الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد راتب النابلسي


ندوات تلفزيونية - قناة انفينيتي - مكارم الأخلاق - الدرس ( 06-30 ) : الشهوة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-03-07

بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ عدنان :

ترحيب وتقديم :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أيها الإخوة والأخوات ، السلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم .

الدكتور راتب :

أهلا بكم أستاذ عدنان ، جزاك الله خيراً .

الأستاذ عدنان :

دكتور ، كلمة الشهوة تستعمل استعمالات متعددة ، والشهوة في الحقيقة كلمة يمكن أن تكون متعددة الاتجاهات ، هناك شهوة حب المال ، شهوة الظهور ، شهوة حب العلم ، يمكن أن تكون في هذا الإطار في بعض الأحيان ، الشهوة بشكل عام لها مظاهر متعددة ، إنما تكون بقوة دافعة فعلاً ، لكن هذه القوة إن وجهت وجهة الخير كانت الشهوة في طريق الخير ، وإن وجهت وجهة السوء والشر كانت الشهوة من خلال أنها قوة دافعة تقود الإنسان إلى السوء والشر أيضاً ، إذا أردنا أن نتحدث عن الشهوة بشكلها السليم الممنهج ، المرسوم بدقة ، وهذا يدخل في نطاق مكارم الأخلاق ، لكي نبتعد عن الشهوة المذمومة ، التي تقود إلى مذام الخصال ، وإلى مذام الأعمال ، كيف تتحدون عن الشهوة ، وقوة دفعها للإنسان ، ثم أن تكون مبرمجة بالشكل السليم ؟

الدكتور راتب :

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

الشهوة :

1 – الشهوة حقيقة وحيادية :

أستاذ عدنان ، يتوهم معظم الناس أن لولا الشهوات لما هلك الإنسان ، والحقيقة عكس ذلك ، لولا أن الله أودع في الإنسان هذه الشهوات لما ارتقى بها إلى رب الأرض والسماوات ، قال تعالى :

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 14 )

هذه الشهوات ركزت في أصل فطرتنا ، ولكن لأن الإنسان مخير ، الشهوات كلها حيادية ، بمعنى أنها يمكن أن تكون سلماً نرقى بها إلى أعلى عليين ، ويمكن أن تكون دركات نهوي بها إلى أسفل سافلين .

تصور إنسانًا لا يشتهي شيئاً ، لا تجد على سطح الأرض شيئًا إطلاقاً ، لا مدارس ، ولا جامعات ، ومعامل ، ولا جسورا ، ولأنه يشتهي أن يأكل فلا بد من أن يتحرك ، لأنه يشتهي المرأة فلا بد من أن يتزوج ، لأنه يشتهي التفوق فلابد من إنجاز كبير ، تصور حياة بلا شهوات ، ليس هناك شيء إطلاقاً ، فلولا الشهوات التي أودعها الله في الإنسان لما ارتقى الإنسان بها إلى رب الأرض والسماوات .

2 – الشهوة قوة دافعة وللإنسان اختيار مكان الدفع :

لكن النقطة الدقيقة جداً : أن هذه الشهوات لها معانٍ متناقضة ، فبينما تكون الشهوة قوة دافعة ، إذا بها قوة مدمرة ، في الوقت نفسه .

أوضح مثلٍ : السائل الذي يوضع في السيارة هو البنزين ، إذا وضع في المستودعات المحكمة ، وسال في الأنابيب المحكمة ، وانفجر في الوقت المناسب ، وفي المكان المناسب ولَّد حركة نافعة ، أقلَّتك هذه السيارة أنت وأهلك إلى مكان جميل ، ما الذي يحصل في المركبة ؟ انفجارات ، لكنها مبرمجة ومنظمة ، والبنزين في مكان محكم ، والأنابيب محكمة ، والانفجار في الوقت المناسب ، والمكان المناسب .

صفيحة البنزين لو ألقيت على المركبة ، وأصاب المركبةَ شرارةٌ لأحرقت المركبة ومَن فيها ، فبينما هذا الوقود السائل قوة محركة ثمين جداً ، هو في الوقت نفسه قوة مدمرة ماحقة .

هكذا الشهوات ، إما أنها قوى تدفعنا إلى الله أو قوة تبعدنا عنه .

ما الذي يدفعك إلى الله ؟ أن تحب المال ، ثم تنفقه في سبيل الله ، أن تحب المرأة ، ثم تتعفف عن امرأة لا تحل لك ، أن تحب العمل المشروع ، ثم تركل بقدمك كل عمل غير مشروع .

3 – ليس في الإسلام حرمان :

الحقيقة أن الشهوة نرقى بها مرتين ، مرة شاكرين ، ومرة صابرين ، نرقى بها مرتين ببعدنا عن شهوة لا تحل لنا ، ومرة لأخذنا شهوة تحل لنا .

مرة ثانية ليس في الإسلام حرمان ، لأن الحقيقة الدقيقة جداً : أنه ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها .

هناك من يتوهم من البعيدين عن الدين أن الإسلام في حرمانًا ، كل شيء حرام في الإسلام ، لا ، حينما تمشي بأرض فلاة ، ثم رأيت لوحة كتب عليها : حقل ألغام ، ممنوع التجاوز ، هل تشعر بحقد على مَن وضع هذه اللوحة ؟ أبداً ، تشعر بامتنان ، هل ترى هذه اللوحة قيداً لحريتك ؟ أم صماناً لسلامتك ؟

4 – السيرُ بالشهوة ضمن المسموح تقرّبٌ إلى الله :

لذلك الشهوات أودعها الله في الإنسان ، ولكن لحكمة بالغةٍ بالغة ، ولأن الإنسان كلف حمل الأمانة ، ولأن الإنسان كلفه ربه أن يعبده ، سمح له أن يتحرك بكل شهوة أودعها فيه 180 درجة ، وأعطاه حيزاً مقبولاً عنده ، ومشروعاً له ، فرضاً 100 درجة ، فما دامت حركة الإنسان من خلال هذه الشهوة ضمن المساحة المسموح بها فهو في مأمن ، وهو في رضوان الله ، بل لا يشعر أنه فعل شيئاً محرّما ، بالعكس يتقرب إلى الله إذا مارس شهوة سمح الله له بها .

(( وفي بُضْعِ أحدِكم صدقة ))

[ أخرجه مسلم عن أبي ذر الغفاري ]

لأن الإنسان حينما يفعل هذا يكون قد نفذ منهج الله ، أما حينما يتحرك بدافع من شهواته بعيداً عن الحيز الذي سمح الله به تكون المعصية .

5 – السيرُ بالشهوة خلاف منهج الله عدوانٌ :

بل إن أية حركة بدافع شهوة خارج النطاق المسوح به هو في الحقيقة عدوان .

حينما تكسب المال الحلال وفق منهج الله ، وفق بيع وشراء صحيحين ، وفق سعر معتدل ، وفق بضاعة جيدة ، لا فيها كذب ، ولا غش ، ولا احتكار ، ولا تدليس ، ولا أي معصية من معاصي البيع والشراء ، وتكسب المال الحلال ، فأنت في بحبوحة ، وأنت في رضا الله عز وجل ، أما إذا اعتمدت على الغش ، غششت المسلمين ، أو غششت الناس جميعاً لقول النبي الكريم :

(( ليس منا من غَشَّ ))

[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة ]

مطلقاً ، فإذا غششت الإنسان كائناً من كان ، أوهمته بشيء عن البضاعة ليس فيها ، أوهمته أنها مستوردة من بلد غربي ، هي مستوردة من بلد آخر ، ليس مستواها كهذا المستوى الذي ذكرته ، أنت بهذا أخذت مالاً لا يحق لك أن تأخذه ، هو دفع ثمن بضاعة بتصنيع من أرقى دولة ، وهي مصنوعة بدولة متخلفة جداً ، لكنه لا يعلم ، فقد غششته .

لذلك الغش عدوان ، لذلك التطلع إلى امرأة لا تحل لك عدوان ، لذلك أن تقول كلام غير صحيح توهم الناس بشيء عدوان ، فيجب أن نعلم علم اليقين أننا إذا تحركنا بدافع من شهواتنا وفق منهج الله لا عدوان إطلاقاً ، بل مصالح متبادلة .

لذلك لو سألتني عن ضابط دقيق جداً للحلال والحرام أقول لك : اضغط الحلال كله بكلمتين ، منافع متبادلة : والحرام كله يضغط بكلمتين : منفعة بنيت على مضرة ، السرقة حرام ، لأنها منفعة بنيت على مضرة ، لكن المضاربة حلال ، إنسان يملك المال ، وليس عنده خبرة لاستثمره ، وإنسان يملك الخبرة ، وليس عنده مال ، فتعاون هؤلاء على مشروع ، قدم الأول ماله ، وقدم الثاني خبرته ، واقتسما الربح بينمها ، هذه منفعة متبادلة .

لذلك بشكل عام المنفعة المتبادلة عملٌ يرضي الله عز وجل ، والمنفعة التي يبنى عليها مضرة عملٌ يغضب الله عز وجل .

لو أن إنسانًا خطب فتاة ، وجعلها زوجة له وأنشأ أسرة ، وأنجب أولاداً صالحين ، الأسرة كلها مباركة ، ولو أنه أفسد فتاةً ، ونقلها من فتاة شريفة إلى فتاة بغي ، فكل ما سيأتي بعد هذا الإفساد في صحيفة هذا المفسد .

مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن تتحرك أيها الإنسان بدافع من شهواتك خارج منهج الله ولا تكون معتدياً ، والعدوان يعقبه العقاب من الله عز وجل ، فإذا أردت أن تكون في مأمن ، في بحبوحة ، في أمن ، في طمأنينة ، في راحة ، في سعادة فكن وفق منهج الله .

مرة ثانية :

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

( سورة القصص الآية : 50 )

فاتباع الهوى وفق هدى الله لا شيء عليه .

الأستاذ عدنان :

دكتور ، أحياناً ألا ترى أن الفطرة السليمة تلتقي بشكل ما مع الشهوة الموظفة توظيفاً سليماً أيضاً ؟

الدكتور راتب :

الشهوة الموظفة وفق الشرع هي من تمام الفطرة :

طبعاً ، أوضح مثل على ذلك : الإنسان أحياناً يخطب امرأة تروق له ، وهي صالحة مستقيمة ، لكن هذا اللقاء أثمر أولادا ، أثمر ابنا يترعرع في حضن أمه وأبيه ، وكلاهما يحبه ، وصبّت عليه كل العناية ، فنشأ مواطنا صالحا ، فالمرأة حصنت زوجها ، وهو حصن زوجته ، وكانت ثمرة هذا اللقاء الطيب أطفالا صالحين ، فكل الخير ، وكل البركة من هذا الزواج الطيب الميمون ، بينما أية علاقة مع امرأة لا تحل للإنسان فهناك الفضيحة ، وهناك الجريمة ، وهناك السقوط ، وهناك الخزي والعار .

مرة قرأت في مجلة أن راقصة فرنسية سُئلت : ما شعورك وأنت على خشبة المسرح ؟ أنا ذُهلت لإجابتها ، قالت : هذا شعور الخذي والعار ، وهو شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الناس .

إن الحب يجب أن يبقى بين الزوجين ، وفي غرف مغلقة ، هذا أصل التصميم ، ودائماً أستاذ عدنان ، هناك أصل لتصميم الإنسان ، ما دام هناك ذكر وأنثى ، هناك زوج وزوجة ، فكل أنواع العلاقات المحرمة مرفوضة في منهج الله .

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾

( سورة المؤمنين )

حينما يبتغي الإنسان قضاء شهوة خارج منهج الله ، وخارج المنطقة المسموح بها فهو معتدٍ يقيناً ، ليست القضية قضيت أن الإنسان سلك هذا الطريق ، أو ذاك الطريق ، لا ، الطريق الوحيد الآمن والسالك هو هذا ، فهذا الطريق الآخر طريق العدوان ، وطريق الظلم .

إن الإنسان يكون في بحبوحة وفي خير ما دام وفق منهج الله ، من هنا وهذا درس لكل المسلمين قال الله تعالى :

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

( سورة الأنفال الآية : 33 )

أي ما دامت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مطبقة في حياتهم ، يأخذون ما أحل الله لهم ، يدعون ما لا يحل لهم فهم في مأمن من عذاب الله ، في بحبوحة ، في ضمانة من الله ، أما إذا خرجوا عن منهج الله كان من لوازم هذا الخروج العدوان ، وحينما تكسب المال المشروع ، هذا المال يقابل جهدك ، أما حينما يكسب الإنسان المال بالكذب ، أو الغش ، أو السرقة ، أو الاحتيال ، أو الربا فهو يعتدي على أموال الآخرين .

حينما نكسب المال بالطرق المشروعة ينمو المجتمع جميعاً ، وأصل التصميم أن هذه الكتلة النقدية يجب أن تكون متداولةً بين كل البشر ، فإذا سلكنا طرائق غير مشروعة في كسب المال تجمعت الأموال بأيدٍ قليلة ، وحرمت منها الكثرة الكثيرة ، وعندئذٍ تنشأ الجرائم ، وتنشأ الانحرافات الأخلاقية ، والاحتيالات ، والسرقة .

دائماً في كل مأساة تعاني منها الإنسانية ابحث عن المعصية ، لأنه ما من مشكلة في العالم كله إلا بسبب خروج عن منهج الله ، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل .

لذلك الشهوات تنضبط بمنهج الله ، بل لها ثمار رائعة ، ولا أبالغ أن الإنسان حينما يمارس شهوة ما وفق المنهج الإلهي فهو في قمة السعادة ، لأنه يشعر أن الله راض عنه ، وأنه ما فعل شيئاً .

أحياناً قد يصلي قيام الليل عقب لقاء زوجي ، ويبكي في الصلاة ، بينما الذي يتكلم كلمة لا تليق مع امرأة لا تحل له يشعر أنه خان زوجته .

فلذلك موضوع الدين موضوع أساسي في حياة الناس ، نحن حينما أغفلنا قيمة الدين كان الشقاء ، والحقيقة أن الإنسان مؤلف من نفس ، لما ظنناه جسماً فقط ، واعتنينا بهذا الجسم ، بطعامه ، بشرابه ، ببيته ، بمركبته ، على حساب الآخرين شقي هذا الإنسان ، فالسعادة سر .

بين اللذة والسعادة :

بالمناسبة : أنا أميز بين اللذائذ والسعادة ، اللذائذ حسية ، مصدرها من خارج الإنسان ، اللذة تحتاج إلى طعام طيب ، إلى بيت جميل ، إلى امرأة بارعة الجمال ، إلى مركبة فارهة ، كلها تأتينا من الخارج ، والمشكلة أن الإنسان من أجل أن يستمتع بالدنيا يحتاج إلى شروط ثلاثة : يحتاج إلى وقت ، ويحتاج إلى مال ، ويحتاج إلى فراغ ، ويحتاج إلى صحة ، في بدايات الحياة الصحة جيدة ، والوقت موفور ، لكن المال مفقود ، وفي وسط الحياة هناك صحة ، و مال ، لكن الوقت معدوم ، وفي خريف العمر سلّم أولاده المعمل ، وصار عنده مال ، و وقت ، لكنه فَقَد الصحة .

دائماً اللذائذ حتى تتحقق بشروط ثلاثة ، ودائماً ينقص الإنسانَ إحداها ، بينما السعادة فشيء آخر ، اللذائذ تأتي من خارج الإنسان ، ولها ثمن باهظ ، وتحتاج إلى وقت وإلى صحة ، بينما السعادة تنبع من داخل الإنسان ، تنبع السعادة من طاعته لله ، وهذا شيء متوافر في كل البشر ، وكلٌّ يملك السعادة ، لكن ما كل إنسان يملك المال الوفير ، وما كل إنسان يملك البيت الفاخر ، والمركبة الفارهة ، هذه تختص ببعض الناس .

السعادة في طاعة الله :

لكن الإنسان يملك السعادة ، وإذا بحث عن سعادته وجدها في طاعة ربه .

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

( سورة الأحزاب )

بعض العلماء قال : " في الدنيا جنة ، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، إنها جنة القرب " ، ويقول هذا العالم الجليل : " ماذا يفعل أعدائي بي ؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة " .

فلذلك الله عز وجل حينما يقول :

﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾

( سورة محمد )

في الماضي ، يعني ذاقوا طعمها .

فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لمـــــــا وليت عنا لغيرنا

ولــــو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنـك ثياب العجب وجئتنا

ولـــــو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الـذي أضحى قتيلاً بحبنا

ولـــــو نسمت من قربنا لك نسمة لمــــت غريباً واشتياقاً بقربنا

ولــــــو لاح منا لك لائـــح تركت جميع الـــكائنات لأجلنا

فـــــما حبنا سهل وكل من ادعى سهولته قـــــلنا له قد جهلتنا

في حياة المؤمن من السعادة ما لا يوصف .

والله أستاذ عدنان ، أنا أصف لك السعادة بالشكل التالي : بيت فيه كل الأجهزة الكهربائية ، من دون استثناء ، المكيف ، والميكروويف ، والثلاجة ، كل الأجهزة الغالية ، لكن ما فيه كهرباء ، كلها قطع لا معنى لها ، فإذا سرت الكهرباء كل هذه القطع تألقت ، وقدمت وظيفتها .

فلذلك الإيمان بالله ، والاتصال به يجعل كل شيء في الدنيا مسعداً ، الزوجة مسعدة ، والأولاد مسعدون ، والمال مسعد ، أما إذا انقطع الإنسان عن ربه شقي وأشقى .

الأستاذ عدنان :

دكتور ، هنا موضوع كما تحدثت موضوع الزوجة المسعدة ، وما إلى ذلك ، في القرآن الكريم :

﴿ يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾

( سورة البقرة الآية : 35 )

السكن فيما يتصل بآدم عليه السلام وزوجه حواء .

ثانياً :

﴿ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ﴾

مع أن الخطاب لآدم ، وهو واحد ، لكن هذا الواحد عندما يدخل مدرسة الزوجية يصبح بمقام اثنين :

﴿ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ﴾

الزوج هي الزوجة أيضاً في مقام الاثنين ، هنا عندما تكون الشهوة في مجالها المضمون ، في القناة النظيفة يحدث السكن ، ويكون هذا التبدل من المحبة والوفاء .

الدكتور راتب :

شقاء الزوج شقاء للزوجة ، والعكس :

ويقابل ذلك أن الاثنين واحد .

﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾

( سورة طه )

قال علماء التفسير : شقاء الزوج شقاء حكمي لزوجته ، والقرآن بليغ وموجز .

الأستاذ عدنان :

حبذا لو تابعنا شيئاً دكتور في ما يتصل بهذه الإعجازات التي تتصل في الواقع وفي الأخلاق ، وفي نشأت الخلق ، وفي الآفاق ، وفي الأنفس .

الدكتور راتب :

الموضوع العلمي :

إعجاز القرآن دليلٌ على أنه كلام الله :

إن الذي يؤكد أن هذا القرآن كلام الله هو إعجازُه ، فهناك سبقٌ علمي ٌ ، وإشارات قرآنية قبل 1400 عام ، الآن مع التقدم العلمي المذهل كشف عنها ، ما الذي يستفيده من ذلك ؟ أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن ، وأحد أكبر الأدلة على أن هذا القرآن كلام الله هو إعجازه .

يعني جميع المعلومات التي شرحت حتى الآن في موضوع الجنين ، وتطوره في رحم الأم كُشفت خلال البحوث العلمية منذ ثلاثين أو أربعين عامًا الأخيرة ، وهذه المعلومات الجديدة أمَّنت لنا فهم معجزات القرآن الكريم من جديد .

1ـ تشكل عظام الجنين قبل تشكل اللحم :

فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً

من حقبة قريبة جداً كان التقرير العلمي أن العظام والعضلات تتشكلان معاً ، وهذا موجود في أعلى كتب الطب ، أن العظام والعضلات تتشكلان معاً ، إلا أن البحوث الجارية الأخيرة ، والتي كشفت عن حقيقية لم ينتبه إليها الناس في الماضي ، الجنين في أثناء تشكله تشكل العظام أولاً ، ثم تكسى العظام بالعضلات ، هكذا اكتشف العلم الآن .

الغريب أن هذه الحقيقة التي اكتشفها العلم من جديد أشار القرآن إليها قبل 1400 عام ، قال تعالى :

﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾

( سورة المؤمنون )

هذه الحقيقة التي اكتشفت حديثاً ، والذي اكتشفها لا يعرف عن القرآن شيئا ، فتطابقت مع الآية الكريمة :

﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آَخَرَ ﴾

2 ـ المراحل الثلاث للجنين :

وفي جانب آخر أوضحت البحوث الجارية في موضوع الولادة أن الطفل يجتاز ثلاث مراحل كاملة في بطن الأم ، وقد شُرحت هذه الحقيقة في واحد من المراجع الأساسية في علم الأجنة ، الحياة في بطن الأم تتكون في ثلاث مراحل :

الأولى : منذ التلقيح ، وحتى أول أسبوعين ونصف الأسبوع .

المرحلة الثانية : إلى آخر الأسبوع الثامن .

والمرحلة الثالثة : منذ الأسبوع الثامن ، وحتى ميلاده ، أشار القرآن الكريم قبل 1400 عام إلى ما توصلت إلى نتائج هذه البحوث في قوله تعالى :

﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾

( سورة الزمر الآية : 6 )

3 ـ جمجمة الجنين :

وفي ختام هذه الموضوعات المتعلقة بالجنين طوال مرور الأشهر الطفل الذي في بطن الأم يأخذ شكلاً وينمو ، ويصل إلى حالة يصير فيها مستعداً للاجتياز إلى العالم الخارجي ، وقد جاء دور المرحلة الأخيرة ، أي الولادة ، وبقي خطر كبير ينتظر الطفل ، لأنه سيحصر رأس الطفل في أثناء الولادة في هذه المناطق الضيقة ، وسيشكل له ضغطاً على جمجمته ولكن هناك تدابير خاصة جداً أعدت لحماية حياة الطفل ، وصحته ، إنها عظام الجمجمة ، عظام جمجمة المولود طرية بعكس جمجمة الإنسان البالغ ، لم تلتحم مع بعضها ، وبفعل هذا تتمطط العظام مقدار معين في أثناء الولادة ، وهذا التمطط يشكل فراغات بين العظام تمنع تخريب الجمجمة ، بفضل هذا يولد الطفل ولادة صحيحة دون تضرر الجمجمة والدماغ ، وفي الأشهر القادمة بعد الولادة تقسو هذه الجمجمة ، وتصبح متماسكة ، ومتصلة ، وتكوِّن رأس الطفل .

هذه الأحداث الموضحة التي مرت بنا وشاهدناها مرت على جميع الناس الذين عاشوا على وجه الأرض ، ويوضح أن جميع الناس حينما كانوا من نطفة بسيطة ، ألقيت في رحم الأم ، وبفضل هذه الشروط الخاصة اتحدت مع البويضة ، ثم بدأت الحياة بخلية واحدة فقط ، حيث ليس لها أي علم حتى بوجودها ، والله تعالى سوَّى خلقها ، وخلق من كل واحدة إنساناً في أحسن تقويم من خلية واحدة ، والتفكير في هذه الحقيقة واجب كل إنسان على وجه الأرض ، ومهمتنا جميعاً التفكر كيف وُجدنا ، من أجل أن نعرف ربنا ، وأن نشكره ، وأن نتبع منهجه ، ولئلا نعيش جواً من الكبر ، والبعد عن الله عز وجل ، والله عز وجل يقول :

﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾

( سورة يس )

الإنسان خلق من ماء مهين يستحيا به ، خلق من ماء مهين ، خرج من عورة ، ودخل إلى عورة :

﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾

﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾

( سورة يس )

لذلك قال تعالى :

﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

( سورة الذاريات )

وخلق الإنسان في بطن أمه أكبر آية دالة على عظمة الله .

الأستاذ عدنان :

كل ما في العلم ، وكل ما في الأخلاق يتصل بالإنسان إن سلك سبيلاً جيداً وسليماً يرتقي به إلى الله تعالى :

الدكتور راتب :

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى

هنا نقطة دقيقة :

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾

( سورة القيامة )

أن يبني مجده على أنقاض الناس ، أن يبني حياته على موتهم ، أن يبني أمنه على خوفهم ، أن يبني مجده على دمارهم ، أن يبني عزه على ذلهم :

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾

ما الذليل ؟

﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ﴾

( سورة القيامة )

فالذي خلقه سيحاسبه .

الأستاذ عدنان :

خاتمة وتوديع :

في ختام هذا اللقاء كل الشكر إلى فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً إلى الإخوة المشاهدين .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

والحمد لله رب العالمين

http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2465&id=189&sid=799&ssid=809&sssid=841