الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي


التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس ( 56-70 ) : تفسير الآيات 86-89، ما علة وجود الإنسان في الأرض؟.

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2011-06-10

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الله عز وجل خلقنا ليسعدنا في الدنيا والآخرة :

أيها الأخوة الكرام، مع الدرس السادس والخمسين من دروس سورة التوبة، ومع الآية السادسة والثمانين وما بعدها، وهي قوله تعالى:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾

الله عز وجل خلقنا ليسعدنا في الدنيا والآخرة، وجاء بنا إلى الدنيا كي نعرفه، وكي نلتزم منهجه، وكي نتقرب إليه، وهذا ثمن الجنة، التي خلقنا لها.

البشر نموذجان لا ثالث لهما عند الله عز وجل :

بالمناسبة: البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، هم نموذجان عند الله.

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل]

فالإنسان إذا آمن أنه مخلوق للجنة يتقي أن يعصي الله، وإذا آمن أنه مخلوق للجنة يبني حياته على العطاء.

لذلك قرأت مرة كتاباً في السيرة لفت نظري التقديم، هذا الكتاب قُدم لرسول الله قال: يا من جئت الحياة أعطيت ولم تأخذ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء عاشوا للناس، والأقوياء عاش الناس لهم، الأنبياء ملكوا القلوب، والأقوياء ملكوا الرقاب، الأنبياء يمدحون في غيبتهم، والأقوياء يمدحون في حضرتهم، والناس جميعاً تبع لقوي أو نبي.

فلذلك هذا النبي الكريم أرسله الله كي يطبق المنهج الذي جاء معه، والشيء الذي يلفت النظر أن الله يقول في آية أخرى:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

[ سورة الأنفال الآية: 33]

أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن يعذب المسلمون إذا طبقوا منهج رسول الله

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

هذه بحبوحة.

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال]

الإيمان بالله و العمل الصالح علة وجود الإنسان في الدنيا :

لذلك الآية الكريمة:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا ﴾

علة وجودك في الدنيا أن تؤمن، علة وجودك في الدنيا أن تعمل صالحاً، علة وجودك في الدنيا أن تدفع فيها ثمن الآخرة أن آمن، فالإيمان لا قيمة له إلا إذا حملك على طاعة الله، فإن لم يحملك الإيمان على طاعة الله لا يقدم ولا يؤخر، بل هو عبء عليك، وشهادة على أنك وقعت في خطأ كبير، الإيمان حجة لك أو عليك.

فلذلك:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا ﴾

أن يعني مضمونها، مضمون هذه السورة:

﴿ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ ﴾

بالله الذي خلقك، بالله الذي يربيك، يمدك بما تحتاج، بالله الذي يسيرك، الله عز وجل خالق ومربٍّ ومسير، خالق خالقك من عدم، مربّ، رب العالمين أمدك بما تحتاج، أمدك بالهواء، أمدك بالماء، أمدك بزوجة، بالأولاد، بالطعام، بالشراب، بالمزروعات، بالنباتات، بالأطيار، بالأسماك، أعطاك هذا الكون:

﴿ أَنْ آَمِنُوا ﴾

أي لا شيء يعلو على الإيمان.

بل إن البشر يفترقون عند الإيمان، مؤمن وغير مؤمن، المؤمن

﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

الرد الإلهي:

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

حياته ميسرة، فيها سعادة، فيها طمأنينة، فيها شعور بالأمن، فيها استقرار، له أعمال صالحة كثيرة، الله عز وجل يحفظه، ينصره، يؤيده، يقربه، يجري على يديه الخير الكثير، غير المؤمن شرد عن الله، فقد سعادته، فقد النور الذي يمشي به.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾

[ سورة الحديد الآية: 28]

المؤمن عنده نور، هذه آية قرآنية، الإيمان نور، أنت حينما تتصل بالله يمتلئ القلب نوراً، بهذا النور ترى الحق حقاً، والباطل باطلاً، ترى الخير خيراً، والشر شراً، فالمؤمن له رؤية صحيحة.

من صحت رؤيته صحّ عمله :

بالمناسبة أي عمل تقوم به وراءه رؤية، فالذي يقدم على عمل سيئ ماذا رأى؟ رأى أن هذا العمل السيئ فيه مكسب كبير، ونسي حساب الله له، ونسي ما سوف ينجم عنه من آلام، فبطولة المؤمن أن تصح رؤيته، إن صحت رؤيته صحّ عمله، لكن هناك شيء يعينك على أن تصح رؤيتك أن تعرف سرّ وجودك.

كأن نقول لطالب أرسله والده إلى باريس لينال الدكتوراه، مدينة باريس واسعة جداً، مدينة كبيرة، مترامية الأطراف، فيها مسارح، فيها دور لهو، فيها دور سينما، فيها حدائق، فيها معامل، فيها مساكن، هذا الطالب الذي أرسله والده إلى باريس ليدرس الدكتوراه نقول: علة وجودك شيء واحد، نيل هذه الشهادة.

فالإنسان متى يصح إيمانه، ومتى يفلح في دنياه وآخرته؟ إذا عرف سر وجوده، أنت خلقت في الدنيا من أجل أن تعبد الله، والعبادة بالمفهوم الواسع أن تخضع لمنهجه، منهج الله عز وجل واسع جداً يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، كلمة آمن.

أنت بالدنيا إذا قلت: فلان دكتور أي معه ابتدائية، معه إعدادية، معه ثانوية، معه شهادة جامعية، معه دبلوم عامة، معه دبلوم خاصة، معه ماجستير، معه دكتوراه، ثلاث عشرة شهادة وأمضى ثلاثاً و ثلاثين سنة بالدراسة ليضع كلمة د. إلى جانب اسمه، فكيف إذا كنت مؤمناً غنمت الدنيا والآخرة؟!

فالإنسان الغافل عن الله ما حمل نفسه على درس علم واحد يحضره، ما خطر في باله أن يقرأ القرآن ويفهمه، ما خطر في باله أن يطلع على السنة ويستوعبها، ما خطر في باله أن يتفرغ إلى طاعة الله ولا ساعة، فإذا انغمس الإنسان في دنياه ضاعت عليه دنياه وآخرته.

الكون أعظم شيء يمكن أن يوصلنا إلى الله :

لذلك:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا ﴾

علة وجودك في الدنيا أن تؤمن، والله عز وجل له آيات، له آيات كونية، هذا الكون يدل على الله، بسمائه، بأرضه، بمجراته، بمذنباته، بالنباتات، بالحيوانات، بالجبال، بالسهول، بالبحار، بالصحارى، هذا الكون بتعبير آخر مظهر لأسماء الله الحسنى، وكل أسماء الله الحسنى يمكن أن تستشفها من هذا الكون، الكون أعظم شيء يمكن أن يوصلك إلى الله، بل إنني أقول دائماً: إن التفكر في خلق السموات والأرض، وقد حض الله عليه في القرآن، وقال:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

[ سورة آل عمران]

هذه عبادة، وكل أمر في القرآن يقتضي الوجوب، التفكر في خلق السموات والأرض عبادة من أرقى العبادات، لأنها عبادة من ثمراتها معرفة الله، إن عرفت الله عرفت كل شيء.

(( ابن آدم اطلبنِي تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإذا فتك فاتك كل شيء ))

[تفسير ابن كثير]

الإيمان الحقيقي هو الإيمان الذي يترجم إلى استقامة وعمل صالح :

لذلك الوقفة عند كلمة:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا ﴾

أنا أتمنى على كل أخ كريم أن يسأل هل آمنت بالله الإيمان الذي ينبغي؟ لو أن واحداً قال: أنا مؤمن، نقول له: إبليس مؤمن أيضاً، قال ربي:

﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾

[ سورة ص الآية: 82]

خلقتني، آمن به رباً، وعزيزاً، وخالقاً، وآمن باليوم الآخر قال:

﴿ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾

[ سورة الأعراف]

فإذا موضوع الإيمان كلمات تقولها، إبليس مؤمن، أما الإيمان الحقيقي فالذي يترجم إلى استقامة، يترجم إلى عمل صالح، يترجم إلى انضباط، يترجم إلى حدود الله، الإيمان الحقيقي يترجم أن تعطي لله، وأن تمنع لله، وأن ترضى لله، وأن تغضب لله، وأن تصل لله، وأن تقطع لله، الإيمان الحقيقي لا بد أن يترجم إلى سلوك، إلى التزام، إلى أحوال، إلى قرب، إلى رؤية، إلى طموح كبير.

لا يكفي أن تؤمن يجب أن يحملك إيمانك على طاعة الله :

إذاً أقف عند هذه الكلمة وقفة متأنية:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا ﴾

الأخ الكريم يسأل نفسه أنت متى آمنت؟ هل قرأت كتاباً؟ هل اطلعت على كتاب الله؟ هل قرأت تفسيره؟ هل استمعت إلى تفسيره؟ هل قرأت سنة النبي الكريم؟ هل عرفت ما ينبغي وما لا ينبغي؟ هل عرفت لماذا جئت إلى الدنيا؟ هذه كلها ضمن الإيمان.

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ ﴾

هل آمنت بالله الإيمان الذي يحملك على طاعة الله؟ هل آمنت بالله الإيمان الذي يحجبك عن معاصيه؟ لا يكفي أن تؤمن.

لو أن إنساناً معه مرض جلدي، والدواء الوحيد أن يتعرض إلى أشعة الشمس، فجلس في غرفة مظلمة وقال: يا لها من شمس ساطعة! ما أعظم ضوء الشمس! لو أمضى وقته كله في الإشهاد بضوء الشمس، وعظمة ضوء الشمس، ولم يتعرض إلى أشعة الشمس، لا قيمة لكل هذا الشيء .

لذلك إذا اكتفيت بالإيمان ما فعلت شيئاً، أنت ماذا فعلت إذا اكتفيت بالإيمان؟ أنت ما زدت على أن أقررت بشيء واقع، شئت أم أبيت، إن لم تقر به فهذا جنون، إن أقررت به ما فعلت شيئاً، شيء واقع.

الشمس ساطعة، أنا أقول: الشمس ساطعة، ماذا فعلت؟ أما هذا المريض الذي معه مرض جلدي خطير، دواؤه الوحيد في التعرض لأشعة الشمس، إن لم يتعرض لهذه الأشعة لا قيمة لإيمانه بوجود الشمس.

إن لم يكن هناك حركة تؤكد إيمانك لا قيمة لهذا الإيمان :

الحقيقة أنه:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا ﴾

كلمة آمنوا لها أبعاد كبيرة جداً، أي وقت بذلته كي تؤمن؟ أي مجلس علم حضرته كي تؤمن؟ أي كتاب قرأته كي تؤمن؟ أي لقاء تم كي تؤمن؟ أي إنسان تتلمذت على يديه كي تؤمن؟ ما الذي فعلته حتى آمنت؟ الإنسان حتى يدخل لأقل وظيفة بالبلد يحتاج إلى شهادة ثانوية، اثنتا عشرة سنة دراسة حتى يدخل لأقل وظيفة، فكيف إذا أراد دخول الجنة؟ بلا إيمان.

إذاً

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ ﴾

طبعاً بالله خالقاً، بالله رباً، بالله مسيراً، بالله صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى.

﴿ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ ﴾

لا يكفي أن تؤمن، لابد من حركة، هناك التزام، وامتناع، وعطاء، وأخذ، ورضا، وغضب، وصلة، وقطيعة، المؤمن له حركة، الحركة نتيجة لإيمانه، ما لم يكن هناك حركة تؤكد إيمانك لا قيمة لهذا الإيمان.

الدنيا دار التواء لا دار استواء :

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ ﴾

الأغنياء، الأقوياء، غارقون في متعهم، في ملذاتهم، في شهواتهم، هؤلاء أرادوا الدنيا واكتفوا بها، وغابوا عن الآخرة:

(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي))

[ كنز العمال عن ابن عمر ]

إذاً:

﴿ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ ﴾

أي يدهم تطول كل شيء، بمالهم، يقول لك: المال يفعل كل شيء،

﴿ أُولُو الطَّوْلِ ﴾

أو أولو القوة، إما أنه قوي بماله، أو قوي بمنصبه، أو قوي بعلمه.

﴿ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾

أي أرادوا الدنيا واكتفوا بها.

الآية الدقيقة، يقولون: سيدنا عمر بن عبد العزيز ما دخل مجلسه إلا ويتلو هذه الآية والآية دقيقة جداً:

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾

[ سورة الشعراء]

إذاً:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ ﴾

هؤلاء الأقوياء، والأغنياء.

من آثر الدنيا على الآخرة خسرهما معاً :

﴿ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾

أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه.

مرة قصة طريفة، شاب يعمل في سوق مشهور، فكان يجمع القمامة ويضعها في علبة ثمينة، يغلفها بورق ثمين، ثم بشريط أحمر مع عقدة، ويضعها على الرصيف، يأتي إنسان يظنها عقد ألماس، يحملها ويمضي سريعاً، يتبعه بعد مئة متر، يفك الشريط الأحمر، بعد مئة متر ثانية يفك الورق المذهب، بعد مئة متر ثالثة يفتح العلبة فإذا بها قمامة المحل، يصيح، ويسب، ويشتم، والله هذا المثل الصارخ يشبه حقيقة الدنيا عند الموت، الإنسان بالبدايات يظن المال كل شيء، في منتصف الحياة يظنه شيئاً لكن ليس كل شيء، لكن عندما يأتي ملك الموت يراه ليس بشيء، الشيء الثمين العمل الصالح، لذلك الدليل:

﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾

[ سورة المؤمنون]

إذاً:

﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ ﴾

الأقوياء، والأغنياء أصحاب المراكز الكبيرة أحياناً، أصحاب الأموال الطائلة، أصحاب المتع الفائقة، هؤلاء يستأذنوك آثروا الدنيا على الآخرة:

﴿ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾

المتخلفون عن رسول الله رضوا بأن يبقوا مع النساء :

﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾

[ سورة التوبة]

من هم الخوالف؟ النساء، في بعض التفاسير، المرأة الله عز وجل أقامها زوجة تربي أولادها، مكانها الصحيح في بيت زوجها تربي أولادها، فالخوالف هنا كما قال بعض المفسرين: النساء،

﴿ ذَرْنَا ﴾

﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾

مع أن المرأة في منطوق الإسلام العظيم مساوية للرجل تماماً في التكليف، والتشريف، والمسؤولية، مساوية له، مكلفة كما هو مكلف، مشرفة كما هو مشرف، مسؤولة كما هو مسؤول، لكن المرأة مكانها الطبيعي أن تكون مربية لأولادها.

لذلك هذه امرأة جاءت النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: يا رسول الله، إن زوجي تزوجني وأنا شابة، ذات أهل ومال وجمال، فلما كبرت سني، ونثر بطني، وتفرق أهلي، وذهب مالي، قال لي: أنت علي كظهر أمي، ولي منه أولاد، إن تركتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتم إلي جاعوا.

انظر إلى التقسيم اللطيف، هو ينفق عليهم، وأنا أربيهم، إن تركتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتم إلي جاعوا، فبكى النبي الكريم، هذه المرأة التي ذكر الله أنه سمع قصتها من فوق سبع سموات.

لذلك:

﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾

مع قسم من الناس اختارهم الله ليكونوا في تربية أولادهم، هذا مما يرفع شأن المرأة، والدليل الدقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة المكرمة، دعاه سادتها ليبيت عندهم، ما الذي فعله؟ قال: انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة، وركز لواء النصر أمام قبرها، ليعلم العالم كله أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر.

فالمرأة وهي في بيتها، وتعتني بأولادها، وتكون زوجة صالحة، هي في أعلى درجة عند الله، لكن مكانها في إدارة بيتها، أما الرجل فله مكان آخر، فإذا المواقف تبدلت، والأماكن تبدلت يصبح هناك مشكلة، الرجل مهمته خارج البيت.

من اختار الباطل و استمرأه يصر عليه و يعجب به :

﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾

معنى طبع؛ المعنى دقيق جداً، الإنسان إذا اختار الباطل، واستمرأه، وأصر عليه يألفه، يرفض شيئاً آخر، فهذا الطبع يسمونه تحصيل حاصل، الإنسان إذا اختار الباطل، واستمرأه، أعجب به، أصر عليه، الله عز وجل جعله مخيراً، الله عز وجل خلق الإنسان أعطاه الخيار، فإذا أصر على هذا فليكن ما يريد، لكن الله عز وجل ينبهه، يسوق له بعض الشدائد، يجمعه مع من ينصحه، فإذا أصر على ما هو فيه، دعاه وشأنه، كما قال الله عز وجل:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾

[سورة الأنعام الآية:44]

الله عز وجل ينصح، يبعث رسلاً، أنبياء، دعاة، علماء، يسوق لك بعض الشدائد، قد تعالج نفسياً، قد تعالج مادياً، قد تساق لك مصيبة.

((عجب ربك من قوماً يساقون إلى الجنة بالسلاسل))

[أخرجه الترمذي عن عمرو بن شعيب]

فحينما أرادوا أن يكونوا مع الخوالف، طبعاً هذه الكلمة لا تخدش مكانة المرآة إطلاقاً لكن هي لها مكان آخر، ليس من المعقول إنسان له أولاد يحتاجون إلى تربية، إلى توجيه، إلى إعداد طعام، و يقبع في بيته، المرأة هذا مكانها الطبيعي، وتصل بهذا المكان إلى أعلى درجة، لكن حينما يقبع الرجل في البيت ويدع العمل نقول: هذا اختار مكاناً غير صحيح، ليس هذا مكانه.

إذاً:

﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾

الطبع هنا تحصيل حاصل، أنا حينما أمشي في طريق، هدفي مدينة معينة، ثم أرى طريقين، وإنسان يقف ولا أسأله أين الطريق الموصل لهذه المدينة، وأختار عشوائياً طريقاً، هذا الطريق لا ينتهي بالمدينة التي أريد فهذا الخطأ من المسافر، فليتحمل هذا المسافر خطأه، حينما لم يسأل، وأصر على خطئه.

عطاء الله عز وجل عطاء مشترك لكل البشر :

إذاً:

﴿ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾

لا يفقهون سرّ وجودهم، ولا غاية وجودهم، ولا أسباب سلامتهم، ولا أسباب سعادتهم.

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة التوبة]

يا الله!، لكن استدراك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام:

﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾

أي عرفوا سر وجودهم، عرفوا غاية وجودهم، جعلوا من جهادهم طريقاً للجنة.

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ ﴾

طبعاً قد تلتقي برسول الله، وتؤمن معه، وقد لا تلتقي به، وتؤمن معه، شيء طبيعي، ممكن أن تلتقي به، وأن تؤمن معه، يمكن أن تأتي بعد ألف عام، فإذا آمنت معه لك أجر كبير، أي هذا العطاء عطاء مشترك لكل البشر.

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾

يبدو أنه الله قدم جهاد المال على جهاد النفس، قال بعض العلماء: لأنه أسهل، إنفاق المال أسهل من جهاد النفس والهوى، وجاء بأنفسهم بعد أموالهم لأن هذا يحتاج إلى إصرار أكثر، قد تسهم في بناء مسجد، أما غض البصر فيحتاج إلى إرادة قوية جداً، ضبط النفس يحتاج إلى إرادة، فالأنبياء كما يصفهم الله عز وجل وعلى رأسهم لرسول عليه الصلاة والسلام

﴿ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

النجاح المطلق نجاح في الدنيا والآخرة :

﴿ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ﴾

مطلقة في الدنيا والآخرة.

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[ سورة الرحمن]

في الدنيا جنة، وفي الآخرة جنة،

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

هذا هو النجاح المطلق نجاح في الدنيا والآخرة، والنجاح مسعد، والإنسان حينما ينجح يسعد، أما النجاح فقد يكون جزئياً، النجاح في الدنيا يسمى نجاحاً، أما النجاح في الآخرة فيسمى فلاحاً، أنت حققت الهدف من وجودك وصلت إلى ما ينبغي أن تكون عليه،

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

[ سورة التوبة]

بطولة الإنسان أن يعتمد مقاييس القرآن في الفوز :

أخوتنا الكرام، قل لي: ما مقياس الفوز عندك أقول لك من أنت، يقول لك أحدهم: فلان اشترى أرضاً تضاعفت مئة ألف ضعف، هذا الإنسان يرى أن تشتري أرضاً وأن يرتفع ثمنها إلى مئة ضعف هذا هو الفوز العظيم.

فكلمة الفوز البطولة أن تعتمد مقاييس القرآن في الفوز، القرآن له مقاييس في الفوز، وهناك مقاييس للدنيا، في عالم الدنيا الغني فاز فوزاً عظيماً في نظر أهل الدنيا، لذلك في بعض الأحاديث:

((اطلعت في الجنة فرأيت عامة أهلها المساكين))

[ شعب الإيمان عن ابن عباس]

هذا الذي أراد الله والدار الآخرة عند عامة الناس أبلهاً، ضيع عليه فرصاً كثيرة جداً من المتع الرخيصة، ومن المباهج فهذا أبله عند البله، أما عند العقلاء فهو في أعلى درجة.

يقول سيدنا علي كلمة: "يا بني ما خير بعده النار بخير، وما شر بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية، والعلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، يا بني مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ".

الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين :

إذاً:

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ ﴾

وحينما يخبرنا الله أن النبي جاهد بماله ينبغي أنت أن تجاهد بمالك، لماذا؟ لأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾

جهاد المال واضح إنفاق المال في سبيل الله.

إنسان سأل أحد العارفين: يا سيدي كم الزكاة؟ قال له: عندكم أم عندنا؟ طبعاً الملاحظة تثير العجب، قال له: وما عندكم وما عندنا؟ هناك إسلام واحد، قال له: عندكم اثنان ونصف بالمئة أما عندنا -عند المقربين من الله- فالعبد وماله لسيده.

لذلك المؤمن في درجات، هناك أصحاب اليمين، والسابقون السابقون، و أصحاب الشمال، فإما أن يكون الإنسان من السابقين السابقين، هؤلاء عدد كبير في الأولين، وقليل في الآخرين.

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

في الدنيا هناك سعادة، سعادة القرب من الله عز وجل، سعادة الطمأنينة، سعادة الرضا عن الله، سعادة الحكمة التي يمنحها الله للمؤمنين، سعادة التوفيق، سعادة الحفظ، سعادة التأييد.

من ذكره الله منحه الرضا و التوفيق و السعادة :

لذلك:

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾

[ سورة العنكبوت الآية: 45]

قال العلماء: ذكر الله أكبر ما فيها، لكن ابن عباس رضي الله عنه في رأي دقيق جداً قال: ذكر الله لك أيها المصلي وأنت تصلي أكبر من ذكرك له، إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك منحك الرضا، إذا ذكرك منحك التوفيق، إذا ذكرك منحك السعادة، إذا ذكرك منحك السكينة، إذا ذكرك منحك أن تكون فائزاً فوزاً عظيماً.

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ﴾

زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين :

أخواننا الكرام، زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، إذا قال الله عز وجل:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾

[ سورة النور الآية:55]

هذا أعظم وعد بين يدي المسلمين.

﴿ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾

الثمن:

﴿ يَعْبُدُونَنِي﴾

[ سورة النور الآية: 55]

لذلك:

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾

[ سورة الزمر]

انتظر كل خير.

من أخلّ بما عليه من عبادة لله فالله في حلٍّ من وعوده :

في بعض الأحاديث:

((استقيموا ولن تُحْصُوا))

[أخرجه مالك عن بلاغ مالك]

﴿ يَعْبُدُونَنِي﴾

فإذا أخلّ الفريق الثاني هم عباد الله بما عليهم من عبادة الله، الله عز وجل في حلٍّ من وعوده الثلاث،

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾

وذكرنا الجهاد جهاد النفس والهوى، وهناك الجهاد البنائي:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ ﴾

[ سورة الأنفال الآية: 60]

وهذا الجهاد البنائي تحتاجه أمتنا الإسلامية اليوم، يجب أن نقوي أنفسنا، أن نستصلح الأراضي، أن نشق الطرق، أن نبني السدود، أن نرفع مستوى المعيشة، لأن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، ونحن بحاجة ماسة إلى أن نظهر للعالم الآخر أن الإسلام دين حياة وآخرة، دين يصلح لحياتنا الدنيا، ودين يسعدنا في الدار الآخرة، فلا بد من عمل دقيق كي نصل إلى هذه الأهداف.

﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

هذا هو الفوز العظيم، والفوز مسعد للإنسان أيما سعادة، والفوز حينما تصل إلى الهدف الكامل الذي أعد لك تشعر أنك حققت نجاحاً كبيراً في الدنيا.

الله عز وجل أراد أن يكون لكل نتيجة سبب :

يا أيها الأخوة الكرام، لكن ليس معقولاً إنسان يطلب دكتوراه من دون دراسة، يطلب أعلى دراسة ولا يقدم لهذا الطلب أي جهد مقابل، فالإنسان لساعات من ضعفه يتمنى، والله عز وجل قال:

﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ﴾

[سورة النساء الآية:123]

وهذا الشيء الدقيق جداً أن الله عز وجل أراد أن يكون لكل نتيجة سبب، وهناك شيء اسمه مقدمات ونتائج، فمن الخطأ الكبير أن تتوقع نتائج بلا مقدمات، والمسلمون اليوم كما قال الله عز وجل:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي ﴾

الدين منهج كامل و شمولي :

المشكلة أن العبادة، تقلصت وتقلصت وضاقت وضاقت حتى فهم معظم المسلمين أن العبادة أن تؤدي العبادات الشعائرية، تصلي، وتصوم، تحج، وتزكي، لكن النبي الكريم:

((سأل مرة أصحابه من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: لا، المفلس من أتى بصلاة، وصيام، وصدقة، وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ حتى يُطْرَحُ في النار))

[أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]

هذه الصلاة:

((يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة، يجعلها الله هباء منثورا، قيل يا رسول الله جلهم لنا، قال: إنهم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))

[ابن ماجه عن ثوبان بن بجدد]

هذه الصلاة، الصيام:

(( رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ))

[أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة]

هذا الصوم، صوم من دون طاعة لله، من دون إقبال على الله، من دون توبة نصوحة لا قيمة له، كيف فهم المسلمون اليوم أن الدين ليس إلا عبادات شعائرية؟ بينما الدين منهج تفصيلي، يبدأ بفراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، في كسب مالك، في إنفاق مالك، في قضاء وقت فراغك، في بيتك، في الطريق، في العمل، في صناعتك، في زراعتك، في تجارتك، في منصبك، أنت حينما تفهم الإسلام على أنه منهج كامل، منهج شامل، منهج يدور معك أينما درت، وأينما وجدت، تجد أن هذا المنهج يحتاج إلى جهد كبير، وإلى إرادة قوية، وإلى عزيمة.

لذلك:

﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

يعني هذا الفوز عند العظيم، وصفه الله بالعظيم أي عند العظيم.

من أراد الدنيا و الآخرة فعليه بالعلم :

أنا أقول دائماً المثل الذي يوضح هذه الفكرة: طفل صغير عقب عيد الأضحى، زاره عمه، قال له: أنا معي مبلغ عظيم، كم تقدر هذا المبلغ؟ بمئتي ليرة، بألفي ليرة، أما إذا قال مسؤول كبير في دولة عظمى: أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً هذا يقدر بمئتي مليار، فإذا قال ملك الملوك، ومالك الملوك، فإذا قال الله رب العالمين:

﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

معنى ذلك أن تكون مؤمناً، هذه هو الفوز العظيم، وهناك آية ثانية:

﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

[سورة النساء]

أي إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا أذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لا يعطيك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.

والحمد لله رب العالمين

http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=11181&id=97&sid=101&ssid=257&sssid=258