الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي


ندوات تلفزيونية - قناة انفينيتي - مكارم الأخلاق - الدرس ( 21-30 ) : خُلق البِر ـ النمل الأبيض

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-03-22

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة :

الأستاذ عدنان:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله، وأرحب بكم في برنامج:" مكارم الأخلاق" وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، أهلاً ومرحباً بكم دكتور.

الدكتور راتب:

بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً.

الأستاذ عدنان:

دكتور ما بين البِر بكسر الباء، والبَر والبُر، معان متعددة، ونقف عند البِر بكسر الباء، معنى هذه الكلمة من الناحية الاصطلاحية يمكن أن نبدأ بها حلقة اليوم.

تعريف البِر :

الدكتور راتب:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، هذه اللغة العربية لغة معجزة، حركة واحدة نقلت المعنى من حقل إلى حقل، فالبِر هو الإحسان، والبَر هو اليابسة، والبُر هو القمح، فحركة واحدة أعطت معان مختلفة، وكطرفة إنسان ضعيف في اللغة قال:

ولست أبالي حين أَقتُل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي

***

هذا إلى النار، الصواب:

ولست أبالي حين أُقتَل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي

***

حركة نقلته من الجنة إلى النار، على كلٍّ: البِر هو الصلاح، الصلاح المطلق، والفطر السليمة تعرف الصلاح المطلق، البِر هو الصلاح، وحينما قال الله عز وجل:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾

[ سورة المائدة الآية:2]

قال علماء التفسير: "البر صلاح الدنيا والتعاون على التقوى صلاح الآخرة."

فإذا ذكرت كلمة البِر وحدها تعني صلاح الدنيا والآخرة معاً، وحدها صلاح الدنيا والآخرة، إذا انفردت شملت الدنيا والآخرة، وإذا جاء معها التقوى تعني صلاح الدنيا.

على كلٍّ البِر هو الصلاح، أو هو الخير المطلق، أو هو التقوى، طاعة الله عز وجل، وطاعة الله عز وجل سبب كل عطاء، أو خير الدنيا والآخرة مجتمعين، هذه بعض التعريفات الاصطلاحية لكلمة البِر.

الأستاذ عدنان:

دكتور البِر بر الوالدين مثلاً، وأن يكون الإنسان باراً من خلال صلة الرحم، وأن يكون في كرمه وعطائه، بمعنىً آخر للبر أنواع يمكن أن نأتي عليها؟

أنواع البر :

1 ـ العطاء :

الدكتور راتب:

الحقيقة أن البِر أنواع، أحد هذه الأنواع الكبرى هي الصلة؛ الإحسان، فالإنسان حينما يعطي من ماله، من فضل ماله، من فضل خبرته، حينما يبني حياته على العطاء، فهو البار:

﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾

[ سورة الانفطار الآية :13]

نعيم العطاء، الإنسان كلما تقدم في الإيمان جعل سعادته في العطاء لا في الأخذ، وكلما ضعف إيمانه توهم أن سعادته في الأخذ لا في العطاء، أحد أكبر أنواع البر العطاء، الله عز وجل قال:

﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾

[ سورة البقرة]

الإنسان يعطي من علمه، وقد يعطي من ماله، وقد يعطي من خبرته، وقد يعطي من جاهه، المؤمن حينما أيقن أنه مخلوق للجنة، وأن الجنة منتهى آماله ومحط رحاله، لذلك يدفع في الدنيا ثمن الجنة، وثمن الجنة أن تعطي مما أعطاك الله، هناك صفة صارخة في المؤمن أن حياته بنيت على العطاء، وهناك صفة صارخة في حياة غير المؤمن أن حياته بنيت على الأخذ، وأن الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، وأن الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء ملكوا القلوب، والأقوياء ملكوا الرقاب، فلذلك المعنى الأول للبر هو العطاء، مطلق العطاء، لأنه أصل في حياة المؤمن، هو يسعد في العطاء بينما غير المؤمن يسعد في الأخذ، أو يتوهم سعادته في الأخذ:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل ]

لأنه صدق أنه مخلوق للجنة اتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء، لذلك المعطي محبوب، المعطي برئ من شح نفسه، والمعطي جعل من حوله يبرؤون من الحقد عليه، والمعطي جعل الناس يلهجون بحمده وثنائه.

أيّ عمل صالح تجاه أي مخلوق هو قرض لله تعالى :

لذلك البر في معناه الكبير هو العطاء والعطاء منوع، بل حتى الفقير له حديث يخصه:

(( إنكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بَسْط الوجه وحسنُ الخلق ))

[أخرجه أبو يعلى وابن أبي شيبة عن أبي هريرة ]

أحياناً الإنسان يقدم خدمة، متفوق في الرياضيات، يعلم طالباً ضعيفاً في هذه المادة بعض الدروس لوجه الله، أنواع العطاء لا تعد ولا تحصى بل إن الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق:

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾

[ سورة البقرة الآية: 245 ]

إن أي عمل صالح تجاه أي مخلوق يعد قرضاً لله، إن أي عمل صالح بالفطرة تجاه أي مخلوق يعد قرضاً لله، هذا نوع كبير من أنواع البر.

2 ـ برّ القول :

هناك أنواع أخرى في القول، بر القول، ألا تقسو على الناس، أن تكون بهم رفيقاً، أن تلتمس لهم الأعذار، أن تسلم عليهم، أن تسألهم عن أحوالهم، أن تتودد إليهم، ألا تغتابهم، ألا تسخر منهم، ألا تسيء إليهم، ألا تسلمهم إلى أعدائهم، القول عمل كبير، ومن عدّ كلامه من عمله فقد نجا:

(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))

[ أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

وقد عدّ بعض العلماء آفات اللسان تزيد عن عشرين آفة:

(( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

إحدى زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، السيدة عائشة وصفت أختها صفية بأنها قصيرة فقال عليه الصلاة والسلام:

(( يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته ))

[ أبو داود عن عائشة ]

(( وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم ))

[ أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجه والحاكم عن معاذ ]

لذلك المؤمن يعد كلامه جزءاً من عمله، يضبط لسانه، فبكلمة قد ترقى عند الله إلى أعلى عليين، وبكلمة واحدة قد يسقط الإنسان بها على أسفل سافلين، إذاً من معاني البر القول الحسن، قال تعالى:

﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾

[ سورة البقرة الآية: 83 ]

3 ـ بر العمل :

هناك معنى ثالثاً، وهو العمل، أحياناً أن تبتسم في وجه الضعيف، أن ترحم الصغير، أن تعفو عمن أخطأ وندم على خطئه في معاملتك هذا عمل.

4 ـ بر السلوك :

أنواع الأعمال المتعلقة بالبر لا تعد ولا تحصى، أن تتواضع لمن يصغر أمامك، أن تأخذ بيد من يحتاج إليك، أن تعين أخاك الضعيف، مثلاً النبي عليه الصلاة والسلام فيما روي عنه عن حق الجار:" إن استعان بك أعنته، وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن مرض عدته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فأهدِ له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها" هكذا أمر النبي أن يكون باراً بجيرانه، البر كلمة واسعة جداً، هناك بر في العطاء، بر في الكلام، بر في السلوك، هذه بعض أنواع البر.

الأستاذ عدنان:

هنا يمكن أن تتوضح الفكرة التالية: البر ليس قولاً محجوباً عن النية، وليس عملاً محجوباً عن النية، بالتالي يمكن أن تكون هناك أفعال ولكنها لا يمكن أن تدخل في نطاق البر، يكفينا أن نستعرض قوله تعالى:

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 177 ]

يمكن أن نشرحها معاً.

الآية التالية أصل في موضوع البِر :

الدكتور راتب:

هذه الآية أصل في موضوع البر، الله عز وجل يقول:

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 177 ]

أي في الأديان الأرضية هناك طقوس، طقس لا معنى له، حركات، وسكنات، وتمتمات، وإيماءات، لا تقدم ولا تؤخر، ليس لها معنى إطلاقاً، لكن في الدين هناك عبادات، والإمام الشافعي يقول: "العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق". لكن مع تأخر الزمان تفقد العبادات معناها، تفقد لبها، تفقد جوهرها، تفقد الحكمة منها، تفقد ثمرتها، تصبح حركات وسكنات تؤدى بلا معنى، حركات وسكنات تؤدى ولا نقطف ثمارها، إن الصلاة عند الله:

﴿ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء َالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

إن الصيام امتناع عن كل معصية، إن الحج صلح مع الله، العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق لكن مع تخلف المسلمين في فهم دينهم يتوهمون أن العبادة التي فُرضت عليهم لمجرد أن تؤدى شكلياتها فقد أُعفو من تبعة تركها وانتهى الأمر، فالله عز وجل يريد أن ينبه الناس:

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 177 ]

(( ترْكُ دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام ))

[ ورد في الأثر ]

سيدنا ابن عباس حينما كان معتكفاً في مسجد رسول الله ورأى رجلاً كئيباً، فسأله: مالك كئيباً؟ قال: ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، قال: أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، الآن ابن عباس الصحابي الجليل، قريب النبي عليه الصلاة والسلام، الذي أوتي فهم الكتاب، قام من معتكفه، الآن سيقطع معتكفه، الاعتكاف عبادة كبيرة جداً، فقال له أحدهم: يا بن عباس، أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله، ولكنني سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب، ودمعت عيناه، "والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر، واعتكافه في مسجدي هذا".

من لم يطبق منهج الدين بكل تفاصيله فلن يقطف ثماره :

كأني أفهم الآية ـ وأرجو الله أن أكون مصيباً في فهمها ـ العبادات إذا فرغت من مضمونها، فرغ الحج من الصلح مع الله، والاستقامة على أمره، فرغ الصيام من طاعة الله، فرغت الصلاة من النهي عن الفحشاء والمنكر، إذا بقيت العبادات أشكالاً تؤدى بلا مضمون، بلا حكم، ليس هذا هو البِر، ليس البِر أن تؤدي العبادات ونظام حياتك لا ينطبق على منهج الله، ليس البِر أن تؤدي العبادات أداءً شكلياً وكسب المال ليس حلالاً، وإنفاقه ليس حلالاً، والعلاقات النسائية ليست مشروعة، والسفر ليس مباحاً، الإنسان حينما يؤدي العبادات متوهماً أنه أدى الذي عليه وانتهى الأمر، والله ما انتهى شيء ما لم يكن المنهج كاملاً وما لم يطبق المنهج بكل تفاصيله لن نقطف ثماره، لذلك:

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 177 ]

مثلاً لو أن طالباً سأل والده سؤالاً: أن يا أبتِ كيف تحب أن يكون بعد الكتاب عن حرف الطاولة؟ ما هذا السؤال؟ قال له: سنتمتر، كيف تحب أن يكون ميل الكتاب نحوي بأية زاوية؟ قال له: ادرس، اقرأ، هناك تفاصيل: هناك شكليات: هناك قشور: وهناك لباب: لبّ هذا الدين أن تطيع الله، لبّ هذا الدين أن تعمل وفق منهج رسوله، لبّ هذا الدين أن تكون محسناً

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ ﴾

هل عرفت الله؟ هل عرفت أنه خالق ورب ومسير؟ أنه موجود وواحد وكامل؟ هل تعرفت إلى أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى؟ هل عرفت شيئاً من رحمته؟ من حكمته؟ من عدله؟ من قوته؟ من غناه؟ أسماء الله الحسنى يقول الله عز وجل:

﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾

[ سورة الأعراف الآية: 180 ]

لذلك:

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ ﴾

هل من الممكن أن تتصور إنساناً ما بذل دقيقة واحدة وقال: أنا دكتور وهي أعلى شهادة؟ الدكتوراه تحتاج إلى دراسة ثلاثين سنة تقريباً بدءاً من الابتدائي، والإعدادي، والثانوي، والليسانس، والدبلوم العام والخاص، والماجستير، والدكتوراه، وهناك تأليف، وهناك أطروحات، وهناك كتب، وهناك إبداع، يمكن أن يأتي الإيمان هكذا بلا جهد؟ نحن ما على نحن عليه:

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ ﴾

الإيمان يحتاج إلى بحث، قال تعالى:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

[ سورة محمد الآية: 19 ]

يحتاج إلى بحث، وإلى درس، وإلى جهد:

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾

الإيمان يحتاج إلى بحث و درس و جهد :

ما اقترن ركنان من أركان الإيمان كما اقترن الإيمان بالله واليوم الآخر، الله موجود ولكن في اليوم الآخر سيحاسب وسيعاقب:

﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون الآية: 74]

أنا أعتقد يقيناً أن الإنسان لن يستقيم الاستقامة التي أرادها الله إلا إذا آمن باليوم الآخر، هناك تسوى الحسابات، هناك يؤخذ للضعيف من القوي، للمظلوم من الظالم:

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر الآيات: 92-93]

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾

[ سورة إبراهيم الآية: 42]

من هو الغبي؟ عندي الغبي الذي لا يدخل اليوم الآخر في حساباته، هذا أغبى الأغبياء، فلذلك:

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ ِ﴾

عظمة الإيمان أنه يجعل المؤمن أخلاقياً إذا قال فعل وإذا وعد أنجز :

الله عز وجل أخبرنا في القرآن الكريم أن الملائكة يكتبون علينا كل حركاتنا وسكناتنا، الإنسان إذا توهم أنه مراقب، يضبط كلامه، يضبط حركته، إذا توهم أنه مراقب من إنسان قوي، فكيف إذا أخبره الله أنه مراقب مراقبة تامة من ملكين يكتبان عليه كل شيء:

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ ِ﴾

هذا المنهج القويم، أنت بالكون تعرفه، و بالشرع تعبده، بهذا الكتاب القويم يمكن أن تصل إلى مرضاة الله عز وجل، هناك منهج، ما من آلة غالية، بالغة التعقيد، عظيمة النفع، إلا معها نشرة افعل ولا تفعل، تعليمات الصانع مهمة جداً، إذاً هو الكتاب، وبالنبيين الذين فصلوا هذه الكتب هناك منهج كلي، وهناك تفصيلات جاء بها النبيون:

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾

لا يكفي أن تؤمن، لا يكفي أن تعجب إعجاباً سلبياً بهذا الدين، لابدّ من حركة، لابدّ من التزام، لابدّ من بذل:

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾

الله عز وجل بيّن لنا حب المال، آتى المال على حب المال أو على حب الله، والمعنيان صالحان، دفع، إنفاق المال اسمه صدقة، والصدقة تؤكد صدق الإنسان،

﴿ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾

الأقربون أولى بالمعروف،

﴿ وَالْيَتَامَى ﴾

الضعاف،

﴿ وَالْمَسَاكِينَ ﴾

الذين ضعفوا عن العمل،

﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾

المنقطع:

((مَنْ جَهّزَ غَازِياً في سَبِيلِ الله فقد غَزَا))

[متفق عليه عن زيد بن خالد الجهني]

((مَنْ خَلَفَ غَازِياً في أهْلِهِ بخير فَقَدْ غَزَا))

[البخاري و مسلم عن زيد بن خالد الجهني]

ومن لم يجاهد أو يحدث نفسه بالجهاد مات على ثلمة من النفاق،

﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾

بعد هذه المعرفة، وهذا التدقيق، وهذا الإيمان، وهذا العمل، وهذا العطاء، وهذه التضحية، الآن يستطيع أن يقيم الصلاة، وأن يؤتي الزكاة، كفريضة تحقق التكافل الاجتماعي،

﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾

أي عظمة الإيمان أنه يجعل المؤمن أخلاقياً، إذا قال فعل، إذا وعد أنجز، إذا تعهد وفى بما تعهد به، لذلك المؤمن يصعب عليه أن يخالف تعهده، أما غير المؤمن يسهل عليه ذلك:

﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾

وقد تأتيه المصائب امتحاناً له، وقد تأتيه المصائب ترقية له:

﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾

إذاً البِر كل هذه الأشياء بآية جامعة مانعة هي أصل في موضوع البر.

الأستاذ عدنان:

دكتور أحياناً الفطرة في ذات الإنسان تنطمس، وأحياناً تكون سليمة، في حال سلامتها تجعل الإنسان في موضع أن يحسن ويبر الآخرين، وهو أيضاً بالمقابل أن يُحسَن إليه وأن يُبر إليه، إذا ما كانت الفطرة سليمة يكون البِر معها متوائماً، فإذا انطمس شيء من الفطرة أدى ذلك إلى سلبية في البِر، هذه العلاقة ما بين البر والفطرة السليمة.

علاقة البِر بالفطرة :

الدكتور راتب:

النبي عليه الصلاة والسلام بحديث جامع وصف البِر بأنه الفطرة، فقال:

((البر ما اطمأنت إليه النفس))

[أحمد عن وابصة بن معبد ]

هل يستطيع إنسان أن يغش الحليب أمام الشاري؟ مستحيل، لأن الفطرة تمنعه من ذلك:

((البر ما اطمأنت إليه النفس ))

[أحمد عن وابصة بن معبد ]

لو أن إنساناً كسب مالاً حلالاً، واشترى به طعاماً، وأكله هو وأولاده، هل يمكن أن يسأل هذا الإنسان عالماً عن حكم تناول طعام بمال حلال؟ مستحيل:

((البر ما طمأنت إليه النفس ))

الذي يسأل دائماً عنده قلق، لأن فطرته أنبته، لأن فطرته لم تكن مرتاحة لهذا العمل، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام بيّن أن البِر الذي أراده الله بهذه الآية منطبق على الفطرة تماماً، ومن أكبر نِعم الله علينا أن فطرنا النفسية تتوافق توافقاً تاماً مع منهج الله:

((البر ما طمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس))

[أحمد عن وابصة بن معبد ]

لذلك:

(( وإياك وما يعتذر منه ))

[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمر ]

حديث جامع مانع، أي عمل تضطر إلى أن تعتذر منه هو عمل فيه إشكال:

(( وإياك وما يعتذر منه ))

[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمر ]

فالبر هو الفطرة، والمؤمن يعمل تحت ضوء الشمس، سريرته كعلانيته، خلوته كجلوته، تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا ضال.

الأستاذ عدنان:

هذه علاقة البر بالفطرة، علاقة البر بالتقوى؟

علاقة البِر بالتقوى :

الدكتور راتب:

التقوى طاعة الله عز وجل، أنت حينما تطيع الله عز وجل في منهجه التفصيلي الذي جاء به القرآن الكريم، وجاءت به السنة، فأنت من أهل البِر، كأن هناك تلازم بين أن تطيع الله وبين أن تكون باراً، لأن طاعة الله تفضي إلى الصلاح، إلى العطاء، إلى الخير، فالخير أحياناً يأخذ ألواناً لكنه في حقيقته شيء واحد.

الأستاذ عدنان:

البر كما أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام وكما في آيات له ثمار كثيرة وواسعة يمكن أن نستخلص شيئاً منها.

ثمار البِر :

الدكتور راتب:

أولاً: البِر كمال الإيمان كأية فضيلة أخرى جاءت في الكتاب والسنة، ثانياً: طريق سالك إلى الجنة، ثالثاً: البِر فيه زيادة في العمر لا في المدة الزمنية بل في المضمون، إنسان فتح محلاً تجارياً العبرة لا في الدوام بل في الغلة، زيادة في العمر بمعنى المضمون الكبير الذي يسعده في الآخرة، وبركة في المال والنسل، البِر يزيد المال بركة، ويزيد النسل صلاحاً، والبِر أحد أسباب السعادة الكبرى، والبِر سبب محبة الخلق للإنسان، والبِر طريق سالك إلى الجنة.

الأستاذ عدنان:

الحقيقة شيء رائع أن يلزم الإنسان موضوع البر في نتائجه وثماره ما ذكرتم وبينتم، ومن البِر أيضاً كما في الآية الكريمة:

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾

إلى أن وصل:

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ ﴾

هذا الإيمان يمكن أن نجد له من جملة الطرائق ما يتصل بإعجاز الله تعالى في مخلوقاته.

الإعجاز العلمي :

النمل الأبيض :

الدكتور راتب:

أستاذ عدنان، هناك آية كبيرة جداً تدل على عظمة الله هي النمل الأبيض.

ما هو النمل الأبيض ؟

النمل الأبيض حشرات صغيرة تعيش على شكل مستعمرات، وتقيم المساكن الضخمة.

كيف ينشئ النمل الأبيض مساكنه ؟

من لوازم إنشاء المسكن القرميد الذي جهزته النملات العاملات من الطين المتكون من التراب، وإفرازات أفواهها، تصل مساحة مسكن النمل البيض إلى ثلاثة أو أربعة أمتار أحياناً، وعند مقارنة حجم هذا البناء مع حجم النملة يبدو لنا المسكن كناطحة سحاب ضخمة جداً، مساكن النملة هذه مليئة بالممرات العميقة، وعلى طول هذه الممرات يعمل مليون نملة بتناسق تام.

شيء آخر: وعند التدقيق في مقطع عرضي لهذا المسكن يبدو داخل هذه الممرات بهو خاص للملكة، وأقسام زراعية، ومخازن، وأقنية تهوية، بناة مهرة.

الجانب الأمني و الصحي في مساكن النمل الأبيض :

يقوم النمل الأبيض ببناء مسكنة وإصلاحه من جهة، ويتهيأ لصد أي عدوان محتمل من جهة أخرى، هذه سنة الله في خلقه، يقوم بزراعة الفطر داخله من جهة ثانية، وحياة السكان المزدحمين إلى هذا الحد متوقف على شرط مهم جداً هو تأمين التوازن بين الرطوبة والحرارة داخل المسكن، ولدى النمل الأبيض حلّ رائع لهذه المشكلة، فهناك في سقف المسكن هذه نوافذ موازية لبعضها، هذه النوافذ المصنوعة من الطين تمتص الرطوبة الخارجة من النمل، وتتبخر هذه الرطوبة بحرارة جو المكان، وتعلو عبر أقنية التهوية، مما يؤدي إلى تخفيض حرارة المسكن من جهة، وتأمين جريان الهواء الدائم من جهة أخرى، فهذه النوافذ تقوم بمهمة التكييف الطبيعي بشكل تام.

بناء النمل الأبيض مساكنها حسب الظروف :

للنمل أمثلة محيرة في علم الإنشاءات، نوع آخر من النمل يعيش في سهول استراليا الشمالية، تبنى مساكنها هناك بعرض واسع جداً، إلا أن جوانبها رفيعة كالخنجر، سرّ هذه المساكن في زاويتها التي تواجه الشمس، تبني هذه النمل مساكنها بزاوية إلى حدّ أنها عندما تكون الشمس مستوية وقت الظهيرة تدخل بقسم صغير من سطح هذا المسكن فقط، وهكذا تخفف الحرارة إلى أقل ما يمكن، هذا النوع من النمل جميعه يستخدم الزاوية نفسها دون أي تحيز، أما الجانب المثير في الأمر فهو أن هذه النملة القائمة بجميع هذه الإنشاءات عمياء، هذه الكائنات الصغيرة التي لا ترى أمامها قدر سنتمتر واحد، كيف تنشئ هذا البرج الضخم مستندة إلى الحسابات الهندسية الدقيقة؟ هذه الخطة الكبيرة لم يستوعبها الإنسان، بل كل نملة هُديت دون أي قيد أو شرط إلى إلهام الله تعالى.

خاتمة و توديع :

الأستاذ عدنان:

هذه أيضاً من الإعجازات التي يمكن إذا ما تطلع إليها الإنسان بعين قلبه، وعقله، وفكره، فإنه يصل إلى أشياء كثيرة تتفتح أمامه، من خلال أن يعود إلى الله، وأن يكون في جادة الإحسان، وأن يبر نفسه أولاً في عودته إلى المنهج القويم، في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة و أصول الدين، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والحمد لله رب العالمين

http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2479&id=189&sid=799&ssid=809&sssid=841