الحقوق محفوظة لأصحابها

طارق السويدان
ما هي جناية كتب الأدب على الحقائق التاريخية ؟

وكيف شوهت المبالغات والقصص الموضوعة تاريخنا ؟

وكيف تعرضت شخصياتنا العظيمة ورموزنا التاريخية إلى التشويه من خلال ليالي السمر في كتب الأدب ؟

ولماذا تحول السياسي المحنك كافورعلى مجرد عبد بسبب بيت شعر للمتنبي؟

ولماذا نحتفي دوما بكتاب الأغاني رغم فحشه الأخلاقي و حجم التزوير والتشويه الذي قام به الأصفهاني لرموز التاريخ الإسلامي العظيمة ؟



المقدمة

ذكرنا في الحلقة السابقة أن الفرق كبير بين المؤرخ والأديب ولعل البعض لا يدرك هذه الفروق إلا من خلال طرح أمثلة صريحة على مدى جناية الدب على التاريخ.

لنؤصل لقاعدة هامة في اهمية الرجوع لمصادر العلم الصحيحة في كل مجال وليس فقط في مجال الأدب.

واليوم سنتناول الصورة الذهنية السلبية السيئة التي تركتها كتب الأدب على رموز هامة في التاريخ الإسلامي



إشكالية أخذ التاريخ من الأدب



1. المبالغات :

المبالغات سببها ميل الأديب إلى العاطفة والمبالغة بغض النظر عن الحقيقة.

ـ فكلما ذكر كتاب ألف ليلة وليلة ذكر هارون الرشيد والجواري والقيان والأغاني وليالي الأنس و الطرب!! وينسب له أنه يتعاطى الخمر، ويسكر مع الندماء، وأبرزوه ـ على صفحات التاريخ ـ في صورة العِرْبيد الذي لا يفيق، وأفاضوا في الحديث عن وصف مجالس اللهو والمجون التي كانت تُعقد في قصره إلى طلوع الشمس حتى التصقت قصة ألف ليلة وليلة بحياة الرشيد..

وينسب التحريف في سيرة الرشيد إلى جماعة من الباطنية الذين كانوا حريصين على تلويث تاريخ الشخصيات العظيمة من العباسيين حتى يتقربوا إلى معارضيهم ، كما أن هناك طائفة أخرى من الشعوبيين ، الذين أصابتهم نكبة البرامكة بالحرمان من النفوذ والعطاء، فأخذوا يتقولون على الرشيد ما لم يقله، وينسبون إليه ما لم يفعله من الأمور التي تزري به، وتطمس محاسنه من صفحات التاريخ.

ـ بينما نقل ابن خلكان أن الرشيد قد حجّ تسع مرّات وكان كثير الصلاة , كذلك كان يصور بصورة الخليفة الحذر الذي يبث عيونه وجواسيسه بين الناس ليعرف أمورهم وأحوالهم , بل كان أحيانا يطوف بنفسه متنكرا في الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها، ويعتبر عصره العصر الإسلامي الذهبي

أما بالنسبة لشربه الخمر فيقول ابن خلدون: "إن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته، ولقد ثبت أنّه أمر بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتّى تاب وأقلع. وإنما كان يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق وفتاويهم فيها معروفة، أما الخمرة الصرف من العنب فلا سبيل إلى اتهامه بها.. فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرماً من أكبر الكبائر عند أهل الملة".



2. تشويه الرموز : كافور الاخشيدي

فالناس لا تعرف عن كافور الاخشيدي غير هجاء المتنبي له في أبيات الشعر الشهيرة .

وقصة هذه الأبيات أن المتنبي لما ترك سيف الدولة الحمداني في حلب رحل الى مصر وكان حاكمها كافور الأخشيدي وكان المتنبي يطمع بمنصب فعاش في بلاط كافور أربع سنوات وكال له المديح

ويقال عن سبب رفض كافور تولية المتنبي أن كافور كان رجلا متدينا , وقد طلب منه المتنبي أن يوليه إحدى ولايات الشام فرفض , فحذره أصحابه من من مغبة هجاء المتنبي له ، فقال : ادعى النبوه وهو لا يملك شي , فكيف إذا أصبح أميرا !؟؟

لكن من يقرا سيرة كافور يفاجأ بطموح هذا العبد المملوك وحجم انجازاته في مصر حيث كان من رقيق الحبشة وأصبح أحد حكام الدولة الأخشيدية في مصر وسوريا، وحكم مصر 23 عاما واستطاع مواجهة الدولة العبيدية في المغرب والعباسية في المشرق ووازن بينهما.

ـ لم يكن كافور علي سواده وسيماً بل كان دميماً قبيح الشكل مثقوب الشفة السفلي مشوه القدمين بطيئاً ثقيل القدم لكنه صبر وتدرج إلى أن عينه الإخشيد كمشرف على التعاليم الأميرية لأبنائه، ورشحه كضابط في الجيش. ، و عندما انتبه سيده لذكائه و موهبته و إخلاصه جعله حرا و أطلق سراحه. ثم أرسل كافور كقائد عسكري في عام 945 لسوريا، كما أرسل ليقود حملات أخرى في الحجاز، كما أن له خلفية بالترتيبات والشؤون الدبلوماسية بين الخليفة في بغداد والأمراء الإخشيديين.

وقصة تملك كافور للحكم تكرار لتملك سيدنا يوسف لحكم مصر بعد أن كان مملوكا وهو الكريم ابن الكريم.

كافور مثال على أن التاريخ الإسلامي والدول الإسلامية بصورة عامة لا توجد بها عنصرية ويمكن لأي فرد عادي بغض النظر عن أصله أن يرتقي بالسلطة وأن ينخرط في جميع المجالات.

فقد كان قريبًا من قلوب المصريين لكونه سخيًا كريمًا، وينظر بنفسه في قضاء حوائج الناس والفصل في مظالمهم.



3. عدم المصداقية:

ودعونا نرى ما كتب مثلا الأصفهاني في كتابه الأغاني الذي يعتبره النقاد سفر عظيم في مجال الأدب لكنه في مجال التاريخ سبة غير مسبوقة

كتاب الأغاني سخر من كل شيء من العقيدة والدين والصحابة وآل البيت والخلفاء والمسلمين ، وسنحاول التدليل على ذلك متجنبين المجون والتهتك في المواقف والألفاظ التي وردت فيه:

ـ سخريته من الصلاة: وقد نسج قصة من خياله المريض أن يحيى بن زياد ومطيع بن إياس اجتمعوا يوما فشربوا وسكروا ثم قاموا فتذكروا أنهم ما صلوا منذ أيام يقول : " فقام مطيع, فأذن وأقام, ثم قالوا: من يتقدم ؟ ، فتدافعوا لذلك, فقال مطيع للمغنية: تقدمي فصلي بنا. فتقدمت تصلي بهم .. (وبقية الكلام يعف اللسان عن ذكره) تخيلوا سكارى تصلي بهم مغنية!!

ـ يقول في موضع آخر: أنّ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان يشرب الخمر ويحرك رأسه و ( المغنية ) بين يديه.

ـ ويلفق خبرا يعلي به شأن الفرس فادعى أن أهل فارس هم الذين بنو الكعبة : ) وكان سعيد بن مسجح مولدا، فرأى الفرس وهم يعملون الكعبة لابن الزبير, ويغنون الفارسية(.ولم تشر مصادر التاريخ أن الفرس هم الذين بنوا الكعبة في يوم من الأيام !!.

ـ ويبالغ في الإساءة لآل البيت ويذكر أن يزيد يشرب الخمر بمجلس الحسين فلا ينكر عليه:قال: ولما رجع في خلافة أبيه جلس بالمدينة على شراب فاستأذن عليه عبد الله بن العباس والحسين بن على فأمر بشراب..... فقال: أسق أبا عبد الله يا غلام. فقال الحسين:عليك شرابك. أيها المرء, لا يمين عليك مني )).

ـ أما زوجة الحسين بن علي فيقول عنها: ( أسنّت فلما مات عنها زوجها كشفت قناعها ,وبرزت للرجال, ولما جاءها معبد(المغني) في حاجة غنى لها، فطربت العجوز لذلك، وقالت: أنا والله يومئذ أحسن من النار الموقدة في الليلة القرّ الباردة).

ـ وقال أبو الفرج عن الحسن بن الحسن بن علي أنه طلب من ابن عائشة أن يغني له: "قال لئن لم تغن مائة صوت, لأمرنهم- إشارة إلى من حوله- بطرحك في البئر, وهما حران لئن لم يفعلا لأقطعن أيديهما،إنها الرعونة وفساد الأخلاق, يصور الحسن بن الحسن رجلا سفاحا وشريرا, وهمه اللهو والطرب!

ـ ويروي أيضا أن سكينة بنت الحسين أرجعت أبن سريح المغني إلى الغناء بعد توبته منه, فيورد قصة طويلة بين سكينة وأشعب يقول في آخرها أنها تقول:" برئت من جدي, إن برحت داري ثلاثا, وبرئت من جدي إن أنت لم تغن." فهل يفرح مسلم برجوع إنسان إلى المعاصي فضلا عن شخص من آل البيت ؟ وهل سكينة لهذه التفاهة لتتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أهكذا تكون أخلاق أحفاد الرسول ؟.

ـ والذي جعله يتجرأ على آل البيت لا يجعله يتورع عن الطعن في كبار التابعين فيذكر أن ابن جريج وعطاء بن رباح- وهما من سادات التابعين- قام ابن سريح المغني ليغني لهما.." ..فغشي على ابن جريج, وقام عطاء يرقص".

ـ فمن يقرأ الأغاني يخرج بنتيجة واحدة وهي أن المسلمين ورموزهم سادة التاريخ في المجون والتهتك والإلحاد والزندقة والكفر.

فالحذر الحذر من مثل هذه الكتب المليئة بالافتراء والكذب والفحش والأدب المكشوف الرقيع.



ميزان الحلقة

القراءة في كتب الأدب من أجل المتعة والقراءة في كتب التاريخ من أجل الفائدة

http://www.suwaidan.com/node/6619