الحقوق محفوظة لأصحابها

مشاري الخراز
سم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله صحبه ومن والاه

أما بعد

التوبة عبادةبل هي من أجمل العبادات

عبادة لم تفارق حتى الأنبياء فرسول الله صلى الله عليه سلم كان يتوب في اليوم سبعين مرة ومع هذا يقول اليوم أحدهم أنا لدي مشكلة فكلما تبت وقعت في نفس الذنب مرة ومرتين وثلاث … إلى أن أحسست أني منافق فأصبحت أفعل الذن ولا أتوب هذه شبهة من الشيطان أقنع بها الكثيرين للأسف وأنا كنت لا أعرف كيف أدخل إلى هذا الشخص الّذي أقنعه الشيطان بهذه الشبهة إلى أن قرأت حديثاً عظيماً من أحاديث النبي صلى الله عليه سلم اختصر لي الموضوع تماماً قال رسول الله صلى الله عليه سلم :

(( إنَّ إبليسَ قال لربِّه بعزَّتِك وجلالِك لا أبرحُ أُغوي بني آدمَ ما دامتِ الأرواحُ فيهم فقال اللهُ فبعزَّتي وجلالي لا أبرحُ أغفرُ لهم ما استغفَروني ))

الراوي: أبو سعيد الخدري المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 1/213

خلاصة حكم المحدث: إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين لكنه منقطع

الله أكبر

ردٌّ رباني كفاني لأنه يعني أنك لو استمريت تقع في نفس الذنب طوال عمرك فإنه سبحانه سيغفر لك إن تبت إليك في كل مرة

وأنت لو فكرت في الموضوع ستجد أن الإنسان يقع في الذنب ويقع بالتوبة فلما احتار من كثرة تكرار التوبة وتكرار الذنب قرر أن يترك التوبة يا أخي اترك الذنب ! لم تترك التوبة ؟

هذا كمثل الشخص الّذي يمشي على الأرض الحارة بنعليه فانقطعت نعله اليمنى فصارت رجله اليمنى تحترق بالأرض ورجله اليسرى سليمة لأنها بالنعل

فقال مع نفسه إلى متى أمشي وقدمي اليمنى تحترق واليسرى سليمة سأترك النعل الأخرى لكي تحترق القدمان جميعاً . صراحة هذا شئ مضحك !

بعض الناس يسأل فيقول : لو كنت أريد التوبة عموماً لكن هناك بعض الذنوب لا أريد التوبة منها فهل تصح توبتي ؟

الجواب : نعم تصح توبتك فيما تبت فيه ومالم تتب منه ستحاسب عليه

(( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّ‌ةٍ خَيْرً‌ا يَرَ‌هُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّ‌ةٍ شَرًّ‌ا يَرَ‌هُ ﴿٨﴾ )) (الزلزلة /7و8)

لكن انتبه إن تبت بعد فترة من الذنوب فإنك لا تتوب فقط من الذنب بل يجب عليك أن تتوب من الذنب وأن تتوب من تأخير التوبة لأن تأخير التوبة معصية أخرى يجب التوبة منها وهذه مسألة أخرى دقيقة عليك التركيز عليها .

وقد يقول قائل : أنا لا أتذكر جمع ذنوبي فكيف أتوب منها ؟

يوجد حلٌّ مريح إعزم على توبة عامة من جميع الذنوب ماعلمت منها ومالم تعلم ربنا سيبدلها كلها حسنات بإذن الله عز وجل إلا الذنوب التي فيها حقوق للغير فلا بد مع التوبة من أن ترجع الحقوق إلى أصحابها مثلاً أموال أخذها العبد من الناس بغير حق لا تكفي التوبة بل لا بد من إرجاع الأموال أو شخص شهد على آخر زوراً فسجنوه فهنا لا تكفي التوبة إلى الله فقط بل لا بد أن تخرج هذا السجين وهكذا .

ولكن ماذا لو كانت هناك حقوق لبعض الناس علي ولكنني لا أستطيع الوصول إليهم … أو أنني لا أعرفهم الآن لا أعرف أسماءهم فماذا أفعل ؟

الجواب حاول قدر المستطاع أن تصل إليهم أو أن تصل إلى من يدلك عليهم فإن لم تستطع فتصدق بقيمة هذا المال ولكن بنية الشخص المفقود بحيث أنه يأتي يوم القيامة فيجد في صحيفته صدقة بقدر ماله الّذي يستحقه عليك فلا يأخذ شيئا ً من حسناتك لكن لو قدر الله لهذا الشخص أن يجدك في الدنيا أو أن تجده فيجب أن تدفع إليه ماله ولو كنت تصدقت بها لأنه حقه في النهاية وأما أنت فلن يضيع أجرك عند الله تعالى .

* * *

إن الذي يتخذ قرار فإنه سيتخذ أسعد قرارٍ في عمره كله ولن يفرح قلبه يوم القيامة بقرار أسعد له من قرار التوبة لكن أتدري ماهو العجيب ؟

العجيب أنك لست وحدك ستفرح بهذه التوبة أتدري من سيفرح أعظم بكثير من فرحتك بل إن فرحتك لن تساوي شيئاً أمام فرحته ؟ إنه الله تعالى إنه يفرح بك فرحة لا توصف وهذه الفرحة كما قال النبي صلى الله عليه سلم هي أشد من فرحة :

(( لَلَّهُ أشَدُّ فرَحًا بِتوبةِ عبدِهِ حِينَ يَتوبُ إليه ؛ من أحدِكمْ كان على راحلَتِه ، بأرضِ فلاةٍ ، فانْفلَتَتْ مِنهُ ، وعليْها طعامُهُ وشَرابُهُ ، فأيِسَ مِنْها ، فأتَى شجرَةً ، فاضْطجعَ في ظِلِّها ، قدْ أيِسَ من راحلَتِه ، فبيْنما هوَ كذلِكَ ، إذْ هوَ بِها قائمةٌ عِندَهُ ، فأخَذَ بِخطامِها ، ثمَّ قال – من شِدَّةِ الفرَحِ - : اللهُمَّ أنتَ عبدِي ، وأنا ربُّكَ ! أخْطَأَ من شِدَّةِ الفرَحِ ))

الراوي: أنس بن مالك المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 5030

خلاصة حكم المحدث: صحيح

أرأيتم فرحة هذا العبد ربنا سبحانه يفرح بك إن تبت إليه أكثر من فرحة هذا العبد بالنجاة .

أخي الكريم أختي الكريمة أنا بنفسي رأيت مثل هذه الفرحة فرحة الّذين أتعبهم الجوع والمرض وجائتهم الإغاثة ونجوا من هذا البلاء ففي إحدى رحلاتنا الإغاثية لدول أفريقيا ذهبنا لإغاثة قرية من القرى النائية الفقيرة حتى أن بعضهم يموت لأنهم بعيدون عن المستشفيات فلا يدركون المريض إلا وقد مات ويحتاج الوصول إليهم أن نعبر البحيرات والممرات المائية وسط الغابة فأخذنا مساعدات غذائية وملابس وذهبنا إليهم فلا تتصورون فرحتهم لقد علموا بقدومنا إليهم فصاروا ينشددون أهازيجهم وأطفالهم يرقصون فرحاً بقدومنا إليهم ….

وعندما ودعناهم من فرحتهم بنا وقفوا على حافة البحيرة وأخذوا يلوحون إلينا بأيديهم حتى غبنا عن أبصارهم وغابوا عن أبصارنا وبعض القرى في أفريقيا يعيش أهلها في وسط الماء لكنه غير صالح للشرب والجوع والحاجة وصلت ماوصلت حالتهم صعبة فإذا جئنا إليهم بالمساعدات الإغاثية لإنقائهم فإنك ترى هذه الفرحة في أعينهم .

قرية أخرى من القرى المتضررة ذهبنا إليها براً وكان فيها عدداً أكبر يستقبلون المساعدات كما يستقبل العطشان الماء حتى اطفالهم يفرحون بأقل القليل فإذا كانت هذه هي فرحة الّذين نجوا فما هو ظنك بالله إذ أخبر النبي صلى الله عليه سلم أن فرحته بتوبة عبده أشد من فرحة هؤلاء بنجاتهم.

أخي لكريم أختي الكريمة ليس مستغرباً أن يفرح الخادم او العبد بالملك إن عاد لوصله ومحبته بعد طول انقطاع هذا هو المعتاد يفرحون بإحسان المللوك إليهم

لكن العجب أن يفرح الملك فرحاً شديداً إذا عاد إليه العبد .

سبحان الله كيف أن فرح الله أكثر من فرحة العبد بتوبته إلى الله مع أن العبد هو المحتاج والله هو الغني بسم الله الرحمن الرحيم

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَ‌اءُ إِلَى اللَّـهِ ۖ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿١٥﴾)) (سورة فاطر / 15)

ومع ذلك فإنه يفرح بعودة عبده إليه ، قد يقول قائل لماذا يفرح اله تعالى كل هذه الفرحة إذا تبت إليه؟

الجواب لأنه يحبك فلولا أنه يحبك فلم يفرح سبحانه هل تفرح بأحبابك أم بأعدائك بأحبابك طبعاً سبحانه يفرح بعودة أحبابه إليه .

أنت لو وجدت طفلاً تائهاً وربيته من صغره وعلمته واعتنيت به رعاية كاملة فلما كبر وبلغ تركك وترك توجيهاتك ونصائحك التي كنت تقولها له وأنت تعلم أن هذه النصائح فيها نجاته ولكنه أصر بل وذهب إلى عدوك الّذي تكرهه فصاحبه واستمع إلى إغوائه فترة من الزمن ثم فجأةً استيقظ وعاد إلى رشده واستيقظ من غفلته فجاءك نادماً معتذراً راغباً في قربك طارقاً لبابك متواضعاً لك أصبح لا يريد إلا رضاك وربما بكى وهو لا يزال يطرق بابك ويطلب منك أن تسامحه بالله عليك ألست تفرح به مع عظيم حبك له ؟

ولله المثل الأعلى ربنا سبحانه وأحسن إلينا ولكن لضعفنا تركنا طاعته واستمعنا لكلام عدوه الشيطان الّذي طرده من الجنة لأجلنا نحن لأنه لم يسجد لأبينا والغريب أن العبد يترك طاعة حبيبه ويصاحب عدوه فإذا قررنا العودة إليه سبحانه سيفرح بذلك وماذلك إلا لكرمه سبحانه فهو فعلاً الودود الّذي لا منتهى لمودته

الرحيم الّذي ليس كمثل رحمته رحمة

واعلم أن فرحة المعطي في الغالب أعظم من فرحة الآخذ وأنت إذا عدت إلى ربك وتبت إليه فإنه سيعطيك عطايا كثيرة لا منتهى لها وهو سبحانه يحب العطاء حباً عظيماً يحب أن يعطي عباده ويفرح بذلك ولذلك يفرح بك إذا تبت إليه لأنه يعلم سبحانه أنه سيعطيك بعدها .

قال أهل العلم محبة الله للجود والكرم والعطاء فوق مايخطر ببال الخلق لذلك فإن فرحه سبحانه بالعطية أشد من فرح الآخذ الّذي يأخذ هذه العطية .

الحقيقة أنا لا أعرف أحداً يفرح كل هذا الفرح بي إذا رجعت إليه إلا الله سبحانه وتعالى إنها أشد من فرحة الذين نجوا من المجاعات والهلاك أشد من فرحتهم بطعامهم وشرابهم إذا وصل إليهم والله لا أمهاتنا ولا آباؤنا ولا أبناؤنا يفرحون كل هذا الفرح إن رجعنا إليهم .

بالله عليك أليس من المفروض الآن أن نحب الله أكثر كيف لا تتعلق القلوب الإله العظيم الحليم الّذي ليس لنا معبود سواه والله إننا لنستحي منك يا إلهنا

ماهذا الكرم

ماهذا التودد وحسن التعامل لعبادك

ماذا نريد أكثر من هذا ؟

إن أول نعمة نزلت عند اتوبة أنك وصلت إلى نعمة التوبة وكان من الممكن ألا تصل لو أن الواحد منا مات قبل أن تصل إلى التوبة كيف ستكون حاله ؟

هذه أول نعمة أما أعظم نعمة عند التوبة فهي أن الله تعالى قبل منك هذه التوبة وفرح بك هذه القرحة عند التوبة ولكن هل تظن أن هذه الفرحة هي الوحيدة في الموضوع ؟ لا ! بعد أن يفرح الله تعالى بك فإنه سيخلق فرحة لك في قلبك فكما أنّ الفرحة بك بدأت في السماء فإنه سيصل أثرها إليك في الأرض فسبحان الله يجد التائب راحة وانشراح صدر وطمأنينة يعرفها من ذاقها إنها أسرار الله تعالى التي جعلها في القرب منه فمن اقترب كشف الله من هذه الأسرار بقدر اقترابه من ربه فيظهر له من نعيم الجنة المعجل فجنة الآخرة يوجد قبلها جنة أخرى في الدنيا وهي جنة السعادة بالقرب من الله تعالى هذه الجنة موجودة في صدور التائبين .

يقول العلماء من لم يجد هذه السعادة في العبادة فليراجع عبادته أين القصور لأن الرب شكور لا بد أن يجازي عبده بلذة أعماله في الدنيا قبل الآخرة .

أخواني وأخواتي أنا اليوم ليس لدي هدف سوى أن يفرح الله تعالى بنا الليلة لا أريد أكثر منهذا أريد ألا تنقضي هذه اليلة أن الله تعالى الآن يفرح بتوبتك تتوب إلى الله عز وجل فيفرح بك وهذا هو ظنك به وأبشر فهو سيكون عند حسن ظنك به ،اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا اللهم تقبل توباتنا اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك والحمد لله رب العالمين

* * *

مع الشكر لفريق تفريغ منتديات الدكتور محمد العريفي

http://3refe.com/vb