الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. نحن نتحدث عن التعايش وكلمة تعايش أصلها من كلمة عيشة. كيف نعيش سويًّا ونتفاهم مع بعضنا البعض؟ كيف نتعامل سويًّا ونتحاور سويًّا ونقبل بعضنا حتى وإن لم نقبل أفكار بعضنا؟ على الأقل، نقبل وجود بعضنا. ليس عيبًا أن نختلف؛ لأننا يجب أن نختلف حيث إن الاختلاف يُعدُّ سُنةً كونية، ولكن حتى إذا اختلفنا يجب أن نتعايش ونتحاور ونتفاهم، لقد أصبحنا في حال صعب جدا؛ حالنا نحن المسلمين وحال بلادنا، أنا أتحدث عن حياتنا التي أصبحت حياة صعبة بداية من علاقة الرجل بزوجته، والخلافات الزوجية، والمشاكل والتعاسة التي لا تزال في ازدياد، والطلاق المنتشر لأننا لا نعرف كيف نعيش سويًّا حتى داخل منازلنا، انظر إلى جيل الشباب، هناك فجوة كبيرة بين جيل الشباب وبين الآباء وكبار السن حتى في داخل المنزل الواحد! انظر إلى انتشار المخدرات والعنف، والانحرافات الفكرية، هذا الجيل جيل جميل ولكن المشكلة أننا لا نعرف كيف نتعايش معه وهو كذلك؟ انظر إلى ما يحدث في فلسطين بين الفلسطينيين وبعضهم، إنهم لا يستطيعون أن يتعايشوا سويًّا! نشاهد العراق والدماء السائلة وبكاء الأمهات، نشاهد لبنان وما يحدث فيها من خلافات، نشاهد دارفور والمسلمين وهم يقتّلون بعضهم، كل هذا لأننا لا نستطيع أن نتعايش سويًّا!



النقاط الأساسية:

1. هدف البرنامج.

2. ما هو الفقه وماذا تعني هذه الكلمة؟

3. تعريف بالإمام أبو حنيفة ومكانته بين الأئمة الأربعة.

4. مولده ونشأته.

5. نقطة تحول في حياة الإمام أبو حنيفة.

6. مدرسة أبو حنيفة.

7. درجات التعايش.



1. هدف البرنامج:

نية هذا البرنامج: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ..." (الحجرات:10)، نيتي أن نصلح ما بيننا، دعوة للتعايش والتحدث والتحاور واحترام بعضنا البعض مهما بلغت درجة الاختلاف، شعارنا في هذا البرنامج هو الآية الكريمة " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... "(الحجرات:13)، الشعوب والقبائل: أي مختلفين عن بعضكم، كان من الممكن أن تكونوا قبيلة واحدة أو شعبًا واحدًا أو عائلة واحدة، ولكن سبب هذا الاختلاف "لتعارفوا" اللام للتعليل، تتعارفوا فتتبادلوا فتتعاونوا فتتفاهموا فيحدث ثراء للأرض، فتتبادلوا الأفكار فالكل يزيد ويعلى، لأن هدف خلق الأرض هو إعمار الأرض، ولن نستطيع أن نحقق هذا التعايش إلا إذا تعايشنا مع أنفسنا، فإذا كان من آمالنا النهضة لبلادنا، فأول خطوة هي التعايش مع أنفسنا، هناك كلمة قالها عالم من علماء الإسلام الكبار اسمه القاضي عياض، يقول: "الألفة إحدى فرائض الإسلام، وأركان الشريعة، ونظام يجمع شمل المسلمين" الألفة بيننا وبين بعض إحدى فرائض الإسلام، تخيلْ! ليس هذا فقط بل إنه ليس هناك حكم شرعي في الإسلام إلا ومن أهدافه الألفة بين الناس عمومًا وبين المسلمين خصوصًا، فلماذا حرمت الغيبة والنميمة؟ ولماذا أُمِرْنا بصلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، وتسوية الصفوف؟ حتى الطلاق له ضوابط شديدة! حتى لا تتفرقوا إلا بعد ضوابط شديدة وإحكام شديد، هذا هو الإسلام، هذا الكلام للرجل وزوجته، وللشباب، وللمصانع والشركات، وللجامعات والبحوث العلمية، وكيف أن أساتذة الجامعة أحيانًا لا يستطيعون أن يتفاهموا سويا؟ وكذلك الأساتذة والطلبة، ولكن هذا الكلام يجب أن يكون له أدلة، ويتحول من كلام نظري على الرغم من أن هذا من الممكن أن يكون صعبا ولكن سوف نحاول أن نجعله سهلاً بأن نَقصَّ قصة الأئمة الأربعة والذين كان لهم الفضل في أن يكونوا أول من قام بتشكيل الفقه الإسلامي وإنشاء مدارس له.



2. ما هو الفقه؟ وماذا تعني هذه الكلمة؟

كلمة فقه - ببساطة - هي إيجاد حلول لمشاكل الناس في الحياة في ضوء القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي، فالفقه من أخطر العلوم في الإسلام؛ لأنه يشمل كل مشاكل وقضايا الحياة من صلاة وعبادة، وزواج وطلاق، ومعاملات من بيع وشراء، هناك الكثير من الأئمة، ولكن هؤلاء الأئمة هم أعظم وأشهر العلماء الذين أسسوا مدارس ضخمة وكان لهم السبق في تشكيل الفقه الإسلامي، ولقد اخترت هؤلاء الأربعة لأن حياتهم كلها تعايش، وستنبهر بما حققوه من تعايش في حياتهم.



3. تعريف بالإمام أبو حنيفة ومكانته بين الأئمة الأربعة:

نبدأ بأول إمام وهو الإمام أبو حنيفة. الأئمة الأربعة هم أبو حنيفة، والإمام مالك بن أنس، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وهذا هو الترتيب الزمني لمولدهم ولفتراتهم، ويعد أبو حنيفة نموذجًا من نماذج التعايش مع النفس.



أبو حنيفة كنيته أبو حنيفة، ولكن اسمه النعمان بن ثابت المزربان، والمزربان تعني أنه ليس عربيًا بل فارسيًا، أي يأتي من ناحية أفغانستان وإيران، فأصل جدوده ليس من العرب ولكنهم أسلموا، فأول إمام من أئمة الفقه الإسلامي غير عربي ولا هاشمي ولا مضري وليست له أية أصول عربية، وهذه النقطة هي أول نقطة في التعايش، هل من الممكن للمجتمع أن يقبل بعضه رغم اختلافه في الغنى والفقر؟ أو الطبقة؟ أو الأصل؟ فهذه نقطة خطيرة جدا، فالإمام أبو حنيفة هو أول إمام في الأئمة الأربعة، وهو من مهد الطريق لكل من أتوا بعده، يقول العلماء: "ينبغي لكل مسلم أن يدعو في صلاته لأبي حنيفة" فهو صاحب أول مدرسة، فأكثر مذهب منتشر في العالم الإسلامي حتى الآن - خاصة بين غير المتحدثين باللغة العربية- كالهند وباكستان وغيرها من البلاد العربية أيضا كسوريا ولبنان! الغريب هنا، هو كيف قبل المسلمون أن يكون واحدا من الموالي؟ كلمة موالي تعني أي شخص من غير العرب، فأي شخص من العجم يسمى موالي، إن كل من كان يقوم بالعلم في ذلك الوقت كان من الموالي، فلقد كان هناك قاضٍ يسمى ابن أبي ليلى جالسا مع والي الكوفة عيسى بن هشام، وكان والي الكوفة عربي ومتعصب للعرب، فسأل والي الكوفة ابن أبي ليلى عن فقهاء الإسلام في ذلك الوقت فقال له: يا ابن أبي ليلة كلمني وحدثني عن الفقهاء، فقال له: بلى يا أمير المؤمنين، فقال الوالي: من فقيه أهل المدينة؟، فقال: نافع مولى ابن عمر، فقال: فمن فقيه أهل مكة؟ قال: عطاء بن أبي رابح، فقال الوالي: أمولى أم عربي؟، قال: مولى، قال: فمن فقيه أهل اليمن؟ قال: طاووس بن كيسان، قال: مولى أم عربي؟، قال: مولى، قال: فمن فقيه أهل اليمامة؟، قال: يحيى بن أبي كثير، مولى أم عربي؟، مولى - لا يوجد فيهم عربي واحد!-، قال: فمن فقيه أهل الشام؟، قال: مكحول، قال: مولى أم عربي؟، قال: مولى، قال: فمن فقيه أهل الجزيرة؟، فقال: ميمون بن مهران، قال: مولى أم عربي؟، قال: مولى، يقول ابن أبي ليلة كلما قلت له اسم أحد الموالي يحمرُّ وجهه من الغضب ويزداد غضبًا حتى قال: فمن فقيه أهل البصرة؟، قال: الحسن البصري ومحمد بن سيرين، قال: مولى أم عربي؟، قال: موليان، فيقول: فرأيت الشر في وجهه، فسألني: فمن فقيه الكوفة؟ فكدت أن أقول حماد -حماد هو أستاذ أبو حنيفة، وهو مولى- ،ولكني خفت شره، فظللت أبحث عن عربي في الكوفة فقلت إبراهيم النخعي، قال: مولى أم عربي؟، قلت: عربي، فقال: الله أكبر، فقال ابن أبي ليلة: يا أيها الوالي ماذا نفعل إنما تفوق الموالي!



انظر كيف قبل العرب أن تتفوق هؤلاء الناس على العرب؟ وهذا ليس عيبًا في العرب في هذا الوقت، فالعرب في هذا الوقت كانوا متفرغين للحكم والحروب، والفتوحات فلم يكونوا قادرين على التفوق في العلم، ويريد الموالي أن يكون لهم دور في الأمة الجديدة والإسلام فاهتموا بالعلم فكان هذا التوازن. ووالله، العظيم إن العرب قد فعلوا فعلا عظيما يوم تركوا الموالي والفرس يتعلموا العلم، فتكامل المجتمع، وحافظوا على العلم للإسلام فكان أبو حنيفة وغيره على الرغم من أنه كان من الممكن أن يرفضه المجتمع لكونه ليس عربيا، فكيف يكون إمام المسلمين غير عربي؟ إن من أسماء أبو حنيفة "الإمام الأعظم" سموه هكذا في التاريخ، واسمه الثاني "إمام الأئمة"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم "المؤمنون كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" وهذه أول نقطة في التعايش.



4. مولده ونشأته:

ولد الإمام أبو حنيفة سنة 80 وتوفي سنة 150 هجرية، فقد ولد في الكوفة، والكوفة لم تكن مدينة صغيرة – فقط- بل كان بها مسجد ضخما جداً في ذلك الوقت يسع أربعين ألف مُصلٍ، وعندما ترك سيدنا علي بن أبي طالب المدينة وانطلق إلى العراق، أقام في الكوفة وجعل هناك مركز الخلافة الإسلامية، فاختار واحدًا من أكثر الصحابة علمًا، وأرسله إلى الكوفة، وهو سيدنا عبد الله بن مسعود، وقال لهم: أرسلت إليكم ابن مسعود معلمًا ووزيرًا، ولقد اخترته لكم لأنه من أعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وبذلك تكون الكوفة لها طبيعة خاصة، ومدرسة خاصة، وهي مدرسة علي بن أبي طالب، ومدرسة ابن مسعود، وهي قريبة من مدرسة عمر بن الخطاب، فقد كانوا دائمًا يفكرون بفكر متطور ونظرة للمستقبل، فهذه حركة عظيمة ورؤية بعيدة لسيدنا علي بن أبي طالب في التعايش، لأن المدينة كانت مركز الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان، فلماذا فعل سيدنا عليّ هذا؟ لأن كل المشاكل كانت تأتي من العراق، فأراد سيدنا علي كما تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون بجوار المشاكل حتى يكون أقدر على حلها، ألا تذكرون أهل الصُفّة الفقراء – فقراء المهاجرين- وما فعل النبي صلى الله عليه وسلم معهم؟ أسكنهم بجوار المسجد النبوي ليكونوا بجواره فيكون أكثر رعاية وأكثر تقديرًا لهم، إننا الآن نجد العشوائيات مهملة في أماكن بعيدة لا أحد يعلم عنهم شيئًا.



بدأ أبو حنيفة حياته كشاب قرر أن ينجح في الحياة، وكان له طبيعة خاصة جدًّا، وهي أنه إذا أراد أن يفعل شيئًا، أو إذا دخل مجالاً لا يقبل إلا أن يكون في قمته، وكان والده تاجرًا للقماش ولديه متجرًا متواضعًا، وعندما بلغ أبو حنيفة حوالي السبعة عشر من عمره قرر أن يحوّل هذا المتجر إلى واحد من أحسن متاجر القماش في العراق، يقول: فسألت: مّنْ أفضل أستاذ يُعلم الناس في علم السوق؟ فقالوا له فلان الفلاني، فذهب إليه وبدأ يتعلم، انظر إلى شخصيته فهو لا يريد أن يتعلم شيئاً إلا بطريق علمي، فهو يريد أستاذًا متخصصًا ليعلمه أصول المهنة، أصول التجارة، فتعلم على يد أستاذ، وبدأ يسأل أباه أن يطور المتجر، وبالفعل يتحول متجر الأب بعد أعوامٍ قليلة ليصبح صاحب أكبر متاجر القماش في الكوفة، وبدأ يتفنن ويزين المتجر بشكل جديد لم يكن مألوفاً في ذلك الوقت، فأصبح ثرياً جداً - مع العلم أن من المشاكل الرئيسية لعلماء الدين، وأصحاب الفكر عدم وجود المال يخلق مشكلة ما بين فكره وما بين اللهث لجمع المال، ولكنه وهو في هذه السن الصغيرة كان معه الكثير من المال. إن أبا حنيفة لم يبدأ حياته كغيره من العلماء الثلاثة الذين وجهتهم أمهاتهم في بداية حياتهم للعلم، فهو لم يكن يضع العلم والدين في رأسه، فكان شخصا عاديا، ولكن كانت كل قضيته أن ينجح في الحياة، فكان من الشباب المتميزين.



انظر إلى نقطة التعايش هنا، تركه والده يطور في المتجر في حين إنه أحيانا ما تحدث مشاكل حينما يريد الابن أن يتدخل في تجارة والده، فالابن يريد أن يطور والأب غير موافق، قال والد أبي حنيفة له: "افعل ما تراه وأنا معك ولكن أخبرني، قل لي ماذا ستفعل؟ فبدأ المتجر في الازدهار، وبدأ المال يأتي والغنى يزيد، يقول الناس: "كنا نراه يلبس الحلّّة" كان يلبس العباءة تساوي 1500 درهم في الوقت الذي كان فيه العشرة يشترون اللحم بخمسة دنانير، وعلى الرغم من كل هذا الغنى وعندما سلك طريق العلم كان دخله السنوي يتعدى المائتي ألف دينار ولم تجب عليه الزكاة أبدا، لأنه لا يدخر شيئا وينفق كثيرا، وكان يُبقى لنفسه وأهله أربعة آلاف درهم في السنة فقط.



5. نقطة تحول في حياة الإمام أبو حنيفة:

فقد بدأ تاجرا ناجحا يثير إعجاب كل الناس حتى مر يوما على شخص يدعى الشعبي، وهو واحد من أئمة الإسلام الكبار المشهورين الذي له وقفات كبيرة في الإسلام، وكان يستعان به في القضايا الكبرى، فعندما رآه الشعبي ناداه وسأله إلى مَن مِن العلماء يذهب فقال: قل لي إلى من تختلف من الأساتذة؟ – أي إلى من الأساتذة تذهب- فقال: أختلف إلى السوق على يد الأستاذ فلان، فقال الشعبي: لست عن هذا أسأل، ولكن أسأل على العلماء، فقال أبو حنيفة: لا والله، لا أختلف إليهم، فنظر إليه الشعبي وقال: أرى فيك يقظة وحركة وهمة وذكاء، أظن أن التجارة لن تشبعها، هل لك إلى أن تأخذ شيئا مع التجارة يكون عونا لك على التجارة، وتكون التجارة عونًا لك فيه؟ قال: وما هذا الشيء؟ قال: العلم، تعلم العلم، فإن لك عقلاً وذكاءً. يقول: فوقع كلامه في قلبي. انظر كيف يمكن أن تقول الكلمة وأنت غير مدرك لأهميتها تغير حياة شخص آخر؟! الشعبي رأى أنه شاب غير عادي يبذل كل جهده في التجارة، ولكن هذا العقل، وهذه الحيوية لن تستوعبها التجارة فقط ورأى أن العلم سيشبعها، نحن نعاني هذه الأيام في بلادنا من عدم اكتشاف المواهب، وما أكثر المواهب التي تولد وتعيش، وتموت، وتدفن، ولم يستطع أحد أن يظهرها.



كانت النتيجة، أن الإمام أبو حنيفة بدأ يفكر في كلام الشعبي وفي تعلم العلم، فقرر أن يذهب ويتعلم، فقال: فأي إطار أو أي نمط من أنماط العلم أتعلم؟ يقول: فبدأت أسأل لأختار، فقلت: حدثوني ما هي أنماط العلم؟ فقيل لي: القرآن والحديث واللغة والشعر والفقه، يقول: فبدأت أسأل: (عن واحد واحد)، فإذا دخلت القرآن فحفظت القرآن، وحفظت التفسير، ماذا يكون آخر أمري؟ فقالوا: تقرأ القرآن على الناس وتعلم الصبيان القرآن، يقول: ثم ماذا؟ يقولون: فإذا كبرت، خرج من الشباب من هو أقدر منك على القراءة فيسبقك، فقلت: لا أريد أن أدخل هذا، فسألت عن الحديث، فسألت: فمن أقدر الناس في الحديث؟ فماذا أفعل إذا تعلمت الحديث؟ يقولون: تحفظ الحديث ويتعلم منك الناس الحديث حتى تصير أعظم الناس تحديثا، فقلت: فماذا يكون بعد ذلك؟ يقولون: تكبر فيضعف حفظك فتنسى الحديث، وربما تتهم بالكذب، فقلت: لا أريد أن أدخل في الحديث، فماذا عن الشعر؟ يقولون: تحفظ الشعر يقول: فإذا حفظت الشعر وصرت أفضل الشعراء، فماذا يكون بعد ذلك؟ يقولون: يعطيك هذا فتمدحه ويمنعك هذا فتذمه فقال:"لا أريد هذا، فماذا أيضا؟ يقول: حتى قالوا لي الفقه، فقالوا لي: تعلم الناس وتفتي الناس وربما تكون قاضيا وأنت شاب صغير، فقلت: أريد هذا العلم، يقول: فذهبت إلى الشعبي، فقلت له: أتراني أقدر على الفقه؟ فقال: ذلك ما أردت لك، فسألت: فمن أفضل الناس في الفقه؟ فقيل لي: حماد بن أبي سليمان، فقلت: سألزمه، فلزمت حماد.



هناك الكثير من الشباب يدخل الجامعة لأن مجموعه لا يتناسب إلا مع هذه الجامعة، ثم يتخرج فيعمل في أي عمل متاح له، ولكن انظر كيف كان يخطط لمستقبله لتتعلم منه؟ وانظر كيف كان يريد أن يعرف آخر مرحلة سيصل إليها في العلم؟ طبعا أنا لا أعيب في العلوم الأخرى ولكن أريد أن أريك كيف كان يفكر؟ فقد سأل واستشار لأنه لا يحب أن يأخذ قرارات فردية، انظر إلى أول التعايش أنا مع نفسي - هناك بيني وبين نفسي انسجام- وهذه النقطة هي قمة في التعايش لأنه سوف يبني مدرسته على هذا.



سوف يقضي ثمانية عشر سنة مع أستاذه حماد يتعلم منه ويستفيد منه، والعجيب أن حماد قبل، عندما ذهب إليه قال: ماذا تريد؟ قال: أتعلم العلم، قال: وماذا عن التجارة؟ قلت: لن أتركها، قال: أحسنت، إذن تتعلم عندي كل يوم ثلاثة مسائل فقط. ثلاثة مسائل كل يوم، فالبحر أو السيل من القطر، والجبل من الحصى، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، فبدأ بثلاثة مسائل ولكن بعد ثلاث سنوات، بدأ حماد يشعر بأن أبو حنيفة نضج، فبدأ يجلسه بجواره في الحلقة يتحدث وقتما يشاء، فأصبحت حلقة مشتركة، كل هذا وأبو حنيفة في أوائل العشرينيات من عمره، نحن الآن نسمع أنه إذا كان هناك شخص في شركة يرى أن أحد الموظفين متميز فإنه يبدأ في الضغط عليه ليزيحه من أمامه! أما حماد فيعليه ولذلك سيحفظها له أبو حنيفة طوال عمره.



يقول أبو حنيفة: غير أني لم أكتف بحماد، فبحثت عن باقي العلماء في عصره، فذهبت أطلب العلم من جعفر الصادق، ومع ذلك أذن لي حماد أن أذهب إلى جعفر الصادق وقَبِل جعفر الصادق أن يعلمني، واختلفت مع جعفر الصادق في مسائل وقَبِل ذلك. وهذه نقطة أخرى في التعايش، فحماد لم يضق صدره لهذا، جعفر الصادق هو مؤسس كل الفقه الشيعي، أي أن أبو حنيفة أخذ الفقه الشيعي، ومع ذلك لم يكن عنده مشكلة أن يقول وأنا مختلف مع الفقه الشيعي في كذا وكذا.



يقول أبو حنيفة: كنا نجلس الليالي حتى الفجر أنا ومجموعة قليلة من تلامذة حماد، بعد درس المسجد نجلس لتناول العلم، فيقول إن حماد كان رجلًا وأستاذًًا مهذبا، فكان لا يستطيع أبدا أن ينهي الجلسة، وكان عنده ديك، وكان هذا الديك يصيح مع اقتراب الفجر، فيقول لا ينتهي الدرس حتى يصيح الديك حتى لا يكون هو من أنهى الدرس! انظر إلى أدب المعلم! وكان أبو حنيفة يغضب عندما يصيح الديك لأنه يريد أن ينهل من حماد، فبدأ يقول مازحا: يا لك من ديك كسول تصيح في أول الليل. ثم ينظر إلى حماد ويقول له: يا إمام إن الديك يؤذن في وقت خطأ!



أبو حنيفة صريح ومتعايش مع نفسه، هناك أشخاص مصطدمة مع نفسها أو في حالة غضب وثورة داخلية، أو تهرب من نفسها لا تريد أن تواجه نفسها، يقول أبو حنيفة: بعد 10 سنين نازعتني نفسي للرئاسة، فقلت سأذهب اليوم إلى المسجد وأجعل لنفسي حلقة مستقلة، فدخلت المسجد فرأيت حماد في حلقته يجلس، فما استطاعت نفسي من أجل ما فعله معي ومن أجل إجلاله، فذهبت وجلست في الحلقة وأبيت يومها أن أجلس بجواره، فجلست بين يدي حماد يقول: ففي اليوم نفسه جاء لحماد خبر من البصرة أن له إرث، فترك الحلقة، وقال لي: كن مكاني حتى أعود، فجلست مكانه في الحلقة لمدة شهرين، فبقيت أنظر فإذا بقضايا جديدة، كلما جاءت قضية جديدة أقول لم يقلها لي حماد، فأقول: الحمد لله أني لم أنفرد بالرئاسة، فلما عاد حماد كنت قد كتبت كل القضايا التي عرضت علي، فجلست بين يديه فعرضت عليه ستين قضية فوافقني في أربعين واختلف معي في عشرين فتعلمت العشرين، فقلت والله لا أفارق حماد مادام حيًّا. كان يريد أن يكون له حلقته الخاصة أيضا ولكن نازعته نفسه ولكنه عرف كيف يعالجها، أول التعايش أن نحدث أنفسنا، نتفاهم مع أنفسنا. وسبحان الله، كأن الله أراد أن يكافئه وفي الليلة نفسها، وكأنه تدريب له، وفي هذه المدة بدأت تأتيه مسائل وقضايا جديدة لم يكن تعلمها من حماد، فحمد الله أنه ظل في العمل الجماعي، ألف باء التعايش في بلادنا أننا نفتقد في شركاتنا، ومصانعنا، وكلياتنا، وفي البحث العلمي، وفي الجامعات لفريق العمل. الغرب نجح؛ لأنه قائم على عمل مؤسسي مشترك، اعملوا سويًّا، لم نسمع قط عن مجموعة عملت على بحث علمي فنجحوا نجاحا مبهرا وظلوا سويًّا! نحن نرى من يشتركون في عمل ثقافي، أو فني وبعد ذلك ينفصلون وكل واحد يعمل بمفرده!



مات حماد بعد ثمانية أعوام، ولكن انظروا إلى هذا الحب والذي نفتقده هذه الأيام بين التلميذ وأستاذه - مع العلم أن أبو حنيفة مختلف مع حماد في أكثر من مائة مسألة، وسوف يغير كل نظام الحلقة بعد ما يقودها- ومع ذلك يقول: والله إني لأستغفر لحماد كما أستغفر لوالدي في كل صلاة، وإني لأستغفر لمن علمني العلم ولمن علمته العلم، فقالوا: لماذا تستغفر لمن تعلمه؟ قال: ليثبت على الحق لأظل آخذ ثوابه، ويقول: والله، كانت بين بيتي وبيت حماد سبع سكك والله ما كنت أستطيع أن أمد قدمي في اتجاه بيت أستاذي حماد. انظر الأدب والحب لأي درجة؟ ويقول: "والله، لا أستطيع أن أقلب الورق بين يدي أستاذي حماد بصوت عال حتى لا أزعجه. أتعلمون أن أبا حنيفة سمى ابنه حماد على اسم أستاذه؟ أتعلمون أنه عندما غاب حماد شهرين عن الكوفة وفور رجوعه قال ابنه: يا أبت هذه أول مرة تغيب، لأي شيء اشتقت؟ فقال: لأبي حنيفة، وإني، والله، أتمنى أن أرافقه فلا أغادره حتى أموت.



6. مدرسة أبي حنيفة:

يقول أبو حنيفة: فابتدأت الحلقة في سن الأربعين، وسوف يكون أعظم مدرسة بل أكاديمية أو جامعة، وهو أول من قرر أنه ليس هناك ما يسمى بالفقه الفردي، سوف يتحدث عن تشكيل الفقه الإسلامي فكيف يفعل ذلك بمفرده؟ فكون مجموعة من أربعين شخصا بها كل التخصصات المختلفة، يجب أن يكون هناك متخصصون في التجارة، واللغة، والحديث والقرآن، والتفسير، والشعر، وخبير بأحوال العراق - خبير اجتماعي- ويجلسون سويا ويبدءون النقاش في احتياجات ومشاكل المجتمع، ويستنبطون من القرآن والسنة، وإذا لم نجد نُعْمِلُ عقولنا سويا؛ لأننا فريق عمل واحد لذلك ليس هناك ما يسمى بكتب أبو حنيفة ولكن فقه المدرسة، صحيح أن أبا حنيفة هو الأستاذ ولكن هناك أربعين آخرين، بل حضرها مئات بل آلاف ولكن هؤلاء الأربعين كونوا أول الصفوف. يبدأ أبو حنيفة بعرض مسألة فقهية، ويفتح المناقشة

أولاً تحليل المشكلة، الفروض المقترحة، ثم نصل إلى الحلول، وهناك شخص يكتب، كأنه منهج علمي، مثلما نفعل في الرياضيات، ولا يهم كم من الوقت نقضي في المسألة الواحدة، ويبدأ كل واحد يُدلي بدلوه وكل واحد يرفع يده، وتبدأ المناقشة حتى نصل إلى لقرار النهائي في المشكلة في ضوء الرأي الجماعي.



فإذا اختلف رأي أبي حنيفة مع رأي الجماعة، هناك شخص يدعى أبو يوسف - وهو التلميذ الأول، وسوف يصبح قاضي القضاة في الدولة الإسلامية لمدة أربعة خلفاء- جالس يكتب القرار النهائي وهو الفتوى والأسباب التي بناءً عليها تم الاختيار، ظلت هذه الحلقة لمدة 30 سنة، مؤتمر منعقد دائم لاختيار القضايا، كل هذا التعايش قائم على الحوار، كانوا يتحدثون في كل شيء ويربطوه بالدين، فألغوا الفجوة بين الحياة وبين الدين لأنهم ربطوا الاثنين ببعض، فذات مرة، قال أحد العلماء: أخطأ أبو حنيفة - وكان سفيان الثوري من العلماء الكبار يجلس بجواره- فقال: ما ينبغي أن يخطئ، قال: كيف لا يخطئ؟ أهو معصوم؟، قال: ليس معصوما، ولكنه لا يفكر وحده، ولذلك من الممكن أن تجد فتوى من فتاوى الفقه الحنفي، ورأي أبو حنيفة مخالف لها لأنه كان له رأي والمجموعة اتفقت على رأي آخر.



كان أبو حنيفة أول من أعطى المنح الدراسية، قبل جامعات أوروبا! أبو يوسف كان تلميذا فقيرا، وكان أبو حنيفة يرى أنه سوف يكون غير عادي في المستقبل. وكان يجلسه بجواره أيضاً، ولكن والد أبي يوسف قال له: أنت فقير وأبو حنيفة غني. أي أنك لن تأكل عيشا إذا ظللت معه، اذهب واعمل، فبدأ أبو يوسف يتخلف عن المجموعة، وأبو حنيفة يريده في المجموعة، فقال له أبو حنيفة:يا أبا يوسف، ما شغلك عنا؟ فقال: طاعة أبي والبحث عن عمل فقال: إذا انصرف الناس ائتني، فأعطاه صرة فيها 100 درهم، وقال له: عندما تفنى هذه تأتني ولكن تفرّغ لنا، فإني أؤملك للمسلمين ثم جعل بعد ذلك له راتبا شهريا، فكانت أول منحة دراسية ليتفرغ للعلم، لأنه يرى فيه أمل كبير للمسلمين، وبعد ذلك أعطى طالبين آخرين منحتين.



وفي مرة قرر أبو يوسف أن ينفصل، كما فكر أبو حنيفة من سنين ولكنه لم يفعل لكن أبو يوسف فعلها، فقام وكون لنفسه حلقة، فتركه أبو حنيفة ثلاثة أيام، وبعد ذلك قال لرجل: اذهب إلى حلقة أبي يوسف واسأله: قل له ذهب شخصٌ إلى الخياط، طلب منه أن يقصر له الثوب بدرهم فجاء في اليوم التالي، فقال: أقصَّرْت الثوب؟ قال: "سيكون جاهزا غدا، فذهب إليه في اليوم التالي فقال له الخياط: ليس لك عندي ثوب، فمر في اليوم التالي فرأى الثوب معلق وقد قصُر، فقال: ثوبي، فيبدوا أن التاجر شعر بحرج لأنه كان يريد أن يبيع الثوب فقال: نعم، نعم خذه، قال له: فاسأل أبو يوسف أيستحق الرجل أجرة أم لا؟ فإن قال لك: نعم، فقل له: أخطأت وإن قال لك: لا فقل له أخطأت، فذهب الرجل ووقف أمام أبو يوسف، وسأله السؤال فقال: نعم، يستحق الأجرة، فقال الرجل: أخطأت، ففكر أبو يوسف، وقال: لا، لا يستحق الأجرة، فقال له: أخطأت، فقال أبو يوسف للناس في الحلقة: انتظروني، وذهب إلى حلقة أبي حنيفة، ولكن لم يحرجه أبو حنيفة أمام الناس، وقام له وحده، وقال: لعل الذي جاء بك مسألة الخياط قال: نعم، فقال: إمام يجلس في حلقة كبيرة ولا يعرف في مسألة من مسائل الإيجارات؟ فقال: علمني يا أبا حنيفة، فقال: يا أبا يوسف، إن كان قد قصّر قبل أن ينوي الاغتصاب، فهو يستحق الأجرة، وإن كان قد قصر الثوب بعد ما اغتصب الثوب فلا يستحق الأجرة، ثم نظر إليه وقال: من ظن أنه يستغني عن العمل مع الناس فليبكي على نفسه، إني أؤملك يا أبا يوسف للناس، وإنك إن تركتنا فاتك وفاتنا خير كثير. من يظن أنه من الممكن أن ينجح بمفرده يبكي على نفسه، فبقي أبو يوسف حتى مات أبو حنيفة ثم صار قاضي هارون الرشيد، وصار هو قاضي بلاد الخلافة الإسلامية كلها.



7. ومن هذا نجد أن التعايش درجات:

1. أنا مع نفسي.

2. أنا مع والدي، كما رأيناه هو ووالده.

3. أنا مع أساتذتي.

4. أنا مع المجتمع الذي أعيش فيه.



تخيل أن كل هذه الدرجات كانت ناجحة سنة 80 هجرية، قد تكون مأساة الشباب الآن أنه غير متعايش مع نفسه؛ لأنه لا يستطيع أن يتعايش مع المجتمع، انظروا إلى التعايش بين الأجيال، هل من ممكن أن تفكروا في هذا النموذج؟ هل من الممكن أن تعرفوا أن هذا هو تاريخنا الإسلامي؟ لأن الغرب يقولون لنا: أنتم يا مسلمين جامدين، وإرهابيين، وفكركم عقيم والسبب أن من شكَّل فقهكم ودينكم كانوا جامدين ومتحجرين، ولكن انظر إلى هذه المرونة؟ وهذا الحوار؟ وأبو حنيفة؟ هل من الممكن لكل واحد - بعد هذه الحلقة- أن يفكر كيف يتآلف ويتعايش مع كل من حوله؟ من أجل الإسلام، من أجل العراق ولبنان وفلسطين، من أجل هذه الأمة المسكينة "...وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه... " (آل عمران:103).

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1015

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام