الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قبل أن نبدأ، نسترجع سويا معنى البرنامج والهدف من تسميته بهذا الاسم؛ التعايش هو فن استيعاب الآخر، كيف تستوعبه ويستوعبك؟ لا يعني هذا أنه من الضرورة وجود خلاف بينك وبين شخص ما لتشاركنا دعوة للتعايش، فالتعايش يعني كيفية إقامة بيئة حوار جميلة في شركتك، في مصنعك، في النادي، مع أصدقائك، في منزلك، مع والدايك، مع زوجتك، مع أولادك، كيف لنا أن نتفاهم سويا بشكل جميلٍ ومفيد؟

ماذا فعل أبو حنيفة؟!

إن حلقة اليوم تتمحور حول ما فعله أبو حنيفة، إنه مؤسس أول وأعظم مدرسة فقهية في تاريخ الإسلام! فعندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ترك للمسلمين القرآن والسنة، وأراد المسلمون إيجاد حلول لمشكلاتهم في الحياة في ضوء القرآن والسنة، فكان لزاما علينا ان نقول ما هي الطريقة التي سنستخرج بها من الآيات والأحاديث حلول مشكلاتنا؟ فإذا أردت الزواج كيف تستخرج ذلك من القرآن والسنة؟ وهذا يوضح خطورة معنى كلمة "الفقه"؛ فهي تعني كيف لنا أن نحل مشكلاتنا في الحياة من خلال القرآن والسنة؟ وهذا ما فعله الأئمة الأربعة، فقد استنبطوا مذهبا، وضعوا طرقا ومذهبا ومدرسة، فالمذهب يعني أن يتحرك شخص من مكان لآخر، وطريقته في إيجاد حلٍّ للمشكلة تسمى مذهبًا، وقد جاء من كلمة "الذهاب"، فهم من وضعوا طرقَ حلّ المشكلات الدنيوية في ضوء القرآن والسنة.



وكان أبو حنيفة أول من بدأ - سنة 80 هجرية- فهو آخر من لحق بالتابعين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ويقال أنه تابعيّ؛ لأنه عاصر أنس بن مالك - وهو آخر الصحابة الذي دعا له النبي بطول العمر- فانتقل ليعيش في العراق تحديدا في الكوفة - مكان ولادة أبو حنيفة- ولذلك فيغلب القول إن أبا حنيفة عاصر أنس بن مالك، فقد كان من الرعيل الأول، وجاء قبل الإمام مالك -الإمام الثاني بين الأئمة الأربعة- كذلك فقد جاء قبل الشافعيّ -الذي تتلمذ على يد تلميذه- وكذلك فقد جاء قبل أحمد بن حنبل، إنه رجلٌ غير عادي ينسب إليه أنه أول من دون علم الشريعة، وهو أول من وضع فكرة تدوين العلم في الإسلام، لاحظوا أهمية هذه النقطة فهو أول من استخدم طريقة كتابة وتسجيل ووضع كتب تتحدث عن الفقه وكيفية حل مشكلات الحياة، على الرغم من أنه في النهاية لم يؤلف كتابًا وإنما كتبها على هيئة مذكرات، وقسَّم الفقه إلى أبواب -وإلى الآن لاتزال الكتب مقسمة بهذا الشكل- فأول بابٍ هو:الطهارة، فالصلاة، فالعبادات، فالبيع والشراء، ثم كل المعاملات، ثم الرهن، ثم الزواج، ثم الطلاق، ويعد أبو حنيفة أول من وضع هذا الشكل من التقسيم في تاريخ الإسلام، صحيح أن أول ما ظهر من الكتب هو كتاب الإمام مالك (الموَطَّأ)؛ لأن أبو حنيفة لم يصدر عنه كتبًا بل مذكرات، وأفكار قد جمعها تلاميذه من بعده في كتاب، لكنه يعد أول من وضع هذا الأمر، ويعد مذهبه الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي كله، فأغلب المسلمين- خاصة غير الناطقين بالعربية كأندونيسيا والهند وباكستان..إلخ - على مذهب الإمام أبو حنيفة، للدرجة التي يقول معها العلماء: ينبغي لكل مسلم أن يدعو في صلاته لأبي حنيفة؛ لأنه أول من شكل الفقه الإسلامي، وهذا يعني أنك تتحدث عن شخص عبقريّ صاحب مدرسة عظيمة.



إنجاز أبو حنيفة:

عظمة أبو حنيفة تكمن في كونه رأى ما يحتاجه المجتمع، وهذه أول نقاط التعايش، فلن تتمكن من التعايش إذا كنت جامدًا، ولن تتمكن من التعايش إذا أردت الناس أن تسير وفقا لهواك، ولكن التعايش هو كيف يمكن بناء منطقة مشتركة بيني وبين المجتمع من حولي؟ وهذا مطلب من يريد أن ينجح في الدنيا، فأنا أتحدث عن التعايش وقد ذكرت في بداية الحلقة الخلافات وأصحاب المشكلات، ولكن قد يكون هناك من يسمعني الآن قائلا: لكني ليس لدي مشاكل، وهذا يعني إنك لا تتحدث إليّ في هذا البرنامج! لا، إني أتحدث إليك. فمن خلال ما يسمى التفكير في ما هي احتياجاتك فأكون أكثر نجاحاً، فهي شئ للدنيا والآخرة، للدنيا لأن من يفكر بما يحتاجه المجتمع ويستطيع تقديمه لابد له أن ينجح، وهذا هو التعايش؛ لأني جزء من هذا المجتمع فكيف لي أن أتعايش معه؟ فترى ماذا يحتاج هذا المجتمع؟ يحتاج كذا وكذا وكذا، أتعرف من الذي يصبح مليونيرا؟ يقولون هو من يرى إلى أين يذهب الناس فيسبقهم، وعندما يصل الناس يجدونه منتظرهم بالمنتج الذي أرادوه، وبصرف النظر عن المال فأبو حنيفة رأى احتياجات الناس وإلى أين هم ذاهبون؟ إذًا، فهو الأول في الفقه لأنه رأى إلى أين يذهب الناس؟ وفكر في كيف له أن يساعدهم؟ وهذا ما أتحدث عنه، فإن كنت تسمعني ولا توجد بينك وبين الناس مشاكل، ففكر كيف يمكن أن يتقدم المسلمون خطوة للأمام من خلال فكرة التعايش هذه؟ دعونا من الدنيا، كيف لي أن أجني الثواب من خلال خدمة الناس؟ وهذا ما فعله أبو حنيفة.

دعوني أشرح بصورة أوضح، لدينا منطقتان، منطقة تسمى الحجاز ومنطقة العراق -التي ظهر فيها أبو حنيفة-، وكان في الحجاز النبي ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فكانت مقرًّا للخلافة الإسلامية التي نقلت بعد ذلك إلى منطقة العراق - التي أصبحت فجأة من مجرد قطر عادي لتصبح في مركز الدائرة - فكانت العراق في عهد أبو حنيفة دولةً عالمية تماثل اليوم العواصم العالمية كلندن أو واشنطن، فكانت بغداد في ذلك الوقت، عاصمة عالمية إن لم تكن عاصمة العالم؛ لذا فإنك تتحدث عن مكان غير عادي عن الاقتصاد، الأموال، وغنىً غير طبيعيّ، بل إن الدنيا في تلك المنطقة في ذاك الوقت كانت تتطور تطورًا مذهلاً، وهذه النقطة التي سيبني عليها أبو حنيفة فقهه، فهو يرى أين تصل الدنيا؟ فما حدث آنذاك يشابه ما حدث في القرن الواحد والعشرين بسبب ثورة التكنولوجيا من بداية الأقمار الصناعية والهواتف المحمولة، وما حدث من تطور غير طبيعي للدنيا، فالوقت الذي وُجد فيه أبو حنيفة في بغداد يشبه ما يحدث الآن؛ فكل يومٍ فيه فكرةٌ جديدة، علم جديد، اختراع جديد، وكل يوم يتجه الناس إلى موضة جديدة، وكل يوم يزداد معتنقي الإسلام ليصلوا إلى الملايين من الهنود والباكستانيين والرومان، وكلهم يتجهون لبغداد! هل تصدق أن تعداد سكان بغداد في ذلك الوقت سنة80 للهجرة وصل إلى اثنتي مليون نسمة؟! وهذا يعني إنها بلد غير عادي، فالدنيا تتطور بشكل غير طبيعي تطورًا مذهلا، وعلى النقيض في الحجاز فقد كان الجو يتسم بالهدوء والسكون والاستقرار، فلم يكن حجم التطور هذا في مكة والمدينة على الإطلاق، يذهب الناس إليها للحج والاعتمار، وذلك لأن مكان الخلافة نقل للعراق وأصبح هو المركز.



ليس هذا فحسب بل كانت هناك حركة الترجمة وما أدراك ما تعنيه هذه الحركة في العراق آنذاك! ترجمة كل لغات وأفكار وعلوم الدنيا إلى العربية. ويعد ذلك كأنه هجومٌ شرسٌ من كل الثقافات الأخرى -كما يحدث الآن من الثقافات الأخرى على ثقافة المسلمين وتأثر الشباب بها وتخبطهم ورغبتهم في التقليد - كان هذا بالضبط ما يحدث في بغداد، على الرغم من أن الإسلام كان قويا، بل كان في أوج قوته، ولكن كان في المقابل هجوما شرسا، وانفتاحا كبيرًا، وتطورا سريعا، وكان الفقه في ذلك الوقت مقتصرا على استنباط الأحكام من القرآن والسنة -وبالطبع هذا ما قاله أبو حنيفة وما سنقوله لآخر الزمان - ولكن هناك نقطة ومشكلة أخرى وهي أن العراق تختلف عن الحجاز. ويحضرني هنا أنه لابد عند الحكم على أي شئ أن ترى البيئة والظروف التي يتحدث الناس فيها، فمصر تختلف عن السعودية، والجزائر مختلفة عن ليبيا ، لذا عندما تحكم على فكرة أو على شخص ما انظر للظروف التي نشأ فيها، ماذا يقولون في الحجاز؟ يقولون أن نتوقف عند نص الحديث دون كثرة التفكير أو محاولة تحميل الحديث أكثر مما يحتمل، بل نقف على ما ورد.



موقف أبو حنيفة لمواجهة احتياجات المجتمع المستحدثة:

أولا: الاجتهاد:

جاء أبو حنيفة وقال كلاما مختلفا، بالطبع قال: نأخذ بالقرآن والسنة، لكن لاحظوا أنهما آياتٍ وأحاديث محدودة العدد، وتطورات الحياة غير محدودة، فكيف أستخرج من القرآن والسنة هذه الأمور غير المحدودة؟ بدأ يقول أنه سيبدأ ما يُعرف بالاجتهاد، أو الرأي، أو القياس، والثلاثة مسميات بمعنى واحد تقريبا، ولا أريد الخوض في تفاصيلهم العلمية، وفي النهاية معناهم: سأبحث في الآية، فإن لم أجد، سأبحث في الحديث، فإن لم أجد -وقد قال ذلك كما أقول بالنص -سأبحث في كلام أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، فإن لم أجد سأُعملُ عقلي وأقيس الأمر المستجد- فقد قلنا إن العراق كانت متطورة جدا- على آخر مشابه ذكر في القرآن والسنة، مثل المخدرات -شئ مستجد- نربطها بالخمر؛ لأن كلاهما يُغيِّب العقل، وبالتالي تكون حراما، كيف نفعل هذا ونحكم على المستجدات والأحداث ونعمل العقل من خلال القرآن، ثم السنة، ثم الصحابة، ثم الاجتهاد أو الرأي؟ فسميت مدرسة الرأي، هذا ما فعله أبو حنيفة ليواجه احتياجات المجتمع.



جدير بالذكر أن مدرسة الحجاز أذوا أبو حنيفة إيذاءً غير طبيعي وهاجموه، واتهموه اتهامات رهيبة، ويرد عليهم: إني لا أستطيع التوقف فإن فعلت جمعتني الثقافات الأخرى، فهناك الملايين ممن يعتنقون الإسلام، والعراق تتطور باستمرار فلا بدّ أن أفكر في المستقبل وأحل المشاكل المستحدثة كل يوم؛ فالدنيا عندي متغيرة عكس الثبات الذي يوجد عندكم، وهذه نقطة هامة جدا في التعايش؛ أن آتي مكانك وتأتي مكاني، وأرى ماذا ترى؟ وترى ماذا أرى؟ وأعتبر ظروفك، وتعتبر ظروفي، إن ذلك ألف باء الدنيا ليحدث حوار. فهو رجل سابق لزمانه وصاحب رؤيا، فلديه مشكلة تختلف عن الحجاز الساكن الذي قلما تتجدد فيه أشياء آنذاك؛ لذا فإنهم يقفون عند النص كما هو، أما في بغداد فالدنيا تتطور تطورا رهيبا مما يوجب عليّ أن أكون سابقا للأحداث وموازيا لها، وإلا تخلَّف الفقه عن الدنيا، فتحدث فجوةٌ بين الإسلام وبين احتياجات الدنيا، فوضع أبو حنيفة الرأي حتى لا يترك فرصة لهذه الفجوة في الظهور، فيسير الإسلام والدين متوازيان مع احتياجات الحياة؛ فيتعايش الإسلام مع احتياجات الناس.



فأول ما فعله أنه وجد احتياجات للناس في العراق نتيجة التطور المذهل في الأحداث، وعلى الرغم من أن آيات القرآن محدودة إلا أنها صالحة لكل زمانٍ ومكان؛ وبالتالي فإنه يمكن أن نستخرج من هذه الآيات المحدودة ما يستجد من أشياء غير محدودة، ولا يتم ذلك إلا بإعمال العقل، هذا هو فقهه.



وبالطبع هوجم؛ لأن الناس لم تكن مدركة لأنه يقول كلاما جديدا، فهو يقول سأستخدم الرأي والعقل والاجتهاد، وسأقيس، ويقال إنه أقدر قيّاس، أو أقدر من قاس في تاريخ الإسلام. فالمدرسة كلها قائمةٌ على الفكر، أرأيت كيف كانت العقول مستنيرة؟! أرأيت بُعد نظره؟! فلم يقف جامدا في مكانه، ولاحظوا كم هو جرئ ليقول إن في الفقه الإسلامي اجتهاد، ورأي وقياس -وهذا بالطبع ما يقوله كل الفقهاء الآن -ولكنه أول من قال ذلك. وجدير بالذكر أن كل من خالفه ساروا على فكره بعد ذلك، عندما بدأت الحجاز هي الأخرى تتأثر بما هو موجود في العالم الإسلامي، واستجدت أحداث جديدة، وعلى الرغم من أن القرآن صالح لكل زمان ومكان إلا أنه لابد من التفكير في كيفية الاستفادة من هذه الآيات والأحاديث في الأحداث الجديد. فلا بد من إعمال العقل، والأخذ بالرأي، والاجتهاد، فكانت عظمته في كونه جريئًا لم يخجل أن يكون أول من يقول.

ذات مرة جاءه شخصٌ وقال له: "أريد أن أفهم إذا قلتَ قولاً وكتاب الله يقول غير ذلك، فبم ستأخذ؟ قال: طبعا بكتاب الله، فقال: جيد، إذا قال رسول الله قولاً وقلت قولاً، فبم ستأخذ؟ قال:طبعاً بقول رسول الله، قال: جيد، إذا قال أصحاب رسول الله قولاً وقلت أنت قولاً، بماذا ستأخذ؟ قال: بقول أصحاب رسول الله، قال: إذا قال تابعيّ قولاً وقلت أنت قولا؟ قال: هم رجالٌ ونحن رجال". سيستخدم رأيه، فهو أيضاً تابعيّ وسيتكلم هو الآخر، لدرجة أن الإمام الأوزاعيّ -وهو إمام الشام وكان يعيش في بيروت بلبنان-، جاء إليه عبد الله بن المبارك من تلاميذ أبي حنيفة ولم يكن يعلم ذلك، فيقول الأوزاعيّ له: "من هذا المبتدع في الإسلام الذي ظهر في العراق يكنّى أبو حنيفة؟" والإمام الأوزاعيّ رجل كبيرٌ جدا، ولكنه لم يطلع يوما على رؤية نظر الإمام أبو حنيفة، يقول عبد الله بن المبارك: "فلم أرد عليه؛ وإنما ذهبت وجمعت مسائل أبو حنيفة -اختار أروعها-فجئته بعد الصلاة، وقلت له: اقرأ، فقال: لمن هذه؟ قلت: لرجل يسمى النعمان بن ثابت -وهو اسم أبو حنيفة ولكن لم يكن يعرف الأوزاعيّ كنيته من اسمه - فظل يقرأ ويقول: عجبًا ما هذا الفقه؟! عجبا ما هذه الرؤية؟!، يقول فظل يقرأه حتى أذَّن المغرب ثم العشاء ثم ظل يقرأ، ثم قال لي: يا ابن المبارك الزم هذا الرجل فإنه عظيم، من هذا الرجل؟! فقلت له: هو أبو حنيفة، فقال: والله لقد بلغني عنه غير الذي قرأت".

نحن اليوم يا مسلمين، نسب بعضنا البعض دون أن نعرف ما يقوله الآخر؛ لأننا لا نريد أن نتحاور أو نفهم، نحكم على الناس بالسوء دون مقابلتهم أو محاورتهم أو سماعهم، اعتمادا على ما يقوله الناس، هذا لا يجب؛ لأن ألف باء التعايش أن تحاور وتسمع.





ولأن ما يقوله أبو حنيفة على المجتمع جديدا، أرسل إليه أمير المؤمنين الخليفة المنصور في الدولة العباسية -فقد وصل الأمر- إليه قائلاً: "بلغني أنك تقدم الرأي والقياس والاجتهاد على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فرد عليه: ليس كذلك يا أمير المؤمنين أنا أقول أولا بكتاب الله، ثم بسنة رسول الله، ثم بأقضية أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ثم أُعمل عقلي، فإن اختلف الصحابة أعمل عقلي فأختار من أراه أرجح لحاجة الناس".



أرأيتم من أين جاء أبو حنيفة؟ من احتياجات البيئة في العراق، فسبق ولبىّ احتياجات العراق، فبدأ يتحدث في الفقه ويحل المشكلات، ويستخرج ما يتماشى مع الحياة، فلم ينفصل الدين عن الحياة. لقد جئنا في زمن استجدت فيه أشياء، كالبنوك فترى ما وضعها في الإسلام؟ فلم نجد مجتهدين لاستنباط الرأي، وبعدها ظهر الاستنساخ، ماذا نفعل؟ فبدأت الفجوة بالظهور، وبدأ بعض الناس في الابتعاد عن الدين معللين ذلك بأنه لا يلبي احتياجات الحياة، وما نحتاجه في الدنيا لا يوجد في الدين، وبدأ الناس يأخذون الدين بتطرفٍ وعنف. أتصدق أن أبا حنيفة قد سدّ هذه الفجوة بأن وازى بين ما تحتاجه الدنيا وما يقوله الإسلام؟ فترى من يجعل الإسلام في زمننا هذا يتعايش مع الحياة هكذا؟ فيحب الناس الإسلام، ويقبلون عليه، ويقولون وجدنا فيه غايتنا.



ثانياً: الفقه التقديري:

ليس هذه نهاية النقاط، بل إنه فعل شئ آخر؛ فقد فكر في التقدم خطوة أخرى، وذلك بتفكيره، لِمَ ننتظر ما تريده الحياة ثم ترى بم يرد الإسلام؟ لِمَ نمشي مع الحياة ولا نسبقها؟! فوجد ما يعرف بالفقه التقديري، ويعني افتراض مسائل غير موجودة؛ ليفكر في حلول لها إن وجدت أتتخيلون ذلك؟ أتدرون كم مسألة؟ حوالي عشرون ألف مسألة!



وهل سيسبق في الدين؟ سيسبق في كل شئ في الاقتصاد، في الزراعة، في الزواج والطلاق، فقد وضع مسائل متوقعة الحدوث في الثلاثين والمائة سنة القادمة، لقد افترض أشياء استخدمناها في القرن العشرين؛ أتصدق أنه أول من تحدث في ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى؟ وقد هوجم عليها هجوما رهيبا -سنذكر ذلك لاحقً-، فكان يجلس ويتخيل أنه بعد عشرين عاماً قد يحدث في نهر دجلة والفرات كذا، وتعداد السكان اثنتا مليون نسمة، ماذا سنفعل؟ إنه يتحدث في الاقتصاد، والرجال الذين يخرجون للجهاد والمعارك المنتشرة في كل مكانٍ تاركين زوجاتهم إن لم يعودوا ولم نعرف ماذا حدث لهم فما وضع زوجاتهم؟ إنه شئ لم يحدث بعد ولكنه سباق، واستمر هكذا في سبق الأحداث وافتراض الأمور وتذهب الدنيا إليه، لدرجة أن الخلفاء وصلوا لمرحلة احتياج لفقهه؛ لأنه فكر في أمورٍ متوقعة الحدوث كالتعداد السكاني والاقتصاد ورأي الإسلام، فجعل الإسلام سابقا للدنيا.





ثالثا: مدرسة أبو حنيفة الفقهية:

وسينتقل الإمام نقلةً ثالثة:

فأولاً: كان الاجتهاد والرأي.

وثانيا: الفقه التقديري (ماذا لو حدث كذا؟).

وثالثا: سؤاله هل بإمكانه أن يفعل ذلك كله وحده؟ بالطبع لا؛ لأنه لكي أفكر في احتياجات الأمة، وأستنبط من القرآن والسنة، وأقيس وأجتهد، وأفترض المتوقع حدوثه في السنوات القادمة، فهذا لا يحتاج لعقل واحد وإنما يحتاج عقولاً، فكان الحل قراره ألا يفتي وحده. وإنما سأشكل مدرسةً فقهية، مثلما يعرف الآن بالمجمع الفقهي، والذي يجتمع فيه علماء من مختلف بلدان العالم ليتصوروا كيف يمكنهم حل مشكلةٍ ما؟ فهل تتخيل أن أول من فعل هذا هو أبو حنيفة سنة 80 هجرية؟ شكل مدرسة-أكاديمية-؛ لإيمانه بالمدرسة الجماعية في الفقه، لقد أسس مؤسسة ًعلميةً فقهية، جاء فيها بالتلاميذ والعلماء من مختف التخصصات، واتفق معهم أن يظلوا معاً سنوات طوال ليستخرجوا الفقه الإسلامي. انظروا لروعة ديننا! انظروا كيف وصل إلينا ديننا؟ كيف أسس هذه المدرسة؟ لقد جعلها قائمةً على الحوار بين أعضائها الأربعين، ولم يفرض رأيه لذا أقول لكم أن هذه الحلقة تتمحور حول الحوار، وهذا ما أدى إلى انتقاله للنقطة الرابعة.





رابعا: إيمانه بالحرية:

النقطة الرابعة تدور حول إيمانه بالحرية، فإذا كان هو الأستاذ -بالفعل هو ذلك- وفرض رأيه عليهم فلن يكون هناك داعٍ لوجودهم! فكان يقول لهم: " أنتم أحرار قولوا ما شئتم، وخالفوني كيفما شئتم"؛ لإيجاد الحرية في حلقته أو مدرسته فيتمكن كل شخص من قول ما يشاء ويختلف معه كما يشاء، وما سيتفقون عليه في النهاية يكون هو فقههم جميعاً؛ فهي ليست مدرسته وحده بل مدرستهم جميعاً، على الرغم من أن اسمها مدرسة أبو حنيفة! لكن فيها الكثير من القضايا عكس رأي أبو حنيفة نفسه، وثبتت باسمه لأنها مدرستنا جميعًا، أرأيتم إلى ماذا أدت بيئة العراق-بدءاً من الرأي والاجتهاد والقياس؛ لمواجهة احتياجات المجتمع غير المحدودة، وانتقالاً إلى الفقه التقديري فنسبق الدنيا بدلاً من أن نظل نلهث وراءها؟ فعندما تصل الدنيا إلى ما افترضنا حدوثه تجد الدين واضعا الحول لها، ولنقوم بذلك نحتاج إلى حوارٍ ومدرسة وفريق عملٍ، فلن يجدي عمل الفرد وإنما نحتاج إلى عملٍ جماعي؛ لأنه لن يستطيع شخص واحد أن يقوم بذلك وحده.



ولتقيم هذا الحوار لابد من توفر حرية الرأي فيقول كل فرد ما يريد، وهكذا فقد كان أول من اتبع أربعة أمورٍ لم يسبقه أحدٌ إليها في تاريخ الإسلام. ألا تلاحظون شيئأ؟ فإن كل ما فعله أبو حنيفة قد سبق كل العلوم الأخرى. ففي الدولة العباسية، اشتهر علم الجبر وواضعه الخوارزميّ، وكذلك الكيمياء، والفلسفة، والمنطق، والجغرافيا، والتاريخ، فقد كانت هناك تطوراتٍ في بغداد تشبه الثورة الصناعية، ولكن كان أول من بدأ في كل هذه العلوم هو أبو حنيفة، وهذا يعني أن الفقه والدين سبق كل العلوم الأخرى، ولم يسبق فحسب؛ وإنما بسبب أبو حنيفة بدأت كل العلوم الأخرى في التقليد في جانب التفكير في المستقبل، وهذه هي الاختراعات التي تعتمد على شخص يفكر في المستقبل، فأنشئوا مدرسة جماعية للتفكير المشترك؛ لذا فإن أبو حنيفة لم يمهد فقط للفقه الإسلامي وإنما مهد لنهضةٍ علميةٍ شاملة. فأبو حنيفة والشافعيّ يعدا أحد أسباب نهضة أوروبا، وهذه ليست مبالغة؛ لأنهما وضعا قواعد الاستنباط للعلوم الأخرى - استنبطا من الدين- ولكنهما وضعا طرق الاستخراج لأي علمٍ، فقلدهما جابر بن حيان، وفلان، وفلان، وكذلك قلدهما ابن رشدٍ في الأندلس الذي أخذ فكر الشافعيّ وأبو حنيفة ونقله لأوروبا، فبدأت المدارس هناك تبني منهجها العلمي على كلامهما.



ثمة نقطة هامة وهي أن الدين ساعد باقي العلوم لتنجح، بعكس أوروبا التي كان عليها أن تفصل الدين لتنجح؛ لما بينه وبين العلم من تعارض، ولكن لدينا، الأمر مختلف فالعكس هو الصحيح، فهو الذي دفع العلوم الأخرى بسبب عقلية أبو حنيفة والشافعيّ؛ لأنهما تعلما من الإسلام حب العلم والحرية والتفكير، وقد أعطاهما القرآن هذه الأمور فانطلقا بها.







حلقة أبو حنيفة:

دعونا ندخل في الحلقة بعدما عرفنا كيف أسس النقاط الأربعة؟ وستجد قمة العظمة، فالصف الأول من الحلقة يجلس فيه الأربعون وهم علماء اللغة، والفقه، والحديث، والتفسير، والشعر، والأدب، وآخر خبير في شؤون الناس، وأحيانا إذا كانوا سيتحدثون في أمر ليست لديهم فيه الخبرة الكافية يستقدمون خبيرا -كما يحدث الآن- أو يذهبون إليه حتى إذا فُتح الموضوع يكونون على علمٍ، مثل فقه الصباغة الذي أرسل أبو حنيفة فيه أحد تلامذته محمد بن الحسن ليقيم وسط الصباغين أسبوعين أو ثلاثة؛ حتى إذا فتحوا باب هذا الأمر يكون بينهم خبيراً. هذه مدرسةٌ علمية وليست فكر شخص واحد، وهذا ما نتمنى أن نتعلمه في بلادنا هذه الأيام في القرن الحادي والعشرين، وهو ما يسمى فريق العمل، في الجامعات، والكليات، والمدارس؛ لأننا نفتقده بسبب عدم قدرتنا على العمل سويا لعجزنا عن سماع بعضنا البعض والتحاور معا، وفي هذه الحلقة جئت لأقدم طريقة تفكير لنعمل سويا، ونتعلم التحاور معا، نتعلم كيف لنا أن نسمع بعضنا بدلاً من أن نتشاجر سويا؟ ولابد أن نختلف، فقد اختلفت الحجاز والعراق.



ولكن هناك نقطة هامة، وهي أن وجود الحجاز المحافظة على الثوابت والعراق المتطورة والناظرة إلى المستقبل، أدى هذا الاختلاف لتكامل الإسلام، فتخيل إن لم تتواجد العراق التي تخترع للمستقبل، أو تخيل عدم وجود أبو حنيفة، أو عدم وجود الإمام مالك، أو الحجاز المحافظة على الثوابت والأصول، فنحن نحتاج لفكر الاثنين الذي سيثري الإسلام، فالاختلاف ثراءٌ وغنى، فلو نظرنا لاختلافي عنك على أنه مشاجرة وتعاركنا لتحوَّل ذلك لصراع ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)) (هود:118) فاختلافهم مفيد وثراءٌ للأرض؛ لأن الله يريد تعمير الأرض، فالعراق والحجاز كلاهما أفاد الإسلام، ونجحا معا، فقد وضع أبو حنيفة فكرته ونقاطه الأربعة.





مشاهد من حلقة أبو حنيفة وبعض ما تناولته:

دعونا نشاهد حلقة أبو حنيفة من الداخل، فقد بدأت وعمر أبو حنيفة أربعون سنةً، وقد ولد عام 80 هـ إذا كانت عام 120م، واستمرت ثلاثين عاما لسنة150م، مؤتمر مفتوح دائم يذهبون إليه يوميا، على الرغم من استمرار أبو حنيفة في عمله كتاجر ناجح بل مليونير، ومتجره مشهور ويقع في قلب العراق في أحد أكبر شوارعها، فلم يترك عمله بالتجارة، فهو عالم ذو مهنة، ولعل التجارة أفادته في طريقة التفكير، وعند انتهائه من عمله يجتمع الطلبة وفريق العمل كل يومٍ من المغرب إلى ما بعد العشاء، يجلس أبو حنيفة وإلى يمينه تلميذه الغالي النجيب أبو يوسف الذي يرى أنه سيكون في المستقبل شخصا غير عادي، وإلى شماله تلميذه الثاني ظفر-محمد بن الحسن- وكلاهما بيده ورقة وقلم، وأمامه يجلس الأربعون -تخيلوا هذا المشهد بأعينكم - ثم يجلس المئات من بعدهم، ويبدأ أبو حنيفة بفتح الموضوع، سنتحدث اليوم مثلاً في ماذا سيحدث لو حصل كذا وكذا في الاقتصاد، في الزراعة؟ فماذا يكون رأي الإسلام؟ من حل المشكلة؟ ويكون في الجلسة خبير في هذا الجانب فيبدأ بالتحدث، أعلم أن البعض قد يكون مندهشا من وجود هذا سنة 80 هـ، وكان النظام يقتضي رفع اليد، والأولوية للصف الأول، ولا يعطي أبو حنيفة رأيه مباشرة ولكن قد يعلق أحيانا، أو يوجه الحوار، وعلى يمينه أبو يوسف الذي بعدما يتفق الجميع وتنتهي المداولات، وتؤخذ الآراء، يقول له أبو حنيفة: اثبتها يا أبو يوسف كما اتفقنا عليها، فيدونها. وأحيانا لا يكون هناك رأيٌ واحد، بل يصلوا إلى رأيين أو ثلاثة آراء، فيدونها أبو يوسف جميعها، وعلى يساره "ظفر"، يدون هو الآخر، فهما يكتبان كل ما يحدث ليصلا في النهاية إلى الملخص. فأبو حنيفة يريد أن تقال الفتوى مع ذكر سببها، وقد قال: "لا تأخذوا مني ما أقوله دون أن تعرفوا لم قلته"، فيكتب أبو يوسف الفتوى ويأخذ من محمد بن الحسن تفصيلا وتلخيصا لِما أخذ هذا الرأي.



فهل سمع أحد في الدنيا أن هناك عصر ذهني بهذه الحيوية؟ وكان في الحلقة ما هو أشد من ذلك فعندما يجد أن الآراء بدأت في الاختلاف دون الوصول لحل، فيقول لمن هو أمامه: "أتأخذ رأيي؟ تبناه، وأتبنى أنا رأيك، وكلٌ منا يدافع عن رأي الآخر؛ كي نتجرد للحق؟ ما رأيك أن تناظر برأيي وأناظر برأيك؟ وكل واحدٍ يأخذ أدلة الآخر"، أتتخيلوا أن يحدث ما لم يعرف في علم الإدارة والمناظرات الآن سوى في العشرين والثلاثين سنةً الأخيرة آنذاك؟!إنه إذا أردنا التجرد للحق فعلى كلٍ منا أن يتبنى وجهة نظر الآخر، ويجلس كلٌ منا مكان الآخر.



اعتاد أبو حنيفة على السفر كل عامٍ إلى موسم الحج ليقابل علماء الحجاز فيأخذ آراءهم في بعض المسائل التي لا يعرف الرأي فيها -لاحظوا معنى الحج وموسم التعايش- وعندما يعود لا يجد مشكلةً في تعديل فتواه قائلاً: "كنت أرى كذا واليوم أرى كذا"، فعدلوا على ما قلنا.

ذات مرةٍ قال أبو حنيفة: "أنا أرى كذا"، ولم تنتهِ المناقشة، فكتب أبو يوسف، فقال له: "لا تكتب يا يعقوب، ويحك -كيف تفعل ذلك؟- إنما هذا رأيي فانتظر حتى نجتمع على رأي". فهل هناك أجمل من هذا؟ وفي بعض الأحيان ترتفع الأصوات في المناقشة، فيغضب البعض من علوّ الصوت في المسجد، فيقول أبو حنيفة: "دعوهم فإنهم لا يفقهون إلا هكذا". فلابد أن يحدث حوار وأن يظل جو الحرية هذا، في بعض الأحيان وأثناء حديثه وهو يعلق وقبل أن يصل لرأي، يقول له شخص: "أخطأت يا أبو حنيفة"، فسكت أبو حنيفة وقال قولاً آخر، فقال آخر: "أخطأت يا أبو حنيفة"، وكان هناك بين الحضور شخص كبير يحضر لأول مرة في المسجد، فوجد أن الاثنين يقولان للأستاذ الإمام الأعظم أخطأت يا أبو حنيفة، فنظر إلى التلاميذ وقال لهم: "ألا توقرون الشيخ؟ تقولون له أخطأت ويقبل ويسكت ولا تتكلمون"، فقال أبو حنيفة: "دعهم فلقد عودتهم ذلك من نفسي"، قال: "أعودتهم يقولون أخطأت؟ "قال: "لا نفقه إلا هكذا". ففقهنا لا يخرج إلا هكذا.



ما رأيكم في تاريخنا، وأدب الاختلاف؟ هل تقبل أن يقول لك أحدٌ أخطأت وأنت الكبير ذو المكانة؟ إلى أي مدى يضيق صدرك؟ هل من الممكن أن تكون أنت مؤسس الفكرة ليقول لك الناس أخطأت وتقول: أنا من عودهم ذلك؟!لاحظ شيئا هامًّا، أن هذا لا يعني التقليل من أبو حنيفة، فتظن أنه فقط ماهرٌ في جمع الناس، يقول الإمام مالك: "والله هذا الرجل -أبو حنيفة- لو أراد أن يقنعك أن هذا العمود -الخشب- ذهباً لأقنعك بحجته!"، ويقول أبو يوسف تلميذه: "كنا نختلف مع أبو حنيفة، فوالله تدور الأيام ولا نستقر إلا على ما قاله أبو حنيفة". ويقول ظفر: "جمعنا العلم من أناسٍ شتى، فوجدنا العلم بالتفاريق -عند كل شخص جزء منه-ووجدناها جملةً عند أبو حنيفة، فقلنا ليتنا ما أضعنا الوقت"، فكلما ذهبنا إلى شخص يعطينا جزءًا من العلم، فإذا ذهبنا لأبي حنيفة يعطينا إياه كاملا، لذا فإنك تتحدث عن شخصٍ غير عادي.



يقول الشافعي:"ما علمت أن في الأرض أفقه من أبو حنيفة!"، وعندما مجيئه يقولون: "هذا عالم الدنيا". ذات مرة، دخل الإمام أبو حنيفة على الإمام المنصور فقال له: "يا أبو حنيفة، ممن أخذت العلم؟ قال: من أصحاب عمر عن عمر بن الخطاب، ومن أصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود، ومن أصحاب عليّ عن علي بن أبي طالب، فقال: كفاك لقد استوثقت علما"ً. لم يعرف أحد أن يأتي بعلمٍ أكثر من هذا، ورغم كل هذا العلم قبل أن يقال له أخطأت! ولما قيل له كيف تقبل لك؟ قال: "قبلها عمر وهو على المنبر من امرأة". أرأيتم جو الحرية والحوار؟ أتستطيع أن تسمع هكذا؟ نحن لا نحتمل أحداً يقول لنا هذا خطأ، يضيق صدرنا، ونرغب في الرحيل، نحن لا نحب أن يختلف معنا أحد، هذه هي ثقافتنا. ولكن ما رأيكم أن نفتح صفحةً جديدة وتقول سأستمع، قلد نبيك عندما قال: "أفرغت يا أبا الوليد؟"، " قل يا أبا الوليد، أسمع" -أنا أسمعك- هل تستطيعون يا أساتذة الجامعات، يا رجال، يا شباب، يا سياسيين أن تقيموا مثل جلسة أبو حنيفة هذه وبهذا الانفتاح؟ فقد كانوا يجلسون وأحيانا تطول المسألة ولا يجدون لها حلا في يومٍ واحد، بل قد تطول ليومين، أو ثلاثة أيام، وأحيانا تصل لأسبوع دون أن يتمكنوا من التوصل لحل، وعندما يصلون إليه ينادي المنادي: الله أكبر، فإذا سمع التكبير في الحلقة يعرف أن المسألة التي طالت لثلاث أيام وجدوا لها حلاً، واتفقوا عليه ويثبتها أبو يوسف، وعندما تسمع (الله أكبر) في المسجد يسارع من في الحلقات الأخرى لحلقة أبو حنيفة؛ ليسمعوا الحل، فهم لم يتمكنوا من الجلوس في المناقشة فيريدوا أن يسمعوا الحل، ويعرفوا القرار النهائي، أرأيت جو إبداء الرأي؟ لقد حافظوا عليه طيلة الثلاثين عاما. تخيل جمال تلك الحلقة لو كنت بينهم، إنه تشكيلٌ للفقه الإسلامي من خلال فريق عملٍ، ومؤتمرٍ دائم، إنها جامعة أبو حنيفة. ومن شدة جمال الحلقة، وهذا اللقاء اليومي سرَّع أبو يوسف بجنازة ودفن وعزاء ابنه عندما توفي حتى لا تفوته الحلقة! قد تقول: أيعقل هذا؟ نعم، فالناس تشعر بوجودها عندما يؤخذ برأيها، فتهون عليها كل مصيبة، وعندما يشعر الناس أنهم محترمون ورأيهم محل تقديرٍ، يحبون أنفسهم، ويحبون الناس، ويحبون ما يعملون من عملٍ، يا أصحاب الشركات، يا أزواج، يا آباء، عندما نسمع الناس فإننا نحترمهم، فيشعروا أنهم محترمون، فيضيفوا ويعطوا، ويحبوا بلدهم، فيبذلوا، ويبذلوا.



ذات مرةٍ بعد وفاة أبو حنيفة، وبعدما أصبح أبو يوسف قاضي الدولة الإسلامية كلها، وتلميذه محمد بن الحسن أصبح أستاذا للشافعي -وهذا ما أفرزته تلك الجلسة- وكذلك أصبح أبو يوسف مرافقاً لهارون الرشيد -تماما كما كان أرسطو مع الإسكندر الأكبر في كل أسفاره- ولا يتم قضاء إلا بأمر أبو يوسف، فتوفي ولديه اثنا مليون دينار. توفي وهو ثري جدا، وعند وفاته قالوا له: "تمنى، قال: أتمنى أن أكون في حلقة أبو حنيفة بنصف مالي"، وهو المليونير! مستعد أن يدفع مليوناً ويعيد أيام الحلقة واستخراج العلم التي استمرت ثلاثين عاما. لم هذا؟ لأنها قامت بالحوار، فقد اخترع طريقةً جديدة. أليست طريقة كل الفقهاء والعلماء أنه يعتمد على أستاذٍ يعطي درسا -كما نفعل الآن- ؟ لكنه فعل غير ذلك دعا للتفكير سويا، ويفكر معنا الجالسون بشرط أن يرفعوا أيديهم ولا يجادلون.





أمثلةٌ مما كان يدور في الحلقة:

مثلاً في الاقتصاد، يبدأ أبو حنيفة قائلا: "أرأيتم وعددنا اثنتا مليون نسمة في بغداد، إن انحصر ماء دجلة والفرات، فماذا يكون؟ "، فيبدأ الناس بعرض افتراضات يحدث كذا وكذا، وبعدما يفرغ الناس من عرض افتراضاتهم يقول أبو حنيفة: "أرأيتم بعدما انحصرت المياه وظهرت الجزر إن قام رجلٌ وسوّر -أقام سوراً- حول قطعة أرضٍ ليست ملكه، وزرعها، فماذا يكون؟" فيفكرون وقد يستمر الأمر ليومين أو أكثر، والآراء كذلك مستمرة حول رأي الإسلام في من يزرع أرضا ليست ملكه لانحصار الماء عنها؟ فيصلوا في النهاية إلى أنها له ومحصولها ملكه؛ لأن هذا يؤدي إلى تنمية الأمة، فيبدأ بالقياس والرأي ويقول: "من يقسها على حديث النبي: "من أحيا أرضاً ميتاً فهي له"؟ فيصح القياس، دعونا نقيم تفريعاتٍ للمسألة، فما رأيكم إن قلنا: يستأذن الوالي أم لا يستأذنه في زراعة هذه الأرض؟ ويبدؤوا في التفكير والاختلاف، وترتفع الأصوات، ما بين مؤيدٍ لفكرة الاستئذان ومعارضٍ لها، فيقول أبو حنيفة لأبي يوسف: "اثبت الرأيين؛ فأنا أقول يستأذن الوالي وهم يقولون لا يستأذن الوالي، ولم نعرف أننا نتفق، فاثبت أن لدينا الرأيين". أرأيتم لو ألقى شخص بأشياء في دجلة والفرات -كما يحدث الآن في النيل المصري- ولوثهما، ما رأي الإسلام؟ لابد أن يعزر، ويدفع غراماتٍ؛ لأن -كما يقول أبو حنيفة - دجلة والفرات طريق للمسلمين، كل المسلمين ولغير المسلمين، فيجب أن تحترم، ثم فعل أبو حنيفة شيئا عجيبا آخر أسماه: حلول تعرض على الأمير، فنقترح أن تعين جهة تقوم بالإشراف على دجلة والفرات بألا يلوثه أحد، تخيل أن هذا الكلام صاحبه هو أبو حنيفة!



نقطة أخرى رائعة، فالآن يدخل إلى العراق أناسٌ من مختلف الجنسيات بعد إشهار إسلامهم، ولا يعرفون العربية فهل يجوز أن يقرؤا الفاتحة بلغتهم؟ أتتخيل إلى أين يذهب بفكره؟ فبعد اتفاقهم على الفتوى كانت الإجابة: نعم يجوز أن يقرأ الفاتحة بلغته -وهذا في الفقه الحنفي وسيكون معنا فقيه يسرد ذلك بالتفصيل فيما بعد-، فقامت عليه الدنيا بعد هذه الفتوى مدعين أنه يشوه الإسلام، ولكن انظروا لفائدة الحوار، فقد أرسلت إليه الحجاز من يحاوره ويقول له: "يا أبو حنيفة، إذا تضيع العربية وتضيع لغة القرآن"، فجمع الحلقة مرةً أخرى قائلاً لهم: "جاءنا كذا وكذا"، ولك أن تتخيل كيف كانت طبيعة الجو الذي عاشوا فيه، فأيّ بيئة صحية كانت تلك؟ وكيف كان للحوار روعةً؟



ما رأيكم أيها الآباء والأمهات أن تقيموا حواراً دائما مستمرا بينكم وبين أبنائكم؟ وما رأيكم يا أساتذة الجامعات أن يخصص جزءًا من المحاضرة للحوار مع الطلبة؟ ما رأيكم يا علماء الدين أن يكون الحوار سواءٌ كان على أحد مواقع الإنترنت – كما نفعل على موقع عمرو خالد دوت نت- أو بأي طريقة أخرى، وبالمناسبة فإني أرجوكم أن ترسلوا إلينا بعد هذه الحلقة وكل حلقة على الموقع لنطبق ما أقوله من كلامٍ نظري لمحاوراتٍ، حيث إني أدخل بعد كل حلقةٍ لمدة أسبوعٍ لنتناقش ونفعل كما فعل أبو حنيفة فنتعلم منه، نتعلم من أجدادنا. فكثير هو الكلام عن التعايش، وإني لآسف لأن الغرب ينسب التعايش له كأنه أحد مخترعاته، وهذا غير صحيح -مع احترامي لهم- وهذا البرنامج كما يعرض في فضائيتنا، فالحمد لله سيعرض أيضاً في فضائياتهم بعد الدبلجة لخمس لغات أخرى. ففي التعايش نحن نفتخر بأن عندنا أبو حنيفة، ولا نقول هذا لندعي أننا على صوابٍ دائم وأنتم على الخطأ، وإنما لنقول أن لنا أيادي بيضاء على البشرية، لقد أضفنا للبشرية، وعلمناها التعايش ((...وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...)) (الحجرات: 13). ماذا يقول الغرب فيما أقوله وحلقة ومدرسة أبو حنيفة الفقهية هذه لم تعرففي الغرب إلا في القرن التاسع عشر؟



أعطيكم مثالاً رائعا، فعندما ردوا عليه عندما أجاز قراءة الفاتحة بغير العربية، فاستفاد وجمع الحلقة من جديد، وعدلوا في الفتوى لتصبح بأن ما أفتي سابقاً وضعٌ محدود إلى أن يجيد العربية، فإذا لم يتعلم يأثم، وإن تعلم ونطق بغير العربية لا تصح صلاته، فوزنت الفتوى وكان ذلك نتيجةً للحوار الذي يستطيع إصلاح الكثير.



أحيانا كان يرهق الناس من المسألة، ويملون أحيانا، وللعلم فإن بعض العلماء في الحلقات الأخرى تركوا حلقاتهم وانضموا لفريق عمل أبو حنيفة؛ مثل أحد العلماء الكبار في الكوفة اسمه مسعر بن كيدان، وكان يلقب بالمصحف لشدة حفظه، انتقل بحلقته قائلاً لطلبته: "سأترك حلقتنا وأنضم إلى أبو حنيفة" فأصبح واحدًا من الأربعين. أرأيتم هذا التعايش، وهذا الإسلام الذي علم الناس التفاهم؟ لم لا نكون كذلك؟ لم لا نخرج من هذه الحلقة ولدينا النية للحوار؟



في بعض الأحيان عندما يجد أن الناس بدأت تمل من المواضيع الكبيرة، فيقدم لهم أحجيات؛ للتخفيف عنهم، فالحلقة تكون أحجية، وأذكر لكم واحدةً منها-ويبدو أنه أخذ ذلك من الإمام عليّ بن أبي طالب-: قال لهم: "سقط أسدٌ في حفرة، فاحتشد عدد كبير من الناس يرغبون في رؤية الأسد؛ لأنها أول مرةٍ يشاهد في الصحراء، ومن شدة تزاحم الناس سقط شخصٌ في الحفرة فأراد أن يمسك بأحد لينقذ نفسه فسقط من أمسك به معه،وسحب الثاني الثالث، وشدّ الثالث رابعاً الذي لم يستطع أن يشدّ أحد، فسقط الأربعة والتهمهم الأسد، فكم تكون دية كل فرد منهم؟" -وكانت في ذلك الوقت مئة ناقة لكل شخص-، فبدأت الحلقة في الحوار والتفكير، وفي النهاية لم يتوصل للحل سوى أبو حنيفة، فقال لهم: "الأول سحب ثلاثةً فينقص ثلاثة أرباع ديته، فيأخذ الربع فقط 25 ناقة، وسحب الثاني شخصين فينتقص من ديته ويأخذ خمسين ناقة، والثالث سحب شخصا واحدا فينقص منه 25 ويأخذ خمسة وسبعين ناقةً، أما الرابع لم يسحب أحدا ولم يخطئ فيأخذ المائة ناقة"، ثم سألهم: "من الذي سيدفع الدية؟ فتعود المناقشات في الحلقة، ويكون الحل هو أن كل المتزاحمين يشتركون في دفع الدية، فقد استخرج حوالي عشرين ألف مسألةٍ افتراضية.



وأحيانا يحدث حدثٌ في الكوفة فيجعله موضوعاً للحلقة، مثل تعرض امرأة لحالات نوباتٍ نفسية أحيانا، فرأت رجلاً مارا، فتشاجرت معه وسبته سبا شديدا فيه قذف، فجاء بها الوالي إلى المسجد وأقام عليها الحد مرتين؛ لأنها سبت والديه، حدًّا للأب و آخر للأم، وعند حضور أبو حنيفة للحلقة يقول لهم: "حدث اليوم كذا وكذا وكذا، وقد أخطأ القاضي خمسة أخطاء ، من يستخرجها؟" الأخطاء الخمسة هي:

· أنه أقام الحد في المسجد، والحد لا يقام في المسجد.

· ثانياً: لم يسأل الرجل أيعفو أم لا؟ بل أقام الحد مباشرةً متسرعا، وقد يعفو الرجل عنها.

· ثالثاً: أنه أقام حدين لكل من الأب والأم، والصواب أن يقام حد واحدٌ؛ فلو كانت سبت مئة شخص أتضرب مئة مرة؟



خاتمة:

هذا هو فقه أبو حنيفة، قائماً على الحوار والحرية والاستماع، وقبول الاختلاف، والتعايش ولأنه كان قادرا على التعايش بهذا الشكل استمر فقهه إلى اليوم، فبالحوار نجني الكثير وننجح، ويعطيك ثوابا وتنجح في الدنيا، ويقوي هذا الأمة، فاسم أبو حنيفة مخلد إلى اليوم لأنه استطاع أن يتعايش.

وقد تعايش بشيئين وهما هدف هذه الحلقة:

· لن أكون جامداً، وسأرى ما هي احتياجات المجتمع وأؤديها.

· إنشاؤه مدرسة حوارٍ، فكان هو أول مؤسس لمدرسة الحوار لا أريد أن أقول في العالم ولكن قد يكون كذلك.

أيها الغرب إن لنا على العالم فضل في التعايش. ويا مسلمين، أتمنى أن نبدأ بالتفكير في الحوار بدءاً من أولادنا، وزملاءنا في العمل؛ فكفانا خلافاً ومصائب، ولابد لنا من أن نختلف، ولكن الحوار سيقرب ويجمع بيننا.

أسأل الله تبارك وتعالى أن تكون هذه الحلقة بداية حوارٍ جميلٍ مفيد، ونفخر أن في تاريخنا أبو حنيفة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1033

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام