الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي


ندوات تلفزيونية - قناة اقرأ - موسوعة الأخلاق الإسلامية - الدرس (04-28 ) : الاستخلاف في الأرض

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-01-23

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

تقديم وترحيب :

الأستاذ أحمد :

أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات ، يقول المولى عز وجل في محكم تنزيله :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

( سورة الذاريات )

ويقول جلّ في علاه :

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾

( سورة المؤمنون )

فلماذا خُلق الإنسان على وجه الأرض ؟ ولماذا جعله الله عز وجل خليفة له على أرض هذه البسيطة ؟ ولماذا حمل أمانة السماوات والأرض والجبال على حملها ؟

للإجابة عن هذه الأسئلة يسرنا أن يكون ضيفنا اليوم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية في كليات الشريعة وأصول الدين .

فضيلة الدكتور ، الله عز وجل كلفنا بعبوديته ، ومن هنا نفهم أن هذا التكليف لا بد له من مقومات ، حبذا لو تحدثونا عن مقومات التكليف من الله عز وجل لعباده المؤمنين .

الدكتور راتب :

العبودية لله أعلى المراتب :

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

يجب أن نعلم أن أعلى مرتبة على الإطلاق ينالها الإنسان أن يكون عبداً لله ، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، حينما وصل إلى أقرب مرتبة من الله عز وجل ، إلى سدرة المنتهى ، قال الله تعالى :

﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾

( سورة النجم )

1 ـ شمولية العبادة :

بقدر العبودية يكون الارتقاء ، لذلك الله عز وجل كلفنا أن نعبده ، إلا أن معظم المسلمين إذا ذُكرت كلمة عبادة تنصرف أذهانهم إلى العبادات الشعائرية ليس غير .

الإسلام منهج ، أكاد أقول : مؤلف من 500 ألف بند ، يبدأ من فراش غرفة النوم ، وينتهي بالعلاقات الدولية ، منهج فيه كل التفاصيل ، وما العبادات الشعائرية إلا جزء ضئيل جداً من منهج الإسلام .

إذاً : إذا قلنا : نعبد الله أي أن نعرفه ، لو سألتني أن أضغط الدين كله في كلمات ثلاث : تعرفه ، فتعبده ، فتسعد بقربه في الدنيا والآخرة .

2 ـ ما هي العبادة ؟

التعريف الدقيق للعبادة : إنها طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، فيها جانب معرفي ، وجانب سلوكي ، وجانب جمالي ، الجانب السلوكي هو الأساس ، والمعرفي هو السبب ، والجمالي هو الثمرة ، لكن الله سبحانه وتعالى خلقنا للجنة .

3 ـ الناس في جانب العبادة قسمان لا ثالث لهما :

الكلام الدقيق جداً أن البشر على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، ومذاهبهم وطوائفهم ، وأعراقهم وأنسابهم ، وكل الاختلافات التي في ضوئها يقسم البشر هم في الحقيقة رجلان ، أو نموذجان إنسان عرف الله فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة ، وإنسان غفل عن الله ، وتفلت من منهجه ، وأساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة ، ولن تجد إنساناً ثالثاً ، الدليل :

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

( سورة الليل )

صدق أنه مخلوق للجنة ، الإنسان في الأصل خلق للجنة .

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴾

لأنه صدق أنه مخلوق للجنة اتقى أن يعصي الله ، وبنى حياته على العطاء .

لذلك ألف بعضُ الكُتَّاب كتاباً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في مقدمته يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام : " يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ ، يا من قدست الوجود كله ، ورعيت قضية الإنسان ، يا من زكيت سيادة العقل ، ونهنهت غريزة القطيع ، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع ، يا من كانت الرحمة مهجته ، والعدل شريعته ، والحب فطرته ، ومشكلات الناس عبادته .

إذاً : حينما يعرف الإنسان أنه مخلوق للجنة يتقي أن يعصي الله ، ويبني حياته على العطاء ، أما حينما يكفر بالجنة ، يكذب بها لا يرى إلا الدنيا ، هي كل شيء ، هي مبلغ علمه نهاية آماله ، عندئذٍ يستغني عن طاعة الله ، فإذا استغنى عن طاعة الله بنى حياته على الأخذ .

لذلك الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا ، الأنبياء عاشوا للناس والأقوياء عاش الناس لهم ، الأقوياء ملكوا الرقاب ، الأنبياء ملكوا القلوب .

فلذلك حينما يعرف الإنسان سر وجوده ـ أقول كلمة دقيقة ـ : إن لم تنعكس مقاييسه 180 درجة فإنه ما عرف سر وجوده ، لأن المؤمن يبني حياته على العطاء .

لذلك الله عز وجل جاء بنا إلى الدنيا ، وكلفنا أن نعرفه ، وأن نطيعه ، وأن نتقرب إليه ، وأن نسعد بقربه في الدنيا والآخرة .

يقول بعض العلماء : " في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، ويقول : " مساكين أهل الدنيا ، جاؤوا إلى الدنيا ، وخرجوا منها ، ولم يعرفوا أجمل ما فيها " ، ويقول : " بستاني في صدري ، ماذا يفعل أعدائي بي ؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، فماذا يفعل أعدائي بي ؟ " .

فالناس على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ومذاهبهم ، وأديانهم ، هم نموذجان :

﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

﴿ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

( سورة الليل )

فالذي كذب بالجنة استغنى عن طاعة الله ، وبنى حياته على الأخذ ، لا على العطاء .

الآن الله عز وجل خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ :

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ متفق عليه ]

كل إنسان مرئياته محدودة ، سافر إلى القاهرة ، إلى دبي فرضاً ، إلى لندن ، لكن كوالالنبور ما سافر إليها ، هناك مدن كثيرة ، فدائرة المشاهدات محدودة جداً ، أما المسموعات فكبيرة جداً ، ففي الأخبار تستمع إلى ألف اسم مدينة ، لكن دائرة الخواطر لا نهائية ، قد يخطر في بالك إنسان طوله من هنا إلى القمر ، الحديث :

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

4 ـ الإنسان مخلوق للجنة فلابد من الإعداد لها :

الإنسان مخلوق للجنة ، أما الدنيا فهي مكان لدفع ثمن الجنة ، الآية الكريمة :

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾

( سورة الزمر الآية : 74 )

لولا أن الله جاء بنا إلى الأرض ، وتعرفنا إليه ، واستقمنا على أمره ، وعملنا الصالحات ، وأقبلنا عليه ، وكسبنا الأعمال الصالحة لما كنا في الجنة .

كيف لو أن إنسانا أخذ شهادة عليا من جامعة عريقة ، ودخله صار فلكيا ، لما يمرّ أمام الجامعة التي درس فيها يقول : لولا هذه الجامعة لما كنت في هذا الحال .

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾

إذاً : الإنسان مكلف أن يعبد الله ، أي أن يعدّ نفسه لجنة عرضها السماوات والأرض ، والدنيا أحقر من أن تكون عطاءً من الله ، وهي أقلّ من أن تكون عقاباً ، لأنها منقطعة ، فالموت ينهي كل شيء ، ينهي قوة القوي ، ينهي ضعف الضعيف ، ينهي غنى الغني ، ينهي فقر الفقير ، ينهي وسامة الوسيم ، ينهي دمامة الدميم ، ينهي عزة العزيز ، ينهي ذل الذليل ، الموت ينهي كل شيء ، إذاً : هي أحقر من أن تكون عطاءً ، نسأل الله السلامة ، لكن هدفَ الإنسان الآخرة ، فما لم ينقل اهتماماته إلى الآخرة فهو في خسارة كبيرة .

﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾

( سورة الزمر الآية : 15 )

إذاً : الله عز وجل كلفنا أن نعرفه ، ثم كلفنا أن نعبده ، لتكون المعرفة والطاعة ثمناً للجنة .

الأستاذ أحمد :

دكتور ، أمرنا الله عز وجل فقال :

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ﴾

( سورة الزمر )

هل هذا النظر يوصلنا إلى معرفة الله عز وجل ؟

الدكتور راتب :

لابد من التفكرِ في خَلقِ الله وأفعاله وكلامه :

الإنسان مكلف أن يتفكر في خلق السماوات والأرض ، في خلقه ، ومكلف كما تفضلت أن ينظر في أفعاله ، ومكلف أن يتدبر كلامه ، كيف نعرف الله ؟ نعرفه من خلقه تفكراً ، من أفعاله تدبراً ، من أفعاله نظراً ، من آياته القرآنية تدبراً ، هذه الطرق التي يمكن أن تعرف بها إلى الله عز وجل ، لأنه كما أن خلقه معجز أفعاله معجزة .

هذه ملاحظة مهمة جداً ، أنا أتمنى أن نبدأ بمعرفة الله من خَلقه أولاً ، هذا طريق آمن ، كلما ازددت فكراً ازددت معرفة بالله ، ثم أن نثني بكلامه ، ونؤخر معرفةَ الله من أفعاله إلى المرحلة الثالثة ، لأنك إن عرفته من خلال خَلقه ، ثم إن عرفته من خلال كلامه ، هاتان المعرفتان تلقيان الضوء على أفعاله ، لأنك لن تستطيع أن تثبت عدل الله بعقلك ، لأن عقلك وعقلي وعقل أي إنسان قاصر عن إدراك أفعال الله ، إلا في حالة واحدة مستحيلة ، أن يكون لك علم كعلم الله .

إذاً : نحن في موضوع الأفعال ، لأنها كحقل ألغام ، قد تجد بلادا غنية جداً ، غارقة في النعيم ، والانحراف ، والشذوذ ، والربا ، وما شاكل ذلك ، وهي قوية وتهدد العالم .

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾

( سورة الأنعام الآية : 44 )

وقد تجد بلادا تعاني مشكلات كثيرة ، لكن هذه المشكلات تقربها من الله عز وجل ، فالله عز وجل يقول :

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

( سورة الأعراف )

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾

( سورة القصص )

كل محنة وراءها منحة ، كما تفضلت ، وكل شدة وراءها شدة إلى الله عز وجل ، هذه حقيقة المصائب أحياناً ، ولها إن شاء الله برامج خاصة .

الأستاذ أحمد :

حبذا دكتور لو تسلطون الضوء على قولكم إن التكليف له المقومات .

الدكتور راتب :

مقومات التكليف :

بارك الله بك ، الحقيقة ما كلفنا الله أن نعبده إلا وأعطانا مقومات العبادة .

1 ـ الكون :

ومن أبرز المقومات هذا الكون الذي ينطق بوجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ، هذا الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي ، هذا الكون يشفّ عن أسماء الله الحسنى ، وعن صفاته الفضلى ، لأن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار ، ولكن العقول تصل إليه من خلال صنعته ، فالصنعة تدل على الصانع ، والنظام يدل على المنظم ، والحكمة تدل على الحكيم ، والتسيير يدل على المسير .

إذاً : هذا الكون هو الثابت الأول ، والمسلم إذا أراد أن يحاور أي مسلم ، الثابت الأول الذي يسكت الألسنة ، ويطأطئ الإنسان رأسه له هذا الكون ، هو بلغة عالمية ، أي إنسان مِن أيّ لغة يرى الشمس والقمر ، والليل والنهار ، يرى النبات ، يرى الطفل حينما يولد ، هناك آيات لا تعد ولا تحصى ، صدق أن الآيات المتعلقة بخلق الإنسان لو أمضى الإنسان حياته كلها ليتعرف إليها لم يستطع ذلك ، الله عز وجل :

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾

( سورة الذاريات )

الماء :

كأس الماء ، الماء ينفرد من بين كل عناصر الأرض بخاصة ، لولا هذه الخاصة لما كان هذا اللقاء ، ولما كانت دمشق ، ولما كان العالم ، ولما كان البشر ، هذا الماء شأنه كشأن أي عنصر في الأرض ، يتمدد بالتسخين ، وينكمش بالتبريد ، إلا أن الماء ينفرد من بين كل العناصر أنه إذا بردته ، ووصل التبريد لدرجة زائد أربعة تنعكس الآية ، يزداد حجمه .

الحقيقة أن وحدة القياس للكثافة هو الماء ، الماء واحد ، لو أن الماء إذا بردناه قلّ حجمه كأي عنصر في الأرض ، أي تزداد كثافته ، فيغوص الماء المجمد إلى أعماق البحار ، وبعد حقب معينة تتجمد البحار كلها ينعدم التبخر ، ينعدم المطر ، يموت النبات ، يموت الحيوان ، يموت الإنسان .

الماء ينفرد بهذه الخاصة ، أنه حينما تبرده إلى درجة زائد أربع يزداد حجمه ، وتقلّ كثافته فيطفو ، وتبقى البحار دافئة ، ويبقى الجليد في الطبقة السطحية .

إذاً : الكون يدل على عظمة الله عز وجل ، وأنا أقول دائماً : إن التفكر في السماوات والأرض هو أقصر طريق إلى الله ، وأوسع باب ندخل منه على الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام نهانا عن أن نفكر في ذات الله ، في خطوط حمر ، لكنه سمح لنا أن نفكر ما شاء لنا التفكر في مخلوقات الله .

الكواكب والأبراج والنجوم :

إذاً : الكون الثابت الأول ، طبعاً بمجراته ، شيء سريع بين الأرض والشمس 156 مليون كم ، يقطعها الضوء في 8 دقائق ، الشمس حجمها يزيد على حجم الأرض بمليون و300 ألف أرض ، مليون و300 ألف أرض يمكن أن تستوعبها الشمس ، وبينهما 156 مليون كم ، وهناك ببرج العقرب أحد أبراج السماء .

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾

( سورة البروج )

نجم صغير أحمر متألق يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما .

﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾

( سورة غافر )

الكون بما فيه من آيات دالة على عظمة الله يطأطئ لها كل إنسان .

الأستاذ أحمد :

عندما قلتم دكتور : إن الكون هو الثابت الأول فهمنا أن هناك ثابتاً ثانٍ أو أكثر .

الدكتور راتب :

2 ـ العقل :

الثابت الثاني هو العقل ، العقل له مبادئ ، هو تقريباً كآلة حاسبة في جيبك ، لو فرضنا معك آلة حاسبة ، وقبضت مبلغا ، ولم تستخدمها تندم .

مبادئ العقل : السببية ـ الغائية ـ عدم التناقض ـ

العقل له مبادئ ، السببية أحد أكبر مبادئه يعني أنا وأنت لا يمكن أن نفهم أي شيء بلا سبب ، والمبدأ الثاني الغائية .

أنت قد تجد شاحنة تتدلى منها سلسلة ، لماذا ؟ أنت لا علاقة لك بالشاحنات ، ولا بنقل البترول ، ولا بأي شيء آخر ، لكن عندك حاجة عقلية أن تفهم لمَ هذه السلسلة مدلات من السيارة .

إذاً أنت لا تفهم شيئاً إلا بغايته ، ولا تفهم شيئاً إلا بسببه ، ولا تقبل التناقض وأروع ما في القضية أن مبادئ العقل تتناسب تناسباً تاماً مع قوانين الكون ، الله عز وجل جعل لكل شيء سببا ، وأعطاك جهازا لا يفهم أيّ شيئاً بلا سبب ، وكأن الله ينقلك بلطف إلى ذاته الكريمة .

الدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة ، وأول دجاجة مَن خلقها ؟ هذا الذي أغفله داروين ، أول مخلوق لو كان وحيد الخلية َمن خلقه ؟

لذلك العقل هو الثابت الثاني ، العقل أداة معرفة الله ، لكن إما أن نستخدمه كي نعرف الحقائق ، أو أن نستخدمه لنبرر أخطائنا .

الأستاذ أحمد :

ولذلك أتى توجيه الله عز وجل في القرآن الكريم فخاطب المؤمنين بقوله :

﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

( سورة الجاثية )

﴿ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾

( سورة الروم )

﴿ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾

( سورة الزمر )

﴿ لِأُولِي النُّهَى ﴾

( سورة طه )

الدكتور راتب :

لا للعقل التبريري :

الآيات التي تتحدث عن العلم والعقل والتفكر والتذكر تقترب من ألف آية ، فالعقل مبادئه ثلاثة ، مبدأ السببية ، الغائية ، عدم التناقض ، متوافقة تماماً مع مبادئ الكون ، إلا أن هناك عقلاً تبريرياً يُستخدم لغير ما خلق ، أن ينحرف الإنسان فيبرر خطأه بفلسفة عقلية ، هذا سماه العلماء العقل التبريري ، وهو ساقط ، الدليل في القرآن :

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾

( سورة المدثر )

العين ؛ لو أنها تتمتع بأعلى درجات الرؤيا ، وقبع إنسان في غرفة مظلمة لا قيمة لها ، لو جلس اثنان في غرفة مظلمة أعمى وبصير ، فهما سيان ، حاجة العقل إلى وحي السماء كحاجة العين إلى الضوء ، العقل وحده يضل ، لكن العقل إذا اهتدى بنور الوحي فلا يضل ، لذلك العين تحتاج إلى نور مادي ، والعقل يحتاج إلى وحي .

العقل من حيث الاستعمال حياديٌّ :

الإنسان المنحرف والشارد يستخدم العقل للتبرير ، والدليل أن الله سبحانه وتعالى حينما وصف نبيه الكريم فقال :

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

( سورة النجم )

المفهوم العكسي لهذه الآية : أناس كثيرون ينطقون عن الهوى ، يتكلم لصالحه ، يمدح شيئاً ليبيعه ، يمدح شخصاً لينتفع منه ، ينافق لشخص كي يأخذ منه ، فهذا نطق عن الهوى ، فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم عن أن ينطق عن الهوى :

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

العقل أحياناً نستخدمه لخلاف ما خُلق له .

مثلاً : هناك آلات طابعة ملونة في البدايات كانت غالية جداً ، لتصميم البروشولات ، تصميم أغلفة الكتب ، يمكن أن نستخدمها ، وأن نربح أرباحاً طائلة ، أما لو استخدمناها لتزوير العملة ، ماذا نقول ؟ استخدمناها لخلاف ما صنعت له ، هذا عمل ممنوع ومحرم ، وعليه عقوبات .

العقل حيادي ، هو جهاز بالغ التعقيد ، بالمناسبة : الدماغ أعقد ما في الكون ، ففي الدماغ 140 مليار خلية سمراء لم تعرف وظيفتها حتى الآن ، وفيه 14 مليار خلية قشرية فيها التذكر والمحاكمة والقرارات ، لذلك نأخذ الآية الكريمة :

﴿ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ﴾

( سورة العلق )

مقدمة الرأس فيها مكان القرار ، فالخطأ يبدأ من مقدمة الرأس

﴿ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ﴾

﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾

( سورة العلق )

مهمةُ العقل لفهم النقل لا للحكم عليه :

العقل ميزة كبيرة جداً ، ولكن العقل مربوط بالباطل ، لو تعارض العقل مع النقل فنحن مع النقل ، الدليل :

لو أيقظنا إنسانًا من قبره قبل خمسين عامًا ، وأريناه قرصًا مدمجًا ، أنا عندي قرص فيه 1800 عنوان ، والعنوان الواحد فيه 70 مجلدًا ، وتقرأ كل هذه الكتب في ثوانٍ معدودة ، هذا شيء لا يصدق قديماً ، فهذا الذي مات قبل خمسين عامًا لا يصدق هذا ، أما اليوم فهو شيء مألوف ، لأن العقل مربوط بالواقع ، لكن الله سبحانه وتعالى مطلق .

إذاً : العقل علاقته بالنقل أنه من أجل أن نفهم النقل ، وأن نتأكد من صحة النقل ، أما أن يكون العقل حكماً على النقل فهذا مستحيل ، لأن العقل محدود بالواقع ، بينما النقل متعلق بالمطلق .

الأستاذ أحمد :

خاتمة وتوديع :

في نهاية هذه الحلقة نشكركم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، ونتوجه للإخوة المشاهدين بالشكر الجزيل على حسن المتابعة ، سائلين الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يجعلنا أهلاً لحمل الأمانة التي من أجلها استخلفنا .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

والحمد لله رب العالمين

http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2963&id=189&sid=799&ssid=808&sssid=839