الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد العريفيحسن الحسيني
حنا بنت فاقود زوجة عمران صاحب صلاة بنى اسرائيل في زمانه من سلالة داود

عمران : الاسم الدال على الرجل التقى الخفي .

وحنا بنت فاقود من خيار العابدات كانت تجلس ذات يوم تنظر الى طائر فحن قلبها الرقيق للأمومة وتحركت نفسها للولد

فدعت ربها أن يهب لها ولدا

(إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

لما حملت امرأة عمران نذرت لله تعالى أن تجعل ولدها محرراً أي حبيساً للخدمة في بيت المقدس نذرت أن يكون ما في بطنها محرراً خالصاً لله

محرر هو اطلاق تشريف لأنه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنه حرر من أسر الدنيا من قيودها الى حرية عبادة الله وحده لا شريك له

هذا هو التحرر الحقيقي ما سواه هو عبودية ,من عظم قوانين من دون الله أو عظم مخلوقاً كتعظيمه لله أو اتجه بقلبه الى غير الله فهي العبودية الممقوتة أما عبادتك لله وتقربك الى الله فهو الحرية التي خلق الله تعالى العبد لأجلها .

أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها منذوراً لله تعالى وحده موقوفاً على عبادة الله تعالى

محرراً من كل قيد يقيده به في الدنيا , والإنسان قد يكون حراً من حيث الرق ولكن ليس هذا كل شيء .

إن الحرية الحقيقة للإنسان هي التي تحرره من قيود الذل والاستعباد المعنوي , حيث تحرره من شهواته وملذاته من الدنيا هذا هو الحر المحرر الخالص لله وحده وإن لم يكن كذلك فهو عبد للدنيا فهو عبد للشهوات , هو عبد للنزوات هو أسير الهوى بئس هذا العبد , يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، إِنْ أَعْطَى رَضِيَ وَإِنْ مَنَعَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ "

حنا بنت فاقو دهى زوجة عمران طلبت من الله جل وعلا أن يتقبل منها نذرها , قالت : (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )"وهنا نلاحظ الضعف البشرى أمام القوة الإلهية , فهي تطلب من الله جل وعلا الولد المحرر ومع ذلك تدعو الله تعالى أن يتقبل منها

وانها تدرك ان قوة الله تعالى وقدرته على الإجابة فوق ضعفها البشرى , كما نلاحظ التناسق بين الآيتين في خاتمتيهما :

(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

( "فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

حيث ختمت كل آية بنفس الاسم السميع , العليم , لأن الله جل وعلا سميع الدعاء وهو عليم بالحال لذلك قد تأتى الإجابة على غير ما أريد بالدعاء لأن الله عليم بالأصلح والأنفع لعبادة .

هكذا كانت حنا وهى تعيش في بنى اسرائيل , هكذا كانت مشاعرهم تمشى بين الناس وتقف بين أقوامهم وهى تنظر الى السماء تتمنى أن يستجيب الله تعالى لها دعائها .

في مثل هذا البيت ولدت السيدة مريم عليها السلام , قلبت القابلة تلك المولودة في يدها وهى تنظر إليها في ذهول تتساءل : هل هى حية أن انها تتوهم , لماذا ؟

لأن المولودة لم تبكى كسائر المواليد أعطتها لأمها التي كانت تسبح الله تعالى بعد حالة عابرة من التعب لم تلبث أن تحولت الى حزن لكون المولودة أنثى وسياق القصة تشير الى أنها انجبت أنثى من قبل وهى التى تزوجها زكريا عليه السلام لما كبرت ولعل امرأة عمران كانت تأمل أن يكون ما في بطنها ذكرا ليصلح أن يكون منذوراً لله عزوجل .

ولكن لم يكن الأمر كما توقعت امرأة عمران , فلما كانت مولودها انثى قالت متحسرة : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)

لماذا ؟ لأن بنى اسرائيل كانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداماً من أولادهم إذ لم يكن لخمة بيت المقدس إلا الذكران الذين يتحملون مثل هذا العمل وخدمة بيت الله تعالى يحتاج الى مزيد من الجهد والقوة والجَلدِ والتحمل يبذل فيه صاحبه كثيراً من الطاقة البدنية

(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

بعد أن تفاجأت امرأة عمران بالمولود وإذا هو أنثى ما لبثت ان استدركت مظهرة الرضا التام بما اعطاها الله تعالى فاختارت لأبنتها أفضل الاسماء في ذلك الزمان ( وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ)

مريم تيمناً ببلوغها غاية الصلاح والإصلاح أضف الى ذلك أن اسم مريم في العبرية يعنى ( العابدة الطائعة )

وألا يؤذن حالها الذى قد يظهر فيه شيء من الكراهية أكدت امرأة عمران قضاها بما قدر الله تعالى لها , ولذلك انتقلت الى الدعاء لها وهذا يدل على المحبة والرضا دعت ان يحمى الله تعالى ابنتها وأن يعيذها من الشيطان الرجيم وهذا من قوة إيمانها واعتمادها على الله تعالى وحده لا شريك له

(وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

ومن يتأمل هذه المناجاة الخالدة وما قبلها ( إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

ومن يتأمل ذلك يعرف الحالة التي كانت عليها تلك المرأة العظيمة وهو حال الأنس والود والمباشرة والقرب

اسمعوا الدعاء البسيط السهل , اسمعوا المناجاة اليسيرة في العبارة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد , مناجاة تحس أنه يحدث رباً قريباً معبوداً سميعاً عليماً مجيبا ولنتأمل جمال ذكر حرف (إِنِّي ) الذى هو حرف توكيد ونصب ذُكر خمس مرات في خطاب امرأة عمران تأكيداً على انها تريد من الله جل وعلا الإجابة (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا),( إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى), ( وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ)

(وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

مريم اسم الأنثى الوحيد المذكور في القرآن الكريم , أما النساء الأخريات فأنهن يذكرن بألقابهن كأم موسى , امرأت فرعون , امرأت نوح ,

والحكمة في أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائر زوجاتهم بأسمائهن بل يكنون عنهن بالأهل والعيال ,فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا ولم يحتشموا على التصريح فلذا صرح باسمها اشارة إلا أنها امة من إماء الله وابنها عبد من عبيد الله رداً على اليهود الذين قالوا في عيسى وأمه ما قالوا .

وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء امرأة عمران فأعاذ الله سبحانه وتعالى مريم من الشيطان الرجيم وأعاذ ذريتها أيضاً وهى و ابنها عيسى من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان سبيل على مريم وابنها عيسى ولم يكن له سلطان عليهم فحفظهم الله تعالى من وسواسه على ان الشيطان لم يمس مريم عند ولادتها ولم يمس عيسى عند ولادته وصرح لنا بهذه الحقيقة بعد قرون رسولنا وحبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام

فقد روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (" مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا " . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )يفسر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث سر بكاء كل مولود عندما يخرجُ من بطن أمه , فيبين لنا انه بسبب مسّ الشيطان له وطعنهِ في بدنه حينها نعلم أن العداوة بين الإنسان وبين الشيطان متأصلة وان الشيطان حريص على إيذاء الإنسان وإبعاده عن الله الرحمن وأن الله تعالى جعل له بعض القدرة امتحاناً من الله تعالى لبنى الإنسان

اما مريم وعيسى عليهما السلام فقد حماهما الله تعالى من طعنة الشيطان ولعل الصدق الذى رأه الله جل وعلا في قلب أم مريم هو الذى كان أدعى للإجابة وهذا يُعلمنا وجوب التأسى بسنن الأنبياء بالدعاء بالمولود الصالح وأن ندعو الله تعالى بأن يحفظه من الشيطان , ان يُعيذه من إبليس وأيضا ان نختار الاسم الطيب , وان يكون لنا نية صالحة بأن يجعل الله لنا أبنائنا في خدمة هذا الدين العظيم في نفع الناس , في إقامة العدل والصلاح كقصة امرأة عمران وابنتها مريم بداية مشاركة المرأة الفعلية بأنها تحمل هم الدين وتشارك في الدعوة إليه وتحافظ عليه وتتفرغ له إلا أن وصل الأمر في الإسلام بمشاركتها في الجهاد عند الحاجة إليها , وكانت سمية بنت الخياط هي أول شهيدة في الإسلام وقد استشهدت تحت تعذيب الكافرين لها في مكة قبل أن يُؤذن للمسلمين بالقتال والجهاد

تمنت ابنة عمران الولد ولما حملت نذرت ما في بطنها ليكون محررا خادماً لدار العبادة وأثناء حملها مات عمران الأب الصالح والد مريم خير بنى اسرائيل وعابدها , واما حنا بنت فاقود امرأة عمران فقد سمت ابنتها مريم واعاذتها بالله من الشيطان الرجيم , وتمت هذا الأمور الثلاثة لحظة الولادة وبدأت فترة الحضانة في رعاية الأم , وإن لم تحدثنا الآيات عن هذه الفترة على وجه التصريح فقد أشارت إليها قبل كفالتها والأصل في ذلك ان تكون الأم هي الحاضنة دون غيرها الموكولة إليها رعاية الطفل الرضيع لما تقوم به الرضاعة حولين كاملين .

وهذا من لطف دعاء أم مريم وهى حامل تقول (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) فكانت الاستجابة فتقبلها ربها بقبول حسن , وسياق العبارة يدل على أمور أن الله سبحانه وتعالى هو الذى سوف يربيها ويرعاها الرعاية الخاصة التي تختلف عن تربية الأخريات من البنات وأن الله تعالى استفتح حياة السيدة مريم بالقبول والرضا وايضاً هي الإشارة الى الصورة القويمة المكتملة للسيدة مريم التي ليس فيها من عيب خلقى أو خُلقى .

وهنا ندرك دور الأم العظيم في الحمل والرضاعة والدعاء ولذلك أوصى الله جل وعلا بالوالدين إحسانا حتى لو كانا مشركين فكيف يكون حق الوالدين إذا كانا مسلمين حيث كفيا الأبناء حيرة الاختيار بل كان في دعائهم في رجائهم من الله أن يكون الأبناء من خدمة الدين ومن العاملين هذا والله من أعظم الإحسان الى ربه .

ولما انتهت فترة حضانة الأم لمريم وحان الوقت لتفي امرأة عمران بالنذر وتقدمها الى دار العبادة خادمة له حيث يقيم الصالحون عبّاد بنى اسرائيل في ذلك الوقت وهذا ما يؤكد موت عمران في فترة حمل زوجه بمريم إذ أنه لو كان حياً لما تنازع العابدون في كفالتها , فتنازع جماعة من احبار بنى اسرائيل حصراً على كفالة مريم بنت حبرهم الكبير فما قصة كفالة مريم ؟

مع الشكر لفريق تفريغ منتدى العريفي : http://www.3refe.com/vb/showthread.php?t=254179