الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد العريفيحسن الحسيني


كان نبي الله زكريا كلما دخل على السيدة مريم موضع عبادتها وجد عندها رزقا وتقديم الرزق لمريم من الله تعالى تهيئة لها لقبول أن يكون لها ولد دون زواج ومن دون أب فقد جاءها رزق كثير دون زراعة لشجرة ظاهرة ولا إنبات نبتة ولا جني ثمرة فالطعام خُلق لها مباشرة إكراما لها وآية.

الشيخ العريفي

تقديم الرزق إلى مريم عليها السلام إثبات للكرامة التي ساقها الله تعالى لها لأنه كان بطريقة خارقة غير مألوفة يأتي زكريا عليه السلام فيسأل مريم " يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ؟" " قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۖإِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿37﴾" سورة آل عمران

عندما رأى زكريا عليه السلام إكرام الله جل وعلا بهذه الكرامة الخارقة لمريم رغب هو أن يكرمه الله تعالى بمعجزة خارقة فأثارت هذه المسألة في نفس زكريا نوازع شتى وهنا ذكر زكريا نفسه وكأن نفسه قد حدثته إذا كان الله جل وعلا يفعل ما يشاء بلا أسباب ويحكم ما يريد ... إذا كان الله جل وعلا يعطي كرما بغير حساب فأنا أيضا عبد ضعيف أريد من ربي طالما اشتقت إليه .. أريد ولدا يخلفني في أهلي في قومي رغم أني على كبر " وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴿8﴾ سورة مريم ، رغم أن امرأتي عاقر .. في تلك اللحظة وفي هذا المحراب رفع زكريا عليه السلام يديه يدعو من بيده خزائن السماوات والأرض ... من بيده مقاليد الأرض .. من بيده مقاليد كل شيء يدعو الله تعالى يطلب من الله جل وعلا أن يرزقه غلاما وارثا " هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿38﴾ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿39﴾ سورة آل عمران .

الشيخ حسن الحسيني

" قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً " فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب من قبل النبي العابد زكريا عليه السلام ؟ كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن ولا بمألوف الناس لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد. لقد اُستُجيبت الدعوة الصادرة من ذلك القلب الطاهر المنيب الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ويملك الإجابة حين يشاء لقد أزال الله تعالى عقم امرأة زكريا عليه السلام وجعلها قادرة على الحمل بمعجزة خارقة وحولها من امرأة عاقر إلى زوج حامل وبقي السبب المادي وهو معاشرة زكريا عليه السلام لزوجه ليتكون الجنين وتأتي البشارة.

الشيخ العريفي

إن رزق مريم عليها السلام بالثمار في غير أوانها كان مقدمة لرزق زكريا الولد في غير أوانه ، بشرت الملائكة زكريا عليه السلام بمولود ذكر اسمه معروف قبل مولده "يحيى" صفته معروفة كذلك كان سيدا كريما وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات يملك زمام نزعاته من الانفلات كان مؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله كان نبيا صالحا في موكب الصالحين ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا عليه السلام نفسه وهل زكريا إلا إنسان على كل حال اشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه المعجزة بالقياس إلى مألوف البشر تساءل زكريا وجاءه الجواب .. جاءه في غاية البساطة واليسر يرد الأمر إلى نصابه ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها ولا غرابة في فعلها قال الله :" قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّـهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴿40﴾ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿41﴾ سورة آل عمران .

الشيخ حسن الحسيني

ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى ولدهشة المفاجأة في نفسه راح يطلب إلى ربه سبحانه وتعالى أن يجعل له علامة يسكن إليها :" قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً " وهنا يوجهه الله سبحانه وتعالى إلى طريق الاطمئنان الحقيقي فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه أن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس وأن ينطلق لسانه إذا توجه إلى ربه سبحانه وتعالى يسبحه ويذكره أرسل الله تعالى الملائكة لتبشر زكريا بيحيى عليهما السلام وجاءته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب .. المحراب هو مكان العبادة وهو أفضل جزء في البيت يخصص للعبادة والذكر والصلاة وكلمة المحراب مشتقة من الحرب وسمي محراب المسجد بذلك لأنه موضع محاربة الشياطين والهوى ومحاريب المساجد هي بداية البعث للهدي النبوي الذي نسير على خطاه ومن محاريب المساجد تبدأ تباشير الانتصار على النفس وهواها أولا ثم النصر على الأعداء ثانيا .

الشيخ العريفي

أرسل الله جل وعلا ملائكته لتخبر مريم عليها السلام باصطفائها كما أرسل الله تعالى ملائكة من قبل لزكريا عليه السلام للتبشير بولادة يحيى عليه السلام أخبرت الملائكة مريم بأن الله تعالى اصطفاها وطهرها وفضلها على نساء العالمين طالبتها بالصلاة والعبادة " يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴿42﴾ سورة آل عمران ، اصطفاكِ أي اختارك ِ اجتباكِ لطاعته خصكِ بكرامته طهركِ طهر بدنك من الريب والأدناس والأرجاس التي قد تكون في أبدان بعض النساء واصطفاكِ على نساء العالمين أي فضلكِ على نساء العالمين في زمانك وإخبار الملائكة لمريم باصطفاء الله تعالى لها وبتطهيرها وبتفضيلها على نساء العالمين هو في الحقيقة تمهيد للأمر بعبادتها وقنوتها وكثرة طاعتها.

"وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴿42﴾ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ سورة آل عمران.

الشيخ حسن الحسيني

انظروا إلى مريم والرزق عليها يتجدد .. انظروا إلى مريم والملائكة عليها تتردد .. انظروا إلى مريم والبشارات عليها تتنزل " يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ سورة آل عمران.

ها هي السيدة مريم لربها تتعبد فتركع وتسجد وتصلي وتقنت شكرا للرب جل وعلا الذي اصطفاها واختارها فهي تقابل نعم الله وفضله بطاعته وعبادته ، قال الإمام الأوزاعي : لما قالت الملائكة يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين قامت مريم في الصلاة حتى تورمت قدماها . سبحان الله فأي انقياد لأمر الله هذا وأي التزام بدين الله هذا . إن الله تعالى ليهيئ مريم بذلك ويعدها لتلقي أمر الله سبحانه وتعالى حيث سيحقق فيها إرادته ويجعلها تنجب ولدا بلا أب وهذا الاصطفاء من الله تعالى لمريم ناتج عن اصطفائه لآل عمران " إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿33﴾ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ..34..." سورة آل عمران.

وقد بينا سابقا أن آل عمران هم مريم وأبوها وأمها وأختها وأخوها فهم خمسة أشخاص فالله تعالى اصطفى مريم مرتين : مرة على وجه العموم باعتبارها ابنة عمران ومرة على وجه الخصوص باعتبارها مريم التي يعدها الله بولادة ابن بدون أب.

لما نزلت الملائكة على مريم إذ بها تذكر لمريم اصطفاءها مرتين "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴿42﴾ آل عمران، فدلالة الاصطفاء الأول يختلف عن دلالة الاصطفاء الثاني ، فالاصطفاء الأول بمعنى الاجتباء والانتقاء فالله اجتبى مريم وانتقاها من بين النساء وأخذها من بينهم وجعلها محلا لتحقيق أمره أما الاصطفاء الثاني بمعنى التفضيل فالله فضل مريم على نساء العالمين والاصطفاء الثاني ثمرة للاصطفاء الأول ونتيجة له فعندما اجتبى الله مريم واختارها من بين النساء فقد فضلها بذلك على باقي نساء العالمين.

الشيخ حسن الحسيني

كم هي نقية صافية هذه الفتاة فقد ولدت في بيت علم وعبادة اصطفاها الله سبحانه وتعالى واختارها من بين النساء وأنشأها نشأة حسنة وأنبتها نباتا حسنا وأسبغ عليها نعمه وتوفيقه ورعايته وألهم أمها أن تنذرها له وهي في بطنها ليجعلها خالصة محررة لله عز وجل وهيأ لها الحياة والعيش تحت كنف نبي كريم هو زكريا عليه السلام وقدم لها الرزق المنوع الشامل وهي في المحراب تكريما لها ولم تتوفر هذه الأمور لامرأة سواها مهما بلغت من الصلاح والتقوى وهذا هو الاصطفاء الأول لها القائم على الانتقاء والاجتباء بما أن الله تعالى اصطفاها ونقاها فقد صفاها وخلصها من الشوائب وطهرها من الأدناس والأرجاس واصطفاها الله سبحانه وتعالى على نساء العالمين وفضلها عليهن جميعا في إنجابها الولد من دون أب حيث خصها الله سبحانه وتعالى وحدها بهذه الآية الباهرة .

الشيخ العريفي

مريم الطاهرة .. مريم الكريمة .. مريم العفيفة مريم المصطفاة على نساء العالمين لقد وردت هذه الشهادة للسيدة العذراء في القرآن مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة المنورة كان يخوض حوارا ونقاشا فكريا عميقا مع النصارى دليل على أن القرآن هو كلام الله جل وعلا مظهر من مظاهر العدل والإنصاف في الإسلام مع أن الالتفات بأن الإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغذى ذلك لما لابس عيسى عليه السلام من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم العذراء معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فزعموا أن وراءه سر لا يشرف قبحهم الله وهنا تظهر عظمة هذا الدين يتبين مصدره عن يقين فها هو ذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب ما يلقى من التكذيب والعنت والأذى والشبهات وفي المقابل هو يحدث عن رب العالمين بحقيقة مريم العظيمة بتفضيلها على نساء العالمين بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم يتخذون تعظيمها مبرر لعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالدين الجديد. فأي صدق وأي عظمة وأي دلالة على مصدر هذا الدين وصدق صاحبه الأمين صلى الله عليه وسلم.

الشيخ حسن الحسيني

عند الحديث عن التطهير لا بد أن نستحضر موقف من حول العذراء والمسيح لأن التطهير مهما كان نوعه فإنه يتعلق بما حول الشخص الذي طهره الله سبحانه وتعالى فإن الله طهر العذراء والمسيح ممن حولهما وما حولهما فالتطهير لا يعود إلى ذات الشخص المطهر فحسب لكنه يرجع أيضا إلى من حوله وما حوله وقد حصل بالفعل عندما قال من حول العذراء والمسيح فيهما أٌقوالا عظيمة على الحب أو البغض إلى حد سواء فقد قال المبغضون بهتانا على مريم وعيسى وقال المحبون المغالون إنهما إلهان حينها طهرهما الله وحفظهما بحفظه.

وعليه فإن التطهير لكل من العذراء مريم وابنها المسيح عيسى عليهما السلام كان إكراما لهما وحفظا من ظنون من حولهما تنزيها من الله تعالى لعبدين مخلصين لله الواحد القهار.

مع الشكر لفريق تفريغ منتدى العريفي : http://www.3refe.com/vb/showthread.php?t=254179&page=2