الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين..

قبل أن نتحدث عن الإمام الشافعي، أريد أن أحدثكم عن حلاوة التعايش في الإسلام، فإذا سألنا أنفسنا ما هو أول درس علمه الله للبشرية في الكون؟ ماحدث لابني آدم، أم واحدة، وأب واحد، ودين واحد، وما زالت الحياة في مبتدئها واختلفا، وبلغ بهما الخلاف مبلغ أن يقول أحدهما "...لَأَقْتُلَنَّكَ..." (المائدة:27)، فيرد الآخر "لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ..." (المائدة:29)، ويكأن الله قائل لنا: بأن أول ما يجب علينا أن نتعلمه هو التعايش، نتعايش لأننا سننشئ العديد من الأمم، فننظر إلى أول الآية "...فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَر..." (المائدة: 27)، برغم كونهما أخيّن لكن القرآن قال: الآخر، لأنهما مختلفان، ومن هذه الآية جاءت كلمة التعايش مع الآخر، فأنا لم أختر هذه الكلمة بل قالها الله في هذه الآية، وهذا كان أول درس في البشرية وهو التعايش مع الآخر.



ولننظر إلى الآية العظيمة "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..." (الحجرات:13)، ويكأن الآية قائلة: إن سر أننا خلقنا شعوباً وخلقنا قبائل لنتعارف، والتعارف كلمة واسعة يدخل فيها التفاهم والتعارف والتبادل، هي كلمة واسعة في اللغة، تشمل مثلاً: تبادل المنافع الاقتصادية، الثقافة، الفنون المعمارية...إلخ، ليحدث ثراء في كل الأرض.



انظروا إلى وضوح وقوة هذه الآية،هذا هو القرآن، وأتحدى أن تأتوا بدستور من دساتير العالم ينص: إن من أهداف وجود هذا الشعب أن يتعرف على الشعوب الأخرى، أو أنه مطلوب من الناس التعرف على بعضهم بعضا، مطلوب أن تفهموا بعض الناس، وأن تقبلوا بعض الناس، وتتفاهموا وتتبادلوا. ثم نجد العديد من الآيات والأحاديث تدلل على هذه الآية، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها"، فلنبحث عن الحكمة، نبحث عما يفيد، ولننظر إلى كلمة تعارفوا، وهي تحمل دعوة: لا تنعزلوا وتنطووا على أنفسكم، لا تباغضوا ولا تقاتلوا.



ليس هذه فقط، بل يحدثك الإسلام عن الاختلاف-الاختلاف باعتباره سنة كونية، أي أن هذه هي حكمة ربنا في الكون، لأننا لو أصبحنا شيئاً واحداً ما استفاد أحد من الآخر، لذلك يقول تعالى "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين" (هود :118)، ثم تستكمل الآية قائلة "إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ..." (هود:119)، فبم الرحمة؟ ألا يؤدي هذا الخلاف إلى صراع وقتل، بل يؤدى إلى تعاون وتراحم، فمن رحمة ربك أن يجعل اختلاف من يرحمهم يؤول إلى ثراء وإلى غنى، وتستكمل الآية قائلة "...وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..." (هود:119)، إذاً فالهدف من الاختلاف أن يتعاونوا فيستفيدوا من بعضهم بعضا. ينظرالناس إلى الاختلاف باعتباره سبب رفض، لكن الآية تقول: إن هذا جمال، فمن منا ينظر للاختلاف باعتباره جمالاً؟! "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ..." (الروم:22)، اختلاف اللغات والأجناس آية من آيات الله لأنها مفيدة، يمن الله علينا بهذا الاختلاف، فلننظر إلى هذا المثال في كيف يكون الاختلاف ثراء حتى تغير طريقة تفكيرك، فاختلاف الرجل وزوجه هو ثراء للأبناء، واختلاف المذاهب الإسلامية ثراء للأمة. فلننظر إلى الألوان، ما هو أصلها؟ ثلاثة ألوان: أزرق، أحمر، أصفر، فلنتخيل لو انعزل كل لون على حدة، كيف تكون الحياة؟ فقيرة! تصور لو لم يصلح اندماجهم مع بعض وظل كلُ منها مستقلاً بذاته، اختلاط الألوان ببعض أنتج عدداً لا نهائياً من الألوان. وبالمثل الأفكار، فكرتي مع فكرتك لا تنتج فكرة ثالثة بل تنتج عدداً لا نهائياً من الأفكار، ولتتأكد جرب هذه التجربة، قف أمام المرآة وانظر، كم مرة تجد نفسك فيها؟ واحدة، أما لو وقفت بين مرآتين فكم يصير عددك؟ عدداً لا نهائياً.



ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن اختلافنا عن بعضنا بعضاً إنما هو ليكمل بعضنا بعضاً، فيضرب في ذلك مثلين أحدهما هندسي والآخر طبي، أولهما: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا..." ثم شبّك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، فالمواد المختلفة في البنيان تشد بعضها بعضاً، أما المثل الثاني: فقوله عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، والجسد أعضاء مختلفة، ولها مهام مختلفة ووظائف مختلفة، لكن بينها تواصلاً، فلو كانت كلها عضواً واحداً؛ مثلاً كلها عين، ما كان هناك إنسان، لكن كونها مختلفة و يعملون معاً فيحدث التواصل، والتواصل في عالم الطب بالمفاصل والأعصاب، وفي عالم البناء بالمونة، وفي عالم الإنسان بالأفكار.. بالحوار وبالتعايش.



الإمام الشافعي إمام التعايش:

دعونا نطبق كل ما قيل على الإمام الشافعي، أنا أقول: إن الإمام الشافعي إمام التعايش، هذا ليس ما كتب في الكتب، لكن من أعاد قراءة حياته وفكره يذهل، أتعرفون ما هو عمل هذا الرجل الأساسي؟ جمّع الناس، فقد تواجد هذا الرجل في عصر تنذر فيه الدنيا بكارثة من الصراع الفكري، لم يكن صراعاً ماديا،ً ولو ترك لتحول إلى صراع كما هو الحال في العراق اليوم وغيرها.



مات الشافعي صغيراً، في الرابعة والخمسين من عمره، في تلك السنوات شارك في إنقاذ الأمة؛ أو على وجه الدقة قلل فجوة الصراع، عمل على تضييق دائرة الاختلاف وتوسيع دائرة الاتفاق، هو لم يفكر إلا بهذه الطريقة: كيف أجمع الناس؟.



علمته أمه... أنت تستطيع أن تجمع الناس:

نلاحظ أن ثلاثة من الأئمة الأربعة كانت أمهاتهم هي سبب ما أصبحوا عليه، وهذا الكلام لكل سيدة، لكل أم، كيف تأخذين بيد ابنك وتتفاهمين معه، وتسوسينه خطوة بعد خطوة ليكون عظيماً، فالشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وراءهم أمهاتهم، أليس هذا تعايش؟ أم الشافعي زرعت فيه هذا الهدف، كانت تقول له: أنت تستطيع أن تجمع الناس، و هذا هو دورك في الحياة، وهكذا عاش الشافعي بهذه الفكرة، بأن دوره هو تجميع الناس.



ماذا قال فيه أهل زمانه:

كان ابن حنبل برغم تلمذته على يد الشافعي قريناً له، وعادة القرناء في نفس المجال أن تنشأ بينهم روح المنافسة، وبرغم ذلك يقول أحمد بن حنبل في الشافعي: "إنني أبيت أربعين سنة أدعو للشافعي مع أبي وأمي" فسأله ولده: "لم تدعو له كل هذا الدعاء؟" قال: "يا بني، كان الشافعي للناس مثل الشمس للدنيا، ومثل العافية للبدن، فهل ترى عنهما من عوض؟ جمع الله به الناس". فأنا اليوم فخور بأنني أحيي قصة شاب عاش حياته كلها لتجميع الناس، ليت العراق وغيرها يستمعون، ويخرج من بينهم شافعيون، لا في المذهب الفقهي بل في روح البناء وجمع الشمل.

ويقول أحمد بن حنبل: "ما في إنسان يعيش في هذا الزمان أو الزمن القادم في يده محبرة وقلم إلا وفي رقبته للشافعي فضل"، سيتبين لنا ذلك مما هو آت.



يقول الإمام أحمد بن حنبل: جاء إسحق بن رهوي – وكان أحد العلماء – فقال: "تعال أٌريك رجلاً لم تر عيناك مثله من قبل" - هذا الكلام على الشافعي - يقول إسحق بن رهوي العالم: "فجلسنا في مجلسه دون أن يدري، فتكلم في الفقه، فتكلم بما لم أعلم، فقلت: هذا أعلم الناس في الفقه، فتكلم في الحديث، فقلت: هذا أعلم الناس في الحديث، فتكلم في التفسير، فقلت: هذا أعلم الناس في التفسير، فتكلم في اللغة العربية، فقلت: هذا أعلم الناس في اللغة العربية، فتكلم في الرياضة والرمي، فقلت: هذا أعلم الناس في الرياضة" فنظر إلى أحمد بن حنبل وقال له: "من هذا؟ ما ظننت أن الله خلق مثل هذا، والله لم تر عيناي مثله"، تخيل اثنين من العلماء، يذهبان ليريا رجلاً متميزاً دون غيرة أو أحقاد أو تجريح وهدم!.



نسب الشافعي:

الشافعي في الأصل قرشي، هو من نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ويلتقي معه في الجد التاسع، هو الوحيد من الأئمة الكبار الذي يمتد أصل نسبه للنبي صلى الله عليه وسلم، لذلك نجد حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم يتنبأ فيه بالشافعي يقول "اللهم اهد قريشاً فإن عالمها سيملأ الأرض علماً".



يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، فكان فى أول مائة سنة عمر بن عبد العزيز، ومجدد القرن الثاني الشافعي، هذا قول الإمام أحمد بن حنبل واتفق فيه العلماء، فإن عمر بن عبد العزيز قد ملأ الأرض عدلاً، فاستحق أن يكون مجدد القرن الأول، ولكن ماذا فعل الشافعي؟ جمع الناس، وأنقذ الأمة من صراع شديد، وتلك هي عظمته؛ أن أوجد المنطقة التي تجمع الناس مع بعضهم بعضاً، فلنر سوياً موجزاً لما فعله الشافعي وما أنجزه وما اخترعه، لأنه مخترع، وربما استحق في زمننا هذا جائزة نوبل عما اخترع.



حياة الشافعي وما فعله:

لا بد أولاً أن نحكى: كيف كانت الحياة في زمن الشافعي، جاء الشافعي في أقوى أزمنة الخلافة العباسية، وكانت تلك أزهى عصور الإسلام، فقد عاش منذ عام 150 هجرياً حتى عام 204 هجرياً، 54 عام في عصر هارون الرشيد، وبرغم عظمة وقوة هذا الزمان إلا أن وراء هذه القوة مشكلة.



1. كانت الدولة العباسية دولة كبيرة، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية لتصبح ثلاثة أرباع العالم، حتى كان هارون الرشيد ينظر إلى السحب فيقول: "أمطري حيث شئت، أينما أمطرت سيأتينني خراجك"، وهذا الاتساع ميزة ولكنه مخيف، فأنت لا تعرف كيف يفكر غيرك.

ودخل الإسلام كم هائل من الأجناس المختلفة: من عرب وعجم وفرس وروم وهنود وأتراك، ومن يرعى كل هؤلاء؟ لا أحد! كلُ بعاداته وأفكاره، ومنهم من جاء كارهاً يكيد للإسلام ومنهم من جاء سعياً لنشر فكراً خاطئاً.



2. كانت الأراضي الممتدة لدولة الخلافة الإسلامية غير مترابطة، ليست كحالنا اليوم من طرق ممتدة ووسائل الاتصال، فبقيت العلاقات مقصورة داخل كل بلد، وربما تكره بلد الأخرى لأنهم يقولون قولاً مختلفاً في حين أن البلدين لا يلتقيان.



هاجر الشافعي في حياته التي امتدت 54 عاماً أربع مرات، كل بلدة قضى فيها ثلاث أو أربع سنوات، فعل ذلك بنية واحدة، جمع الناس؛ هم لا يتقابلون، وقنع كل منهم بفكرة خاطئة عن الآخر، فآثر على نفسه القيام بهذا الدور، في مصر، والعراق، واليمن، وفلسطين، ومكة، والمدينة، أليست تلك هي مراكز العلم؟ أليست تلك هي مراكز الصراع؟ فكان هو سفير التعايش، يروي لكلٍ عن الآخر.



3. أما عن الحالة العالمية أو وضع الأمة، فقد مات الصحابة والتابعون، ومن قبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا هم مرجع الناس وقت الخلاف، فبدأ الشافعي ينتقل بين العلماء ليزيد حجم الآراء المتفق عليها.



4. زادت الأموال في الدولة الإسلامية، فبدأ يظهر جيل من الشباب يختلف عن جيل الصحابة والتابعين، جيل ترف؛ أخذته شهوات الدنيا وزخرفها، فبدأ الشافعي يبحث عن المساحة المشتركة بين الجيلين ووجد ضالته في الرياضة، فكان بطلاً رياضياً.



5. حالة الانقسام التي خلفها مقتل عثمان بن عفان والتي يمتد أثرها حتى اليوم، كانت عظيمة الأثر في ذلك الوقت، وأصبح وجود السنة والشيعة مؤثراً.



6. في بداية الدولة العباسية، اضطهدت الدولة أناساً كثيرين، فظهرت فئات لا تقوى على مقاومة الدولة العباسية لشدة قوتها؛ ولكنهم انطووا على أفكار منحرفة؛ فظهر الخوارج ومنكرو السنة، والزنادقة، عدد من الأفكار المنحرفة التي لايستطيع أصحابها أن يتقاتلوا لأن الدولة العباسية قوية، فأصبح القتال فكرياً في المساجد والندوات، ينتظرون فرصة فيها تضعف الدولة العباسية فتتحول الحال؛ تحولت بغداد إلى كتل صراع بين الناس بعضهم بعضاً، وكأنما تتأجج النيران منذرة بكارثة.



7. كانت الدولة العباسية دولة منفتحة على الثقافة والشعر والفنون، فكان الشعراء في هذا الزمان كل يتحدث عن الفن، ويقرض الشعر في الحب والهوى والعشق، فانقسم العلماء إلى فرق: منهم من يكفر الشعراء ويرفض الفن – كما هو حالنا اليوم، وتعامل الشافعي مع هذه القضية بمنتهى الحكمة.



8. خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده لهذه الأمة كنز كبير، هو القرآن والسنة، فيهما كل ما يحتاجه الناس من فقه، أي كيف نعالج حياة الناس، ولكن المشكلة كانت في كيفية الاستنباط من آيات القرآن ما نحتاجه في حياتنا، فكيف نستخرج من آيات محدودة أحكاماً لأحداث غير محدودة، كانت تلك معضلة هذا الزمان، فظهرت مدارس، واشتد الصراع، وظهرت مدرستان: مدرسة الحجاز في مكة والمدينة وفيها الإمام مالك، ومدرسة العراق وفيها أبو حنيفة، وبدأ صراع بين المدرستين برغم حب كل من مالك وأبي حنيفة للآخر، ولكن الصراع نشب بين أتباع المدرستين؛ مدرسة العراق اسمها مدرسة الرأي، ومدرسة الحجاز اسمها مدرسة الحديث، هناك أبو حنيفة وهنا مالك، ولكن ما الفرق:

· مدرسة العراق تقول: نأخذ من الأحاديث كيف شئنا حتى الأحاديث الضعيفة، لأننا نواجه العديد من الأمور نحتاج فيها إلى الرأي، فلنتوسع في الأخذ بالحديث في كل المجالات.

· أما مدرسة الحجاز فترفض التوسع بل تطالب بالأخذ في الحديث بالتدقيق، حتى بلغ الأمر أن الإمام مالكاً جمع 100 ألف حديث انتقى منهم فقط 12 ألف حديث، وبجانب الدقة الشديدة في اختيار الأحاديث، أيضاً الدقة الشديدة في مفهوم الحديث، فرفضوا التوسع في معاني الأحاديث.

وكانت هذه الفترة هي بداية تشكيل الفقه الإسلامي، فما كان الأمر ببسيط، فتفاقم الصراع، وبدأ الطرفان في تبادل الشتائم واللعنات والإساءة، ولندلل على ذلك بالأمثلة:



صدقة الفطر

- مدرسة الحديث تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن هذه الصدقة تخرج إما تمراً أو قمحاً أو شعيراً وهذا واجب.

- أما مدرسة الرأي فترى أننا لا نعبد الله بالقمح أو التمر إنما نعبده بالفكرة، وبناءً عليه يمكن أن نخرج الصدقة مالاً.

وما يزال هذا الخلاف قائماً إلى اليوم، ولكن ليس هدفنا هنا الفتوى إنما طرح شكل الإشكال في ذلك الزمان.



زواج البنت البكر:

يقول أبو حنيفة: إن البنت البكر لها الحرية في أن تزوج نفسها، كما أن لها الحرية في أن تتعامل في البيع والشراء، فيأتي المعارضون يقولون: إن هذا لا يجوز لأنه يفكك الأسر.



تلك كانت الحال بين المدرستين، ثم يأتي الشافعي ويقول كلمته، ويقول فيه أحمد بن حنبل ـ وهو منتمى لمدرسة الحديث ـ: "ما زلنا نلعن مدرسة العراق ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا"، فكان الحال في تبادل الاتهام من مدرسة العراق إلى مدرسة الحجاز بأنهم شديدو التزمت، وعلى العكس من جانب مدرسة الحجاز إلى مدرسة العراق بشدة التحرر؛ حتى قالوا فيهم: إن الحديث إذا خرج من الحجاز شبراً يعود إليهم من العراق ذراعاً، ويحكى أنه بعد أن حل الشافعي هذا الأمر، قالت كل فرقة على حدة: "ما أنصفنا إلا الشافعي"، فأصحاب مدرسة الرأي رأوا أنه وضع لهم ضوابط التفكير، أما أصحاب مدرسة الحديث فقالوا: "كنا نضيق الفكر فجاء الشافعي فأيقظنا من رقادنا فاستيقظنا".



ماذا فعل؟

تتلمذ الشافعي في المدرستين، فأمضى في كليهما عمراً من الزمان حتى بلغ من فهم المدرستين الذروة، وبعدها قدم اختراعه، اخترع علماً جديداً يسمى علم أصول الفقه، كيف نستنبط من القرآن والسنة بناءً على قواعد، ومن الملاحظ أنه قبل الشافعي لم ترد فكرة القوانين في مثل هذه المجالات، فكان العالم يفكر ويرى الحل الأمثل، ربما له قواعده في رأسه ولكنها غير مدونة، أما الشافعي جمع المدرستين في خطوات ثابتة ونهج يتبع الاستنباط من القرآن والحديث، واتفق الطرفان على تلك القواعد.



ظل الشافعي يؤلف هذا العلم تسعة أعوام، وضع فيها قوانين التفكير، مثله في ذلك مثل أرسطو، فكما كان لليونان أرسطو فللمسلمين الشافعي، وحل النزاع بأن ظل يدرس ويتتلمذ سنوات حتى أتى في نهاية الأمر وقال: دعونا نجتمع في مساحات مشتركة، ووضع قوانين للاستنباط من القرآن والسنة؛ غير مبنية على رأى شخصي بل على أصول وقواعد.



لذلك استفاد منه كل عالم في عصره؛ ذلك أن كل العلوم الأخرى أخذت عنه، وأصبح الجميع يضع القواعد، مثل جابر بن حيان في الكيمياء.



أيها الغرب نقول لكم هذا لأنكم استفدتم من الشافعي:

أيها الغرب نقول لكم هذا لأنكم استفدتم من الشافعي، لأن أوروبا ما كانت تعرف كيف تضع القواعد لأي علم من العلوم، حتى نقل ابن رشد فكر الشافعي للأندلس؛ فانتشر في أوروبا.



أترون علاقات الحضارات، علم الشافعي وصل لأسبانيا، ومن أسبانيا وصل لأوروبا؛ ونهضت أوروبا، فكل عالم جاء في عصره بدأ يفكر بضرورة وضع قواعد للعلم، فوضع جابر بن حيان قواعد لمعادلات الكيمياء، ثم جاء البيروني، وجاء ابن الهيثم، وجاء المسعودي في الجغرافيا.... الخ.



ولكن كيف وضع قواعد الاستنباط؟

قواعد الاستنباط التي وضعها الشافعي:

ما هي مقاصد الشريعة؟

ماذا تريد الشريعة وما الهدف منها؟، وشريعة الإسلام لها خمسة أهداف لا يحرم أو يحل إلا بسبب إحداها، ولهذا يجب أن نقرأ آيات القرآن ونعى معانيها، الأهداف الخمسة هي: حفظ النفس، والعقل، والنسل، والدين، والعرض، والمال، مثال ذلك "وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى..." (الإسراء:32)، وهدفها حفظ العرض، "...إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ..." (المائدة:90)، حفظ العقل، وهكذا في كل من آيات القرآن.



القواعد الأصيلة للغة العربية:

حتى لا يتلاعب أحد بالألفاظ ويفسر حسب هواه، فلا يقول أحدهم "...فَاجْتَنِبُوهُ..." (المائدة :90)، لا تعنى التحريم، ولا يقول قائل: إن آية الحجاب غير واضحة برغم أنهما آيتان تفسران كيف تلبس المرأة؛ أولهما: كيف تلبس في عاليها في سورة النور، ثم كيف تلبس في أسفلها في سورة الحجرات.



تجميع الآيات:

حصر جميع الآيات القرآنية المتعلقة بالأمر موضوع الخلاف، فإن لم تجد



تجميع الحديث:

تجميع كل الأحاديث المتعلقة بالأمر موضوع الخلاف، فإن لم تجد



الصحابة:

تجميع كل ما روى عن الصحابة (إجماعاً) متعلقاً بالأمر موضوع الخلاف، فإن لم تجد



القياس:

قس ذلك الأمر موضوع الخلاف على أمر مشابه، مثال: قياس المخدرات على الخمر فهي حرام، لا بد من وجود أمر مشترك بينهما، كلاهما يخدر العقل.



تحركه بهذا العلم:

ثم ذهب لأهل العراق ودعاهم إلى ما وضع إذا ما أرادوا التفكير في أمر ما، فاتفقوا معه، ثم ذهب إلى أهل الحجاز فعرض عليهم قواعده لوقف مخاوفهم من أهل العراق وتوسعهم في التفسير، فاتفقوا معه.



ثم ألف كتاباً أسماه الرسالة وضع فيه آراء الطرفين، ثم وضع القواعد وقال: إنها تجمع بين الطرفين، فهدأت الأجواء المشتعلة.



تلك كانت مقدمة عن الشافعي الذي اخترع علم أصول الفقه، وهو علم يدرس إلى اليوم في الجامعات وأخذت عنه العلوم الأخرى، هذا الرجل الموسوعة تدين له أوربا بالفضل.



ولكن كيف استطاع أن يفعل هذا؟

الرسالة التي ملأت نفسه هي تجميع الناس، فمن منا اليوم يفكر بهذا المنطق في تجميع عائلته أو بلاده؟، من في لبنان أو العراق يفكر بهذا المنطق؟، بل من في نطاق عمارته السكنية يفكر هكذا؟!، من يكون شافعي المعيشة ولو لم يكن شافعي المذهب؟ من يخاف على الأمة ويحب الناس كما أحبهم ذلك الرجل؟.

أجمل ما كان في الشافعي هو المنطق المحدد الذي كان يتحرك من خلاله، وهو كيف أجد مساحة مشتركة بيني وبين الآخر؟، فبعد أن وضع القواعد انتبهت المدرستان إلى أنهما ما كانتا مختلفتين، إنما مكملتين لبعضهم بعضاً؛ ذلك أن العراق وفيها بغداد مركز الخلافة بها العديد من القضايا، أما الحجاز فبمنأى عن هذا، فكان لابد لمدرسة بغداد من موضوع الرأي لكثرة الأفكار والقضايا المحيطة، أما مكة والمدينة فقد جعلها الله حفظاً للأحاديث.



فكان الاختلاف ثراءً وغنى، ولكن بالتفاهم، وهذا ما قدمه لهم الشافعي، حيث أشعرهم بتفاهمهم.



ختــــام:

اختلافي عنك غنى إذا استفدنا من بعضنا بعضاً، وقد يصبح مرضاً إذا تحول إلى صراع كما هو الحال في العراق اليوم، وربما صارخيراً وصحياً بالتبادل كما كان الحال يوماً في لبنان.



أيها المسلمون، هذا هو ديننا، وما أنا براو أمراً عجيباً، أٌلفة المسلمين هي ما تدور حولها مدار الشريعة، حفظ الدين ما هو إلا "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً..." (آل عمران:103).



تلك دعوة للتعايش، فليطبق كل منا على نفسه، ويبدأ في التفكر في كيفية بناء مساحة مشتركة بينه وبين كل من حوله، فالشافعي درس وسافر وفكر حتى وجد المساحة المشتركة.

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1077

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام