الحقوق محفوظة لأصحابها

طارق السويدان
لماذا نالت السيرة النبوية كل هذا الاهتمام من المستشرقين في القديم والحديث؟

ولماذا سعى بعضهم إلى تزوير السيرة وأحداثها؟

هل هو جهل بطبيعة العرب والشرق أم أن خلفها نوايا سيئة يحركها الخوف من تأثير حجة الله الغالبة على الغرب؟

ولماذا فوائد دراسة السيرة متجددة لا تنتهي؟

وكيف حاول المستشرقون تحويل النبي محمد صلى الله عليه وسلم من رسول إلى مجرد ملك؟



المقدمة:

نخصص هذه الحلقة والحلقة التي تليها لنوضح اهمية تجاوز الهدف القصصي لبيان حياة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وصولا إلى المقاصد القيمية والتربوية والدعوية للسيرة النبوية كمنهج تطبيقي لشهادة لا إله إلا الله، مع توضيح فائدة التاريخ في تصحيح بعض الروايات الضعيفة ومحاولات تزوير السيرة النبوية من قبل بعض الفرق الباطنية أو الجهود الاستشراقية.

وتأتي هذه المحاولات لتعكس حالة الخوف والقلق من سرعة انتشار الإسلام بمعدلات غير مسبوقة في الغرب في العصر الحديث خاصة بعد ثورة الاتصالات التي أعادت تعريف الغرب بنبي الإسلام على غير ما هو في صورتهم التقليدية.

ورأينا كيف كانت ردة الفعل سواء من خلال الكنيسة التي تحذر من فوبيا الإسلام أو بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة أو من خلال إنتاج أفلام أو رسوم مسيئة للنبي أو حتى محاولات حرق نسخ من القرآن الكريم والله متم نوره ولو كره المشركون.



فوائد السيرة الدينية:

1. السيرة تفسر الكثير من الآيات القرآنية وتعتبر مثال تطبيقي لها.

لأن صاحب السيرة عليه الصلاة والسلام كان قرآنا يمشي على الأرض وخير مفسر لهذا القرآن بأفعاله وأقواله.

2.الاقتداء بصاحب الشخصية له أثر تعبدي وينبني عليه ثواب وأجر.

فلا إله إلا الله نظرية تطبيقها في محمد رسول الله، والنصيحة لا تفيد كثيرا إلا إذا رأت الأمة قدوة تقدم لها قيمه بشكل عملي.



فوائد السيرة الحياتية:

1. صاحبها معصوم وأسوة حسنة :

وهذا ييسر تجسيد كل القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة في قدوة واقعية فهي معين لا ينضب للدعاة وأهل السلوك والتربية.

2. السيرة مواساة للناس في كافة أنواع الابتلاءات.

فالدنيا لا تخلو من بلاء في الدين او المال أو الأهل او النفس وهذه كلها عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلب عليها .

ـ فتعرض عليه السلام لفتنة في دينه وتم اضطهاد أصحابه وترك بلده مهاجرا وتعرض لمؤامرات المنافقين والكفار واليهود والروم والفرس لكنه ثبت ثبات الجبال و ادى الأمانة وبلغ الرسالة.

ـ كما تعرض لفتنة النفس حيث اوذي في الله وتم رميه بالأحجار عند دعوته لأهل الطائف وكان يوضع عليه سلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة وتمت العديد من محاولات الاغتيال للتخلص منه كما حاولوا تسميمه لكن الله عصمه من الناس.

ـ وتعرض لفتنة الأهل ولم يصب أحد بمصابه حيث مات كل اولاده الذكور في حياته كما ماتت بعض بناته كرقية وأم كلثوم وماتت حبيبة قلبه وأم اولاده السيدة خديجة رضي الله عنها وأوذي عليه السلام في عرضه في حادثة الإفك فصبر لكل ذلك .

ـ وتعرض عليه الصلاة والسلام لفتنة المال فكانت الأموال بين يديه ولم يكن عليه السلام فقيرا فقرا مضطرا إليه كما يظن بعض الناس ولكنه كان زاهدا في الدنيا مؤثرا الآخرة فجمع له بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر صلى الله عليه وسلم .

3. يمكن التأسي بصاحبها في كل مناحي الحياة.|

فنقرأ السيرة والكل يجد له قدوة فيها الأب والابن والزوج و والتارج والمربي والداعية والمفكر والسياسي والعسكري و...



سيرة صادقة وليست وهمية

ـ صاحب السيرة طبق كل مبادئه على نفسه وأهله، فهو لم يدعو لقيم نظرية مجردة دون تطبيقها على نفسه ولم يشجع أتباعه على سلوكيات ثم تجاوزها بأفعاله .

ـ ولم يعيش حياة مزدوجة فهو بين أصحابه كما هو بين أهله وخاصة نفسه لا تشعر بتناقض القيم عنده حتى لو اختلفت الأماكن والأزمان والبيئات .

ـ وكان الله يعاتب نبيه بكل شفافية عندما عبس في وجه الأعمى أو او حينما تردد في موضوع زواجه من زينب بعد طلاقها من زيد بن حارثة أو حينما اجتهد في مصير أسرى بدر.



بعض المغالطات الإستشراقية في السيرة:

ابتداء لا يمكن أن نضع المستشرقين في سلة واحدة بل هناك فر يق أنصف التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية وفريق كان حسن النية لكن أدواته لم تساعده على فهم المشرق الإسلامي فتوصل لنتائج خاطئة مثل استخدام المنهج المادي في تفسير الأحداث وفريق ثالث لم يستطع أن أن يحرر نفسه تماماً من الخلفية الدينية وكان من اهداف دارسته للمشرق الإسلامي تشويه نبيه وتاريخه وحضارته لأهداف استعمارية .



كما يقول المستشرق درمنغم : أبقى محمد شعائر الحج كما كانت عليه قريش في العهد الجاهلي، خلافا لآمال أهل المدينة ، فأراد بذلك اجتذاب أهل قريش إلى الإسلام ) وهذه الفرية متهالكة وساقطة :

ـ لأن العرب جميعهم في الجاهلية يدركون قدسية مكة وأنها ملة أبيهم إبراهيم

ـ كما حاولوا جميعهم صد ابرهة في طريقه لمكة لهدم الكعبة .

ـ بل أن أهل المدينة يعظمون مكة ولم يتعرفوا على الإسلام حتى اتوا حاجين للبيت فكانت بيعتي العقبة الولى والثانية .

ـ كما أن اهل المدينة كانوا يعظمون البيت وخرجوا معتمرين مع النبي في صلح الحديبية .

ـ وكأن شعائر الحج ومكان تلك الشعائر بيد النبي صلى الله عليه وسلم يحددها كيف يشاء



وهناك شبهة لم يعرف احد من المؤرخين قديما أو حديثا افتراها على النبي صلى الله عليه وسلم غير المستشرق (لامانس) عندما وصف النبي بالجبن والهلع في الغزوات وأراد أن يعمم الحكم على العرب فقال : (زعموا أن العربي يتسم بالشجاعة ، بل لقد عللوا النجاح في الفتوح الإسلامية الأولى بما امتاز به العربي من صفات او مزايا ، ولكنني أتردد كل التردد في قبول هذا الرأي المبالغ فيه كل المبالغة .. إن شجاعة العرب إنما هي من نوع غير سام).

وهذه ادعاء ساقط تكذبه كل حقائق السير ة والتاريخ ونصوص السنة:

ـ فقد ثبت يوم أحد بعد أن فر بعض من الصحابة من أرض المعركة عندما دارت الريح لصالح قريش.

ـ كما ثبت كالجبل يوم الأحزاب عندما بلغت القلوب الحناجر.

ـ ووقف يوم حنين قال البراء رضي الله عنه سمعت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم و كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، قال: فما رئي من الناس يومئذ أشد منه.

ـ وفي رواية البخاري: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ، وأجودَ الناسِ، وأشجعَ الناسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المدينةِ ذات ليلةٍ، فانطلق الناسُ قبلَ الصوتِ، فاستقبلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد سبق الناسَ إلى الصوتِ، وهو يقولُ: لم تُراعوا لم تُراعوا.

ـ وكان عليه السلام يتعوذ من الجبن : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم



وتزداد وتيرة الخيال والكذب مع مزاعم المستشرق درمنغم حيث يصف منبر النبي فيقول: فصار يقف عند الوعظ على واحدة من درج هذا الموطئ الذي كان كرسيا ومنبرا وعرشا في آن واحد حاملا بيده حربة صغيرة ،أو عصا مرصعة بالذهب والعاج فيرسم بها بعض نقاط خطبه ، وكان بلال الحبشي يقف أسفل المنبر حاملا سيفا بسيطا ذا مقبض فضي،وما كان محمد ليتخذ هذا الأسلوب مع بساطته إلا في أواخر عمره ، أي بعد أن تم له من النصر ما تم!!

وهذه الراوية من الروايات المهمة التي تبين إلى أي مدى ممكن أن يجنح خيال المستشرقين أحيانا وكأنهم يصفون ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة وليس حدثا من أحداث السيرة النبوية.

والصحيح أن النبي لم يتخذ كرسيا ولا عرشا بل كان يجلس مع اصحابه حتى لا يستطيع القادم تمييزه من بينهم ويسأل : أيكم محمد؟

ولم يكن يحمل سيفا ولا عصى من ذهب و لا فضة لأن استعمال الذهب و الفضة محرم في الإسلام ولكنه الجهل المركب لهذا المستشرق الذي انفضح عندما تخيل أن محمدا مثل بقية السلاطين الذين لا يلتزمون بما يصدرون من أحكام وقرارات فيحرم الذهب والفضة ويحللها لنفسه.



وأغرب ما افتراه هو مسك بلال مؤذن النبي للسيف أسفل المنبر ولو كان ذلك صحيحا لكان من يمسك السيف حراس النبي وليس بلال مؤذنه فما سمعنا عبر التاريخ أن المؤذن يمسك السيف أسفل المنبر والإمام يخطب في الناس ولو كان حراس النبي يمسكون السيوف أسفل المنابر لاتخذها الخلفاء الراشدين من بعده سنة ولما استطاع أبو لؤلؤة المجوسي اغتيال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في صلاة الفجر لوجود مثل تلك الحراسة المتوهمة!!

والمستشرق أراد أن يقول من طرف خفي أن محمدا زعيم قبيلة وليس نبي والدليل ميله بعد أن تم النصر له لمظاهر الحكم والعظمة وأبهة السلطان !!



وكذلك ما دعى له النبي صلى الله عليه وسلم من عقيدة التوحيد وبيان طبيعة الأنبياء ووصف الجنة والنار يخالف كل المخالفة ما عليه نصارى نجران والنساطرة



والأعجب من ذلك فرية وجود مدارس تعليمية في مكة وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أحد طلابها المتفوقين .

ولو صح ذلك لكان محمدا قادرا على القراءة والكتابة ولم يطلب من سيدنا علي رضي الله عنه أن يكتب له صلح الحديبية ولا أن يدله على عبارة رسول الله الواردة في كتاب الصلح والتي اعترض عليها سهيل بن عمرو وطلب مسحها فمسحها النبي بنفسه بعد أن دله علي على موضعها في الكتاب.

ويبقى سؤال قبل أن نختم هذه الحلقة ونجيب عليه في الحلقة القادمة وهو : هل كانت نوايا المستشرفين السيئة وحدها سببا في تحريف السيرة وتزويرها أم أن هناك في تراثنا روايات مكذوبة وضعيفة ومتوهمة ساعدت على ذلك ؟



ميزان الحلقة:

لا تهجر قراءة السيرة لأنها تجدد لك في المعاني والتجارب بقدر ما تتجدد لك في الحياة من أحوال

http://www.suwaidan.com/node/6605