الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي


ندوات تلفزيونية - قناة اقرأ - موسوعة الأخلاق الإسلامية - الدرس (24-28 ) : التوبة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-02-24

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آل وصحبه أجمعين .

تقديم وترحيب :

الأستاذ أحمد :

أيها الإخوة المشاهدون ، نرحب بكم في حلقة جديدة من حلقات موسوعة الأخلاق الإسلامية مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة ، وأصول الدين ، فأهلاً وسهلاً بكم فضيلة أستاذنا الدكتور .

الدكتور راتب :

أهلا بكم أستاذ أحمد ، جزاك الله خيراً .

الأستاذ أحمد :

أكرمكم الله .

سيدي الكريم ، نتمنى لو نتحدث اليوم وإياكم عن خُلقٍ من الأخلاق جديد ، ألا وهو خلق التوبة ، والتوبة تستوقفنا بها آيات عدة ، أتمنى أن أسألك عن الرابط بينها ، ألا وهي قوله تعالى :

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾

( سورة النور الآية : 31 )

ويقول في آية أخرى :

﴿ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾

( سورة ق )

ويقول تعالى في آية ثالثة :

﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾

( وسورة ص )

ففي الآية الأولى استعمل تعالى :

﴿ وَتُوبُوا ﴾

وفي الثانية تحدث عن الإنابة ، وفي الثالثة تحدث عن الأوّاب ، فما الرابط بين التوبة والإنابة والأوبة ؟

الدكتور راتب :

مقدمة :

1 – الإنسان مركَّب من عقل وشهوة :

بادئ ذي بدء ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

أستاذ أحمد ، رُكِّب الإنسان من عقل وشهوة ، ورُكِّب الملك من عقل بلا شهوة ، ورُكِّب الحيوان من شهوة بلا عقل ، و رُكِّب الإنسان من كليهما ، ففيه نفخة من روح الله ، وفيه قبضة من تراب الأرض ، فيه ميولٌ عليا ، وفيه حاجات دنيا ، ركب الإنسان من عقل وشهوة ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان .

الإنسان كائن مزدوج الاهتمامات ، له حاجات نحو معرفة الحقيقة ، ومعرفة الله وطاعته ، والتقرب منه ، وفيه غرائز وشهوات ، فمنهج الله ينسق بين حاجاته ، وبين قيمه ومطالب الدنيا ، ومطالب الآخرة ، بين حاجات الجسد وحاجات النفس .

إن الإنسان أحياناً تزلّ قدمه ، وتضعف نفسه أمام شهوة ، ويضعف أمام ضغط ، ويضعف أمام إغراء ، فتزل قدمه ، ويقع في خطأ ، ما الحل ؟

الإنسان يأكل ويشرب ، وقد يأكل أكلة لا تفيده فيمرض ، ما الحل ؟ المعالجة .

2 – طبيعة الإنسان تقتضي الخطأ :

إن طبيعة الإنسان تقتضي الخطأ .

(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ ، وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ ))

[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ]

لأن فيه شهوة أودعها فيه ، وسمح له أن يتحرك من خلالها 180 درجة ، وأن الشرع جاء بمساحة محدودة ، له أن يتحرك فيها ، فحينما تزل قدمه ينتقل من المنطقة المباحة إلى المنطقة المحرمة فيقع في الذنب ، إنْ في كسب المال ، أو في العلاقة بالنساء ، فلذلك لا بد من نظام يرمم الخطأ .

3 – الخطأ خروجٌ عن منهج الله :

الخطأ هو الخروج عن منهج الله ، الخطأ التحرك بخلاف منهج الله ، بل إن هناك معنىً دقيقا جداً ، قال تعالى :

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

( سورة القصص الآية : 50 )

المعنى المخالف : أنه لو اتبع هواه وفق هدى الله فلا شيء عليه ، فالإنسان ركِّب من عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، العقل له حاجات ، والنفس لها حاجات ، والجسم له حاجات ، أحياناً تتناقض حاجات الجسم مع حاجات النفس فيكون الذنب ، الذنب يأتي من حركة أساسها الاختيار بدافع من شهوة ، بعيداً عن منهج الله ، هذا هو الذنب ، لو أن كل شيء في حركة الشهوة كان مباحا لَما كانت ذنوب إطلاقاً .

أما في موضوع المرأة فهناك منطقة مباحة ومنطقة محرمة ، وفي كسب المال منطقة مباحة بالكسب المشروع ، ومنطقة محرمة بالكسب المحرَّم ، فما دام هناك شهوات ، فهي قوى دافعة ، وفي الإنسان حرية اختيار ، وله منهج ، فحينما أتجاهل المنهج ، أو أتحرك بلا منهج أقع في المعصية ، المعصية يكشفها الإنسان ذاتياً ، والتوافق بين الفطرة والمنهج توافق حتمي .

إنّ أيَّ إنسان خرج عن منهج الله عن علم أو عن غير علم يشعر بالكآبة ، يشعر بالذنب ، سَمِّ هذا الشيء شعورا بالنقص ، أو شعورا بالذنب ، أو خطيئة ، أو معصية ، أو كآبة ، كلها أسماء لمسمى واحد ، إنسان تحرك في الحياة بدافع من شهوته بعيداً عن منهج الله ، فوقع في الخطأ .

الأستاذ أحمد :

هذا يجعلني أسألك عن التوبة ، وعن قيمتها ، و ثمرتها .

الدكتور راتب :

التوبة :

1 – الحلُّ الوحيد للذنب التوبةُ منه :

إن رحمة الله متمثلة في أن هذا العبد حينما يضطرب ، حينما يتحرك بخلاف منهج الله ، حينما يندفع بشهوته ، ولا يراعي حدود الله ، يقع في الذنب ، هل يعقل أن خالق السماوات والأرض ، الإله العظيم ، الرب الرحيم ، ليس عنده حل لهذه المشكلة ؟ الحل الرائع هو التوبة .

لذلك التوبة كأنها صمام أمان ، لئلا يكون الانفجار ، والآن في بعض أوعية الضبط منطقة بلاستيكية ضعيفة ، لو زاد الضغط كثيراً لئلا ينفجر الوعاء هذه النقطة الضعيفة تسيح ، وينطلق البخار .

التوبة صمام أمان ، التوبة حبل نجاة ، حبل نعتصم به ، التوبة قارب نجاة ، فإذا كنا في بحر من الذنوب كانت التوبة قاربَ النجاة ، وإذا كنا غرقنا فالتوبة حبل نعتصم به ، وإذا كنا على وشك الانفجار فالتوبة صمام أمان ، لذلك جعل الله التوبة طريقاً لترميم الخطأ ، لذلك قال الله عز وجل :

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾

( سورة النساء )

2 – الله يريد التوبة على العبد ويحبُّها منه :

بالعكس أقول :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

( سورة البقرة )

أبلغ من الإرادة ، أنت تريد شيئًا بحاجة إليه ، لكن أحياناً تحب هذا الشيء ، فبادئ ذي بدء :

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾

الآية الثانية :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

ولكن أحياناً :

(( تابوا فتاب الله عليهم ))

[أخرجه البزار عن أبي هريرة ]

3 – توبةُ الله على العبد قبولُه بَعْدَ الذنب :

جاءت توبتهم قبل توبة الله عز وجل ، ما معنى التوبة من الله إذا جاءت بعد توبة العبد ؟ أي أنه قبل التوبة ،

(( تابوا فتاب الله عليهم ))

إذا جاءت توبة الله بعد توبة العبد فمعناها أنه قبل هذه التوبة .

لذلك ، إذا قال العبد : يا رب وهو راكع ، قال الله له : لبيك يا عبدي ، فإذا قال : يا رب وهو ساجد ، قال الله له : لبيك يا عبدي ، فإذا قال : يا رب وهو عاصٍ ، قال الله : لبيك ، ثم لبيك ، ثم لبيك .

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

4 – مهما عظُم الذنب فإن التوبة تمحوه :

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

( سورة الزمر )

لو أن الذنوب ملأت السماء والأرض ، ثم جاء العبد ربه تائباً غفر الله له ما كان منه .

لذلك ما مِن موقف أروع من وصف النبي عليه الصلاة والسلام لفرح الله عز وجل بتوبة عبده ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا ، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي ، وَأَنَا رَبُّكَ ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ))

[ مسلم ]

فذكر لنا في الحديث أعرابياً كان يركب ناقة ليجتاز بها الصحراء ، أصابه التعب ، نزل ليستريح ، استراح قليلاً ، فأفاق فلم يجد الناقة ، أيقن أنه هالك لا محالة ، جلس يبكي ، ثم يبكي ، ثم يبكي حتى أدركه النعاس ، فنام قليلاً ، فاستيقظ فرأى الناقة ، اختل توازنه ، قال :

(( اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي ، وَأَنَا رَبُّكَ ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ))

نطق بالكفر دون أن يشعر ، من شدة فرحه ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( لله أفرح بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته ))

بل إن بعض الأحاديث تقول :

(( لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ، والعقيم الوالد ، والظمآن الوارد ))

[الجامع الصغير عن أبي هريرة بسند فيه ضعف ]

وإذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض : أن هنِّئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .

وإذا تاب العبد توبة نصوحًا أنسى الله حافظيه ، والملائكة ، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه .

لذلك الله عز وجل يريد أن يتوب علينا ، ويحب أن نتوب إليه ، يحبنا إذا تبنا إليه .

الأستاذ أحمد :

ذكرتم الآن فضيلة أستاذنا التوبة النصوح ، وجعلتم للتوبة ميزة ، أو خاصية أن فيها توبة نصوحا ، ما شروط التوبة النصوح ؟

الدكتور راتب :

أركان التوبة :

الحقيقة أن التوبة لها أركان ، أركانها ثلاثة ، علم ، وحال ، وعمل .

لا بد مِن مثلٍ لكل ركن :

1 – العلمُ :

ضغط الدم المرتفع ، هذا اسمه القاتل الصامت ، لأن أعراضه غير موجودة ، وقلّما يكون للضغط المرتفع أعراض ، لكنه فجأة يصيب الإنسان بالعمى أحياناً ، أو بخثرة في الدماغ ، أو بالشلل ، فتكون هي القاضية ، أقول : متى نعالج الضغط المرتفع ؟ بحالة واحدة ، حينما نعلم أن ضغطنا مرتفع .

إذاً : ما لم تطلب العلم ، حتى تعرف ما الحلال ، وما الحرام ، ما ينبغي وما لا ينبغي .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا ـ من سَخَط الله ـ يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ ))

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ومالك ]

القتَّات ؛ النمام لا يدخل الجنة ، فما لم نطلب العلم ، ما لم نتعرف إلى الحلال والحرام ، إلى الخير والشر ، إلى ما ينبغي وما لا ينبغي ، ما لم نطلب العلم فلن نعرف أخطاءنا .

فلذلك طلب العلم شرط لأن يبدأ الإنسان بمشروع التوبة ، وأنا أقول دائماً : إذا طلب الإنسانُ العلم تأتيه القناعات ، كأن شهوته خمسة كيلو ، في كفة ، حضر خطبة ، عشرة غرامات ، خطبة ثانية ، سمع درسا ، قرأ كتابا ، سمع شريطا ، كلما ازدادت قناعاته بدأت الكفة الأولى كفة الإيمان تزيد ، فإذا بلغت قناعاته خمسة كيلوات دخل في الصراع ، أفعل لا أفعل ، فإذا أصبحت قناعاته أكبر بكثير من شهواته استقام على أمر الله .

فلابد من طلب العلم حتى أكشف الخطأ ، وما لم أطلب العلم فلن أقتنع .

مثلاً : أحيانا يكون الكسب غير مشروع ، أو علاقة ربوية ، أو علاقة آثمة ، أو لقاء آثم ، أو فرح غير إسلامي ، وهناك أعمال كثيرة تقطعنا عن الله عز وجل ، عن شعور وعن غير شعور .

الأستاذ أحمد :

لذلك سيدنا عمر نهى من لم يتفقه في أمر السوق أن يبيع فيه .

الدكتور راتب :

لأنه يأكل الربا شاء أم أبى ، إذاً : مِن أركان التوبة طلب العلم ، و أحد العلماء الاجتماعيين له كلام رائع جداً في علاقة الإنسان بالمحيط ، كإنسان دخل إلى بستان ، رأى أفعى ، هنا قانون : إدراك ، انفعال ، سلوك ، رأى أفعى أدرك أنها خطيرة ، ولدغتُها قاتلة ، لا بد من أن يضطرب ، علامة صحة إدراكه اضطرابه ، وعلامة صحة اضطرابه حركته ، فإما أن يقتلها ، وإما أن يهرب منها ، هذا قانون قطعي .

2 – الندم :

علاقتي في الحياة مع ما حولي ، فقد يقع الإنسان بذنب ، إذا أدرك أنه وقع في ذنب فلا بد من أن يندم ، فإن لم يندم فإدراكه للذنب غير صحيح ، إنسان مالُه حرام ، ثم بقي عاديًا !!! فإدراكه غير صحيح .

لو قلت لرجلٍ : على كتفك عقرب ، ثم بقي هادئاً ، متوازناً ، مبتسماً ، التفت نحوك ، وقال لك : جزاك الله خيراً على هذه النصيحة الثمينة ، وأرجو الله أن يمكِّنني أن أرد لك الجميل ، هل فهِمَ ما قلت له ؟ قطعاً لا ، لو فهم ما قلت له لخرج من جلده ، وخلع ثوبه ، ونفضه .

إذاً : إن لم يكن هناك ندم فليس هناك إدراك للذنب ، لذلك ذنب المنافق كأنه ذبابة ، وذنب المؤمن كأنه جبل جاثم على ظهره .

إذا صح إدراكه للذنب ، وعرف مع من أخطأ ، أخطأ مع خالق السماوات والأرض ، ولا تنظر إلى صغر الذنب ، ولكن انظر على من اجترأت ، إذا أدرك أنه أخطأ ، وهذا الخطأ سيسبب له متاعب كثيرة في الدنيا والآخرة ، أخطأ مع العظيم ، لذلك الله عز وجل وصف أهل الدنيا الذي لم يقوَ إيمانهم ، يوم القيامة :

﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾

( سورة الحاقة )

التركيز على العظيم ، آمن بالله إيماناً محدوداً ، لم يحمله إيمانه على الطاعة ، لكن لم يؤمن بالله العظيم :

﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾

فهذا المؤمن حينما يدرك حقيقة الذنب الذي وقع فيه ، إذاً يضطرب ، يتألم ، يبكي ، قال تعالى :

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾

( سورة القيامة )

إذاً : صحة الانفعال والندم دليل أن الإدراك للذنب ، وأن العلم به كان صحيحاً .

بالمناسبة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( النَّدَمُ تَوْبَةٌ ))

[أخرجه ابن ماجه وأحمد ]

قال شارحو الحديث : الندم لا بد له من علم هو سببُه ، ومن عملٍ عَقِبه ، جاء بعده ، كأن النبي أشار إلى أركان التوبة بشكل موجز .

3 – الإقلاع والإصلاح والعمل الصالح وعدم العودة :

هذا الندم ، هذا الألم النفسي إلى ماذا يفضي ؟ يفضي إلى ثلاثة مواقف ، موقف متعلق بالماضي ، موقف متعلق بالحاضر ، موقف متعلق بالمستقبل ، أما الموقف المتعلق بالماضي فهو الإصلاح ، تكلم بكلمة ، يستسمح مِن الذي قالها فيه ، له دخل حرام يوقف هذا الدخل ، ويجعل ما مضى صدقة ، فأيُّ ذنب وقع في الماضي فلا بد من إصلاحه ، إذا كان متعلقاً بحقوق العباد ، إذاً : الإصلاح ، تابوا وآمنوا ، وعملوا الصالحات :

﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

( سورة الأعراف )

بعد التوبة ، والعمل الصالح ، وإصلاح الخطأ الذي ارتكب :

﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

هذه واحدة ، هذا موقف متعلق بالماضي ، الإصلاح ، أما الموقف المتعلق بالحاضر فهو الإقلاع الفوري عن الذنب ، أما الموقف المتعلق بالمستقبل أن يعقد العزيمة على ألا يعود إلى هذا الذنب ، هذه أركان التوبة .

الأستاذ أحمد :

أركان التوبة ، علم ، وحال ، وعمل ، والعمل .

الدكتور راتب :

والحال لا يصح إلا إذا صح الإدراك ، والعمل لا يصح إلا إذا صح الحال ، والعمل متفرع بين الماضي والحاضر والمستقبل ، في الماضي تصلح الخطأ ، وفي الحاضر تقلع عن الذنب ، وفي المستقبل تعزم على ألا تعود إليه .

الأستاذ أحمد :

أستاذنا الكريم ، أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل أنه قتل 99 نفساً ، ثم أراد التوبة ، وقصد رجلاً عالماً ، فسأله فقال له : وكيف يتوب الله عليك ؟ أو بما معناه ، فأكمل به المئة وقتله ، ثم عاد فندم ، وسأل آخر وقال : ومن أغلق باب التوبة أمامك ؟ باب التوبة مفتوح ، إلا أنه طلب من هذا الرجل أن يترك القوم والناس الذين معه ، وأن يغادر إلى قوم يعبدون الله عز وجل ، الشاهد ، أو محط حديثنا ، مسألة تكرار التوبة ، بعض الناس يخجل من الله عز وجل ، فيقول : أنا أذنبت فتبت ، ثم أذنبت فتبت ، حتى بتُّ أخجل من الله عز وجل ، فهل كلامه هذا منطقي ؟ أم نحضه على التوبة ولو تكررت ؟

الدكتور راتب :

تَكرارُ التوبة بتكرار الذنب :

الحقيقة : ورد في بعض الآثار القدسية ، فعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :

(( يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ))

[الترمذي ]

وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

بل الله عز وجل يقول :

﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

( سورة الأعراف الآية : 156 )

أليس الإنسان شيئاً ، أليست ذنوبه التي بلغت الفضاء الكوني شيئًا ؟ كل شيء دون الله عز وجل :

﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

لذلك :

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾

( سورة الزمر الآية : 53 )

لا يقنط من رحمة الله إلا الكافر ، فلذلك باب التوبة مفتوح .

أثر البيئة صلاحًا وفسادًا في التوبة :

ولكن الثاني الذي سُئل أرشد التائب إلى أن يغادر البلد الذي هو فيه ، هذا هو الفقيه ، ما دمت في بيئة فيها معاصي ، وآثام لن تتوب ، لا بد من أن تكون في بيئة صالحة ، قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

( سورة التوبة )

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

( سورة الكهف )

إذاً : لا بد من أن تحاط بجو إيماني ، لا بد من أن تكون مع المؤمنين ، لا بد من أن تكون مع الصادقين ، هذا أحد شروط التوبة ، لذلك العالم الآخر كان فقيهاً حينما أنبأه أن الله يقبل توبته ، ولكن بشرط أن يغادر هذا المكان إلى مكان يعبد الله فيه .

الأستاذ أحمد :

قوله تعالى :

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

( سورة النور الآية : 31 )

تستوقفنا كلمة :

﴿ جَمِيعاً ﴾

لماذا قال الله عز وجل :

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

الدكتور راتب :

استنباط من آيات قرآنية :

1 – وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً

بارك الله بك لهذا السؤال ، لا بد من مثل :

أنت معك جهاز هاتف ، ولك خمسون صديقًا ، ليس مع أحدهم هذا الجهاز ، ما قيمة جهازك ؟ لا قيمة له إطلاقاً ، أما لو أن الخمسين معهم أجهزة كجهازك صار لجهازك قيمة .

حينما أعيش في مجتمع مؤمن ، فيه صدق ، وأمانة ، ما فيه غش ، ولا كذب ، عندئذٍ ألمس بيدي نتائج منهج الله عز وجل ، حينما أعيش في مجتمع النساءُ فيه محتشمات ، ألمس منهج الله في احتشام المرأة ، أما حينما أعيش في مجتمع متفلت ، وأنا تائب مستقيم ، أجاهد نفسي ، لعلي أنجو ، ولكن لن أضع يدي على ثمار هذا المنهج العظيم .

تصور مجتمع فيه صدق ، فيه أمانة ، فيه عفة ، هذا المجتمع في راحة كبيرة جداً ، فيه شعور بالنجاح ، وشعور بالود بينك وبين مَن حولك ، إذاً : كأن الله عز وجل يريد أن ينبئنا أنكم إذا أردتم أن تقطفوا ثمار هذا المنهج ، وأن تسعدوا به فلتكن توبتكم جميعاً .

هناك صف مدرسي ، كل الطلاب فيه مجتهدون ، هناك تفوق ، وتنافس ، أما إذا كان معظم الطلاب كسالى جداً فهذا المجتهد تضعف همته ، أما إذا كان هناك تفوق فالمجتهدون يتفوقون ويحرصون على التفوق .

2 – الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً

ملمح دقيق آخر ، قال تعالى :

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

( سورة الملك الآية : 2 )

كأن النجاح بديهي ، لكن الاختبار لترتيب الناجحين فقط ، أما الامتحان الذي أراده الله ليس فهو لفرز الناجحين عن الراسبين :

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

فكلمة :

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

إذا تبنا أفرادا فلعل الله يقبلنا ، لكن لن نقطف ثمارها إلا إذا تبنا جميعاً .

3 – تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا

وفي بعض الآيات ملمح دقيق :

﴿ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾

( سورة التوبة الآية : 118 )

هذه آية عجيبة ، تابوا ، فتاب الله عليهم ، تابوا إلى الله فقبِل الله توبتهم ، لكن الآية :

﴿ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾

ساقَ لهم من الشدائد ما حملهم بها على التوبة ، لذلك :

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾

( سورة البقرة )

لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ ))

[أخرجه البخاري ]

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

( سورة السجدة )

فباب التوبة مفتوح ، والموضوع كبير جداً ، لكن هو بكلمة مختصرة :

أب عنده أولاد عدة ، معظمهم منضبط ، إلا ولد واحد منحرف ، وشارد ، وعاق ، قلب الأب عند هذا العاق ، فإذا رجع العاق إلى أبيه كانت فرحته لا توصف ، لذلك ورد في بعض الآثار : " لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم ، لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلي ، هذه إرادتي في المعرضين فكيف بالمقبلين ؟ إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب " .

الله عز وجل يريد أن يتوب علينا ، ويحبنا إذا تبنا إليه .

الأستاذ أحمد :

خاتمة وتوديع :

أستاذ الكريم نشكر لكم عرضكم موضوعَ التوبة عرضاً لطيفاً ، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التوابين ، وأن يجعلنا من المتطهرين ، وأن لا يستبدل بنا قوماً آخرين ، فإننا نحبه ، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أحبابك وأوليائك وعبادك الصالحين ، وإلى حلقة أخرى من موسوعة الأخلاق الإسلامية مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، نستودعكم الله .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

والحمد لله رب العالمين

http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=3048&id=189&sid=799&ssid=808&sssid=839