الحقوق محفوظة لأصحابها

مشاري الخراز
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه أما بعد

اسمح لي اليوم أن أفترض معك افتراضا .. أعلم إنه لن يحدث ولكني أريد أن أعرف ما هو شعورك فيه فقط . ما هو شعورك لو عُرج بك إلى السماء تمر على السماوات واحدة تلو الأخرى حتى تصل إلى السماء السابعة ثم قالت لك الملائكة إن الله سيكلمك الآن وفعلا كلمك الله فأصبحت أنت تحمد الله على هذه النعمة وهو يرد عليك وتثني عليه وهو يثني عليك وتشكره وتمجده وأنت تكلمه وهو يرد عليك وفي لحظة من اللحظات ومن شدة فرحتك بهذا المقام قلت لله تعالى : يا ربي أنا أحبك ، كيف سيكون شعورك؟ هل من المعقول أن تكون سرحانا في تلك اللحظة ؟! هل يمكن أن تفكر في أي شيء أخر ؟!! هل يمكن أن تكون إلا في قمة حلاوة الشعور باللذة ؟ أتدري ما هو الغريب؟ الغريب أن هذا الموقف يحدث لنا في كل يوم ولكن على الأرض وليس في السماء . ألست تقف بين يدي الله في الصلاة فتكلمه ويكلمك.

تقول " الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ ﴿٢﴾ " فيرد الله عليك ويقول: حمدني عبدي .. كما ورد في الحديث. ثم تقول "الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ ﴿٣﴾" يعني كأنك تقول إنك أنت يا ربي الرحمن أنت الرحيم فيقول لك الله : أثنى علي عبدي كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم إنك في الفاتحة تقول بعد ذلك " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " فما معنى العبادة؟ العبادة هي أعلى مرحلة من مراحل المحبة .. المحبة درجات كثيرة أول مراحلها العلاقة ثم الحب والعشق والصبابة والخُلة والتتيم . أعلى شيء أعلى شيء هي مرحلة العبادة وهذه لا تنبغي إلا لله .. كمال الحب مع كمال التعظيم هذه العبادة . فإذا قلت لله في الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ " يعني أنك تقول لله أنا أحبك ولا أحب أحدا غيرك وهو يسمعك ويرد عليك .

بالله عليك كم مرة في الصلاة أخبرنا الله تعالى بحبنا له ونحن في سرحان وغفلة ما استشعرنا هذا الحوار العظيم بيننا وبين الله تعالى في سورة الفاتحة التي هي أعظم سورة في المصحف كله. أكثر سورة يحبها الله تعالى هي سورة الفاتحة .

وأول شيء تقوله في الفاتحة " بِسْمِ اللَّـهِ الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ ﴿١﴾ فتبدأ بذكر اسم المحبوب لأن المحب إذا تعلق بمحبوبه تعلق بذكر اسمه .. هذا قيس مجنون ليلى كان قد تعب من عشقه بليلى وأبوه أيضا تعب في علاجه حاول فيه بشتى الطرق بلا فائدة فرأى الأب أن يذهب بابنه إلى الحج لعل الله أن يخفف عنه ويشفيه فذهب به وسبحان الله بعد أن طاف قيس بالكعبة المشرفة والصفا والمروة والمزدلفة وعرفة وما أدراك ما عرفة .. سبحان الله يعني كأنه تغير وبقيت أيام التشريق يبيتون فيها بمنى وبينما هم قرب مسجد الخيف جالسون إذا برجل يبحث عن أخته أو ابنته أيهم اسمها ليلى و هو يصيح في الطرقات : ليلى .. ليلى وكلما نطق بهذا الاسم تقطع قلب صاحبنا وهو يسمعه بعاد به من المرض .. مرض العشق أشد مما كان في السابق

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فَهيَّجَ أحزانَ الفؤادِ وما يَدْرِي

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطارَ بليلى طائراً كانَ في صدرِي

فإذا كان هذا الحب الأدني يكون فيه هذا التعلق باسم المحبوب فيكف يكون تعلق الحب الطاهر بين العبد وربه بل لا يشابه هذا الحب بأي وجه من الوجوه فتبدأ الفاتحة بذكر اسم المحبوب تقول "بِسْمِ اللَّـهِ الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ ﴿١﴾ ثم تقول له الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ ﴿٢﴾ أول شيء " الْحَمْدُ لِلَّـهِ " الحمد كلمة عظيمة لدرجة أنها تملأ ميزان حسناتك يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "...الحمد لله تملأ الميزان.. " والحديث صحيح ، كل شيء يسبح بحمده سبحانه كل شيء يحمده حتى أهل النار .. قال حسن البصري رحمة الله عليه إن أهل النار ليدخلون النار وهم يحمدون الله أنه لم يظلمهم . فإذا كان أهل النار يحمدونه فكيف لا أحمده أنا بقلب حاضر متأمل في الصلاة .

الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ هذا الحمد الذي قلته في الصلاة هو أعظم من جميع النعم الدنيوية التي مرت علينا . يعني مثلا إذا جاءتك نعمة في الدنيا مثلا نعمة وظيفة ممتازة فقلت بعدها الحمد لله قولك الحمد لله نعمة من الله أيضا ولكنها أعظم من نعمة الوظيفة . قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :"ماأنعمَ اللهُ على عبدٍ نعمةً فحمِدَ اللهَ عليها، إلَّا كان ذلِكَ الحمدُ أفضلَ منْ تلكَ النعمةِ

الراوي: أنس بن مالك و أبو أمامةالمحدث: الألباني- المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 5562

خلاصة حكم المحدث: صحيح

بل إذا قلت الحمد لله فإن الله تعالى هو الذي حمد نفسه على وجه الحقيقة ، كيف؟ لأنه هو الذي وفقك لكي تقوم بين يديه في هذه الصلاة وهو الذي أعانك لأن قلت الحمد لله رب العالمين والعجيب في الأمر أنه يأجرك بعد هذا كله وكلما حمدت الله فإنك تحتاج إلى حمد آخر وعلى هذا فقولك الحمد لله هو نعمة تحتاج إلى حمد يجب أن تقول الآن الحمد لله على نعمة الحمد لله ثم الحمد الثاني هذا يعتبر نعمة ثانية أيضا تحتاج إلى حمد وهكذا. الحمد معانيه واسعة أوسع من أن تمر عليها في الفاتحة بدون تأمل ولكن لماذا جاء بعدها مباشرة (الرحمن الرحيم ) يعني لماذا لم تكن الفاتحة كالتالي : الحمد لله رب العالمين .. مالك يوم الدين .. الرحمن الرحيم ؟ لا ، لماذا أتى بعد الحمد لله رب العالمين : الرحمن الرحيم؟ الجواب لأن ربوبية الله تعالى للعالمين ربوبية رحمة وليست ربوبية شدة فهو بالمؤمنين رءوف رحيم . ولأن آية " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " فيها ترهيب وآية " الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ" ترغيب فقدم الترغيب على الترهيب لكي لا تنصدع قلوب عباده وهكذا يخاطب الله تعالى عباده الذين يحبهم يلين قلوبهم أولا ثم يذكر جانب الشدة .

انظر مثلا كيف خاطب الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما أراد أن يعاتبه الله في أنه أذن للمنافقين فقد قال له في سورة التوبة " عَفَا اللَّـهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ" لاحظ إنه ما قال "لِمَ أذنت لهم عفا الله عنك" أبدا .. لا .. إنما قال "عَفَا اللَّـهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ" فتخيل لو أن محامي المتهم مثلا جاءه ليخبره بحكم القاضي فيه فقال له : إن القاضي يعاتبك فلماذا كنت في مسرح الجريمة ؟ لماذا تركت حقيبتك عند القتيل ؟ لماذا..؟ لماذا..؟ ثم في النهاية قال له لكنه أعطاك براءة . في الحقيقة المحامي الآن أعدمه قبل القاضي ولكن لو أن المحامي قال له في البداية إن القاضي يقول لك براءة لكن لماذا كنت في مسرح الجريمة .. لماذا تركت حقيبتك عند القتيل ؟ الآن لو قال ما قال لا يهم ، أليس كذلك؟ أهم شيء أنني براءة ثم بعد ذلك قل ما تشاء بهذا أولا "عَفَا اللَّـهُ عَنكَ" ثم بعد ذلك "لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ" أولا " الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ" ثم بعد ذلك يأتي ذكر يوم الدين يوم القيامة " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" .

وفي هذه الآية قراءتان كلاهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : القراءة الأولى "مالك يوم الدين" والقراءة الثانية "ملك يوم الدين" مالك وملك كلاهما من أسماء الله عز وجل وبينهما فرق: مالك يوم الدين من المِلك أي تملك الأشياء كأن تقول ملكت البيت .. ملكت الكتاب. أما ملك يوم الدين فمن المُلك أي السيادة والتصرف وقد يكون العبد ملكا ولا يكون مالكا وقد يكون مالكا ولا يكون ملكا . مثلا بعض الدول كالولايات المتحدة يكون الرئيس فيها كالملك يتصرف ويدبر الأمور لكنه بعد أربع سنوات أو ثمان سنوات تُجرى انتخابات ويعود مواطنا عاديا فهذا في الحقيقة ملكا لكنه ليس مالك لأن الأشياء التي بسط عليها ملكه هو لا يملكها للأبد بل تُنزع منه فهو ملك وليس بمالك حتى لو أدار أٌقوى دولة في العالم وبعض الناس العكس يكون مالكا وليس ملك حقيقي لو سميناه ملك لأنه لا يتصرف في ملكه . ألا تروا بعض الدول الأوروبية كبريطانيا وأسبانيا مثلا يوجد فيها ملك أو ملكة يحملون عرش المملكة وتوضع صورهم على العملات ويتوارثون البلاد أبا عن جد لكنهم لا يستطيعون اتخاذ حتى ولا قرار واحد في ملكه بل الأمر كله عند رئيس الوزراء فهذا مالك نعم ولكنه ليس بملك في الحقيقة لأنه لا يتصرف . أما ربنا سبحانه فهو ملك ومالك فجمع بين الملكين سبحانه جل في علاه يملك كل شيء وهو المتصرف في كل شيء فمُلكه كامل كما أن مِلكه كامل فهو ملك مالك لأعظم يوم في التاريخ يوم الدين " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" ، كيف؟

ذكر ابن كثير في تفسيره أن الله يأمر إسرافيل بنفخة الصعق فيقول له : انفخ نفخة الصعق فيُصعق أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله فإذا هم خمدوا جاء ملك الموت فقال : يا ربي قد مات أهل السماء وأهل الأرض إلا من شئت ، فيقول الله تبارك وتعالى : فمن بقي؟ وهو أعلم سبحانه فيقول: يا ربي بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقي حملة عرشك وبقي جبريل وميكائيل وبقيت أنا. فيقول الله عز وجل : فليمت جبريل وميكائيل فيموتان فيأتي ملك الموت إلى الجبار عز وجل فيقول : يا ربي قد مات جبريل وميكائيل فيسأله الله عز وجل وهو أعلم : من بقي؟ فيقول : بقيت أنت يا رب الحي الذي لا يموت وبقي حملة عرشك وبقيت أنا فيقول الله عز وجل : فليمت حملة عرشي فيموتون ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا ربي قد مات حملة عرشك فيسأله الله عز وجل وهو أعلم : من بقي؟ فيقول : بقيت أنت يا رب الحي الذي لا يموت وبقيت أنا فيقول الله عز وجل : يا ملك الموت أنت خلق من خلقي فمت فإذا لم يبقى إلا الله الواحد الأحد الصمد طوى الله عز وجل السماوات والأرض كطي السجل للكتب ثم ينادي سبحانه في ملكوت السماوات والأرض في أرجاء مملكته فيقول : أنا الجبار أنا الجبار .. لمن الملك اليوم؟ فلا يجيب أحد . الناس كلهم ماتوا ثم يقول سبحانه لمن الملك اليوم؟ فلا يجيب أحد ثم يقول : لمن الملك اليوم؟ ثم يجيب هو نفسه سبحانه ويقول : لله الواحد القهار " الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ 17 سورة غافر.

لا إله إلا الله . والله إنه ليوم عظيم والله لا ألوم أي أحد لو سأل الآن كيف يمكن أن ننجو من ذلك اليوم يوم الدين ؟ الجواب ذكره الله تعالى في نفس السورة سورة الفاتحة ولكن في إشارة دقيقة قليل من الناس ينتبهون لها سأذكرها إن شاء الله عز وجل ولكن في الحلقة القادمة.

:: مع الشكر لفريق التفريغ في منتدى الشيخ محمد العريفي http://3refe.com/vb