذكر أنها قد عرضت عليه مرتين من قبل، أولاهما عندما كان عمره ثمانية عشر عاما في مكة، والأخرى على يد مالك، كلاهما عرض عليه الفتوى ورفض حتى يستكمل علم المدرستين، ونصحته أمه بأن لا يفتي آنذاك حتى يكمل العلم. أما الآن فبحوزته كل العلم، فيتجه إلى أين؟ إلى مكة. وأين سيجلس؟ عند بئر زمزم. وما ميزة اختيار المكان بالقرب من بئر زمزم؟ وما وجه افتراقه عن غيره؟ أن هذا المكان لم يجلس فيه للفتوى سوى شخص واحد فقط، عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وهو الذي احتضنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم فقهه. لم يجرؤ أحد على الجلوس في ذلك المكان بعد عبد الله بن عباس غير الشافعي. جلس هناك الشافعي، وكان كل يوم وقبل أن يبدأ درسه يشرب من ماء زمزم ويقول: شربنا زمزم قديما لتعلم العلم فتعلمناه، ولو كنا شربناها للتقوى لكان خيرا لنا. ويبقى الإمام الشافعي في مكة تسع سنين، منذ أن كان عمره ستة وثلاثين عاما حتى أصبح عمره خمسة وأربعين عاما، في خلال الأعوام التسعة، ألف كتاب "الرسالة"، إلى جانب الفتوى وتجمع الآلاف حوله طبعا. ويتحول إلى أشهر شخصية في العالم العربي بأسره، حتى قيل إنه سبق هارون الرشيد في حب الناس له، شخصية مشهورة غير اعتيادية. تسعة أعوام يفتي - عاما تلو العام- بالقرب من الكعبة. وفي الأعوام التسعة يجمع كل ما استقاه من السنين التي مضت في أول كتاب يؤلفه وهو كتاب "الرسالة".



كتاب الرسالة:

ما هو كتاب "الرسالة" هذا؟ هو كتاب جمع فيه علم أصول الفقه. ما علم أصول الفقه؟ تكلمنا عنه في حلقة سابقة بأنه قواعد محددة مرقمة مرتبة، لكيفية استنباط الأحكام من القرآن والسنة. ألف هذا الكلام ووضعه في كتابه "الرسالة"،. وقد كان هذا العلم جديدا في ذلك الحين، وهو عبارة عن قواعد واستنباط وقوانين، كيف تستنبط حكما ما من القرآن والسنة؟، علم جديد على الناس تماما، لدرجة أن إمام المحدثين في العراق كان ينظر في الكتاب ويقول: لو كان أصغر لنفهم، تخيلوا! إمام المحدثين، فالعلم جديد، فيقول لو أن الشافعي أوجز حتى نستطيع أن نفهم جيدا، حتى إن المزني – وهو إمام من أئمة المحدثين في الحجاز يقول: قرأت "الرسالة" مائة مرة، ووالله في كل مرة أقرأه أستفيد شيئا جديدا، وأقول هذا لا يُشبَع منه، لأن الفقه فيما قبل لم يكن يدلك بقواعد على كيفية الاستنباط من القرآن والسنة، فالشافعي وضع نقاطا مرتبة:

· أولا: ننظر مقاصد الشريعة.

· ثانيًا: قواعد اللغة العربية.

· ثم نجمع كل الآيات القرآنية الخاصة بهذا الموضوع.

· بعد ذلك نجمع كل الأحاديث الواردة في هذا الموضوع.

· نرى إجماع الصحابة.

· نرجع إلى القياس.

وهكذا، وبهذا الترتيب وهذه الطريقة، تطبق الخطوات خطوة خطوة، حتى تصل في النهاية للحكم على القرآن والسنة، فهذه الطريقة المتبعة في كتابه "الرسالة" أصبحت منهجا للعلوم الأخرى وبمثابة منهج التفكير، فيعتبر الشافعي أنه وضع منهجا وطريقة تفكير واخترع علمًا جديدًا في كيفية استنباط القواعد، فبدأت العلوم الأخرى تخطوا خطى الشافعي وتنهج نهجه. فحصلت بذلك نهضة شاملة في جميع بلاد المسلمين بسبب طريقة الشافعي. فخرج جابر بن حيان، والحسن بن الهيثم يأخذان منه، والمدرستان يقول أحمد بن حنبل: مازلنا نلعن أصحاب مدرسة العراق ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا.



أَلَّف كتاب "الرسالة" ومكث في مكة تسع سنين، قرر بعدها أنه قد آن أوان العودة للعراق، لماذا ثانية؟ لأنه عندما ألف "الرسالة" والذي جمع فيه، بين المدرستين كان في مكة، فمن المفترض أن يسمعه أهل العراق أيضا، وفعلا رجع إلى العراق وبقي هناك سنتين حتى بلغ الخمسين من عمره، وفي هذه الفترة كان بمثابة حمامة السلام، كيف ذلك؟ كان يجلس في العراق مدة ثم يعود إلى مكة، فيقول لهم: إن أهل العراق يقولون عنكم كلاما جميلا، يقولون عنكم كذا وكذا، وأن أبا حنيفة يقول عن مالك كذا وكذا، ثم يعود إلى العراق فيقول لهم الكلام الآخر، ويدرسهم "الرسالة"، ويقول هل رأيتم مدى التقارب بينكم وبين أهل الحجاز؟ ويرجع إلى أولئك ويعلمهم "الرسالة"، ويوضح لهم مدى تقاربهم مع أهل العراق وأنهم يكملون بعضهم بعضًا، وهم كذلك فعلا. ويظل يتحرك بين البلدين بهذه الطريقة حتى يبلغ خمسين عاما. بعد أن أتم الخمسين نظر مرة إلى تلميذه الربيع وقال: ماذا بقي يا ربيع؟ - ماذا تبقى لنا لنجمعه؟ انتبه، هذه الكلمة جد خطيرة - فقال: بقي مصر والهند، فقال: نبدأ بمصر إن شاء الله لعل الله يجمعهم إلينا.



هل تذكرون قواعد التعايش العشرة التي تحدثنا عنها؟ ويا ترى وأنا أقص عليكم قصة الشافعي هل استطعت تجميع النقاط ونسب الموقف للقاعدة التي ينطبق عليها؟ في الحلقة القادمة إن شاء الله سنطبق، وسأنتظر أن تراسلونني على الموقع لتقولوا أنكم استفدتم كذا وكذا من قواعد الشافعي في التعايش، ونقول طبق الشافعي هذه وهذه وتلك، وسيكون هذا مدار حلقتنا القادمة بأكملها، ودعونا الآن نكمل.



ذكرت لكم أنه مكث في مكة تسع سنين، ثم سنتين في العراق، وألف مائة وأربعين كتابا، تخيلوا! مائة وأربعين كتابا، صحيح أنها ليست كتبا كبيرة، ولكن مائة وأربعون كتابا هي ثمرة السنين الماضية بدأت تظهر وتتجمع في كتب.

كتاب الأم:

ألف كتابًا كبيرًا جدًّا أسماه كتاب "الأم"، هو بالطبع يقصد الأم في جميع الأمور، لكن هل له ظلال بالأم، وهل كتاب "الرسالة" له ظلال بالرسالة؟ أنا لا أعرف ولكنها لمحة لطيفة؛ فمعنى كلمة الرسالة أنه صاحب رسالة في تجميع الناس عندما قالت له أمه قديمًا: لعل الله يجمع بك الناس. واليوم يؤلف كتاب "الأم"، وهوعبارة عن ماذا؟ هو تطبيق لقواعد كتاب "الرسالة". كتاب "الرسالة" يحوي قواعد لكيفية الاستنباط من الكتاب والسنة، طبق هذه القواعد في كتاب وضع فيه كل أنواع الفقه: فقه العبادات، والزواج، والطلاق، والبيع، والشراء.. الخ، كتاب "الأم"، هناك علماء كثر بارعون في وضع القواعد ولكن لا يعرفون كيفية تطبيق هذه القواعد، ليس مجالهم، لكن عبقرية الشافعي تكمن في أنه وضع القواعد وطبقها، فألف كتاب "الأم" في العراق.



عندما وصل إلى مصر قالوا له: تبدأ بالفتوى. قال: لا حتى أدرس أهل مصر. وينزل في مصر ضيفًا على ابن عبد الحكم، وابن عبد الحكم هذا هو أحد أصحاب مالك – من المالكية- وعلى الرغم من ذلك ينزل ضيفا عليه، أرأيت مدى التآلف؟ ويبدأ درس أهل مصر في جامع عمرو بن العاص، واشتهر في ذاك الوقت شهرة غير اعتيادية، لأنه الوحيد الذي تكلم في مساجد كبرى في العالم الإسلامي؛ الحرم المكي، ومسجد عمرو بن العاص في مصر، والمسجد الجامع في بغداد. هو الوحيد الذي عقد حلقات لأنه عاش في الثلاث دول، وهو الذي طاف بالعالم الإسلامي كله، وكان بمثابة حمامة السلام في العالم الإسلامي ككل، فعقد حلقات في الثلاث دول، واشتهر كتابه "الرسالة" في شتى البلدان وأصبح ينسخ حتى بالأيدي، ويوزعه الناس فيما بينهم فهوعلم جديد يقرأه العلماء. والغريب أنه ألفه بلغة سهلة ليفهمه العوام، على الرغم من أن لغته العربية تصعب حتى على العلماء، ولكنه ألفه بلغة سهلة.



ظل الشافعي يفعل ذلك في مصر ثم اتخذ قرارًا في منتهى الخطورة، - ألم يؤلف كتاب "الأم" الذي جمع فيه فقهه؟- فقد قرر أن يعيد كتابة كتاب "الأم" من جديد ويغير المذهب بالكامل! فيقال: قال الشافعي في القديم – أي في العراق- ويقال: قال الشافعي في الجديد – أي في مصر- ما هذا؟ غير الفقه بالكامل! لم يترك سوى عشرين مسألة، وغير جميع ما تبقى. كيف؟ ولماذا؟ لأنه وجد أن البيئة في مصر مغايرة للبيئة في العراق، فالناس في مصر غير الناس في العراق، ودعوني أضرب لكم مثلا فكاهيا: فقد أفتى في العراق أن من قال لامرأته أنت طالق ثلاثًا تُطلق ثلاثا، فلما قدم مصر وجد أنه لو أفتى بالفتوى ذاتها لطلقت جميع النساء وانهار المجتمع، فغير فقهه تبعا لذلك، هل تتخيل ما الذي فعله؟ أفتى بأنه لو قال لها أنت طالق ثلاثاً تعتبر طلقة واحدة، ما هذا؟ ما هذه المرونة؟ يغير فقهه، ويغامر بتاريخه، افهموا رجاءً، غيّر الكتاب بالكامل، فقال: ذكرت في الكتاب كذا والرأي الجديد كذا، يتبادر إلى الذهن فورًا: ألم يخشى ما سيقوله عنه الناس؟ ألا يخشى من أنه قد غامر بمستقبله وجميع ماضيه؟ ألهذه الدرجة أكبر مكانة الحق؟ ألهذه الدرجة صادق النية؟ المرونة لهذه الدرجة؟ أن يغير كل الفقه؟ نعم غير كل الفقه، ما عدا عشرين مسألة ظلت ثابتة بين الاثنين. ألم يعترض الناس ويحتجوا على أنه أفسد عليهم عباداتهم في السنين الخالية؟ لا، عَلِمَ الناس {.....وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ....} ( البقرة:143). الناس أيضًا لديهم مرونة، وتقبل المجتمع، ولم تقم ثورة فكرية على الشافعي. ما هذا المجتمع؟ وما هؤلاء الناس؟ أنا لا أستطيع أن أترك هذه النقطة هكذا، قال الشافعي في القديم وقال الشافعي في الجديد والجميع تقبل الكلام، فقد كانت لديه الجرأة لقول هذا الكلام، ما هذا الرجل؟ ما هذا المعلم؟ ويبقى في مصر أربع سنين، وبدأ يداهمه مرض في مصر يشبه البواسير فينزف ولا يستطيع القيام، ومع ذلك يبدأ درسه في جامع عمرو بن العاص بعد صلاة الفجر.



انظر كيفية تقسيم الدرس: بعد صلاة الفجر - ولمدة ساعة - يدخل من يريد تعلم اللغة، آلاف، وعلماء، ثم يخرجون. بعد ذلك بساعتين، يدخل من يريدون الحديث، ثم يخرجون. عند شروق الشمس طلبة الفقه، يخرجون. وقت الضحى، طلبة التفسير، ثم يخرجون. بعدهم الذين أتوا لدراسة الشعر، اللغة، الأنساب، جميع العلوم التي عنده يدرسها في جامع عمرو بن العاص من صلاة الفجر لما بعد صلاة الظهر، ثم يعود للتأليف من بعد العصر إلى المغرب. ما هذا الرجل؟ ما هذه الموسوعة؟ ما هذا المخترع الذي اخترع علم أصول الفقه والذي جمع الأمة؟ وجمع الله به الناس في مصر؟



انظر، هذا هو الشافعي. توفيت أمه عندما كان عمره خمسين عاما عند مقدمه لمصر، وكأنها توفيت بعد أن أتم العلم. عندما أصبح عمره أربعة وخمسين عامًا، كان قد فقد القدرة على القيام من شدة الإعياء والمرض، فكان يقول: أتمنى لو ذهبت إلى الهند. حتى يكمل بقية الرسالة ويجمعهم، ما هذا الرجل؟ يقول أحد العلماء الكبار: لو كتب للشافعي أن يزور الهند لفرضتُ علمه على الأرض، ولكن الله يأبى إلا أن يبقى الخلاف في الأمة من أجل مصلحة الأمة. ما أجمل هذا الكلام! لن تأخذ الهند يا شافعي لأن الاختلاف في الرأي سنة، سنة كونية أن نختلف في بعض الآراء. هذه هي حياة الشافعي. هذه هي القصة، لكن دعونا نحكي وفاة الشافعي، واللحظات الأخيرة قبل وفاته.



وفاة الإمام الشافعي:

قبل وفاته بسنة طلب طلبًا غريبًا جدًّا، قال لتلميذه ربيع: أريد أن أذهب إلى الأسكندرية.

قال: لمَ؟

قال: لأرابط في سبيل الله، على ثغور المسلمين أمام الرومان.

قال: لمَ؟ -أي: فما شأنك بذلك؟

قال: بذلت في العلم الكثير، وجاهدت بالعلم الكثير، وأحب أن أجاهد في آخر حياتي بالرباط في سبيل الله. فيذهب للأسكندرية، يقول: يقف أمام البحر كالجندي يقرأ القرآن، فلربما قرأ القرآن في ليلته وهو مرابط إلى اليوم التالي واقفًا، يريد أخذ ثواب الرباط في سبيل الله بأنه واقف في سبيل الله، وأنت طوال عمرك في سبيل الله يا شافعي.

قبل الوفاة بأيام -يقول ربيع-: رأيت في المنام – قبل وفاة الشافعي بأسبوع- أن آدم عليه السلام يموت، فسألت عن تفسيرها، فقيل لي: سيموت أعلم أهل الأرض. فقلت: ولمَ؟ ما علاقة موت أعلم أهل الأرض بآدم عليه السلام؟ فقال لي مفسر الأحلام: لأن الله يقول: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا....} (البقرة:31)، فموت آدم في الحلم، هو موت لأعلم أهل الأرض، يقول: فقلت لنفسي سيموت الشافعي، لأنه لا يعلم أن أحدًا في الأرض أعلم منه.



في الحقيقة قبل موت الشافعي بيومين قال بيت شعر جميل جدًّا، يقول فيه:

متعب العيش مرتحلا من بلدٍ إلى بلد والموت يطلبني في هذا البلد



يذكر أنه تعب كثيرا، وتنقل بين البلدان، ولكنه سيموت في هذا البلد. في الليالي الأخيرة قبل موت الشافعي، دخل عليه ربيع فقال له: كيف تجدك؟

فقال: أجدني ضعيفاً.

فقال له ربيع: قوى الله ضعفك.

فنظر الشافعي إلى ربيع فوجده يبكي، فصَعِبَ عليه أمره، هو يموت الآن والربيع يبكي، فأراد أن يضحكه ويذكر له طرفة، فقال له: أتدعو علي يا ربيع؟

قال: كيف يا شافعي؟

قال: تقول: قوى الله ضعفي! إذا قوى ضعفي مت يا ربيع.

فقال ربيع: والله يا إمام لا أدري أأبتسم لكلمتك أم أبكي؟

فقال لي: - هذا يوم الوفاة- اقرأ علي القرآن يا ربيع.

فقلت: ماذا أقرأ عليك؟

فقال: اقرأ علي قول الله تبارك وتعالى: { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا.... } ( آل عمران:193) يقول فأخذت أقرأ وهو يبكي، وتنهمر الدموع من عينيه، وكأنه يقصد نفسه بهذه الآيات، {....رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ{193} رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ{194} فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ.....} يقول: فسمعت له شهيقا من شدة البكاء عند قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى....} أنت وأمك إن شاء الله {....بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ....} ( آل عمران: 193-195) يقول: فعلا نحيبه وابتسامته، ثم قال لي: يا ربيع اذهب إلى فلان المالكي – من مذهب مالك- فقل له: يقول لك الشافعي ادع له، سبحان الله! يعمل على تجميع الناس وتأليفهم حتى وهو يموت!

يقول: فقلت له: بعد قليل.

فقال: اذهب الآن فهو أطيب لقلبه وقلبي- هذا أجمل لقلبي وقلبه قبل موتي! هل تستطيع أن تفكر هكذا-؟ ألم أقل لكم أن التعايش ما هو إلا طريقة تفكير، كيف تجمع الناس؟ كيف تؤلف قلوبهم؟

يقول: فقلنا له - وكان في النزع الأخير عند المغرب- نخرج ونتركك؟

فقال: لا حتى تشهدوا خروج روحي، وكان آخر شيء قاله أبيات من الشعر – كان يحب الشعر جدا - قال:

ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سُلَّماً

أي: عندما كثرت ذنوبي، جعلت رجائي سُلَّماً أصل به لعفوك.

تعاظمت ذنوبي فلمـا قارنتهـا بعفوك كـان عفـوك أعظمـا

فمـا زلتَ ذا عفـو عن الذنب تجـود و تغفـر منة وتكرمـا

يقولون: فقال هذه الأبيات عن عفو الله ثم فاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه. مات الشافعي. يقولون: فلما دفناه ليلا نظرنا فإذا ليلة النصف من شعبان، وقبره معروف في مصر إلى الآن.

أنهيت قصة الشافعي. يقولون: ما رأينا أهل مصر يبكون أحدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم من العظماء كهذا البكاء! فحزنت مصر جميعها، بل حزن العالم الإسلامي بأكمله. رجل جمع الأمة، جمع الناس قدر استطاعته، بذل الكثير، حتى المخالفين له احترموه.



أقول لكم هناك عشر قواعد، هذه القواعد العشرة للتعايش. هذه القواعد ذكرتها في قصة الشافعي. الحلقة القادمة حلقة لطيفة، سنأخذ قاعدة قاعدة ونقول: من يستخرج من قصة الشافعي أين طبق هذه القاعدة؟ ولا أخفي عليكم أنني تركت بعض القصص التي طبق فيها الشافعي بعض القواعد بوضوح شديد، تركتها عمدا لتصبح الحلقة القادمة أقوى في توضيح العلاقة بين الشافعي العظيم وحياته، وبين القواعد العشرة،. تعالوا بنا في الحلقة القادمة نجعلها حلقة نرى فيها التعايش من خلال تطبيق الشافعي.



أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا، ويعيننا على التآلف، وأن يحقن دماءنا في العراق وفي دارفور ولبنان، ويحفظ بلادنا، ويؤلف بين قلوبنا، ويعيننا على تعلم مهارة فن استيعاب الناس وإيجاد المنطقة المشتركة بينك وبين الناس.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1087

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام