الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد العريفيحسن الحسيني


إن القلوب لا تلين إلا للمواقف الصادقة , والآذان لا تستمع إلا للكلمة الصافية , والأرواح لا تنقاد إلا بالحسنة والحكمة , فللدعوة إلى الله فنون وآداب : من أتقن فن الكلمة و روعة الخطاب , وأجاد فن الالتزام والمقام , وتعلم السحر الحلال في الكلمات والجدال , استطاع أن يحول الناس من حال إلى حال .

لقد أمر الله –جل وعلا- نبينا محمداً r بالدعوة إلى الله بالحكمة ]ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ[ ولقد كان الأنبياء والرسل كلهم , كانوا أحكم الناس في الدعوة إلى الله –جل وعلا- وكان المسيح عيسى –عليه السلام- في مقدمتهم , فلم يدعُ عيسى –عليه السلام- بني إسرائيل إلى أكثر من اتباع الحكمة ؛ لكي يختصر لهم رسالته ترغيباً في وعي ما سوف يلقيه إليهم ومع ذلك لم يخلُ حال بني إسرائيل من صدودٍ كبير وتكذيب , بل نجد المسيح –عليه السلام- وصف نبوّته ودعوته كلها بالحكمة .

]وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ[

أيها الإخوة : حديثنا في هذه الحلقة عن دعوة المسيح عيسى بن مريم , ما الأساليب وما الوسائل التي سلكها واتبعها المسيح في تبليغ ما أمره الله –سبحانه وتعالى- به , ونقصد بأسلوب الدعوة : أي الكيفية والفن الذي من خلاله يستطيع الداعية توصيل الحق وتبيينه وتزيينه للناس , أما الوسيلة الدعوية : فنقصد بها الطريقة الذي يسلكها الداعية لإيصال ذلك الحق إلى المدعوّين وإزالة العوائق .

أما الأساليب الدعوية فإننا نجد ثلاثة أساليب بارزة سلكها عيسى في دعوته :

الأولى : ضرب الأمثال , والثاني : الحكمة في القول , والثالث : أسلوب الترغيب والترهيب

ونبدأ بأسلوب ضرب الأمثال : فقد مثّل عيسى –عليه السلام- طالب الدنيا كشارب ماء البحر كما في قصص الأنبياء لابن كثير قال : (طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله) فضرب الأمثال من أساليب الإيضاح والبيان إن لم يكن أقواها لأنه يبرز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس , فيشبّه الخفيّ بالجليّ , والغائب بالشاهد , فيقرب المعنى للذهن وهذا هو الغاية في الإيضاح والبيان , ولقد اشتُهِر عيسى –عليه السلام- بضرب الأمثال ومن ذلك ما ورد عن سفيان الثوري أن عيسى بن مريم –عليه السلام- قال : (لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء) .

يقول الله –جل وعلا- عن عيسى –عليه السلام- : ]وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ[ يعلمه الكتاب : أي الكتابة والخط فإن عيسى –عليه السلام- بعثه الله تعالى في أمةٍ قد ارتقت فيهم ألوان العلم والمعرفة فأكرمه الله –جل وعلا- بأن جعله يفوق غيره في هذه النواحي ]وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[ الحكمة : أي السداد في القول والفعل , ولا شكّ أن الحكمة في القول لها أثرٌ كبير في دعوة الناس إلى الله –جل وعلا- وذلك لجمال ألفاظها وسموّ معانيها وسهولة حفظها وترديدها , الكلام الموجز البليغ ذو المعنى الجليّ هو صفة كلام الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- , قالت عائشة –رضي الله عنها- وهي تصف كلام سيدنا رسول الله –عليه الصلاة والسلام- ذكرت : بأنه كان كلاماً فصلاً يحفظه من جلس إليه , وكان كلام عيسى بن مريم –عليه السلام- كذلك يجمع البلاغة والإيجاز والفصل والوضوح فلو تأملنا ما حكى ربنا –جل وعلا- عن عيسى –عليه السلام- من كلمات تكلم بها عيسى ونطق بها وهو في المهد لرأينا من ذلك عجباً :

]قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[

سبحان الله ما أفصح هذا الكلام وما أبلغه وأبيَنه ! كم جمعت هذه البليغة الموجزة من معانٍ عظيمة , بهذا الإيجاز بيّن المسيح –عليه السلام- صفته وحاله , بيّن حقيقة نفسه وأوضح مهمّته وشريعته , سرد شيئاً من أخلاقه وصفاته , فضلاً أنه رد على تلك التهمة الموجّهة إلى أمه مريم –عليها السلام- .

ومن أساليب المسيح –عليه السلام- في الدعوة إلى الله : الترغيب والترهيب ..

والقصد بالترغيب : هو ما يشوّق المدعو إلى الاستجابة وقبول الحق , والترهيب : هو التخويف من حصول مضرةٍ أو الحرمان من منفعة دنيويّة أو أخرَويّة عاجلة أو آجلة , فالترغيب والترهيب أسلوبٌ دعويٌّ يتجاوب مع فطرة الإنسان من حيث رغبتها في الخير ونفورها عن الشر ورغبتها في السلامة من الضر في العاجل أو الآجل .

ففي مجال الترغيب أورَد ابن كثير في قصص الأنبياء : أن امرأة قالت لعيسى –عليه السلام- : طوبى لحجرٍ حملك ولثديٍ أرضعك فقال المسيح –عليه السلام- : (بل طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه) ومن أقواله –عليه السلام- : (طوبى لمن بكى من ذِكر خطيئته وحفِظ لسانه ووسِعه بيته) وقال –عليه الصلاة والسلام- المسيح قال : (طوبى لعينٍ نامت ولم تحدّث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم) وفي مجال الترهيب نجد قول المسيح عيسى –عليه السلام- وهو يخوّف أصحابه من الوقوع في الشرك بالله تعالى كما أخبر عنه المولى –سبحانه وتعالى- بقوله : ]وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ[ .

وأما في مجال الوسائل الدعوية فإننا نجد عيسى سلك أربع وسائل في دعوته :

الوسيلة الأولى : الدعوة بالقدوة , والثانية : اتخاذ الأنصار , والثالثة : السياحة في الأرض , والرابعة : وسيلة الحجة والبرهان .

ونبدأ بالدعوة بالقدوة : فإن الأنبياء بعثهم الله تعالى من البشر ليكونوا قدوةً لأقوامهم , قدوةً لأقوامهم في سلوكهم , في تعاملهم , في أخذهم وفي عطائهم , يدعون الناس إلى الصدق بأقوالهم قبل أفعالهم , يدعونهم إلى الأمانة بأقوالهم قبل أفعالهم .

بُعِث عيسى –عليه السلام- وكان أحبار بني إسرائيل من قبله قد صاروا قدوةً سيئة للناس يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم فجاء عيسى –عليه السلام- فطرح الدنيا تحت قدميه ووطئ عليها , فعجِب الناس من حاله يدعوهم إلى البر وهو أصدق الناس فيه وأسرعهم إليه , يدعوهم إلى الأمانة وهو أكبر مثال في أدائها , يدعوهم إلى الخير وهو الذي يفعله قبل أن يتكلم فيه مع الناس ؛ ولذلك أقبل الناس إليه وأُعجِبوا به لما ألقى بشهوات الدنيا وبنزواتها وراء ظهره ولم يلتفت إليها , وأخذ يعمل للآخرة واتخذ من الدنيا جسر عبورٍ إلى الآخرة , واجه أئمة الفساد بقوله : (يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم , قولكم شفاء وعملكم داء) كم كان بني إسرائيل بحاجةٍ إلى قدوةٍ كسيدنا المسيح –عليه الصلاة والسلام- لما فيهم من النقص والتغيير والتلبّس بالمعاصي والرذائل , ولما كان المسيح –عليه السلام- على مكارم من الأخلاق والفضائل , بل وصفه ربه –جل وعلا- بأنه من الصالحين , بدأ الناس ينظرون إليه نظرةً تختلف عن نظرتهم إلى أحبارهم السابقين , عيسى –عليه السلام- اتصفت أعماله وأقواله بالصلاح فكان حريّاً أن يكون قدوةً حسنةً للآخرين .

- يا بني إسرائيل إن المسيح يعلمنا التواضع فيقول : (طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة) كما يدعونا المسيح إلى إصلاح ذات البين فيقول : (طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا هم الذين يورثون الفردوس يوم القيامة) , كما يدعونا إلى سلامة الصدور فيقول : (طوبى إلى المطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظرون إلى الله –عز وجل- يوم القيامة)

ولما لم يجد المسيح –عليه السلام- مع تلك الطائفة من اليهود الاستجابة لدعوته بل وجد منهم الصد والإعراض والكفر بالله تعالى اتخذ المسيح –عليه السلام- وسيلة أخرى في دعوتهم إلى الله –سبحانه وتعالى- وذلك بأن يكوِّن له أعواناً منهم ]فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ[ أي : من أنصاري في الدعوة إلى الله ؟ فطلب المسيح النصرة ؛ ليحتمي بها من قومه فيسهُل إظهار دين الله , ولم يكتفِ المسيح بذلك بل سلك وسيلة السياحة في الأرض وهي الانتقال من مكان إلى مكان , فالمسيح لم يستقر في مكان واحد بل كان ينتقل من مكان إلى مكان همه دعوة الناس , غايته نشر رسالة الله .

- (بحقٍّ أقول لكم : ما الدنيا تريدون ولا الآخرة)

- يا رسول الله فسِّر لنا هذا الأمر فإنا كنا نرى أنا نريد إحداهما

- (لو أردتم الدنيا أطعتم رب الدنيا التي مفاتيح خزائنها بيده فأعطاكم منها ما تريدون , ولو أردتم الآخرة أطعتم رب الآخرة الذي يملكها فأعطاكموها , ولكن لا هذه تريدون ولا تلك)

لا شك أن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج من الداعية إلى أن يلتقي بالمدعوّين وقد يتطلب الأمر أن يذهب الداعية إليهم في أماكنهم , في بلدانهم , في مجالسهم ؛ ليبلّغهم دعوة الله تعالى وبخاصة عندما تكون الدعوة جديدةً على الناس لا يعرفون عنها شيئاً , وكذلك كان نبي الله عيسى –عليه السلام- وكان يبعث بالرسل (وهم الحواريون) يبعث بهم ليبلغوا الدعوة في كل الأماكن , وقد اشتُهر عند أهل الكتاب تسمية هؤلاء الحواريين بالرسل هذا ولعلَّ أقوى ما أيد الله تعالى به المسيح –عليه السلام- أنه أيّده بالدلائل القاطعة والمعجزات البيّنة والبراهين الساطعة والتي الأصل فيها أن تكون سبباً في اقتناع الناس أنه نبيٌّ مرسلٌ من الله وبالتالي استجابة الناس له فلقد أيّد الله تعالى رسوله عيسى –عليه السلام- بجملةٍ كبيرة من الآيات البيّنات والمعجزات الظاهرات .

]إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي[

كان المسيح –عليه السلام- عند دعوة قومه إلى الله –سبحانه وتعالى- يذكّرهم بما معه من هذه الآيات القاطعة والبراهين الساطعة والتي من أعظمها كلامه في المهد , والإنباء بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم , ونزول المائدة من السماء , وقدرته على أن يخلق من الطين طيراً فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله , ويُبرِئ الأكمه والأبرص , ويُحيِي الموتى بإذن الله ..

وقد ورد تكرار (بإذن الله) في الآية دفعاً لتوهّم الألوهية ؛ لأن إحياء الموتى ليس من جنس أفعال البشر .

إن الذي جاء به عيسى حق وكلّ ذلك آيات من الله تعالى تحقق قوله وتصدُق خبره أنه رسول من رب العالمين يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له , وأنصتوا إلى المسيح وهو يوضح في نهاية ذكره لهذه المعجزات الهدف من الرسالة التي بُعِث من أجلها ]وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ[ .

مع الشكر لفريق تفريغ منتدى العريفي : http://www.3refe.com/vb/showthread.php?t=254179&page=2