الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.



سنتحدث اليوم عن وفاة سيدنا موسى عليه السلام؛ البطل، نصير المظلومين في تاريخ البشرية، والذي عاش عمره كله لنصرة الضعفاء، فلابد أن يكون محبوبًا بشدة بين الضعفاء والمظلومين ومحبي الحرية. هو قائد صنعه الله ليزيل الظلم ويحول أمة من مستضعفين إلى أعزة منتصرين.



في جبل نيبو:

توفي سيدنا موسى عليه السلام عند جبل نيبو، وأغلب الظن أنه قد دفن في مكان ما هناك، ولكن لا يمكننا أن نجزم أنه قد دفن في بقعة بعينها؛ فالوحيد من بين أنبياء الله الذي نستطيع أن نجزم بموقع دفنه تحديدًا هو سيدنا محمد الله صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأنبياء أجمعين فما بين من نجهل موقع دفنهم تمامًا ومن نعرف تقريبًا أين دُفنوا، وسيدنا موسى عليه السلام من الفئة التي نعرف تقريبًا أين دفنوا. فقد دُفن في جبل نيبو، ولعل من الأدلة التي تؤكد هذه المعلومة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يروي رحلة الإسراء به من مكة إلى المسجد الأقصى: (مررت على موسى ليلة أسرى بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره -والكثيب الأحمر هي منطقة تدعى كذلك- لو كنتم معي لأريتكم قبره). ومما يؤكد أيضًا أن هذا مكان قبر سيدنا موسى عليه السلام أنه دعا الله قبل أن يموت بأن يدفن بجوار المسجد الأقصى وبجوار القدس، فأقرب مكان بعد هذا هو البحر الميت تليه القدس.



وبالرغم من وجود مقام لقبره في هذا المكان إلا أننا لا نستطيع أن نجزم أن هذا تحديدًا مكان قبره، إلا أنه في هذه الأرض البسيطة والعظيمة جدًا عند الله دُفن كليم الله، واحد من أهم خمسة في تاريخ البشرية، وواحد من أولي العزم من الرسل، وهو في السماء السادسة وليس بعده سوى سيدنا إبراهيم والنبي صلى الله عليه وسلم وسدرة المنتهى.







لحظات من حياته عليه السلام:

لعلنا قبل أن نتحدث عن وفاته وقبره نتذكر لحظات من حياته، نبدأ بلحظة أن ألقته أمه في اليم وقلبها يملؤه الخوف، إذ قال الله: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" سورة القصص آية 7. ثم من بعد ذلك: "فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنًا" سورة القصص آية 8. مرت السنوات السبعون بسرعة، وها نحن بعد ثلاثة آلاف سنة نذكرك يا رسول الله يا موسى وقد نسيك الآلاف من البشر.



لعلنا نذكر بعد ذلك قوله تعالى: "فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ..." سورة القصص آية 13، فأم موسى عظيمة القدر على الله. ونذكر أيضاً أنه تربى في بيت فرعون وكان له أن يعيش باسم الأمير موسى، إلا أنه اختار أن يحمل الرسالة "... إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا..." سورة مريم آية 51، وما اختار الدنيا بقصورها ومفاتنها وإنما اختار الله تعالى. ونذكر قوله تعالى: " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" سورة القصص آية 14.



لعلنا نذكر أيضًا يوم أن وقف لنصرة الرجل الضعيف، وكان هذا من المواقف التي تشهد بأهليته ليكون كليم الله. ونذكر الأيام الثمانية التي سارها على قدميه الشريفتين ليجتاز الصحراء من مصر إلى مدين بلا طعام أو شراب ولم يسخط، "... إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا ..." سورة مريم آية 51، ولم يتذمر ويتساءل لم يفعل به ربه هذا، بل قال: "عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ" سورة القصص آية 22، تلك هي الروح المؤمنة المطمئنة المرنة الراضية.



وبعد كل عنائه هذا، سقى للفتاتين " ... فَسَقَى لَهُمَا ..." سورة القصص آية 24، وبالرغم من بساطة هذا الموقف إلا أن المواقف الصغيرة إذا اجتمعت أهَّلَت لما هو أكبر. ألا يستحق -عليه السلام- محبتنا لما بذله من أجل الضعفاء والمظلومين؟ فلعلنا نحتاج لمن يتعلم منه الآن ويكون مثله، فما أكثر الضعفاء والبائسيين والظلومين.



ونذكر له عندما ناداه ربه باسمه في جبل الطور: "... يَا مُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" سورة طه آية 11إلى14، فما أعظم أن يناديه الله باسمه ويحدثه "يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ" سورة الأعراف آية 144. تُرى... أين مقامنا نحن؟ وما هي منزلتنا عند الله؟ تُرى... هل نحن عظماء القدر عند الله؟



ونذكر أيضاً حين قال الله تعالى: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا " سورة مريم آية 51-52. وإذ قال له الله: "وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى" سورة طه آية 37، وفي سورة طه الآية 41 إذ قال تعالى: "وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي"، فكم أكرمه الله وقربه منه وهو عبد من عباده، فما أكرم الله العلي العظيم. فلا بد لنا مع كل ذكرى أن نتساءل، أين نحن من هذا؟



ولنتذكر حين واجه فرعون وقال له الله عز وجل: "لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى" سورة طه آية 68. ولم يأخذ من الدنيا شيئاً، لا عزُ ولا جاهُ ولا مال، ودفن في مقام بسيط أعلى جبل في صحراء الأردن على مشارف القدس، ونتذكر أيضاً خروجه من مصر مرة أخرى وعنائه مع بني إسرائيل دون أن يمل أو يتذمر، فهي قصة تتعلم منها الأجيال كيفية مواجهة الظلم ونصرة الضعفاء والمظلومين، هي قصة نصير الضعفاء، الذي قضى عمره كله في الترحال، لم يُعرف له بيت ولا استقر في موضع بل ظلٍ، مرتحلاً من بلد إلى بلد ومن أرض إلى أرض. خرج من مصر إلى مدين ليمكث بها عشر سنوات ثم من مدين لمصر ليمكث بها خمسة عشر عامًا، ثم يخرج من مصر مع بني إسرائيل إلى سيناء، وهو يقضي بذلك خمسة عشر عامًا من الترحال، ومن سيناء إلى صحراء النَقَب ثم إلى رحلته مع الخضر ومحاولته دخول الأرض المقدسة ثم الوفاة.



ولابد أن نذكر في ذلك عظمة زوجته التي لطالما احتملت الكثير وبذلت الكثير وصبرت زمناً طويلاً، ولعلها كانت واحدة من أربع نساء في حياة سيدنا موسى كلهن عظيمات؛ أمه وأخته وآسيا وزوجته، فكلهن دعمنه وساندنه، فإن دور المرأة كبير ولا يجوز أن تعيش مسلوبة الحقوق، فهو نصير الضعفاء حتى المرأة.











أخلاق كليم الله:

ولنستعرض أخلاق كليم الله، لنقارن بها أنفسنا ونعلم أين نحن منها. فإن الأخلاق لتعد أهم من العديد من الأشياء، خاصة في رمضان؛ فالعبادة الوفيرة والذكر الوفير من المتوقع أن تكون ثمرتهما أخلاق حميدة.



ولعل من أبرز أخلاقيات سيدنا موسى عليه السلام الإخلاص ونصرة الضعيف والشهامة والمروءة والوفاء بالوعد، خاصة مع حميه؛ فقد مكث عشر سنوات في مدين وفاءً بالوعد، وعظمة القيادة والحسم، خاصة مع السامري، والحنان، خاصة مع هارون، والشجاعة التي أبرزها في مواجهة فرعون، ولا ننسى الصبر الطويل مع بني إسرائيل.



أما التوكل على الله واليقين فقد برزا في عدة مواقف؛ ففي أول مرة ألقى عصاه "وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ..." سورة القصص آية 31، فقد ولى فَزِعًا وناده ربه: "... يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ" سورة القصص آية 31 "... يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ" سورة النمل آية 10، وقد نفذ الله وعده وحماه طويلاً، فكم من مرة هُدد بالقتل، بل وأشرف أن يُقتل. وقد تحقق وعد الله تعالى؛ فلم يقدر عليه فرعون بكل جبروته، برغم كون سيدنا موسى أعزل وحيد حتى مات دون أن يقتل، كما وعده الله تعالى: "قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى" سورة طه آية 68، ومرة أخرى حين قال: "... إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" سورة طه 46، أما المرة الأخرى حين ألقى عصاه أمام السحرة "فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى" سورة طه آية 67، وفي المرة الثالثة حين ضرب بعصاه البحر "... أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْر ...َ" سورة الشعراء آية 63، ولم يكن يعلم حينها أن البحر سينشّق، إنما كان على يقين من ربه؛ فحين خاف بنو إسرئيل وظنوا أن الموت ملاقيهم وأنهم مقتولون بيد فرعون فرد عليهم قائلاً: "...َ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" سورة الشعراء آية 62. وهنا يبدو واضحًا الدرجات التي تدرج فيها إذ فزع أول مرة، وفي الثانية توجس خيفة، أما هاهنا فهو على يقين من عون الله فقد أصبح متوكلاً على الله متيقنًا من هديه ونصرته.



ومن أهم منازل سيدنا موسى منزلة الشوق إلى الله حين يقول: "... وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى" سورة طه آية 84، بل وأنه كان يأنس بالله في وحدته، ويتذلل إلى الله، فنراه جالسًا تحت الشجرة في مدين يقول: "... رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" سورة القصص آية 24. ولابد لنا أن نتساءل هاهنا، أيةُ منزلة نحن فيها؟ فكلنا نازل إلى جوف الأرض بعد الموت، ولكن يختلف مقام فرعون ومقام موسى.



ثبت موسى عليه السلام على رسالته من المولد وحتى الوفاة، ولم يغيره ظلم ولا طغيان ولا فقر ولا ضعف، ولو نظرنا في قول الله تعالى: "... رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ..." ولكن هذا لا يكفي، فكثير من الناس يعتزمون خيرًا عند بدء مشروعاتهم ويخلصون النية لله، ولكن هذا وحده لا يكفي، إنما تكتمل بـ "... وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ..." سورة الإسراء آية 80، فالأهم أن يتم المرء ما بدأه بنفس إخلاص النية. وسيدنا موسى "... كَانَ مُخْلَصًا ..." سورة مريم آية 51، فقد استكمل مشواره بنفس الإخلاص، وقد نال بها السماء السادسة، ولابد لكل منا أن يبحث عن منزلته في الآخرة لا في الدنيا، ولابد أن نتدرج في منازل العبودية ونستفيد من شهر رمضان، لا أن نعيش للدنيا بل نسعي كل السعي لمنازل الآخرة.



هل أحببت سيدنا موسى حقًا؟

هل أحببت سيدنا موسى حقًا؟ هل علمت كم أحبه رسول الله؟ لقد تشاجر رجلان في المدينة، وكانا الرجلان صحابي ويهودي، فقال اليهودي للصحابي لا والذي اصطفى موسى. فغضب الصحابي ولطم اليهودي وقال: أتقول هذا ورسول الله بيننا! فاشتكاه اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم، فوقف النبي يلوم على الصحابي قائلاً: (لا تفضلوني على موسى) برغم كونه أعلى سيد ولد آدم وهو من قال هذا عن نفسه، ولكنَ موسى له أخٌ، ثم استكمل قائلا: (...فإن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطِشًا بساقِ العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى اللـه؟) لأنه جوزي بصعقة الطور.



ومن شدة ما أحب الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا موسى خاف أن يأتي بعض المسلمين فيقولون ما هو بنبينا بل هو نبي بني إسرائيل ونحن لا نحبهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (نحن أولى بموسى منهم) وجعل بها صوم يوم عاشوراء وهو اليوم الذي نجّى الله فيه موسى عليه السلام، ويكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لنا أن ننتمي لموسى فنحن منه وهو منا.



وقد تقابلا في المعراج في السماء السادسة، ويا له من لقاء، موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، ورحب به موسى قائلاً: (مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح) ويبكي سيدنا موسى فيسأل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام جبريل عليه السلام عن بكاؤه فيرد موسى قائلاً: (أمتك يدخل منهم الجنة أكثر من أمتي) وربما نظن من هذا أنه لا يحبنا إلا أننا نفاجأ عند نزول سيدنا محمد بتكليف الصلاة والتي كانت خمسون صلاة فيكون موسى هو من ينصحه: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف) لأنه جرب بني إسرائيل والناس لا تطيق ذلك، فيطلب النبي التخفيف من الله فتصير خمسة وعشرون، ومرة أخرى يقول له موسى (ارجع إلى ربك ...). وفي هذا بيان جليّ لقدر محبته لنا.



وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر سيدنا موسى كلما أُوذيَ، فيقول: (رحم الله أخي موسى، لقد ابتُليَ بأكثر من ذلك فصبر) فقد علم قدره وكان عنده عظيمًا، وقال أيضًا: (رحم الله أخي موسى، كاد يذهب بثلث القرآن)، فقد وردت قصة سيدنا موسى في العديد من آيات القرآن، فإن كنا سنحيا بالقرآن فلابد لنا من أن نحب سيدنا موسى.



وكــم أحبــه الله!

"... وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا" سورة النساء آية 164، "... وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ..." سورة طه آية 39، فبذلك جعل كره موسى فقط في قلوب الظالمين، ومحبته في كل قلب مؤمن، ولعل في لقائنا به يوم القيامة مؤشرًا لمدى إيماننا؛ أأحببناه حقًا أم لم نحبه؟ ولابد لنا هنا أن نسأل أنفسنا، هل ألقى الله لنا محبة كما ألقى لموسى؟ وهل يحبنا الناس؟ يقول الله تعالى لموسى عليه السلام: "وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي" سورة طه آية 41، فما أعظم أن يقول الله لآدمي أنت لي وقد صنعتك لي، وقوله: "... وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي" سورة طه آية 39. فما أعظم هذا المقام وما أعظم ما نتوقع بعد ذلك لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يقول الله له: "... فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ..." سورة الطور آية 48، فما أعلى منزلتهما، وأين نحن منهما! ألا عملنا لله وسعينا لبلوغ المراتب العُلا؟ ألا استشعرنا غيرةً وسعينا لنقترب نحن أيضًا؟ كفانا بحثًا عن المأكل والمشرب ولنبحث عن المراتب العُلا. يقول الله لموسى عليه السلام "... وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي" سورة طه آية 39، فيقول له أن كل حياته لله، أما نحن فنتعبد ليلة واحدة في شهر رمضان! ونرجوا الله أن يتقبلها منّا وينظر لنا.



ملـك المـوت:

رُوي في صحيح البخاري حديث وفاة موسى عليه السلام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكه ففقأ عينه...- وربما تعجب البعض من هذا الحديث، إلا أن ملك الموت قد جاءه في هيئة رجل عادي وهو قائم بين بني إسرائيل يعمل بكد بعد أن حُكم عليهم بالتيه أربعين سنة، فقد تمنى موسى أن يستكمل الأربعين سنة ويدخل بهم القدس ليستكمل رسالته لله تعالى. لم يعرفه سيدنا موسى حين جاءه في هذه الصورة، بل ظنه من بني إسرائيل الذين طالما خرج منهم أغوياء – فرجع –أي ملك الموت- إلى ربه، فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه، فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة –وهنا عرفه سيدنا موسى هذه المرة لأنه جاء في صورته الملائكية- قال : أي ربِ، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن). فقد علم سيدنا موسى أن الرسالة لن تستكمل به، وكان قد زهد في الدنيا فقال "الآن". ويذكرنا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم حين وضع رأسه على صدر السيدة عائشة ورفع يده إلى السماء قائلاً (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) فتقول السيدة عائشة (فعرفت أنه يخيّر). ومن علو مقام سيدنا محمد أن جاءه جبريل يقول له: (ملك الموت يستأذن أن يدخل عليك، وما استأذن على أحد من قبلك) فما أعلى مرتبة الرسول عليه الصلاة والسلام، فليس العجب أن يتودد العبد إلى مولاه، إنما العجب كل العجب تودد الملك لعباده. فتعلم السيدة عائشة بدخول ملك الموت، فدخل وقال: السلام عليك يا رسول الله، أرسلني الله أخيرك بين البقاء في الدنيا وبين أن تلقى الله. فقال النبي (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى).



وقف ملك الموت عند رأس سيدنا موسى وقال كلمته التي يقولها لكل مؤمن (أيتها الروح المؤمنة، أيتها الروح الطاهرة روح موسى بن عمران اخرجي إلى رحمة من الله ورضى ورب راضٍ غير غضبان) ترى أنُدعى بالروح الطيبة أم الروح الخبيثة؟



يروي النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج حين مر بقبر موسى في صحبة جبريل عليهما السلام، وقد عرف جبريل المكان الذي لقي فيه موسى مرات، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره. فالمقابر درجات ومنازل، فكما أن الناس منازل في الدنيا هم منازل في الآخرة وفي يوم القيامة وفي القبور، فيوم القيامة يقول الله تعالى للناس (أيها الناس وضعتوا لأنفسكم نسبًا في الدنيا فوضعت لكم نسبًا، أنا قلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأنتم قلتم فلان بن فلان، فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي، فاليوم أقول "أين المتقون؟"). بعض القبور هي قطع من الجنة والبعض الآخر هي قطع من العذاب، يمر النبي على قبر فيقول (إنهما يعذبان في صغير...) ثم يردف قائلا (...لا ليس صغير بل كبير) وحين سُئل لماذا؟، قال (أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ...إلخ) ويعلمنا النبي أن في القبور من يعذبون، ومنهم ما هو مفروش له من الجنة ومنهم ما يفتح له باب إلى الجنة فيرى المرء منه موضعه في الجنة وكأنما يشاهد عرضًا سينيمائيًا لأراضي جميلة تشتهيها نفسه. وقبور يأتي فيها العمل الصالح مؤنسًا صاحبها، فلربما كانت قراءتك القرآن ليلا وصلاتك به تأتيك في قبرك لتؤنسك. وللمتوفي أسئلة يسألها الملكان (من ربك؟ وما دينك؟ ... إلخ) أما في قبر عمر بن الخطاب رد عليهم قائلا (بل أنتما من ربكما؟ وما دينكما؟ ...). وعلى اختلاف المقابر كان موسى في قبره قائمٌ يصلي بين يدي الله، وما هي بصلاة مفروضة إنما هي صلاة حب لله وود له وأنس به، فهل منا من يستمتع بالصلاة هكذا؟ وهل منا من يقوم الليل مودة لله؟ فقد كانت صلاة موسى قيام ليل "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ..." سورة الإسراء آية 1، فهو كليم الله وحبيبه، ومثله يمر عليه القبر كركعتين خفيفتين، ورُب مُتوفّى قبل يوم القيامة بيوم واحد فقط ولكن يمر عليه كأنه ثلاثة آلاف سنة وليس يوم واحد. فلندعوا الله أن يرزقنا منزلة عُليا.

دار الترجمة

http://amrkhaled.net/newsite/articles1.php?articleID=NTM0Nw==&id=5347