الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهلاً بكم، ولنكمل سويا "دعوة للتعايش"، دعوة للحوار، دعوة للتفاهم بين بعضنا البعض، دعوة لبناء الجسور بين بعضنا البعض عوضا عن بناء السدود، دعوة لتقريب المسافات بين بعضنا البعض، دعوة أن يتفاهم بعضنا البعض إن اختلفنا - وهو مؤكد ما سيحدث- لأن الله قد خلقنا مختلفين عن بعضنا البعض.



هدفنا من هذه الحلقة:

حلقة اليوم عن أبي حنيفة أيها الناس تُعَلِمُنا قاعدة هامة جدا، وأتمنى من الناس أن تُدَوِّن هذه القاعدة وتتذكرها عند روايتنا لحكايات كثيرة عن أبي حنيفة – وهي ليست مجرد رواية حكايات-. هذه القاعدة هي: "كيف أتعامل معك عندما أختلف معك؟" إذا اختلفت معك وأريد أن أقنعك بفكرتي أو لاتقاء شرّك، أو لحل المشكلة، فكيف أتعامل معك؟ ما هي تلك الطرق في التعامل؟ وذلك لأن أبا حنيفة يعد مثالا رائعا يساعدنا في معرفة كيف أتعامل معك إن اختلفت معك؟



وسنذكر هنا خمس نقاط؛ تمثل هذه النقاط الخمس طرق التعامل عند الاختلاف. هذه النقاط نابعة من اجتهادنا. وسنطبق هذه النقاط الخمس على أبي حنيفة ونرى مَن مِن الشباب والبنات يُدَوِّن هذه النقاط ويستطيع تطبيقها بنية "...لِتَعَارَفُوا..." سورة الحجرات الآية رقم 13 ؟ وبنية جمع الكلمة؟ وبنية أن نتآلف مع بعضنا البعض؟ وبنية أن المسلم أخو المسلم؟ وبنية "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ..." سورة الحجرات الآية رقم 10؟ وبنية "...فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ..." سورة الأنفال الآية رقم 1 ؟ أخذا في الاعتبار هذه النوايا، مَن سيتلقف كل هذا الكلام ويقول " سأُصلح أنا"؟ إن إصلاح ذات البَيْن، وأن تصلح بين الناس من أعلى المراتب عند الله سبحانه وتعالى في الثواب أيها الناس، لأن الأصل في الأمر هو إعمار الأرض، وبالتالي إذا كان هناك إفساد في الأرض وخلاف وتقطيع أرحام، "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ"؟ سورة محمد الآية رقم 22. فقد ربط الله تعالى هنا بين الإفساد وتقطيع الأرحام. إن مهمتنا في هذا البرنامج لَمْ الشمل.



السبب وراء أفكار أبي حنيفة ودليل صحتها:

لاحظ أبو حنيفة أن هناك مشكلة. المشكلة هي أن التغيرات سريعة جدا، وأن عدد الآيات القرآنية والأحاديث محدود، وأما الأحداث فغير محدودة العدد؛ فالأحداث تأخذ مجراها دائماً. ومع صحة القول أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، فَفَكَّر أبو حنيفة كيف يستنبط من الآيات محدودة العدد لكي يواجه الأحداث غير محدودة العدد؟ إن القرآن صالح لكل زمان ومكان، فمع استخدام عقولنا، ينبغي أن نستخرج من الآيات محدودة العدد ما يناسب الأحداث غير محدودة العدد. فَفَكَر أبو حنيفة أن يبني فقهه على القرآن والسنة، فإن لم يجد فيهما ما يناسب الأحداث، فسيأخذ بما يسمى "الرأي" والمقصود به الرأي المحمود أي الاجتهاد، فيجتهد أبو حنيفة ويستخدم عقله في الاستنباط من الآيات والأحاديث كي يواجه الأحداث الهائلة التي تقع في العراق. فأنشأ أبو حنيفة "الرأي" أو "الاجتهاد" -ولم يكن موجوداً من قبل- . وأما باقي العالم الإسلامي فلم يكن على شاكلة بغداد التي تتغير على نحوٍ سريعٍ جدا، فلم يتخيل باقي العلماء أنه يصح لأبي حنيفة التصريح بهذا الكلام. فقد أتى أبو حنيفة بكلامٍ جديدٍ وكان يمتلك الجرأة لذلك. كان يرى أنه يجب علينا أن نجتهد، فجزاه الله خيرا فبذلك قد سَدَّ الفجوة التي هي بين أحداث الحياة وبين الدين.



أحاول هنا فقط أن أبين لك الصورة كي أريك كيف سيتعامل أبو حنيفة مع هذا الأمر. فقد أتى أبو حنيفة بكلامٍ جديدٍ كـ"مدرسة الرأي"، و"الفقه التقديري"، والتصور للمستقبل - وهو ما لم يتقبله العلماء لعدم معرفتهم بما يحدث في العراق-. وكانت "مدرسة الرأي" عبارة عن مدرسة فقهية مُجَمَّعَة ولم يكن الرأي فيها رأي فرد واحد أو رأي شخص يسمى أبو حنيفة، وإنما رأي مدرسة تسمى "مدرسة الرأي"، يفكر بها العلماء مع بعضهم البعض مع حرية التعبير عن آرائهم.



عادةً تحب عقول الناس أن ترى ما تفهمه، فإن رأت ما لم تفهمه - حتى وإن كان صحيحا- فلا تستطيع أن تتقبله بسهولة. وما جاء به أبو حنيفة كالفقه التقديري والرأي والاجتهاد هو ما نأخذ نحن به حتى يومنا هذا. ولكن وقتما صرح به أبو حنيفة، كان كلاما جديدا على العقول أن تفهمه. فالناس عادةً تحب أن ترى ما رأته قبل ذلك كي توافق عليه وتقيس هذا على ذاك. ولكن من أين أتى أبو حنيفة بهذا الكلام؟ انتبهوا هنا، لأنه قد يقول البعض أن كلامه يبدو فعلا غير صحيح! أتى أبو حنيفة بهذا الكلام من الصحابة، وقد بنى فكرته كلها على حديث صحيح هو أنه عندما أرسل النبي سيدنا معاذ بن جبل إلى اليمن، قال له: "بماذا سَتَقْضي يا معاذ؟"، قال: "بكتاب الله". فقال له النبي، وانظر هنا إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرسم خطًّا يسير عليه أبو حنيفة: "فإن لم تجد؟"، قال: "فبسُنة رسول الله". قال: "فإن لم تجد؟"، قال: "أجتهد رأيي ولا آلُ" و" - أي أبذل كل جهدي ولا أقصر في الاجتهاد-، فابتسم النبي وضرب على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يُرْضي رسول الله" أي صحيح كلامك يا معاذ. فقال أبو حنيفة لِمَن أنكر عليه فِكْرُه: "لماذا تنكرون علي هذا وهذا هو ما ورد في الحديث؟!"



وحقيقةً، لماذا أنكر العلماء فِكْرُه مادام النبي قد قال ما قال سابقا؟ لم يتخيل العلماء أن هناك من يصلح أن يجتهد عدا الصحابة. وإن لَحِقناهم نحن وجئنا من بعدهم، فلا نجتهد، فكان أبو حنيفة يرى أنه لو توقف عند هذا الحد وظل في مكانه ولم يفكر للمستقبل فسوف يُقضى عليه ويبتلعه الطوفان ولن يكون للإسلام مكانا؛ فهناك تغيرات قوية مثل حركة الترجمة والعقائد المختلفة ومن يجلب من الناس أفكارا أخرى على بغداد. فكان يرى أنه عليه أن يجتهد ويتصور للمستقبل حتى يتماشى الإسلام مع الواقع ولا يتأخر عن الحياة، فإذا تأخر الإسلام عن الحياة يكون نتيجة ذلك أن يبعد الناس عن الإسلام ويَعُدُّوا كلامه كلاما قديما.

هل تخيلتم الوضع الآن؟



الاتهامات التي وجهت لأبي حنيفة:

الآن، ماذا سيقال عنه؟ وما الذي سيَتَعَرَّض له أبو حنيفة؟ قيل عنه إن أصله فارسي – وهو فعلاً أصله فارسي- جاء ليُخَرِّب الإسلام. وقيل عنه إنه زنديق. لقد قيل عنه كلام شديد الصعوبة. وتخيل أبا حنيفة صاحب أكبر مذهب يُتَّبَع في العالم الإسلامي ومن كبار الأئمة يتعرض لهذا الكلام! ولكنهم كانوا يجهلونه ويجهلون قيمته. وقيل عنه إنه من "المعتزلة" - أي من الفرق المنحرفة فكريا- في ذلك الوقت. وقيل عنه إنه من المُبهِئَة. كما قيل إنه من الخوارج على الرغم من أنه من أشد من حارب الخوارج! فقد قيل عنه كل شيء. قيل عنه إنه فاسق وقد تاب ثم ارتد مرة أخرى. هل تدري عمن أتكلم هنا؟ أتكلم عن أبي حنيفة! ولماذا كل ما حدث هذا؟ لأنه أتى بكلامٍ جديدٍ. حتى إنه قيل: لو كان أبو حنيفة قد خرج على المسلمين بالسيف لكان أهون مما خرج به. هذه كانت صورة الخلاف آنذاك. تخيل هذه الصورة ! وأبو حنيفة له كلمة جميلة جدا مدافعا عن نفسه يقول: "كَذبَ والله وافترى من قال إننا نُقَدِّم الرأي على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. نحن لا نفعل ذلك، إنما آخذ بكتاب الله ثم سنة رسول الله ثم الرأي..." إلى آخر هذا الكلام. هذه كانت طبيعة الموقف في ذلك الوقت.



الأنواع المختلفة من الناس الذين هم على خلاف معك:

ماذا ستفعل مع المختلفين معك؟ سنطبق هذا الكلام في حياتنا وعلى أنفسنا أولاً ثم نعاود الكلام عن أبي حنيفة. المختلف معك هو نوع من عدة أنواع: إما شخص لديه عقل وعلم وفهم وهو مختلف معك لأنه لا يفهم وجهة نظرك. فإن فهم وجهة نظرك سيتفهم ويحترم، وهذا شخص عادل وصادق. أو هو عالم ذكي يفهم ولديه عقل. أو شخص طيب ولكن ذو قدرة عقلية محدودة ومختلف معك، فكيف ستتعامل معه؟ أو شخص لديه عقل ولكن لا يفهم الكلام النظري فهو يحب أن يشاهد التطبيق العملي. فإن لم تُرِه ما هو عملي، وظللت تشرح له كلاما صحيحا مدة مئة سنة لن يفهم كلامك. والنوع الآخر، هو شخص مهما حاولت أن تُفهِمه، فهو لا يريد أن يفهم؛ فهو شخص حاسد وحاقد وشاتم ذو لسان بذيء، فكيف ستتعامل معه؟ وإما أنه شخص ذو قوة مختلف معك ويريد أن يُرغِمَك على فكرته رغما عنك. وهناك من هو من عامة الناس فهو لا علاقة له بتلك الأحداث ولكنه أحمق يتصرف تصرفات غبية ويكون مختلفا معك، فيغضبك غضبا شديدا، فكيف ستتعامل معه هو الآخر؟ هذه هي الأشكال المختلفة للعقول وطريقة فهم الناس؛ فهناك من يفهم النظرية، وهناك من يفهم بالطريقة العملية، وهناك من يفهم بصعوبة فيجب أن تتحايل كيف توصل له الفكرة؟



سنجد أن أبا حنيفة يتعامل مع كل هذه الشرائح لأن البيئة التي خرج منها اختبر بها كل شيء، كما أن الجو الذي خرج منه متلاطم بالأمواج، فلنتعلم نحن منه التعايش ونتعلم كيفية التعامل مع من هو على خلاف معي.



لماذا نتآلف مع المختلفين معنا؟

وقد يقول البعض: "فليكن مختلفا معي ولن أتعامل معه" ولكن الإسلام ينص على "...أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ...". إنه ليس فضلاً منك إن تعاملت مع الناس ولكنه فرضا عليك. إن ألفة المسلمين أعظم أركان الشريعة الإسلامية ولا يوجد أمر شرعي في الإسلام إلا ووراءه هدف من أهداف الألفة. لماذا تعد النميمة والغيبة حراما؟ لماذا الطلاق يعد أمرًا شديد الصعوبة حتى يتم؟ لماذا وجدت صلاة الجماعة؟ ولماذا صلاة الجمعة في المسجد؟ لماذا كل هذه الأمور؟ وما الهدف منها؟ وراء كل ذلك هو أن الشرع مبني على ألفة المسلمين. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة و الصيام و الصدقة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : إصلاح ذات البين" أي من يصلح بين الناس وبعضها البعض.



إنه ليس فضلاً منا ولكن التعايش والألفة واجب علينا. هل تسمعون أيها المسلمون؟ ثم قال: "...فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين". "فساد ذات البين" أي الوقيعة والمشاكل والاختلاف الذي يؤدي إلى صراع بين الناس يأكل من ديننا. لهذا قمنا بعمل هذا البرنامج.



طرق التعايش والتعامل مع أنواع الناس المختلفة:

نعود لأشكال عقول الناس المختلفة ونريد أن نتعامل مع كل هذه النوعيات ونتعلم من أبي حنيفة. هناك خمسة طرق للتعامل مع الناس إن اختلفت معهم. قد يبدو الكلام صعبا ولكن سوف نيسره لاحقًا:

أولاً: المنطق العقلي، وذلك للناس الذين يريدون أن تتكلم معهم بطريقة عقلية، فلنقنعهم بطريقة عقلية ونتعلم من أبي حنيفة.

ثانيا: المنطق العملي، وهو لمن لا يفهم إلا إذا شرحت له بتطبيق عملي. ولنتعلم من أبي حنيفة عندما نأتي للأمثلة.

ثالثا: التحايل الذكي، قد يقول البعض: "أنا مع الحق ولا يوجد ما يسمى بالتحايل الذكي، وإنما ما تعارفنا عليه". سنرى كيف استخدم أبو حنيفة التحايل الذكي مادام لم يُخِلّْ بثابت من الثوابت.

رابعا: الصبر والحلم، لا يصح غير أن تصبر وتتحلى بالحلم مع بعض الناس. إنك على اختلاف معه، ولكن أفضل حل معه هو أن تتحلى بالصمت وتَحْلُم عليه.

خامسا وأخيرا: الثبات على المبدأ، كيفية التعامل مع الشخص المختلف معك، والذي يريد أن يجبرك بالقوة على فكرته هو أن تثبت على ما أنت عليه، فتكسب.

هذه هي الطرق الخمسة في كيفية التعامل مع شخص إذا اختلفت معه حتى تكون متعايشا، وحتى تصلح ذات البين وتحقق الألفة. لندرس كل نقطة من النقاط الخمس ونعيش معها ومع أبي حنيفة. سنحكي عن أبي حنيفة ولكن ليس من أجل سرد الحكايات ولكن من أجل أن تتعلم أنت كيف تتطبق هذه النقاط مع أصدقائك؟ وكي تفكر في طريقة تطبيقها؟



سوف نكتسب في هذه الحلقة مهارة بِنِيّة، حتى وإن كانت نية دنيوية كي تحصل على وظيفة وتنجح في الحياة. فأبو حنيفة لم ينجح في الحياة إلا بهذه القدرات ومنها "كيف أتعامل مع من يختلف معي؟" وذلك للدنيا وللآخرة. وللآخرة كي تصلح في الأرض وتؤلف بين الناس ومن أجل تآلف بلادنا ومجتمعاتنا ونحل المشاكل بها. وإن شاء الله يا شباب، نكون قادرين على تطبيق هذه النقاط الخمس. فأنا على يقين أن هناك شباب وبنات سيدونون هذه النقاط الخمس وبعد الحلقة يقررون تنفيذها.



التعامل مع بعض الناس بالمنطق العقلي:

لنبدأ في شرح كيفية تعامل أبي حنيفة مع كل نوع من أنواع الناس. النقطة الأولى، "ماذا تفعل إن اختلف معك شخص ذو عقل؟ - أي رجل عاقل صاحب عقل ورأي-. وسأضرب لكم المثال الأول: فكما تعلمون أنه انتشر عن أبي حنيفة أنه ضد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يختار الرأي. ومن قال هذا الكلام فقد نقل كلاما خاطئا عن أبي حنيفة. ووصل للحجاز أن هذا الرجل (أبا حنيفة) يُفسِد في الدين وأنه يُقَدِّم رأيه الشخصي على حديث النبي كما إنه يقيس، أي يقيس ما يراه عقله صحيحا مع حديث النبي ثم يأخذ بما يراه عقله صحيحا حتى وإن كان حديث النبي يصرح بعكس ذلك. ولكن الواقع هو عكس هذا الكلام والواقع أنه لا يأخذ برأيه إن تعارض مع حديث النبي. وقد ذهب الإمام أبو حنيفة لتأدية مناسك الحج وقابل هناك الإمام محمد الباقر- وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم- فرآه الإمام محمد الباقر هناك ووجه له كلاما في منتهى الشدة فقال له: "أنت الذي غَيَّرت دين جدي فقَدَّمت القياس على أحاديث جدي؟ - و"قَدَّمت القياس" أي تقيس بالرأي-.

فقال أبو حنيفة: "ما فعلتُ".

قال الإمام محمد الباقر: "بل فعلتَ". قد تكون لنا رؤية لأناس ونحكم عليهم قبل أن نسمع منهم ونتواصل معهم.

فقال أبو حنيفة: "يا إمام، هلا جلست حيث تحب حتى أجلس حيث أحب؟" فجلس الإمام محمد الباقر على ما يشبه الكرسي أو الأريكة، فجاء أبو حنيفة وقال له: "أنت جلست حيث تحب وأنا أجلس على الأرض حيث أحب أن أكون بين يديك".



انتبه هنا وإياك أن تعتقد أن المنطق العقلي كلام نظري فحسب، فلابد أن تمس القلب ولابد أن تتواضع لمن هو أمامك. ما هو هدفك؟ هل هدفك أن تكسب؟ أم هدفك أن يظهر الحق وتتآلف القلوب؟ لأبي حنيفة كلمة جميلة جدا احفظوها وإن استطعتم أن تدونوها عندكم فدونوها، يقول فيها: "أنا مع من يختلف معي، كمثل رجل ضاعت ناقته في الصحراء، فهو يريد الناقة فلا فرق عنده: هل هو الذي سيجدها أم أحد آخر سيجدها؟ وأنا أبحث عن الحق، لا يَفرِق معي عن لساني سيكون أم عن لسان غيري؟" هذا الكلام بمثابة الذهب. من يبحث عن الحق كمن يبحث عن ناقة في صحراء، هل يشكل فرقا عندك إذا كان من سيجدها أنت أم شخصٌ آخر؟"



بدأ أبو حنيفة تعامله بأنه تواضع مع محمد الباقر. وإياك أن تعتقد أن المنطق العقلي خالي من القلب. إنها النظرية نفسها. كان من الممكن أن يقول له أبو حنيفة: "هذا هو الحق وأنت لا توافق عليه..." ولكنه بدأ معه برقة. ألسنا هنا لتعلم الأدوات وتعلم المهارة؟ أول شيء فعله أبو حنيفة هو أن سأله: "أين تحب أن تجلس؟" فعندما جلس محمد الباقر على الأريكة، جلس هو على الأرض وقال له أبو حنيفة: "إنما فعلت ذلك لأن مقامك عندي كمقام جدك عند أصحابه صلى الله عليه وسلم. فقد بدأ معه أبو حنيفة هكذا حتى قبل أن يشرح له وجهه نظره، فقد قال له الإمام محمد الباقر: "أنت الذي غَيَّرت دين جدي!"، فكأنما يقول له أبو حنيفة في أول رد عليه: "انظر لجلستي وطريقتي معك تعرف منها أنني لم أغيّر دين جدك". هلا نظرتم إلى هذا الإقناع؟ أتستطيع التعامل هكذا؟ تحتاج هذه الطريقة إلى تدريب بالطبع، فأنا أضرب لك المثال لإمام عبقري ولكنك يجب أن تبدأ في تقليده، تستطيع ذلك إن شاء الله بالنية وبالتدريب وبالمحاولة حتى تكسب قلوب الناس وتحقق نجاحات في مجالك كأبي حنيفة.



ثم جلس كلاهما أمام بعضهما البعض وقال أبو حنيفة: "يا إمام، أنت تقول أنني غَيَّرت دين جدك بالقياس بالرأي وتركت حديثه".

قال: "نعم، فعلت".

فقال: "يا إمام، أسألك ثلاثة أسئلة..." - انتبه هنا إلى طريقة أبو حنيفة الدائمة في الإقناع وتعلموها- كان إذا سأله أحدهم سؤالاً لا يرد عليه بالجواب فيصبح في موقف ضعيف، ولكن يرد عليه بسؤال. قم بتجربة هذه المسألة ولاحظ، واحفظ هذا الأمر وهو أنه كان يبدأ بسؤال سهل. كان لا يرد عليه بسؤال صعب حتى يستطيع أن يَوْجِد مساحة مشتركة بينه وبين الشخص الآخر ولِيُكَبِّر المساحة المشتركة بأسئلة سهلة، فيظل يسأل من أمامه حوالي ثلاثة أو أربعة أسئلة سهلة حتى يصل إلى نقطة الخلاف فيكون من أمامه هدأ وسكن. ألم أقل لكم أنها مهارات؟! من الممكن أن تعتبروا هذه الحلقة بمثابة التدريب.



فبدأ معه الإمام أبو حنيفة بثلاثة أسئلة:

السؤال الأول: "أيهما أضعف، الرجل أم المرأة؟" وهذا سؤال سهل.

فقال محمد الباقر: "المرأة أضعف" - بدنيا المرأة أضعف-.

قال: "في دين جدك صلى الله عليه وسلم أيهما أقل من الآخر، ميراث الرجل أم ميراث المرأة؟" قال له: "المرأة نصف الرجل".

فقال: "فلو كنت أعمل بالرأي وأترك حديث جدك ودين جدك لقلت المرأة أضعف فتستحق ضعف ما يستحق الرجل. لكني لم أقل ذلك لأن حديث النبي مُقَدَّم عندي على رأيي".



السؤال الثاني: "أيهما أعظم عند الله، الصلاة أم الصيام؟"

فقال: "الصلاة".

فقال: "يا إمام، المرأة بعد رمضان يفوتها صلاة وصيام. بما أمرها جدك صلى الله عليه وسلم أن تقضي الصلاة أم الصيام؟"

قال: "الصيام".

فقال: "فلو كنت أجتهد برأيي وأترك حديث النبي لقلت الصلاة أفضل، فتقضي الصلاة ولا تقضي الصيام. لكني لم أفعل ذلك. قلت كما قال جدك، تعيد الصيام ولا تعيد الصلاة". يتكلم أبو حنيفة هنا بالعقل ولكن بتواضع.



السؤال الثالث: قال: "يا إمام، أيهما أكثر نجاسة، البول أم النُطفَة؟" - "النُطفَة" أي التي يأتي منها الولد عندما يجامع الرجل زوجته-.

فقال: "في دين جدي، البول أنجس".

فقال: "يا إمام، لو كنت آخذ بالرأي وأجتهد وأترك حديث النبي لقلت البول نغتسل منه والنُطفَة نتوضأ منها..." لأن البول أنجس "...لكني قلت كما قال جدك "البول نتوضأ منه والنُطفَة نغتسل منها" فلم أُغَيِّر بالرأي يا إمام، وإنما فعلت ما فعلت يا إمام لأن العراق كل يوم الناس تكون في جديد، فأردت أن أحمل الناس لدين جدك".

فقام محمد الباقر وقَبِّل رأس أبي حنيفة. لم يتصارع أبو حنيفة أيها الناس، أو يقول له مثل: "أنك تقول أنني غَيَّرت دين جدك! لا لم أُغََيِّر به!"، "بل غَيَّرت به!"، "إذًا فليكن، غَيَّرت به ومن يعجبه هذا فليكن كذلك، ومن لا يعجبه فلا يعجبه..." ونبدأ في الصراع. ولكن أبو حنيفة هنا استخدم المنطق العقلي.

هل نستطيع تعلم هذه الطريقة ؟



وإليكم مثال آخر، يعتقد الخوارج أن المسلم الذي يأتي بكبيرة من الكبائر مثل الزنا أو شرب الخمر يعد كافرا وهو فكر متطرف، وقد دخل الخوارج مسجد الكوفة شاهرين السيوف وتوجهوا لأبي حنيفة وقالوا له: "هناك جنازتان واقفتان بالباب، جنازة رجل شرب الخمر، ومات وهو شارب للخمر وهذه جنازته، وجنازة امرأة قامت بالزنا وحَمِلت حملا وماتت وهي حامل، فما حكم الاثنين؟ مؤمنان هما أم كافران؟ ويجب أن تصدر حكمك الآن"، وكان الخوارج ممن يستبيحون الدماء، فلو قال لهم إنهما مؤمنان لقتلوه.

فقال أبو حنيفة: "أغمدوا سيوفكم، فإني لا أستطيع أن أفكر والسيوف أمامي".

فقالوا: "إنما رفعناها لأننا نتقرب إلى الله بقطع رقبتك".

فقال أبو حنيفة: "لم أتذكر السؤال. مِن أي ملة هم؟ أمِن اليهود هم؟" هنا حَوَّل أبو حنيفة الجواب إلى سؤال بالطريقة نفسها التي يتبعها وأتى بسؤالٍ سهلٍ.

قالوا: "لا".

قال: "لم أتذكر. أمِن النصارى هم؟"

قالوا: "لا".

قال: "فمِمَن هم؟"

قالوا: "من المسلمين".

قال: "تكفيني الإجابة" وانتهت هنا المناظرة.

ولكن الخوارج اضطربوا فقالوا: "أهم في الجنة أم في النار؟"

فقال: "أقول ما يقول القرآن. أتؤمنون بالقرآن؟"

قالوا: "نعم".

قال: "أقول ما يقول القرآن على لسان إبراهيم، "...فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" سورة إبراهيم الآية رقم 36، وأقول ما يقول القرآن على لسان عيسى، "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" سورة المائدة الآية رقم 118.

فوضعوا السيوف وقالوا: "والله هذا الرجل ينطق الحق من لسانه"، فقد هدأ الخوارج بالمنطق العقلي.



ولكن انتبهوا إلى أنه لم يكن لدى أبي حنيفة مانعا أن يتنازل أحيانا عن رأيه، لأنه قد يظن البعض منكم أنه لابد وأن يكسب دائما. ففي يوم من الأيام آتاه زهير بن معاوية وسأله زهير عن مسألة فقهية معقدة تتعلق بالعبيد، فرد عليه الإمام أبو حنيفة، فقال الرجل: "ولكني سمعت حديثا عن النبي رواه فلان وفلان وفلان لم يصلك..." لأن الأحاديث لم تكن كلها تصل لكل الإئمة "...يقول فيه النبي كذا وكذا وكذا عكس ما تقول". فسكت أبو حنيفة وقال: "سأراجع الأمر" - أي سأراجع الحديث-. يقول زهير بن معاوية: "فتركت العراق عشر سنين ثم عدت. فأرسلت رجل يسأله في المسألة نفسها، فأجاب بإجابتي". قد غيَّر أبو حنيفة فقهه هنا. فذهبت إليه وقلت: "أتذكرني؟"

قال: "لا".

قال: "قلت: "أنا الذي أتيتك ولقد أرسلت إليك فلاناً".

فقال أبو حنيفة: "عِلمُنا هذا رأي، فمن جاءنا بأفضل منه قَبِلناه وتركنا ما قلناه من قبل". المنطق العقلي هو أنني مستجيب للحق وأنني على استعداد أن أسمع وأفهم. إذًا، فالنقطة الأولى هذه تتكلم عن كيف أتعامل مع من أختلف معه بالمنطق العقلي دون صراع أو تشنج؟ وأن نقلد نبينا صلى الله عليه وسلم في أن أتعامل بهدوء وروية. ولكن هذا لا يعني أن أصر على رأيي إذا ظهر الحق في رأي غيري. فكان الإمام الأعظم إمام الأئمة كما كانوا يلقبونه يقول: "عِلمُنا هذا رأي، فمن جاءنا بأفضل منه قَبِلناه". وفي رواية أخري يقول: "هو أحسن ما وصلنا إليه" أي هذا آخر ما توصلنا إليه.



التعامل مع بعض الناس بالمنطق العملي:

ولننتقل الآن إلى المنطق الثاني والنوعية الثانية من الناس التي لا تفهم النظريات، فلا تناظرهم بالعقل، ولكن هذه النوعية تحتاج إلي تطبيق عملي تشاهده. ويمتلك أبو حنيفة مهارة عالية مع هذا النوع من الناس. أول مثال للمنطق العملي يستفيد منه المسلمون المقيمون بالغرب خاصةً حيث إنهم يواجهون مشكلة في التعامل مع الملحدين الذين لا يؤمنون بأي ديانة وكان يوجد أمثالهم بالعراق. فكان يوجد كل شيء بالعراق في وقت أبي حنيفة. فجلس أبو حنيفة إليهم للمناظرة العقلية، أي المبدأ الأول الذي تكلمنا عنه وهو المنطق العقلي، وظل يناظرهم ويقول لهم أن من غير الممكن أن يكون الكون قد نشأ صدفةً، ولكنه لم يثمر عن أي نفع معهم. فظل يفكر وقال لهم إنه متعب اليوم ولا يستطيع المناظرة، وطلب منهم أن يتقابلوا معه اليوم التالي في الموعد وفي المكان ذاتهما، وظل يؤكد لهم على الموعد. وفي اليوم التالي، اجتمع الكل ولم يظهر أبو حنيفة. أراد أبو حنيفة أن يستخدم معهم الطريقة العملية. وتأخر أبو حنيفة عليهم كثيرا حتى غضبوا غضبا شديدا، ثم جاء متأخرا واعتذر لهم عن تأخره -لاحظوا هنا كيف يتعامل مع الملحدين ؟وإصراره على أن يوصل لهم فكره لا ألا يبالي بأمرهم- وذلك لأنه صاحب رسالة، فمن السهل ألا يهتم بأمرهم ويقول لهم: "أنتم مصيركم النار"، ولكنه كان يريد أن يُصلِح ويريد أن يستوعب وينقذ نَفْسا. وبعد أن جاءهم متأخراً وكانوا قد غضبوا لذلك غضبا شديدا، قال لهم أبو حنيفة: "أنا آسف ولكن كما تعلمون أنا أسكن في الناحية الأخرى من الفرات، ولكي أعبر إليكم يجب علي أن أخذ قاربا فلم يأت القارب" أي لم أجد قاربا على النهر لذلك تأخرت. السؤال المنطقي هنا هو أن يسألوه إذًا كيف وصلت إلينا؟ قال لهم: "ظللت واقفا على جانب النهر لا أعلم كيف أصل إليكم، ففجأة جاءني لوحٌ خشبيٌ وظل أمامي، ثم جاءتني أربعة ألواح من كل النواحي المحيطة، ثم بدأت الألواح تتجمع وتترابط مع بعضها البعض حتى كونت قاربا متلاصقا، فركبته فقادته الأمواج حتى وصلت إليكم".

قالوا: "أتهزأ بنا؟! أنت لا تحترم عقولنا!" أي ما هذا الكلام الفارغ الذي تقوله لنا؟

قال: "أقررتم على أنفسكم وخسِرتُم. أبت عقولكم أن تقبل أن قاربا بسيطا قد اجتمع بالصدفة وقبلتم أن هذا الكون المُعجِز كله قد اجتمع بالصدفة؟!" فسكتوا. هناك نوع من الناس يجب أن تنقلهم إلى التطبيق العملي.



وهناك مثال آخر جميل ولطيف جدا: كانت الكوفة مقرًّا لسيدنا علي بن أبي طالب وهناك من هم بالكوفة متعصبون لسيدنا علي ويَسُبُّون سيدنا عثمان بن عفان، و كان هناك أحد الأشخاص بالكوفة يمشي بين الناس يقول: "عثمان كافر، غير مسلم!". تخيل أن يقول أحدهم هذا على سيدنا عثمان! وهل ينفع معه إقناع عقلي؟ لا، بل يجب استخدام التطبيق العملي معه. فماذا ستفعل معه يا أبو حنيفة؟ ذهب إليه أبو حنيفة وطرق بابه وكان الرجل مازال يقول: "كافر، غير مسلم!". فوجد الرجل الإمام أبو حنيفة على بابه ففرح بشدة.

فقال له أبو حنيفة: "جئتك خاطبا لابنتك".

قال: "لِمَن؟"

قال: "لرجل شريف، عظيم النسب، غني، كثير المال، سَمْح، كثير الأدب، جميل المُحَيّا، عظيم العبادة!".

فقال الرجل: "نعم يا إمام! ويكفي أنه من طَرَفِك يا إمام!".

فقال أبو حنيفة: "غير أن فيه خِصلَة".

فقال: "وما هي؟"

قال: "غير مسلم".

فقال: "يا إمام، أتأمُرُني أن أزوج ابنتي لرجل غير مسلم؟ كيف هذا؟"

فقال: "فكيف قَبِلَ عقلك أن رسول الله زوج ابنتيه لرجل غير مسلم؟" وذلك لأن عثمان بن عفان قد تزوج من بنتي النبي، رقية وأم كلثوم.

فقال الرجل: "أستغفر الله، تُبْت يا إمام".

هل أدركتم كيف تعمل طريقة أبو حنيفة وكيف تتحرك؟



ومثال آخر على الطريقة العملية، أنه ورد في فقه الإمام أبو حنيفة أنه إذا قرأ الإمام سورة الفاتحة في الصلاة بصوت منخفض، ولتكن صلاة الظهر مثلاً، فقراءة الإمام، لأنه إمام، تُجزِىء عن قراءة المأمومين خلفه حتى إذا لم يقرأوا هم سورة الفاتحة، وتكون صلاتهم صحيحة فكأن الإمام يقرأ لهم. هذه المسألة بالطبع رفضها أناس كثيرون، وأتى بعض الناس من المدينة خاصةً وقالوا له: "نناظرك!" أي نرد عليك في هذه المسألة. إن هذه المسألة تتعلق بفرع من الفروع. الخلاف في الفروع لا يؤدي إلى صراع. فهذه وجهه نظر المدينة وهذه وجهة نظر أبو حنيفة.

قالوا له: "نناظرك".

فقال لهم أبو حنيفة: "أنا لا أستطيع أن أناظركم كلكم".

قالوا: "فماذا تريد؟"

قال: "اختاروا شخصا واحدا منكم أناظره. فاختاروا أعلمكم يناظرني". فاختاروا أعلمهم.

فقال لهم: "ترضون بكلامه؟"

قالوا: "نرضى بكلامه".

قال: "فإن حاججني أو حاججته يَسري كلامه عليكم؟"

قالوا: "نعم".

قال: "أقررتم على أنفسكم". أي هذا هو ما اخترته في مذهبي وهو أن كلامه يُجزىء عن كلامكم وهذا هو ما فعلتم. فاضطربوا وكانوا شبابا صغار السن مثل شبابنا الآن. إذًا، فمن على صواب؟ وجه لهم أبو حنيفة كلاما جميلا، فقال: "ولكنكم من المدينة، فإذا عدتم إلى المدينة فهناك مالك..." يقصد الإمام مالك "...يقول إنه ينبغي أن يقرأ الفاتحة، فكونوا على أهل المدينة وأنا إذا قَدِمتُ إلى مالك في المدينة سأفعل ما يفعل مالك". ما رأيك في هذا الكلام الخطير؟ وهل لاحظت المنهج العملي؟ أيها الناس، عندما تختلفون مع شخص آخر، إما أن تعلم طبيعة شخصيته فتكلمه بالعقل، وإذا كان ذلك دون جدوى، ففكر ماذا قد تكون الطريقة العملية التي تستطيع أن تقنعه بها.



أريد أن نتعلم جميعا من هذه الحلقة أننا عندما نختلف مع أناس لا نَسُبَّهم، فلنفكر في طريقة أخرى غير أن نَسُب بعضنا البعض وغير أن نكره ونصارع بعضنا البعض. أحيانا إذا وقع حادث بين سيارتين في الشارع، فمن السهل أن نتصارع ونمزق ثياب بعضنا البعض، ولكن لماذا لا نتكلم مع بعضنا البعض؟ أرى الأزواج والزوجات يتصارعون حول أبسط الأشياء، فلماذا لا يتكلمون مع بعضهم البعض؟ أرى الابن مع أبيه في صراعات ويقول: "منذ ستة أشهر، لا أكلم أبي". نرى جميعا أفراد العائلات ومنهم من يقول: "منذ سنتين وأنا منقطع عن الكلام مع أخي". لماذا لا نتحاور ونفكر أيها الناس؟ وذلك لأن كسب القلوب قُرْبَة إلى الله كبيرة مثلها كمثل الصلاة والصيام.



التعامل مع بعض الناس بالتحايل الذكي:

النقطة الثالثة جميلة جدا وهي التحايل الذكي. هناك أناس مؤمنون بالحق ومن الجميل أنهم مؤمنون بالحق ولكنهم لا يتسمون بالمرونة بل بالجمود، ويعتقدون أن لا علاقة لهم بالتعايش. فالحياة عندهم لونان؛ إما أبيض أو أسود. ولكن لنرى أبا حنيفة وطرقه وتحايلاته الذكية ومرونته الشديدة حين يستحيل أن تتكلم بطريقة عقلية ويفهم من هو أمامك، ولنتعلم منه أيضا.



كان أبو جعفر المنصور هو الخليفة وأمير المؤمنين في العراق في ذلك الوقت وكان أحيانا يقتل الكثير من الناس، كما كان يشعر بالقلق تجاه أبي حنيفة لأن أبا حنيفة كان بمثابة القائد وكان متجددا. وكان أبو حنيفة لا يرضى عن الكثير من تصرفات المنصور - خاصة مسألة قتل الناس- وكان هناك شخص في مجلس أبي جعفر المنصور يسمى أبو العباس الطوسي، كان أبو العباس الطوسي رئيس الشرطة لدى المنصور وكان يكره أبا حنيفة ويحسده. دعا المنصور أبا حنيفة أن يحضر جلسته، فذهب أبو حنيفة لقصر الخليفة وعند دخوله القصر، أشار الطوسي لمن كان بجانبه وقال له: "اليوم أقتل أبا حنيفة!". فشعر بذلك أبو حنيفة. ثم دخل الطوسي المجلس وقال: "يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أناظر أبا حنيفة، أسأله سؤالاً فقهياً؟"

فقال له المنصور: "اسأل".

فقال: "يا أبا حنيفة، أمير المؤمنين يبدو له رأي في إنسان فيقول لنا دون أن ندري لماذا؟ "اقتل فلاناً!"، أأقتله وأطيع أمير المؤمنين أم أعصي أمير المؤمنين؟" أي أنه حفر لأبي حنيفة حفرة وكان في انتظار أن يقع فيها أبو حنيفة.

فنظر أبو حنيفة - ولاحظ هنا سرعة البديهة لدى أبي حنيفة مع العلم أنه إذا قال ما يراه صحيحا بطريقة مباشرة فلن يكسب الكثير- إلى الطوسي وقال له: "يا أبا العباس، أمير المؤمنين يأمر بالحق أم بالباطل؟"

فقال: "يأمر بالحق".

قال: "افعل الحق ولا تسأل". ثم أمال أبو حنيفة على من كان بجانبه وقال له: "أراد أن يَربُطَني فَرَبَطتُه". كان يتمتع أبو حنيفة بشخصية خطيرة. ومسألة التحايل الذكي إنما تكتسب بالاحتكاك وبعدم الانعزال عن الناس. أعلم أن هناك من يستمع إلي من الشباب ويقولون: "أنا لا أستطيع أن أتعامل هكذا!" ولكني أقول لهم: "ومَن مِنا كان يستطيع أن يتعامل هكذا؟" إنما تكتسب هذه المهارة بالتعايش، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بالغ الأهمية: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". "يخالط الناس" أي يدخل في معترك الحياة ويندمج ويتعايش، "أذاهم" لأنه لابد وأن يؤذوه ولابد وأن يرى منهم معاصي وأخطاء. فالشخص الأول في الحديث سوف يتعلم الدنيا جيدا، فينجح للإسلام وللحياة، أما الشخص الثاني فلن يتعلم شيئا لأنه منعزل. هلا انتبهتم لهذه الطريقة؟ ومع ذلك فلن يخسره أبو حنيفة. فهناك قاعدة جميلة جدا في التعايش يجب أن تتعلموها تقول: "لو يوجد ألف شخص يحبونك وشخص واحد غاضب منك، هَرْوِّل إلي من هو غاضب منك وتصالح معه". هذا هو التعايش. فالتعايش يؤدي بك إلى النجاح في الدنيا والآخرة.



فبعد أن رد أبو حنيفة على الطوسي بهذا الشكل، اشتعل وجه الطوسي احمرارًا وانتشر الضحك في مجلس أمير المؤمنين. فأراد أبو حنيفة أن يخرج أبا العباس من حالة الألم والاستهزاء بمزحة،

فقال: "يا أمير المؤمنين، أحكي لك قصة رواها لنا الشَعْبَّي..." وهو أحد الأئمة الكبار "...أن الأسد ملك الغابة مَرِض فزارته كل الحيوانات إلا الثعلب. فجاء الذئب إلى الملك وقال له: "يا أمير الغابة، يا ملك الغابة، زارتك كل الحيوانات إلا الثعلب لأنه لا يحبك!". فغَضِب الملك الأسد وقال: "عندما يأتي سنرى". فَعَلِم الثعلب أن الذئب قال ذلك. وجاء الثعلب فقال له الأسد: "لماذا لم تأتِ لتزورني لما مَرِضت؟" قال الثعلب: "كل الحيوانات زارتك، أما أنا فذهبت أبحث لك عن الدواء". فقال الملك: "ووجدت الدواء؟ فأنا مازلت مريضا". قال: "نعم، هذه الخرزة إذا وضعتها في ساق الذئب شُفيت". فأخذ الملك الأسد الخرزة ووضعها في ساق الذئب، فنزف الذئب دما. وانتظره الثعلب خارج المكان. وعند خروج الذئب بساقه التي تنزف دما، قال له الثعلب: "يا صاحب الخُف الأحمر..." لِمَا نزف من الدماء "...إذا فعلت ذلك ثانيةً، هذه المرة الخرزة في ساقك، المرة القادمة الخرزة في رأسك!". فضحك أمير المؤمنين ولم يتمالك العباس نفسه فضحك أيضا. يقولون: "ثم جلس بجوار أبي العباس، فَنَمَت الصداقة بينهما منذ ذلك اليوم". كان أبو حنيفة لا يخسر أحدا. وهل فعل ذلك كي يكسب في الدنيا أم فعل ذلك لإرضاء الله؟ لا أعلم، ولكن من المؤكد أنه ربح الاثنين، وكل امرئ يؤجر وفقًا لنيته. افعل أنت ذلك لله وللدنيا. لِمَ لا؟ هل لاحظتم هذه الطريقة؟



مثال آخر على هذا النوع من الحَيَّل اللطيفة الذكية أنه أتى أبو حنيفة زوجان على خلاف. فقال الزوج لأبي حنيفة: "حلفت بالطلاق ألا أكلم امرأتي حتى تكلمني" فقالت لي: "وأنا لن أكلمك حتى تكلمني". فيبدو هكذا أن المسألة ستودي إلى الطلاق. فقال أبو حنيفة: "اذهب يا رجل، امرأتك حلال وليست طالقا وعش معها ولا يوجد في ذلك مشكلة ولا تدفع ولا حَنُث يمينك، فاذهب إلى بيتك ولا تعاودا هذا الأمر مجددا". فسمع بهذه الفتوى سفيان الثوري وهو من العلماء الكبار، فَجُنّ جُنُونُه. فذهب إلى أبي حنيفة وقال له: "أتبيح الزنا؟!"

فقال: "لا".

فقال: "فكيف هذه الفتوى؟!"

قال أبو حنيفة: "يا إمام، الأمر بسيط. هي قالت له "لن أكلمك حتى تكلمني" فقد شافهته. وإنما بحثت لهما عن مخرج بحيلة ذكية ولم أفعل حراما لعلي أجمع هذا الإرط". هذه هي طريقة تفكير أبي حنيفة بصرف النظر عن موافقتك معه على هذا الموضوع أو لا.

فقال سفيان الثوري: "والله، كم من معضلة ليس لها إلا أنت! أتلوموني على حبه؟ لهذا أحبه". أي أتلوموني على أني أحب أبا حنيفة؟ فقد أعجبته الفتوى، وذلك لأن الأصل في موضوع الزواج هو كيفية الحفاظ على البيوت وليس كيفية إقامة الطلاق بين الناس. فشرح له أبو حنيفة أنها قد شافتهه بالفعل. فهل تستطيع أن تفكر مع الناس بهذه الطريقة وأن تتعلمها؟ هذه الحلقة ليست للتطبيق اليوم، ولكن لو دونت هذه الأشياء وببعض التفكير قد تتدرب عليها.







التعامل مع بعض الناس بالحلم والصبر:

النقطة الرابعة هي الصبر والحلم. هناك شرائح من الناس لا يجدي معها نفعا سواء الإقناع العقلي أو العملي أو الحيل، وأمثلة على ذلك من يَسُبَّونك كراهيةً وحسدا، فكيف ستتعامل معهم؟ وكان أبو حنيفة كثيرا ما يُسَبّ لأنه كان يأتي بأفكار جديدة لا تكون مقبولة وقتها، حتى تمر فترة من الزمان ثم يبدأ الناس في استيعابها ومراجعة أنفسهم بشأنها ويتبين لهم أنه كان على حق، وقد يكون قد تُوفي آنذاك. ففي إحدى المرات، جاءه شاب وقال له: "يا مبتدع! يا زنديق!" مثلما تقول لأحد الأشخاص في يومنا هذا: "يا ضال! يا مُضِل".

فقال له أبو حنيفة: "الله يعلم أنني بخلاف ما تقول. فإن كنت صادقا، فاللهم اغفر لي. وإن كنت كاذبا، فاللهم اغفر له". هل تستطيع أن تتحلى بمثل هذا الحلم؟ تخيل شعور الشاب - إذا قال لك من سببته كلاما مثل الذي قاله أبو حنيفة له- فقال الشاب: "قد أخطأت، فاستغفر لي". إذا كان أحدنا في موقف أبي حنيفة، فقد نتصارع مع الشاب أو لا نجالسه. هلا نظرت إلى كلام أبي حنيفة؟ هلا تحليت بمثل هذا الحلم والصبر؟ فهناك نوعية من الناس يَكمُن حل الخلاف معهم في الصبر والحلم عليهم.



ومثال آخر، سأل أحد الأشخاص أبو حنيفة عن فتوى، فقال: "أرى كذا وكذا وكذا". وكان شخص آخر من البصرة حاضراً بالمجلس ويُذكَر أن أبا حنيفة من الكوفة، فقال الذي من البصرة: "ولكن الحسن البصري يقول عكس ذلك".

فقال أبو حنيفة: "أخطأ الحسن البصري".

وكان الرجل من المتعصبين ونرى أمثاله الكثيرين من المتعصبين الذين لا يفكرون مسبقا. فقال الرجل: "أنت تقول "أخطأ الحسن البصري"، وقام بِسَبِّه بِسباب خطير أتحرج في أن أرويه لكم ولكن، قال له الرجل: "أنت تقول: أخطأ الحسن البصري، يا ابن الزانية!" يقول الرجل هذا الكلام لأبي حنيفة في مسجد الكوفة وفي وسط الناس.

فقال أبو حنيفة: "الله يعلم أن أمي بخلاف ذلك. نعم، أي والله، أخطأ الحسن البصري وأصاب ابن عباس. فما قلته أنا ليس رأيي، ولكن هذا قول ابن عباس". فأُحرِج الرجل وقام. هل تستطيع أن تتحلى بالحلم لهذه الدرجة؟ لا يتعامل أبو حنيفة هكذا مع المخالفين معه في الرأي فحسب، بل ومع العصاة. فمن السهل علينا أن نحكم علي شيءٍ ما بالحلال أو الحرام، ولكن هل تستطيع أن تكون في منتهى الحلم مع العصاة؟ هل تستطيع أن تتعامل معهم بهذه الطريقة كي تكسبهم؟ هل يستطيع كل من الشباب والسيدات والبنات فعل ذلك؟ لاحظوا هذه القصة:



قال بعض الناس أن أبا حنيفة ظل أربعين عاما يصلي صلاة الفجر بوضوئه لصلاة العشاء. وهذا الكلام بالطبع يحمل في طياته الكثير من المبالغة. ربما كان يفعل ذلك يوم الجمعة، ولكن الكلام يحتمل المبالغة. قد يكون فعل ذلك مرات ولكن ليس بهذه الصورة حتى وإن كانت الرواية مبالغة، فإن أبا حنيفة كان ممن يقومون الليل كثيرا، تقريبا كل ليلة. وكان له جارٌ شابٌ سكيرٌ. وكان هذا الجار في كل ليلة يشرب الخمر ويسكر ويعلو صوته بالغناء:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثغري

أضاعوني......

من الواضح أنه كان يعاني من مشكلة عائلية أو مشكلة ما، وكان طوال الليل يشرب الخمر ويسكر ويقول: "أضاعوني وأي فتىً أضاعوا...". تخيل أنك عابد وتصلي القيام ومنزلك بجوار منزل هذا الشاب، فمن المؤكد أنك ستذهب إليه وتكسر له بابه وتَسُبّه وتطلب له الشرطة...إلخ. أما أبو حنيفة فكان ينتظر الفرصة المناسبة ليدعوه فيها، لذلك كان لا يتكلم معه لأن الكلام قد لا يفيد في ذاك التوقيت. كل شخص منا يبدو مثل القطار، فإذا تكلمت معه لن يسمعك. ولكنه له محطة يتوقف عندها مثل الزواج، الطلاق، أي مشكلة. ما عليك إلا أن تنتظره في محطته، ليسمعك. هذه هي فكرة أبي حنيفة. وكان أبو حنيفة ينتظر الشاب في محطته كي يسمعه فيها. لاحظ هنا الصبر والحلم من جانب أبي حنيفة على المختلف معه. فمن المؤكد أن أي شخصٍ منا عندما يرى معصيةً ما يشعر بالغضب، ولكن الأهم هو كيف تصلح من قام بالمعصية، هذه هي المهارة، لا أن تعبر عن غضبك.



وفي أحد الأيام، قام أبو حنيفة للصلاة ولم يسمع غناء الشاب. فسأل عنه، فقيل له أن الشرطة قد سمعت به فأمسكت به. فارتدى أبو حنيفة ملابسه وخرج في سواد الليل إلى مكان الشرطة.

فقال رئيس الشرطة: "هذا الرجل لم يأت أبدا إلى الشرطة من قبل ولا يريد شيئا منا! ما الذي جاء بك؟"

فقال لهم: "الشاب السكير. أخرجوه من أجلي". فخرج الشاب وركب مع أبو حنيفة على البغل وعاد به إلى المنزل دون أن يتفوه معه بأي كلمة. لماذا لم يتكلم معه أبو حنيفة؟ حتى يظل الشاب يفكر في أن أبا حنيفة من المؤكد سوف يتكلم معه بخصوص شيءٍ ما. فالتفكير هنا أفضل من الكلام. حتى إذا عادا إلى البيت، فنظر إليه أبو حنيفة وقال: "هل أَضَعْتُك يا فتى؟" لم يقل له "حرام!"

فقال: "أبدا والله. جُزيت عني خيرا".

فقال: "إن شئت، تحضر إلى حلقتي في المسجد".

قال: "أفعل". وصار هذا الشاب من تلاميذ أبي حنيفة. هذه طريقة في التعايش مع العصاة. هل شعرت بأبي حنيفة الآن وهل قدرت شخصيته؟ هل علمت سبب نجاحه؟ لأنه قادر على التعايش.



هناك نوع آخر من الناس يشعرونك بالتعب والإرهاق، فكان أبو حنيفة يتحلى بخفة الدم مع هذا النوع من الناس. فقد تختلف مع بعض الناس من كثرة مضايقتهم لك وتشعر أنه شخصٌ ثقيل عليك. في إحدى المرات مَرِض أبو حنيفة، وزاره شخصٌ لبث عنده قرابة الساعة، حتى شعر أبو حنيفة بالتعب من هذه الزيارة. فمن المفترض على من يقوم بزيارة مريض أن يجالسه مدة دقيقتين أو ثلاث ثم يخرج. ولكن هذا الشخص ظل ساعة عند أبي حنيفة حتى شعر الأخير بالملل والتعب وعدم القدرة على تحمل هذا الشخص، ولكن أراد أن يعلم هذا الشخص الدرس بالصبر وبالحلم، لا بالصراع، ففي آخر الزيارة قال الرجل له: "لكأني أثقلت عليك يا إمام؟" فقال أبو حنيفة: "أبدا والله، أنت ثقيل علي وأنت في بيتك". فضحك الرجل. أحيانا قد تصل إلى حل لمشكلتك مع من أنت مختلف معه بمزحة.



وفي مرة أخرى، مَرِض أبو حنيفة وزاره بعض الأشخاص الذين لبثوا عنده فترة طويلة. فكان يشعرهم بين الحين والآخر أنه يريد النهوض، إلا أنهم على الرغم من ذلك لم يستأذنوه في الخروج. فنظر إليهم أبو حنيفة وقص عليهم مزحة فقال لهم: "قوموا! قد شفى الله مريضكم!". هذه طريقة في الحلم والصبر وهو أن تستخدم المزحة في حل المشكلة. وبمناسبة الحديث عن الحلم والصبر، في أحد المرات جاء الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "أعطني مالاً!". فأعطاه النبي مالاً وقال له: "أوفيت لك؟" قال: "لا وفيت ولا أجزلت ولا أحسنت". فأخرج سيدنا عمر بن الخطاب سيفه وهمّ بقتل الرجل. فقال النبي: "يا عمر، دعه!" وأخذ الرجل وظل يراضيه ويعطيه حتى قال الرجل: "أحسنت ووفيت وأجزلت. جزاك الله خيرا". فنظر النبي للصحابة وقال: "إن مثلي ومثل هذا الرجل معكم كمثل رجل عنده ناقة شردت منه في الصحراء. فجعل الناس يتتبعونها، فتزداد نفورا. فقال لهم "دعوا ناقتي. أنا أرفق بها وأعلم بها" فجعل يتقرب إليها هوينا هوينا حتى جاءت. كذلك فعلت أنا مع ذلك الرجل وكذلك كنتم تريدون. ولو فعلت به ما تريدون لدخل النار". هذا هو منهجنا. أنا متعجب أن هذا هو إسلامنا. أنا لا أروي حكايات، بل أروي عن جذور الإسلام. نحن الآن لا نرى هذا الكلام أو لا نطبقه، ولكنه إسلامنا. فلا تتهموا إسلامنا يا غرب! هذا البرنامج يعرض في الغرب مثلما يعرض على القنوات الفضائية العربية. هذا هو إسلامنا يا غرب! وهذه هي عظمة إسلامنا! ونحن فخورون بهذا، فلا تحاول يا غرب أن تزيل ثقافتنا وتقول: "أنتم لا تعرفون معنى التعايش. فتعالوا لتتعلموا معنى التعايش من الغرب". أتكلم أنا في هذا البرنامج كي تتعلم أنت يا غرب معنى التعايش. يا من تعيشون بأوروبا، ويا مسلمين يا من تعيشون بالغرب، افتخروا بهذا التاريخ وبأن عندنا أمثال هؤلاء الناس بهذا العمق وهذا الجمال! وافتخروا بأن هذه هي سنة نبينا وأن هذه هي طريقتنا في التعامل مع المختلفين معنا في الرأي! ولكن في الوقت نفسه ، لا تفرض علي ثقافتك.



التعامل مع بعض الناس بالثبات على المبدأ:

لذلك النقطة الأخيرة في كيفية التعامل مع من أختلف معه هي إن فرضت علي رأيك في ثوابت وقضايا أساسية، وليست في فروع كما قلنا سابقا، فسأثبت أنا على رأيي. إياكم أيها الناس أن تعتقدوا أن التعايش يعني أن أذوب وأن أفقد شخصيتي. لقد تحدثنا عن أبي حنيفة من قبل وعن التحايل الذكي العدل ولم يقل لأمير المؤمنين: "أنت كذا وكذا..."، بل استخدم في ذلك المزاح. قد يقول البعض أن الشخصية بهذا الشكل قد تفقد هويتها وجديتها ووضوحها. فعندما يتعلق الأمر بالفروع أو في الوقت غير المناسب، فلا يوجد مشكلة في أن تبدو الشخصية بهذا الشكل. ولكن وقت الثوابت، يجب أن يظهر الشخص كالأسد ولا يتنازل أبدا.



مثال على ذلك، أن المنصور شعر أن هوى أبي حنيفة مع آل البيت وأن هوى أبو حنيفة ليس معه وإنما ضده وضد العباسيين. فظل المنصور يكيد لأبي حنيفة حتى أتى به في مرة من المرات وقال له: "أمرتك أن تتولى القضاء" أي أن تكون أنت قاضي القضاة. فرفض أبو حنيفة ذلك. أتعلمون لماذا رفض؟ لأنه هنا لديه مبدأ، ليس لأنه لا يريد القضاء، بدليل أنه بعد ذلك وصى تلميذه أبا يوسف أن يصبح قاضيا، وبالفعل أصبح أبو يوسف فيما بعد القاضي. رفض أبو حنيفة القضاء لأنه يرى أن جعفر المنصور لا يعطي حرية للقضاة، فلا يوجد استقلالية القضاء. وهو لا يقبل أن يكون قاضيا غير حرٍّ لأن الحرية – مثلما قلنا سابقا- أساس في حياته. فكان أبو حنيفة يرى أنه لا يصح أن يكون قاضيا ويُملي عليه المنصور ما يفعل وما لا يفعل، لأنه بذلك سوف يخسر دينه ودنياه. سوف يخسر تاريخه العلمي في الدنيا كما سيخسر آخرته. فقرر ألا يكون قاضيا.

فقال له المنصور: "أقسمت عليك أن تقبل!"

فقال: "أقسمت عليك لن أقبل".

فقال أحد الحاضرين: "أترد يمين أمير المؤمنين؟!"

قال: "أمير المؤمنين أقدر على دفع كفارته مني".

فقال: "ستقبل القضاء!" قد اشتد الحديث بينهما.

فقال أبو حنيفة: "والله لا أقبله!".

فقال: "لِمَ؟!"

قال: "أنا لا أصلح له". ولاحظ هنا ذكاء أبي حنيفة. فهو لم يقل له "أنت لن تسمح لي أن أكون قاضيا!" بل قال "أنا لا أصلح له".

فقال أمير المؤمنين: "كَذَبت!"

فقال أبو حنيفة بمنطقه العقلي نفسه: "شهدت يا أمير المؤمنين! كيف تولي القضاء كاذباً؟! فإن كنت أنا كذّابا، فلا أصلح للقضاء. وإن كنت أنا صادقا، فيجب أن تصدقني يوم قلت لك أنا لا أصلح للقضاء". كانت شخصيته غير عادية.

فقال أمير المؤمنين: "والله لأُعَذِبَنَك! دُوروا به في الأسواق واضربوه مئة وعشرون جلدة. كل يوم عشر جلدات بالسياط الشديدة!". يقولون: "والله رأينا الدم يسيل إلى كعبيه وهو يقول "لا أقبل القضاء. أنا حر!" ". كان الدم ينزل على جسمه فلا يجف عند ركبتيه وإنما ينزل إلى كعبيه.



هل لاحظتم التوازن بين عدم الذوبان-الذي يشكل خوفا للناس في موضوع التعايش- والثبات على المبدأ؟ هل لاحظتم المؤمن الذي يخالط الناس وفي الوقت نفسه محتفظ بشخصيته؟! ما هذه العظمة؟! قاموا بضربه ليالٍ طويلة وقاموا بسَجنِه وصدر قرار: "لا يُفتي أبو حنيفة!". سوف أنتهي من الكلام عن أبي حنيفة في هذه الحلقة. وفي الحلقة القادمة، سيتواجد معنا عالم كبير من العلماء في الفقه الحنفي ليحكي عنه. قد وصلت إلى نهاية الحلقة بالخمس نقاط تلك.



الآن أبو حنيفة على مشارف الوفاة. أدى أبو حنيفة فقهه. لقد ضُرِبَ أبو حنيفة ضربا شديدا وسُجِنَ وظل بالسجن أياما طويلة. وهو في السجن، أرسل إلى تلامذته مسألة عملية وهي "هل القاضي إذا اتُهِمَ بالكذب يصلح للقضاء أم لا؟" أي أنه يفكر بالعلم وعمل المدرسة فيما حدث له. ما هذا الجمال؟ وما هذا العلم والإيمان الذي يملؤه؟ وكيف استطاع أن يفعل كل هذا ويتوازن مع كل هذا؟ لأنه كان متعايشا مع نفسه وكان عابدا. كان يرتدي ملابس جميلة؛ كان يلبس الحُلَّة بألف وخمسمائة درهم. كان شديد الأناقة. كنت تعرف ذوقه من ملابسه. كانت شخصيته كالجامعة. وكان هو بالفعل بمثابة الجامعة أو الأكاديمية. وهناك خلاف حول قصة وفاته: هل تُوُفِيَ في السجن أم تُوُفِّيَ بعد خروجه من السجن بأيام؟ أغلب القول أن المنصور تخوف من أن تحدث ثورة شعبية بعدما ضَرَبَ أبا حنيفة مئة وعشرين سوطا، وكان أبو حنيفة مُصِرًّا على رأيه بألا يقبل بالقضاء. فانصاع أبو جعفر المنصور. تخيل أن أكثر شخصية حرة في تاريخنا سُجِنَت وعُذِّبَت.



جلس أبو حنيفة في بيته في آخر أيامه وكان شديد الضعف بعدما أُرهِق. وجاءه ابنه، فقال: "يا أبتي، أريد أن أستفتيك في المسألة الفلانية". قال: "يا بني، لا أستطيع. أمير المؤمنين قال لي لا أُفتي". أنا متعجب من طبيعة هذا الرجل! قد يقول البعض: "اقلب الأمور على أمير المؤمنين وانتقم لنفسك!". ولكن أبا حنيفة لا يتسبب في نشوب فتنة بين المسلمين، بل رأى أن الأفضل أن يقوم بتوحيد الناس. فكأنما يقول أبو حنيفة: " سوف أستمع لكلام أمير المؤمنين ولكني سأحتفظ بحريتي. لن أقلب الناس عليك يا أمير المؤمنين، ولكني محتفظ بحريتي ورأسي مرفوعة".



مات أبو حنيفة وصلى عليه خمسون ألفا. لم يستطيعوا الصلاة عليه مرة واحدة، فصلوا عليه ست مرات! وقف تلميذه عبد الله بن المبارك يبكي على قبره ويقول: "مات إبراهيم النَخْعَيّ وخَلَفَ من بعده خَلَفًا ومات حمَّاد وخَلَفَ من بعده خلفا. أما أنت، فلم تَخْلُف بعدك خلفا! مات العلم!". من المؤكد أنها مبالغة، لكن كم كان عظيما! مات أبو حنيفة وفي العام نفسه الذي تُوَُفّيَ فيه يولد الشافعيّ، لأن الله يحب ويرحم هذه الأمة. آخر من صلى على أبي حنيفة كان ابنه حمّاد واضطر أبو جعفر المنصور أن يصلي عليه ويدعو له من أجل الناس أو الله أعلم بنيته. أين قدر أبي جعفر المنصور اليوم وأين قدر أبي حنيفة؟ كم عدد أتباع أبي جعفر وكم عدد أتباع أبي حنيفة؟



الحرية والتعايش باقيان لمن يؤمن بهما. والذي يؤمن بالقوة لا يعيش ولا يستمر. استمر أبو حنيفة ولم يستمر أبو جعفر المنصور، واستمر فقه أبي حنيفة ليومنا هذا، وعندما جاء صلاح الدين الأيوبي أمر بتدريس الفقه الحنفي في كل مدارس مصر والشام على الرغم من أنه شافعيّ، لأن صلاح الدين كان متعايشا أيضا. ولتعرف مقدار تعايش صلاح الدين الأيوبي، فقد أرسل أولاده لدراسة الفقه المالكيّ في المدينة. فهو شافعي وأمر بتدريس الفقه الحنفي وأمر أولاده بدراسة الفقه المالكيّ لأنه يؤمن بالتعايش ولذلك انتصر. فالمتعايش منتصر. أما غير المتعايش أو الذي يريد يا غرب أن يجبر الآخرين على ثقافته بالقوة لن ينجح.



مات أبو حنيفة وقبل وفاته قال: "لا تدفنوني في المكان الفلاني، فإنه أرض مغتصبة..." - كان أبو جعفر المنصور قد اغتصب هذه الأرض- "...ولكن ادفنوني في أرض لم تغتصب"، فكأنما يقول "أنا حر حتى وأنا دفين". فلما سمع أبو جعفر المنصور بهذه القصة قال: "من يعذرني في أبي حنيفة حيا وميتا؟" رحمك الله يا أبا حنيفة! رحمك الله! وكما يقول العلماء: "وجب على كل مسلم من أهل القِبْلَة أن يدعو لأبي حنيفة لأنه حمل إلينا الفقه الإسلامي إلى اليوم. هل رأيتم كيف أن شخصياتنا منفتحة ومرنة؟



تكلمنا في خمس نقاط إن اختلفت مع إنسان: لتقلد فيهم أبو حنيفة: المنطق العقلي، العلمي، التحايل الذكي، الصبر والحلم على الناس العنيفة أو من يَسِبّوُنك والنقطة الأخيرة اثبت على المبدأ، فالتعايش لا يعني الذوبان. أراكم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1042

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام