الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي


ندوات تلفزيونية - قناة اقرأ - موسوعة الأخلاق الإسلامية - الدرس (19-28 ) : خلق الثبات

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-02-19

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة :

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المجاهدين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، يسرنا أيها الأخوة والأخوات أن نلتقي بكم اليوم في برنامجكم: "موسوعة الأخلاق الإسلامية" مع خلق جديد من الأخلاق ألا وهو خلق الثبات، يصحبنا فيه فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، في كليات الشريعة، وأصول الدين، فإلى خلق الثبات نتمنى منكم أن نعرف تعريفه وكيف يمكن أن يتحقق فينا؟.

تعريف الثبات :

الدكتور راتب:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أستاذ أحمد، من تعريف الثبات يتضح أنه المداومة على الطاعات، والمعتقدات، والخدمات، والأعمال الصالحة، وكل شيء يقرب إلى الله المداومة عليه من الثبات.

لكن الآية التي تعد أصلاً في هذا هي قوله تعالى:

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ ﴾

[سورة إبراهيم الآية: 27 ]

اللهم يا مقلوب القلوب ثبت قلبي، معنى ذلك ثبات قلبي مكافأة من الله على سبب من العبد.

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ﴾

[ سورة إبراهيم الآية: 27 ]

الإنسان إذا قرأ القرآن الكريم، وقرأ قوله تعالى:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾

[ سورة النحل الآية: 97 ]

هذا وعد إلهي، وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين إذا قرأ المؤمن قوله تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾

[ سورة فصلت]

ما الذي يثبتني؟ أن يكون في كتاب الله آية تشجعني، وتطمئنني، وتعدني بالعطاء، وبالجنة، وبالنصر، وبالتأييد.

الحياة الطيبة شهادة الله للناس أن هذا القرآن كلامه :

الذي يثبت المؤمن كتاب الله:

﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ﴾

[ سورة النساء ]

﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾

[ سورة التوبة الآية: 111 ]

كتاب:

﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾

[ سورة فصلت الآية: 42 ]

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾

أي أنت حينما تكون مؤمناً، وتقيم أمر الله في بيتك، وعملك، فالله عز وجل يعدك بالحياة الطيبة، والحياة الطيبة شهادة الله للناس أن هذا القرآن كلامه.

ثبات المؤمن على إيمانه يكون بـ :

1 ـ وقوع الوعد و الوعيد في القرآن الكريم :

الحقيقة أقوى ما في القرآن وقوع الوعد والوعيد، الذي يثبت المؤمن على إيمانه أن كتاب الله إن تأملت آياته، رأيت أن الأحداث التي هي من فعل الله تصدقه، وكأن أفعال الله شهادة لنا أن هذا القرآن كلامه، مثلاً: إنسان جعل دخله دخلاً ربوياً، فبالآلات الحاسبة يزداد دخله، أما إذا محق هذا المال بكارثة، أو حريق، أو مصادرة، أو تلف، تأتي الآية الكريمة:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾

[ سورة البقرة الآية: 276 ]

فحينما يأتي فعل الله مطابقاً لوعده أو وعيده، هذا الشيء يثبتنا أضعاف ما تثبت الآيات وحدها، إذاً وقوع الوعد والوعيد يجعل لهذا القرآن مصداقية في أعلى درجة، بل إن المؤمن يرى أفعال الله تأتي مطابقة لوعوده التي في القرآن، عندئذٍ يثبت على إيمانه فأحد أسباب ثباته على إيمانه وقوع الوعد والوعيد في القرآن الكريم.

2 ـ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :

إذاً:

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

أنت حينما تقرأ قوله تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية ]

أنت حينما ترى أن معاملة الله للمؤمن خاصة، فيها حفظ، فيها رعاية، فيها توفيق، فيها تأييد، فيها عطاء، فيها تألق، فيها محبة، فيها قوة تأثير، وأن الذي شرد عن الله عز وجل في ضيق، وفي ضنك، وفي سوداوية، وفي إحباط، وفي آلام نفسية، وفي يأس، وفي ملل، وفي سأم، حال المؤمن وحال غير المؤمن يثبت الآية الكريمة:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

أكبر شيء يثبت المؤمن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ووقوع وعده ووعيده، هذا الذي يثبت.

3 ـ السكينة التي تتجلى على قلبه :

شيء آخر: فكرة دقيقة جداً، ما الذي يشدك إلى الدين؟ قد تقول: أفكار الدين، صح، الدين قدّم للمؤمن تفسيراً عميقاً، دقيقاً، رائعاً، متناسقاً، متآلفاً، هذه العقيدة، أنت كمسلم معك تصور لكل شيء، تصورات متناسقة، متكاتفة، متآزرة، بعضها يؤكد بعضها الآخر، هذه نعمة كبيرة جداً.

ولكني أرى أن دقة التصور الإسلامي، وعمق التصور الإسلامي، وتناسق التصور الإسلامي، لا تكفي وحدها لشدّ الإنسان إلى الدين، ما الذي يثبته على الدين؟ عندما تتبدل معاملاته بعد أن يصطلح مع الله، بعد أن يصطلح مع الله هناك علاقات أخرى، توفيق رائع، حفظ رائع، تأييد، نصر، سعادة، تألق، سكينة، فالذي يثبت المؤمن على منهج الله المعاملة التي عامله الله بها بعد أن اصطلح معه، بل الأحوال التي تأتي إلى قلبه من السكينة، والطمأنينة، والرضا عن الله عز وجل، والتفاؤل، والحب، فالذي يثبت المؤمن كتاب الله أولاً، ووقوع وعده ووعيده ثانياً، وتلك السكينة التي تتجلى على قلبه ثالثاً، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ﴾

الأستاذ أحمد:

هذا في الدنيا، ما معنى في الآخرة؟

أي شيء وعدنا الله به نجده في الآخرة :

الدكتور راتب:

في الآخرة أي شيء وعد الله به تجده في الآخرة، الدليل:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾

[ سورة الزمر الآية: 74 ]

هذه في الآخرة، لكن هناك من يقول: لا داعي لأن نتحدث عن سيرة النبي، الحقيقة إذا كان قلب سيد الحق، إذا كان قلب سيد الخلق وحبيب الحق، يزداد ثبوتاً لسماع قصة نبي دونه، فلأن نزداد إيماناً، ونزداد إقبالاً، وتألقاً بسماع قصة سيد الأنبياء والمرسلين من باب أولى، لذلك الآية الكريمة:

﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾

[ سورة هود الآية: 120]

إذاً أن نقرأ سيرة رسول الله، فكيف إذا قرأنا سيرته، شمائله، أخلاقه، كمالاته، توجيهاته، هذا يثبتنا أيضاً، هذا الذي أتمنى أن يكون واضحاً عند الأخوة المشاهدين.

الأستاذ أحمد:

رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وجهنا؟ أو ماذا قال عن الثبات؟.

الثبات من عند الله ثمنه الصدق :

الدكتور راتب:

حينما وجه بعض أصحابه لليمن قال:

(( انطلق فاقرأها على الناس فإن الله تعالى يثبت لسانك ويهدي قلبك ))

[أخرجه أبو داود والترمذي وأبو يعلى والإمام أحمد علي بن أبي طالب ]

أي الثبات من عند الله ثمنه الصدق، والدليل:

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

والدليل النبوي أكثر دعاء كان عليه الصلاة والسلام يدعوه: "اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على طاعتك".

الإنسان حينما يدفع ثمن الثبات يثبته الله عز وجل على إيمانه، وعلى عبادته.

الأستاذ أحمد:

موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أتى إليه عمه أبو طالب يساومه فيما أنك لو أردت لأعطيناك، لزوجناك، لملكناك، ثم يقول صلوات الله عليه هذه العبارة والجملة الخالدة على مدى التاريخ:

(( والله يا عم ! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ـ وهو الدين ـ ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

[ السيرة النبوية]

لم يوجه فقط أصحابه بل أعطانا نحن مثالاً عملياً تطبيقياً في فعله فماذا نفهم من هذا التصرف؟.

المؤمن لا يساوم ولا يُحسب على جهة أرضية :

الدكتور راتب:

الحقيقة النبي مبلغ، لكنه في الحقيقة الأعمق قدوة، ومعلم، يعلمنا بلسانه، وأفعاله، ومواقفه، وإقراره، وصفاته، النبي عليه الصلاة والسلام أعظم شيء في دعوته مصداقيتها لا يساوم، ليس عنده أنصاف حلول.

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾

[ سورة القلم ]

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾

[ سورة القلم ]

(( والله يا عم ! لو وضعوا الشمس في يميني ))

وهذا شأن أصحاب المبادئ، هذا شأن أصحاب الدعوات الخيرة، هذا شأن الذين عرفوا الله، المؤمن لا يساوم، هناك موضوعات لا تخضع للمناقشة.

أحياناً السياسيون في مؤتمرات يقولون: الموضوعات الفلانية ليست داخلة في جدول الأعمال، لأنها عندهم مسلمات، لذلك يقول الله عز وجل:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

[ سورة الأحزاب الآية: 36 ]

قيمة الدعوة في بعدها عن وحل السياسة ومتاهات الأرض :

لذلك القضية دقيقة جداً أن المؤمن لا يساوم، ولا يُباع، ولا يُشترى، ولا يُجير لفئة، ولا يُحسب على جهة أرضية، إنه لله.

مرة التقت إذاعة في أوربا بعالم جليل من الدعاة إلى الله، رأوا إقبال الناس عليهم منقطع النظير، فسألوه في حديث إذاعي، ما هذه المكانة التي حباك الله بها؟ الحقيقة أنا أعجبت بإجابته، قال: لأنني محسوب على الله، الداعية لا يليق به أن يكون محسوباً على جهة أرضية، هو لله، بل لا يليق بك أن تكون لغير الله، بل إنك تحتقر نفسك حينما تكون لغير الله، أنت لله.

ولذلك قيمة الدعوة في بعدها عن وحل السياسة، عظمة الدعوة في بعدها عن متاهات الأرض، هي فوق المكان والزمان، وفوق الفئات، والتحزبات، والاتجاهات.

فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( والله يا عم ! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

الأستاذ أحمد:

رسول الله صلى الله عليه وسلم بثباته هذا علّم صحابته أيضاً أن يكونوا ثابتين، ولا أدل على ذلك من صورة سيدنا بلال بن رباح الذي يوضع على رمال الصحراء المحرقة، وهو أجرد الثياب، ويوضع فوق بطنه صخرة ينوء اثنان أو أكثر عن حملها، وما يزيد عن أن يقول في وجه أهل الكفر والطغيان والظلم: أحدٌ أحد، فهذا مثال من أمثلة فعل الصحابة رضوان الله عليهم.

عظماء أهل الأرض من أولى صفاتهم ثباتهم على مبدئهم :

الدكتور راتب:

هو ثابت وربى أصحابه على الثبات، بالمناسبة: كان عليه الصلاة والسلام فيما ترويه السيدة عائشة إذا عمل عملاً أثبته:

(( وأنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله أدْوَمُها وإنْ قلَّ ))

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة أم المؤمنين ]

يريد كيفاً ثابتاً، لا كماً كثيراً متأرجحاً، أي لو صليت ركعتي قيام الليل بشكل ثابت أفضل ألف مرة من أن تقوم الليل كله ثم تتركه، لو تصدقت كل أسبوع بمبلغ ثابت أفضل ألف مرة من أن تقدم مبلغاً كبيراً وتنقطع.

(( وأنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله أدْوَمُها وإنْ قلَّ ))

فالثبات الثبات، بالتعبير العامي الثبات نبات، بالمناسبة: عظماء أهل الأرض، القادة الكبار، الفاتحون، الدعاة إلى الله، الصادقون، المصلحون، هؤلاء من أولى صفاتهم ثباتهم على مبدئهم، بل إن الإنسان العظيم بحياته قضايا لا يساوم عليها، وليست خاضعة للبحث أو المناقشة، هذا من إيجابيات المؤمن، أما غير المؤمن يبيع ويشتري.

أعظم شيء بالمؤمن ثباته على مبدئه :

مرة أديب وضع أدبه في جهة أرضية، فلما عوتب قيل له: إنك بعت إنتاجك الأدبي لجهة أرضية، غضب أشد الغضب، وقال: أنا لم أبع إنتاجي لجهة أرضية ولكنني أجرته، هو أبلغ من ذلك.

فالمؤمن صاحب مبدأ، أعظم شيء بالمؤمن ثباته على مبدئه، الله عز وجل من حين لآخر يمتحن المؤمنين.

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾

[ سورة آل عمران الآية: 179 ]

في معركة الخندق:

﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾

[ سورة الأحزاب ]

لكن الله عز وجل يقول:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[ سورة الأحزاب ]

هذا هو الثبات.

الأستاذ أحمد:

فوائد الثبات أستاذي الكريم على الشيء المنظور المحسوس.

فوائد الثبات :

الدكتور راتب:

لا يمكن أن يحقق هدف إلا بالثبات، ولا يمكن أن يكون النمو إلا بالثبات، والتقدم بالثبات، والتألق بالثبات، أما هذا السويعاتي المتقلب، الذي ينهار لأقل ضغط، أو ينهار لأقل إغراء، أو ينصرف عن هدفه لأقل طارئ، أو يقف أمام أصغر عقبة، هذا ليس أهلاً أن يكون مؤمناً، وداعية، ومرشداً، وكبيراً.

الأستاذ أحمد:

إذاً لا يمكن لفكرة من الأفكار أن تعيش، أو أن ترى النور، إن عشقها أصحابها، وعملوا لها ليلهم ونهارهم، وبذلوا في سبيلها الغالي والثمين.

ثبات المؤمن على إيمانه ومبادئه وحسن ظنه بربه ثمن الجنة :

الدكتور راتب:

أستاذ أحمد، أقول لك هذه الكلمة: الله عز وجل واجب الوجود، وما سواه ممكن الوجود، أليس ممكناً أن يخلق الله أعداء الدين في كوكب آخر مع بعضهم بعضاً؟ أليس ممكناً أن يكون هؤلاء في قارة أخرى؟ ممكن، أليس ممكناً أن يكون هؤلاء في حقبة غير هذه الحقبة؟ إذاً ليس هناك مشكلة، لا حروب، ولا فتن، ولا مؤامرات، ولا اجتياحات، ولا حروب أهلية، ولا حروب ثروات، تنتهي كل مشكلات الأرض لو أن أعداء الدين كانوا في كوكب، ونحن في كوكب، ولكن قرار الله، وينبغي أن نحترمه وأن نجله، أراد أن نعيش معاً على أرض واحدة، وفي كل مكان هناك إيمان وعدم إيمان، إحسان و إساءة، إيمان و كفر، رحمة و قسوة، استقامة و انحراف، إخلاص و خيانة، شاءت حكمة الله أن يكون الحق والباطل معاً في كل مكان، من نتائج هذا الاجتماع حقيقة خطيرة وهي أن معركة الحق والباطل أزلية أبدية، لماذا؟ ما حكمة ربنا عز وجل من أن تكون بين أهل الحق وبين أهل الباطل معركة أزلية أبدية؟ قالوا: لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا ببذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس.

فثباتهم على إيمانهم، وثباتهم على مبادئهم، وثباتهم على حسن ظنهم بربهم هو ثمن الجنة، لذلك:

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة آل عمران ]

إذاً هناك حكمة بالغة من خلق الثبات، لأن هذا الخلق هو الذي يدعم المؤمنين ويؤهلهم لجنة رب العالمين.

الأستاذ أحمد:

أستاذي الكريم بعض الناس يثبتون لكن ليس شرطاً أن يكون ثباتهم في المحن، بعضهم يثبتون على معصية من المعاصي، بعضهم يثبتون على فكرة من الأفكار، فهل منبع الثبات قناعة أم محبة أم عادة اعتادوها؟ ما هو منبع الثبات؟.

منبع الثبات :

الدكتور راتب:

والله حينما نقول: الثبات، تنطلق أذهاننا إلى الثبات على الحق، لأن هذا الثبات إيجابي وهو فضيلة، أما الإنسان الذي يثبت على الباطل هو مجرم، لأنه كان من الممكن أن يتوب، كان من الممكن أن يرجع عن خطئه، فالثابت على الباطل إنسان عنيد، وتفكيره سقيم ، ونفسه لا ترضي الله عز وجل، فالثبات على الباطل مشكلة كبيرة.

بل فضيلة الرجوع إلى الحق، فضيلة رائعة جداً، السؤال، والجواب، والحوار، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كامل، ومعصوم، والله عصمه، إذاً لا يمكن أن يكون على باطل حتى يرجع عنه، فيكون هذا منه فضيلة، ولكن شاءت حكمة الله أن يظهر هذه الفضيلة على يد نبيه الكريم، كيف؟ حجب عنه الموقع المناسب يوم بدر، حجب عنه هذا الموقع وحياً، وإلهاماً، واجتهاداً، فجاء صحابي ـ لا أجد في أصحاب النبي أشد أدباً منه ـ قال: يا رسول الله هذا الموقع وحي أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمشورة؟ فالنبي تكلم بصراحة، قال: بل هو الرأي والمشورة، قال: والله يا رسول الله ليس بموقع، بعد أن تأكد أن هذا ليس وحياً بل هو من اجتهاد النبي.

الآن إنسان أقل من النبي بآلاف المرات، له مكانة مرموقة، لا يسمح لأحد أن ينصحه، إذا تجاوز أحد حده معه سحقه، النبي الكريم على علو مقامه، وعلى عصمته، بكل بساطة، بكل تواضع، بكل أريحية، بكل شيء طبيعي، قال له: بارك الله بك، وأمر أصحابه وتحولوا إلى الموقع المناسب، هذا الذي ذكرته الآن إجابة لتساؤلكم أن هناك ثبات على الباطل، البطولة أن ترجع إلى الحق.

لو أن إنساناً كان يتوهم شيئاً ثم عاد إليه، عاد إلى الصواب، هذه فضيلة.

الأستاذ أحمد:

أستاذي بعض الناس كما فهمنا منكم يثبتون على الأفكار والمعتقدات، والمطلوب منا أيضاً زيادة على ذلك أن نثبت على الطاعات، فمثلاً المداومة على صلاة الجماعة، أو الاستمرار في الإنفاق في سبيل الله، لربما أنفق نفقة لكني لا أستمر بها، هذا أمر عظيم، وهذا أمر فيه مشقة على النفس، ويحتاج إلى ثبات، كيف ننمي مثل هذا الخلق في أنفسنا إن كان لم يصل إلى هذا الحد الذي يجعلنا نستفيد فيه؟.

بطولة الإنسان أن يكون إدراكه عقلياً وخطته واضحة وخطواته ثابتة :

الدكتور راتب:

هذه مهمة الدعاة إلى الله، مهمة خطباء المساجد، مهمة الشيوخ، أن يبينوا للناس إن في مساجدهم، أو في منابر الإعلام، أن بطولة المؤمن لا في فورة ثم تخبو، البطولة في عمل منتظم، ثابت، مستمر، هذا توجيه من الدعاة إلى الله، أي يجب على الدعاة إلى الله، وعلى خطباء المساجد، وعلى المرشدين، وعلى المعلمين، وعلى كل من له عمل إرشادي، أن يقنع من حوله أن البطولة ليست بالفورة، ومن شأن بعض البلاد أنها تفور ثم تهمد، البطولة أن يكون الإدراك عقلياً، والخطة واضحة، والخطوات ثابتة، والسير وئيد، هذه البطولة.

إذاً نحن دائماً مع الثبات المبني على قناعة، وعلى تأييد الله لهذا الثبات، من قوله تعالى:

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾

إذاً الثبات من الله بسبب من العبد، والرجوع عن الخطأ أيضاً يناقض الثبات السلبي، هذا صار ثباتاً إيجابياً، عاد إلى الصواب.

خاتمة و توديع :

الأستاذ أحمد:

أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما فيه خير العمل، وأن يرزقنا الثبات حتى الممات، يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على طاعتك، نشكرك فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي على ما أفدتنا فيه، ونشكر أخواننا المشاهدين والمشاهدات على حسن استماعهم، وإلى لقاء آخر مع برنامجكم موسوعة الأخلاق الإسلامية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والحمد لله رب العالمين

http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=3043&id=189&sid=799&ssid=808&sssid=839