الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة :

السلام عليكم ورحمة الله ، أيها الأخوة والأخوات أسعد الله أوقاتكم بكل خير ، وأهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامج : "الإسلام منهج حياة ".

ضيف البرنامج هو فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، الداعية الإسلامي ـ حفظه الله ـ أهلاً بكم فضيلة الدكتور .

الدكتور راتب :

بكم أستاذ جميل جزاك الله خيراً .

الأستاذ جميل :

دكتور في معرض حديثنا عن الدعوة إلى الله عز وجل ، ثاني نوع من أنواع الجهاد ، وبعد أن ذكرنا أن الدعوة هي صنعة الأنبياء ، ووجوب صيانتها عن النزاعات الشخصية , وأن تكون القدوة قبل الدعوة ، كلها محاور تناولناها لابدّ من قواعد وأسس لهذه الدعوة ، فعلى ماذا تقوم الدعوة إلى الله ؟.

من قواعد الدعوة إلى الله :

1 ـ معرفة الآمر قبل الأمر :

الدكتور راتب :

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

أستاذ جميل ، لا بدّ من التذكير أننا في محطات عدة ، محطة العلاقة بالله ، والعلاقة بالأهل والأولاد , والعلاقة بمن حولنا , والعلاقة بالشأن العام , والعلاقة بالدعوة إلى الله عز وجل .

وبدأنا في لقاء سابق بقواعد الدعوة إلى الله , القاعدة اليوم الأساسية : الآمر قبل الأمر ، إذا عرفنا الآمر ثم عرفنا الأمر تفانينا في طاعة الآمر ، أما إذا عرفنا الأمر ولم نعرف الآمر تفننا في التفلت من الأمر كحال المسلمين اليوم .

المرحلة المكية في تاريخ الإسلام مرحلة تعريف بالآمر ، فالآيات المكية تتحدث عن الكون ، وعن اليوم الآخر ، وفي مرحلة التشريع جاء الأمر والنهي ، فأي دعوة إلى الله تغفل المعرفة بالآمر دعوة عرجاء لا تنجح ، وأي دعوة إلى الله تغفل التعريف بالأمر دعوة عرجاء لا تنجح ، فلابدّ من أن نعود إلى منهج النبي الكريم لأنه سيد الدعاة ، عرف بالآمر ثم عرف بالأمر .

التفكر بالكون يقودنا إلى معرفة الله و يضعنا وجهاً لوجه أمام عظمة الله :

لذلك الله عز وجل جعل الكون مظهراً لأسمائه الحسنى ، وجعل التفكر في الكون أحد أكبر العبادات ، والتفكر بالكون تتعرف من خلاله إلى الله ، وقد تقف وجهاً لوجه أمام عظمة الله ، والتفكر بالكون أوسع باب ندخل منه على الله ، وأقصر طريق إلى الله .

غدة إلى جانب القلب كُتب الطب من مئة عام إلى عقدين من الزمن تقول : لا وظيفة لها إطلاقاً ، غدة "التايموس" صغيرة جداً إلى جانب القلب ، توهم الأطباء أنه لا وظيفة لها ، لأنها تضمر كلياً بعد عامين ، ثم اكتشف أنها أخطر غدة في جسم الإنسان ، لأن كريات الدم البيضاء المقاتلة عناصر قوية معها سلاح فتاك ، لكنها لا تعرف الصديق من العدو ، تدخل هذه الكريات البيضاء التي سماها العلماء الخلايا التائية الهمجية ، إلى هذه الكلية الحربية تتعلم خلال سنتين من هو الصديق ، ومن هو العدو ، كُبّر هذا المدرج فإذا الخلايا التائية التي كانت همجية قبل التعلم ، والتي تخرجت فأصبحت مثقفة ، عرفت الصديق من العدو ، وهناك مخرجان امتحانيان ، الأول تعطى الخلية صديقاً فإن قتلته تُقتل وترسب ، وتعطى عدواً فإن لم تقتله تُقتل وترسب ، هذا الجيل المتخرج يتولى بنفسه تعليم الأجيال اللاحقة ، عندئذٍ تنتهي مهمة هذه الكلية وتضمر ، في الستين أو السبعين يضعف التعليم ، ينشأ من ضعف التعليم ما يسمى بالخرف المناعي ، هذا الخرف المناعي سبب لبعض الأمراض منها التهاب المفاصل ، وهو من أوسع الأمراض انتشاراً في العالم .

التفكر يقود إلى معرفة الله و معرفة الله تقود إلى طاعته :

لذلك في جسم الإنسان دقائق مذهلة ، فنحن كيف نعرف الله ؟ من صنعته الدقيقة، من حكمته البالغة ، من دقة المخلوقات التي خلقها ، فالبعوضة تزن واحد على ألف من الغرام، وفي رأسها مئة عين ، وفي فمها ثمانية وأربعون سناً ، وفي صدرها ثلاثة قلوب ، قلب مركزي ، وقلب لكل جناح ، وفي كل قلب أذينان ، وبطينان ، ودسامان ، ومعها جهاز استقبال حراري ـ رادار ـ حساسية هذا الجهاز واحد على ألف من الدرجة المئوية ، ومعها جهاز تحليل للدم ، ما كل دم يناسبها ، ومعها جهاز تمييع للدم ، ومعها جهاز تخدير ، في خرطومها ست سكاكين ، في أرجلها مخالب ومحاجم ، هذه صنعة الله عز وجل ، قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾

( سورة البقرة الآية : 26 )

فالصنعة تدل على الصانع ، والحكمة تدل على الحكيم ، والتسيير يدل على المسير ، والخلق يدل على الخالق ، فنحن إذا تفكرنا في السماوات والأرض عرفنا الله ، فإذا عرفنا الله تفانينا في طاعته ، أما إذا عرفنا الأمر ولم نعرف الآمر تفننا في التفلت من الأمر ، لذلك نقول : الآمر قبل الأمر ، هذه قاعدة من قواعد الله ، ينبغي أن نُعرّف الناس بالخالق ، بأسمائه الحسنى ، بصفاته الفضلى ، بقوته , بغناه ، بفضله ، برحمته ، بحكمته ، برأفته ، عندئذ ننصع لأمره ، هذه قاعدة من أهم قواعد الدعوة إلى الله .

الأستاذ جميل :

إذاً القاعدة الأولى هي : معرفة الآمر قبل الأمر حتى نتفنن في طاعته .

2 ـ الأصول قبل الفروع :

الدكتور راتب :

أما القاعدة الثانية : الأصول قبل الفروع ، أي وحدة المسلمين أصل ، فإذا اختلف المسلمون على عدد ركعات التراويح هذا الاختلاف يتناقض مع الأصل ، التراويح سنة ووحدتنا فرض ، فالمسلمون حينما يبتعدون عن مقاصد الشريعة الكبرى ، عن فرائض هذا الدين ، ويختلفون في الجزئيات ، وقعوا في متاهة كبيرة ، ينبغي أن ننتبه إلى الأصول والفروع معاً ، أن ننتبه إلى مقاصد الشريعة وتفاصيلها ، أما إذا أغلفنا مقاصدها وأغفلنا الأصول سنقع في متاهات الفروع ، وأحد أكبر أمراض المسلمين أنهم غرقوا في الجزئيات ، وغفلوا عن الكليات ، وغفلوا عن المقاصد ، وغفلوا عن الكبرى ، فلذلك مزقت وحدتهم ، هذه قاعدة ثانية ومن أهم القواعد .

3 ـ المبادئ لا الأشخاص :

وهناك قاعدة ثالثة ، هناك المبادئ لا الأشخاص ، المبدأ أولاً ، ولعل البشرية تمر أو مرت بمراحل ثلاث ، مرحلة المبادئ هذه أرقى المراحل ، المبادئ فوق الأشخاص ، والمبادئ فوق الأشياء ، في مرحلة كان الشخص هو المقدم ، نحن في مرحلة الشيء مقدم ، أي قيمة المرء من مساحة بيته ، من مركبته ، من رقم كتب على مركبته ، فقيمته من مركبته، أو من رقم أُضيف إلى مركبته .

لذلك ورد في بعض الأحاديث : أنه في آخر الزمان قيمة المرء متاعه .

كلما تقدمت الأمة عظمت المبادئ وصغر الأشخاص :

في عهد سيدنا عمر في عصر المبادئ أسلم جبلة بن الأيهم ، هذا ملك الغساسنة وسيدنا عمر رحب به ، لأن النبي طلب النخبة ، ملك ، لكنه بعقلية ملك ، متكبر ، أثناء طوافه حول الكعبة ، بدوي داس طرف إزاره فانخلع رداؤه عن كتفه ، فالتفت نحو هذا البدوي ، وضربه ضربة هشمت أنفه ، فهذا البدوي ليس له إلا عمر ، شكاه إلى عمر ، فسيدنا عمر استدعى جبلة ، دار حوار بينهما ، صاغه شاعر معاصر صياغة رائعة ، فقال سيدنا عمر لجبلة : أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح ؟ فقال جبلة : لست ممن ينكر شيا ، أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيديا ، قال : ارضِ الفتى لا بد من إرضائه ، ما زال ظفرك عالقاً بدمائه ، أو يهشمن الآن أنفك ، وتنال ما فعلته كفك ، قال : كيف ذاك يا أمير ؟ هو سوقة وأنا عرش وتاج ! كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً ؟ قال له عمر : نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها ، أقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً ، فقال جبلة : كان وهماً ما كان في خلدي أنني عندك أقوى وأعز ، أنا مرتد إذا أكرهتني ، فقال عمر : عالم نبنيه كل صدع فيه يداوى ، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى .

هذا عصر مبادئ ، والمبادئ لا الأشخاص ، والمبادئ فوق الأشخاص ، وكلما تقدمت الأمة عظمت المبادئ وصغر الأشخاص ، وكلما تخلفت الأمة كبر الشخص وصغر المبدأ ، هذه أيضاً قاعدة ذهبية من قواعد الدعوة إلى الله .

الأستاذ جميل :

التبعية للمبدأ وليس للشخص .

4 ـ المضامين لا العناوين :

الدكتور راتب :

هناك شيء آخر : هو المضامين لا العناوين ، نحن ألفنا أن نقسم الأشخاص إلى جماعات إسلامية ، فلابدّ أن نعرف فلاناً ينتمي إلى من ؟ هذه العقلية المتخلفة ، أنا يهمني من هذا الذي أمامي عقيدته السليمة ، سلوكه المستقيم ، ولا يعنيني إلى أية جماعة ينضم ، هذا التقسيم على أساس جماعات إسلامية ، والانتماء إلى الجماعات الإسلامية دون الانتماء إلى مجموع المؤمنين يعد خطأ فادحاً ، بل إنني أقول : ما لم يكن انتماؤك إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمناً ، لقوله تعالى :

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾

( سورة الحجرات الآية : 10 )

فنحن نريد المضامين ، فأنت أيها الإنسان ما مضمونك ؟ هل صحت عقيدتك ؟ أنت على العين والرأس ، إلى أي جماعة تنتمي ؟ أنا أنتمي إلى مجموع المؤمنين ، أنا لا أنتمي إلى فقاعة صغيرة تقيم عداوة مع فقاعة أخرى ، أنا أنتمي إلى مجموع المؤمنين ، إلى مجموع المسلمين ، هذا الانتماء الذي يرضي الله عز وجل ، بل إن انتماء آخر يشرفنا جميعاً أن ننتمي إلى البشرية جمعاء ، فالإنسان أخو الإنسان ، وكلما ارتقى الإنسان اتسعت دائرة اهتمامه ، وكلما ارتقى الإنسان تعامل مع الآخر كأخيه ، والذي لا يغيب عن الذهن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه ))

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك ]

طبعاً هذا الحديث فسره العلماء بأوسع معانيه : الأخوة الإنسانية .

خاتمة و توديع :

الأستاذ جميل :

جزاكم الله خيراً فضيلة الدكتور وأحسن إليكم ، كنا أيها الأخوة في حديث عن قواعد الدعوة إلى الله عز وجل ، وللحديث بقية إن شاء الله ، نترككم في أمان الله وحفظه .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

والحمد لله رب العالمين