الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
دروسٌ من التيه:

بعدما خرج بني إسرائيل من جبل نيبو ومُنعوا منه وقال لهم الله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ... } (المائدة:26)، أصبح بينهم وبين البحر الميت ومشارف القدس وجبل نيبو ما لا يزيد عن ستة أو سبعة كيلومترات، والمكان من حولهم صحراء بقوا فيها أربعين سنة يتيهون في الأرض، فحلقة اليوم تدور كلها حول ما حدث لبني إسرائيل في التيه، سترون أخطاءً كثيرة وأشياءً سيئةً جدًا، والقصة لا تملأ القرآن من أجل أن نتندر عليهم بل من أجل التعليم لأُمة محمد صلى الله عليه وسلم ألا تقع في نفس الأخطاء وتتعلم من الأمم السابقة، وكأن الله عز وجل قدم لنا على طبق ٍ من ذهب كل تجارب الأمة السابقة في كثيرٍ من آيات القرآن، والتيه هام جدًا لأمة محمد لأن التيه قد يكون معنوي، وربما هناك أُناسٌ في التيه بدون أن يعوا ذلك يعيشون في دوامة الحياة من مادية طاحنة فلا تتذوق الإيمان بالغيب.



استسلم لأوامر الله:

وأخطاء بني إسرائيل في التيه تعامل معها الله تعالى أحيانًا بالشدة والغضب وأحيانًا بالرحمة والعطاء، وكلها تربية منه لهم، وكلمة رب تعني الذي يربي، الله رب الناس لأنه يربي الناس، وأول درسٍ نقدمه يقول: احذر أن يكون إيمانك بالغيب ضعيف، أي احذر وأنت تحيا في الدنيا أن تنسى مقام الإحسان، ومقام الإحسان هو: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأن تحيا كأنك ترى الجنة والنار، فأول آية في قرآننا: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ... } ( البقرة: 1-3)، والدرس الثاني: لا تختر من أوامر الله ما يوافق هواك فتفعله وما لا يوافق هواك تستخرج المبررات لكي لا تفعله بل استسلم لأوامر الله.



سيبدأ سيدنا موسى من هذا المكان في تقسيم بني إسرائيل لاثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة لها مسئول عنها، {... وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا...} (المائدة:12)، ثم أعطاهم سيدنا موسى معاني من التوراة وبدأ في تربيتهم على شريعته، وتعريفهم بأوامر ونواهي التوراة تمامًا مثل الوصايا العشر: لا تسرق، لا تزني، لا تشرب خمرًا، لا تعق والديك....الخ. بدأ جزءٌ من بني إسرائيل يشعرون أن الأوامر ثقيلةٌ عليهم فتململوا، فأخبروا سيدنا موسى بعدم موافقتهم على هذه الطريقة ورغبتهم في طريقة حديثة، وهي أن يعرض عليهم التوراة فيختاروا ما يشاءون، فالذي في استطاعتهم يفعلونه والذي لا يقدرون عليه لا يفعلونه، فأخبرهم أن هذه أوامر الله فبدأوا في شيء جديد نحن نفعله، ولا أري إذا كنا تعلمناه منهم أم الشيطان هو الذي ينقله للأجيال، فقد بدأوا يخبرونه أن هذه الأوامر غير مناسبة لعصرهم كلها، وأنها ربما تصلح لزمنٍ آخر، فقال لهم سيدنا موسى كلمة شديدة: {... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... } (البقرة:85 ).



واحذر من التعميم، فكن وسطيّ ومتزن فبني إسرائيل بهم مؤمنين ولكن بينهم من فعل هذا ونحن أيضًا بيننا من يفعل هذا، {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } (الأعراف:159)، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ... } (المؤمنون:71)، ولهذا يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)).



فاحذر أن تكون مثل بني إسرائيل! فاحذري أن ترتدي الحجاب ومن تحته بنطلون ضيق، أنتِ هكذا أخذت جزءًا وتركت الأخر، وأنا بريءٌ مما تفعلينه اللهم فاشهد، الشباب الذي يقول لن أشرب خمرًا ولكن سأشرب مخدراتًا لأنها تختلف! أنت هكذا تنتقص أوامر الله، واسمع قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ... } (الأحزاب:36) أليس اللهُ هو الآمر! واسمع قول الله تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } (النساء:65).



فأمام فرض الحجاب نقول نعم يا رب، وفي تحريم المخدرات نقول نعم يا رب، ولكل من يعرضون إعلانات يشجعون الشباب على تجربة الحرام، فأقول لهم حرامٌ عليكم استدراج الشباب، {... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ...}.



أما عن نتيجة إصرار بني إسرائيل على اختيار بعض الأوامر فقد كانت خطيرة! فحدثت معجزة! يقال أنها حدثت بالقرب من الأردن عند هذا الجبل، لكني غير متأكد وربما حدثت عند جبل يشبهه، ولكنها معجزة كبيرة حدثت حين رفضوا أخذ التوراة ككل، {إِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (الأعراف:171) ونتقنا تعني: نزعناه من جذوره ورفعناه، فخرجت هذه الأرض وهذا الجبل من تحت قانون الجاذبية التي تعم الأرض كلها، هذا هو الله مالك الملك! فتحرك الجبل وأصبح فوقهم وظنوا أنه واقعٌ عليهم! ولكنه لم يقع عليهم لأنه لا إكراه في الدين ولن يجبرهم الله على الأخذ بالتوراة لكن معناه: احذروا غضب الله، هل أنت متخيل المعجزة! فمن القادر؟! ومن الملك؟! ومن يملك الأرض في يديه؟! ولمَ العجب من هذه المعجزة؟ فهي ستحدث يوم القيامة، {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ } (القارعة من 1-5 )، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا }(طه:105).



وأنا أقولها لكل من يختار من أوامر الله احذر غضب الله، أقولها للذي يقول لنفسه سأمتنع عن ذنب كذا لكن سأصاحب فتاة، احذروا يا نساء:{... وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ... } (النساء:25) وللسيدات اللاتي دخلن في خيانات، لا تقول أنا أصلي وسأقوم بذنوبٍ أخرى، وخذ الإسلام بقوة وخذ أوامر الله بقوة.



الإيمان بالغيب:

وربما يتبادر لذهنك سؤالًا: لماذا تحرك الجبل فوقهم، ونحن لم يحدث لنا شيء رغم قيامنا بنفس الأخطاء؟ ولماذا رأوا هذه المعجزة الرهيبة ونحن لم نرها؟ هذا لأننا أفضل، فهم ماديون جدًا والإيمان بالغيب لديهم ضعيف فلابد من أن يروا شيئًا ماديًا، فالنضج لدى أمة محمد أعلى منهم، فإن أول آية: {... يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... } (البقرة:3) فقد ذاقوا لذة الإيمان بالغيب، وسيدنا عُمر يقول: "لو رأيت الجنة والنار وكُشفَ ليَ الغطاء ما ازددت يقينًا"، لكن بني إسرائيل لا يزالون في بداية النضج، مثل الطفل الصغير الذي تخبره بأنك وضعت له مليون جنيه في البنك، فلا يفهم شيئًا، لكن حين تُحضر له لعبة بعشرة جنيهات يفرح بشدة، لأنها ملموسة.



الله تعالى أرى بني إسرائيل معجزة ملموسة ليفيقوا أما نحن فأوكلنا للإيمان بالغيب، ولهذا حين قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لن يؤمنوا إلا إذا رأوا الله جهرةً أو أن يُرسل الملائكة فرفض النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: {... قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَسُولًا } (الإسراء:93)، فلم يحضر لهم معجزاتًا خارقة مثل بني إسرائيل فأُمة مُحمدٍ أنضج وهي خير أُمةٍ أُخرجت للناس.



عاد الجبل مكانه وقرر بني إسرائيل أخذ الكتاب بقوةٍ والالتزام به، فيا ترى يا أُمة مُحمد هل تنتظرون أن يرتفع الجبل فوقكم أم ستؤمنون بالغيب وتسعدوا بأنكم انضج؟ وهل ستكونون سعداء بمقام الإحسان وأن تعبدوا الله كأنكم ترونه وأنكم من أُمة مُحمدٍ التي ليس لديها معجزات خارقة لأنهم مؤمنون بالغيب، ومن الممكن أن يكون غضب الله بأشكالٍ أخرى وليس شرطًا أن تروا الجبل، ربما تحدث لك مصيبةٍ ما، فالدرس الأول: فلتحذر من أن تختار من بين أوامر الله، واستسلم لكل أوامر الله وخذ الإسلام ككل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ... } (البقرة: 208)، والدرس الثاني: قويِّ الإيمان بالغيب في قلبك، وسننتقل لنرى درسًا جديدًا في هذا التيه الواسع، ولكن تذكر الجبل فهو موجودٌ في حياتك في أمورٍ غيبية.



بالله عليكم ارجعوا لسورة البقرة الربع الثاني وانظروا لكمية القصص التي حدثت في التيه في مثل هذه الأماكن، ورأينا منهم درسين في بداية القصة وهما: المادية الشديدة وعدم الامتثال لأوامر الله، والعقوبة كانت تعامل الله تبارك وتعالى معهم بشدةٍ وحزم.



احذر المجاهرة بالمعصية:

وحينما رأى سيدنا موسى القائد العظيم ذو الطراز الراقي كثرة أخطاء بني إسرائيل قرر أن ينتقي سبعين من الأسباط، على أساس أن يذهب بهم معتذرًا إلى الله عن أخطاء بني إسرائيل، ونحن الآن لدينا ميقاتين، الأول قد قصصناه وهو: { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ ... } (الأعراف:142)، أما الميقات الثاني: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا ...} (الأعراف:155)، أخذ سيدنا موسى السبعين رجلًا فجلسوا وذهب سيدنا موسى في لقاءٍ يكلم فيه الله ويعتذر فيه إلى الله، والميقات الأول كان موسى وحده، والميقات الثاني كان موسى وسبعون رجلًا فقط من بني إسرائيل، وأُمة مُحمد أعطاها الله ميقات ثلاثين يومًا في رمضان للصيام والتهجد، ثم أخذ مغفرة وعتق فالحمد لله أننا من أُمة مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم.



والسبعون رجلًا كانوا لا يسمعون كلام الله مع موسى ولكن يسمعون استغفار موسى، وعاد موسى من لقاء الله تبارك وتعالى فإذا بالمفاجأة، خطأ جديد خطير لابد من أن نتعلم منه، فإذا بهم يُعلنون وهم في ميقات الله وأمام موسى: {... لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ... } (البقرة:55)، وهنا خطؤهم أيضًا المادية والنضج القليل، والخطأ الجديد هو الجرأة والمجاهرة بالمعصية بمنتهى العلنية، وتنزل علينا الآية من سورة البقرة لتحكي لنا هذا الخطأ، {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } (البقرة:55) وهذا ما حدث في المرة الثانية وينظرون تعني: أن الواحد منهم يُصعق تلو الآخر والباقون ينظرون إليه لكي يتعلموا، وهنا درسٌ خطيرٌ لأُمة مُحمد: احذر من الجرأة على الله والمجاهرة بالمعصية.



ونحن ولله الحمد لن نقول أرنا الله جهرةً، ولكننا نجاهر بمعاصٍ، فإذا قمت بمعصية فلا تجاهر بها ليسترك الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل أُمتي معافى إلا المجاهرون))، وأقول للفتاة التي لا تريد الحجاب: أتمناه لك لكن إذا لم ترتديه فأرجو منك ألا ترتدي ملابس ضيقة أو عارية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((صنفان من أُمتي لا يدخلون الجنة: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها وإن رائحة الجنة لتشم من مسيرة خمسمائة عام)) ومعناه ليس عدم الدخول المطلق لكن التأخر الشديد، فبالله عليك ارتدي الحجاب وإذا كنت تركتيه فارتديه مرة أخرى, وأقول هذا لكل نسائنا في لبنان ومصر والأردن ولكل المسلمات والعرب أيضًا: لا للمجاهرة لأنها تُغضب الله بشدة.



بعد أن صعقوا جميعًا أصبح سيدنا موسى في حرج، لأنه انتقي السبعين رجلًا فإذا عاد لبني إسرائيل بدونهم قد يتهمونه أو يتعرض لأشياءٍ رهيبة، ويالصبر سيدنا موسى! وكم كانت حساسيته كبيرة لأخذه سبعين رجلًا ليعتذروا إلى الله ! كما أنه لا يريد أن يُحرج أمام بني إسرائيل فدعا الله: {... رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء ... } (الأعراف:155) وفتنتك معناها اختبارك وليس أن الله فتنهم، فالله الكريم! {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (البقرة:56)، ألهذا القدر موسى غالٍ عند الله! وإذا لم يوجد غير هذا الدليل على حُب الله لسيدنا موسى في قصته كلها لكان يكفي، فالله لم يشأ أن يجعله في حرج، رغم أنهم لا يستحقون.



ويكمل معهم سيدنا موسى، وبعد أن عاقبهم الله بشدةٍ وحزم، سنرى نوع آخر من إصلاح الأخطاء، وهنا ليتعلم الآباء كيف يتعاملون مع أبنائهم عند الخطأ فتارة يكون بالشدة والحزم وتارة بالعطاء، وسيعالج الله أخطاء بني إسرائيل هنا بالحياة العملية وليس بالدروس، فحياتهم كانت غير مستقرة والمكان الذي هم فيه بدون طعام ولا شراب ولا ظل، فذهبوا إلى سيدنا موسى وأخبروه أنهم يريدون أن يشربوا في هذا التيه ولا يجدون ماءً وسيموتون عطشًا، فجمعهم سيدنا موسى ووقف ليدعو صلاة الاستسقاء: يا رب اسقنا، يا رب اسقنا، يا رب اسقنا، وطوال دعاء سيدنا موسى لا ينزل المطر، فقال موسى: يا رب عودتني الإجابة، فأوحى الله إليه: يا موسى لن ينزلَ المطر، بينكم عبدٌ يعصيني منذ أربعين عامًا، لن ينزل المطر يا موسى بمعصية هذا العبد، أرأيتم شؤم المعصية! فليتب الذي يعصي منذ سنوات اليوم من أجل هذه القصة، فوقف سيدنا موسى في بني إسرائيل وقال: ( أقسمت عليكم بيننا عبدٌ يعصي الله منذ أربعين سنة فبشؤم معصيته مُنعنا المطر من السماء، أمرني الله أن يخرج من بيننا لينزل المطر)، فعرف هذا العبد نفسه فقال: "يا رب أنا الآن إذا خرجت فُضحت وإذا بقيت لم ينزل المطر، ماذا أفعل؟ يا رب أتوب إليك وأُعاهدك ألا أُذنب أبدًا"، فنزل المطر من السماء فقال موسى: ( يا رب نزل المطر ولم يخرج أحد )، فأوحى الله إليه: يا موسى نزل المطر لفرحتي بتوبة عبدي الذي عصاني منذ أربعين سنة!، رب كريم رحيم! أُنزل المطر من أجل هذا العبد وليس من أجل الباقيين!



فيا أصحاب البيوت إذا كان لديكم ابن عاصٍ ورزقكم قليل، ويا شاب ويا فتاة ربما لا ينزل بشؤم معصيتك، لماذا لا تتوب الآن وترى كيف سيأتي لك كل خير، وعندما نزل المطر قال سيدنا موسى: (يا رب دُلَني عليه لأفرح به)، فقال له الله : (( يا موسى يعصاني أربعين سنة أيوم يتوب إليّ أفضحه؟!))، فيا مستورين لسنواتٍ عديدة عودوا إلى الله قبل أن تُفضحوا، ويا كل مستور هو يحبك لكنه يريدك أن تعود إليه، فبالله عليكم لنتُب اليوم، ودروس اليوم كثيرةٌ جدًا فبالله عليكم اكتبوها وعلقوها في بيوتكم وهذا ما تعلمناه من موسى في التيه.



اليقين في الله:

وشرب بنو إسرائيل لكن نفد المطر فكيف سيشربون! فبدأ موسى يدعو مرةً أخرى ويستسقي ويدعو الله بالمطر، فلم ينزل المطر، وسيدنا موسى منتظر مطرًا ينزل من السماء لكن الله أوحى إليه أن يذهب لمكانٍ آخر ويضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتي عشرة عينًا، وموسى ضرب بعصاه البحر فأصبح صلبًا أما هنا فالعكس! وأصبح لكل سِبط عينٌ يشربون منه، والمطر الذي كان سينزل أقل من الماء الذي انفجر من الصخر! آمنت بالله ولا إله إلا الله! فسيدنا موسى منتظر المطر من السماء فأخرج الله له المطر من قلب الصخر! وبضربة واحدة يتحول البحر لصخر فيعبروا عليه! وضربة واحدة للصخر تحوله لماء فيشربون منه!



لا إله إلا الله واليقين في الله! فسبحان من رفع الجبل! سبحان من صعقهم ثم أفاقهم وأيقظهم بعدما أماتهم! سبحان من أخرج الماء من قلب الصخر! سبحان من أخرج الإيمان (موسى) من قلب بيت الكُفر (فرعون)، سبحان من يخرج الحي من الميت! سبحانه القادر! وكلها أشياء وعكسها غير منطقية لكي يعرِّفك أن كلَّ الكون بيديه سبحانه وتعالى، فالجبل يُرفع ضد قانون الجاذبية، والسكين لا تذبح إسماعيل ضد نواميس الكون، النار التي تحرق تتحول بردًا وسلامًا على إبراهيم، الحوت الذي يبلع بلع يونس حتى أنزله على الشاطئ مثل السفينة، من الملك؟! من المهيمن؟! من الذي بيده الجبال والصخر والماء! اليقين في الله، فافعلوا الحق من أجل اليقين ولا تخشوا شيئًا. بنو إسرائيل كانوا جبناء وخائفين وخافوا من دخول الأرض المقدسة (فلسطين) لأنهم جبناء وليس لديهم يقين في الله، ودرس اليوم هو اليقين في الله وهو درسٌ كبيرٌ جدًا.



وعيون موسى ليست مكانًا واحدًا بل كلما انتقل موسى بقومه لمكان فهناك عيون، ولم يشرب الصخر مرة واحدة بل أكثر من مرة، فمرة ضرب الصخر في سيناء وهناك عيون موسى في سيناء، وهناك عيون موسى بجانب جبل نيبو الذي سيدخل منه سيدنا موسى إلى القدس وهذه أماكن المعجزة واليقين في الله، وأقسمت على كل من عرف عيون موسى اليوم إياك أن تخاف على رزقك بعد اليقين في الله.



الرضا عن الله:

وفي أحد عيون موسى يأتي الماء من قلب الصخر، فالذي يخرج رزقك من قلب الصخر كيف تخاف على رزقك بعدها! وأين اليقين في الله! تخيل أن الماء الخارج من عيون موسى من ثلاثة آلاف عامٍ، وكان أول تدريب لبني إسرائيل بهذه العيون على اليقين، ولكن لازال بني إسرائيل يريدون أن يأكلوا، وهنا بدأ المن والسلوى، والمن هو سائلٌ يشبه العسل غير موجود في الدنيا فإذا أكلته وحده يكون سائل وإذا وضعته على أشياء أخرى يكون طعام، والسلوى يشبه طائر السِّمان، وهم في كل يوم صباحًا يستيقظون ليجدوا طيور السمان المهاجرة تأتي حتى أماكن المياه الخاصة ببني إسرائيل فيأكلون ثم يجدون المن ينزل من السماء فيشربون، وهم قد تعلموا اليقين في الله، لكن المن والسلوى يأتي يوم ويوم على قدر عددهم تمامًا ولا يستطيعون تخزينها وإلا فسدت، فلماذا! يريد الله أن يعلمهم الرضا، دروس متتالية لكن هذه المرة بالعطاء، ودروس الشدة مثل الجبل والصاعقة ثم دروس العطاء.



بنو إسرائيل يحتاجون إلى إصلاحٍ كثير، وليس بالمواعظ والكلام والدروس النظرية بل بالتدريب العملي مدى الحياة فهذا الذي يُعلِّم اليقين، والمن والسلوى يعلمان الرضا، فمن أرسل لك رزق اليوم سيرسل لك رزق غدٍ، وإذا كانت روحك باليوم لماذا تريد أن يكون رزقك بالسنة؟ فروحك باليومية ورزقك باليومية فارضَ عن الله، والله تعالى يقول لك إذا كان عندك قوت يومك فافرح.



{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة:60)، أرأيت هذه الآية وهذه المعجزة! أوثقت في الله وراضٍ عنه؟ أرأيت الدروس التي تعلمناها اليوم؟ ماذا بقى؟ حرارة الجو لأنها صحراء مكشوفة، ورغم هذا فوجئنا ونحن الآن في يوليو ونعاني من شدة الحر بوجود غمام في السماء وقمنا بتصويره، وهذا هو العطاء الثالث: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57) فأعطاهم الله الماء لكل قبيلة عين ماء ولكل قبيلة عدد من المن والسلوى ولكل قبيلة سحابة تظللها.



وظلل الله عليهم بالغمام لأنه رحيمٌ وهم قلوبهم قاسية، والقلوب القاسية تُعَالَج بظلالٍ من الغمام، وعدم التوكل واليقين في الله يُعالَج بماء يخرج من قلب الحجر، وعدم الرضا وزيادة الجشع يعالج بالمن والسلوى يأتيهم كل يوم على عددهم، فعلاج الله لعباده كما هو بالشدة فهو بالعطاء، ربٌّ رحيمٌ كريمٌ ودود علمهم اليقين والرضا، علمهم الرحمة وعدم القسوة بالعطاء، والعين الأولى كان الماء يخرج من وسط الصخر أما الثانية فالماء ينزل من الجبل كأنه مطر، فكما هناك مطر من السماء فهناك مطر ينزله الله من الصخر! لا إله إلا الله! وكأن الله تعالى يقول انظروا معي لتنوع عطائي وبذلي، أتحب الله بعد كل هذا أم لا؟ قل لا إله إلا الله بكل قلبك وبكل يقين وثقة، قل بكل عزمك آمنت بالله، وعاتب نفسك أنك لم تثق في عطائه، وعاتب نفسك إن كذبت أو غششت أو سرقت أو ارتشيت أو تركت مظلومين لخوفك على رزقك، بعد أن عرفت الآن أن شلالًا من الماء يخرج من قلب الجبل، لا إله إلا الله اللهم لك الحمد كله أن عرفتنا على عظمتك وعلى ما حدث مع بني إسرائيل لكي نفيق حين نعرف ما رأوه من معجزات.



فنحن أُمة مُحمدٍ أُمة الإيمان بالغيب ولذة الإيمان بالغيب، ومع ذلك ترك لنا الله اثنين أو ثلاث عيون لنراها بأعيننا، فما شكل حبك لله الآن؟ وهل ستقول له أنك تحبه من قلبك؟ وإذا أردت أن تسجد له فلتسجد له الآن وقل له لن أشك في عطائك بعد اليوم، ولن أكون ماديًا بعد اليوم ولن أجترئ عليك بعد اليوم، ولن آخذ أمرًا وأترك أمرًا، قولي له سأرتدي اليوم الحجاب، قل له سأطيعك ولن أفعل الحرام، اسجد بين يديه وقل له رأيت ملكك وعظمتك، اشعر بحبه كما نشعر الآن، وأنا أكلمك من قلبي لأني أرى آياتًا ومعجزاتًا من الله سبحانه وتعالى، أما العين الثالثة فمنظرها عجيب وسبحان الذي جعل لكل من الاثنتى عشرة سبط عين بها نفس كمية الماء.



أحبوا الله من كل قلوبكم وهذه أول كلمة قالها النبي وهو يدخل المدينة: ((أيها الناس أحبوا الله من كل قلوبكم، أحبوا الله لما يغزوكم به من النعم)) فقولوا رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، وانظروا لآيات الله ومعجزات الله وتعلقوا بها، اللهم لك الحمد أن عرفنا عيون موسى والجبال التي تُنزل مطرًا، حين ضرب العصا الصخر تفجر منه هذا الماء، لا إله إلا الله يقيننا بالله توكلنا على الله ولم نعُد خائفين من الدنيا بما عليها بل واثقين من عظمة الله وقدرة الله، فالله لن يضيعنا ولن يضيعك وللأرامل والمطلقات والضعفاء ويا كل من تعاني في هذه الدنيا، اجعل توكلك على الله وثق به، فنحن الآن في مشهد تاريخي فتوكلوا على الله واحيوا من أجل الله وربنا ينصرنا ويفتح علينا.



التيه دروسٌ رائعة وغير عادية، انظر حلم الله عليهم على الرغم مما فعلوا، وغفرانه لهم، ونحن نحتاج أن نحيا مع القرآن وسورة البقرة، اكتبوا دروس اليوم وضعوها في بيوتكم وأسمعوها لكل الناس، اسجدوا له وقولوا له يا رب يقيني بك عظيمٌ ولن أُضيع حقًا بعد اليوم، ولن أخشى سواك بعد اليوم، ولن أقبل أن أُظلم أو أرى مظلومًا بعد اليوم، بعد كل هذا اليقين والحب، اجلسوا مع أنفسكم واحضروا ورقة وقلم واكتبوا نِعم الله عليكم، وفي صفحة أخرى اكتبوا ذنوبكم، وضعوهم أمام بعضهم وابكوا واعتذروا واستغفروا.





ملخص الدروس المستفادة:

1. استسلم لأوامر الله.

2. الإيمان بالغيب.

3. احذر المجاهرة بالمعصية.

4. اليقين في الله.

5. الرضا عن الله.



دار الترجمة

http://amrkhaled.net/newsite/articles1.php?articleID=NTMzMw==&id=5333