الحقوق محفوظة لأصحابها

طارق السويدان
ما فائدة كتاب التاريخ بمصداقية إن تبع ذلك تحليل غير موضوعي لأحداثه ؟

ومتى نفهم أن تاريخنا التفسير البشري للإسلام وليس الإسلام نفسه ؟

وكيف يمكن ان نحلل أحداث التاريخ دون أن نسقط في فخ الانتقائية والتعميم ؟

وهل كان الحجاج ظالما طاغيا أم مظلوما تعرضت شخصيته للتشويه ؟

ولماذا وصف بعض المستشرقين الخليفة هارون الرشيد بأنه نصف إله؟

وما مشكلة الحاكم بأمر الله مع النساء؟

المقدمة:

تحدثنا في الحلقتين السابقتين عن أخطاء المؤرخين وأخطاء كتابة التاريخ، واليوم نمضي خطوة إضافية في الحديث عن أخطاء تحليل التاريخ

1. الخلط : عدم التفريق بين الإسلام والفهم البشري لتطبيقاته.

والأمثلة على ذلك كثيرة منها حال المرأة في أغلب المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ خصوصا في الأحقاب المتأخرة كان حالاً فيه من الظلم والاضطهاد لحقوق المرأة ومشاركتها الطبيعية في الحياة من قسرها على ملازمة البيت والإرغام على الزواج وضربها وغير ذلك من تطبيقات خاطئة للإسلام.

والأخطر من هذا تبرير أخطاء بعض الرموز التاريخية ، حتى لو أدى هذا التبرير إلى تشويه الإسلام وكان الأولى والأسهل هو رفع حالة التقديس عن هؤلاء وهذا لا يعيب بهم شيئا فكل انسان مهما علت مكانته وحسنت نواياه معرض للاجتهاد والخطأ وكان الأصل هنا العمل بقاعدة ( إن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج).

2. الانتقائية : ( تتبع السلبيات أو الإيجابيات فقط)

وهذا يدفع إلى أخطاء كبيرة، فإما يورث التعظيم المطلق لما لا يستحق التعظيم إلا لجانب معين، وإما يورث الإبخاس المطلق فيبخس حق أمة أو شخص أو حقبة للنظر إلى الجانب السلبي منها فقط.

ومن الشخصيات التي ممكن تقديم صورتين متناقضين حولها شخصية الحجاج، فهو من جهة رائد من رواد الحزم والإصلاح والزهد والتقوى لو اكتفينا بالتالي:

ـ كان شابا لبيبا فصيحا بليغا حافظا للقرآن ، قال بعض السلف : كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة ، وقال أبو عمرو بن العلاء : "ما رأيت أفصح منه ومن الحسن البصري ، وكان الحسن أفصح منه" .

ومن أجلِّ الأعمال التي تنسب إلى الحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف و وضع علامات الإعراب على كلماته، وذلك بعد أن انتشر التصحيف؛ فقام "نصر بن عاصم" بهذه المهمة العظيمة، ونُسب إليه تجزئة القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.

فمن يطلع على هذه الأعمال يحكم على الحجاج كواحد من كبار المصلحين في التاريخ ،

لكن لو اطلعنا على الوجه الآخر :

ـ قيل لسعيد بن جبير : خرجت على الحجاج ؟

قال : إني والله ما خرجت عليه حتى كفر .

وسألوا مجاهدا فقال : تسألون عن الشيخ الكافر.

قال الشعبي : الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت كافر بالله العظيم . وقال القاسم بن مخيمرة : كان الحجاج ينقض عرى الإسلام .

وقد أجمع أهل العلم بالتاريخ والسير على أنه كان من أشد الناس ظلما ، وأسرعهم للدم الحرام سفكا ، ولم يحفظ حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، ولا وصيته في أهل العلم والفضل والصلاح من أتباع أصحابه.

لكن هناك شهادات كانت متوازنة ومنها ما قاله الذهبي: (كان ظلوماً، جباراً خبيثاً سفاكاً للدماء وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة، وتعظيم للقرآن... إلى أن قال: فلا نسبهُ ولا نحبه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الايمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبهِ، وأمره إلى الله وله توحيد في الجٌملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة الأمراء).

وقال ابن كثير فيه: (كان فيه شهامة عظيمة وفي سيفه رهق (الهلاك والظلم)، وكان يغضب غضب الملوكِ...وقال أيضاً: وكان جباراً عنيداً مقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة، وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها ولكن يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه...،وكان يكثر تلاوه القرآن ويتجنب المحارم، وإن كان متسرعاً في سفك الدماء. فلا نكفر الحجاج، ولا نمدحه، ولا نسبه ونبغضه في الله بسبب تعديه على بعض حدود الله واحكامه، وأمره إلى الله).

وقد وضعت دراسات تاريخية حديثه عن الحجاج، وبعضها كان أطروحات علمية حاولت إنصاف الحجاج وتقديم صورته الحقيقية التي طمس معالمها وملامحها ركام الروايات التاريخية الكثيرة.

3. التصنيف: تصنيف البشر إلى الخير المحض أو الشر المحض.

ومن العلماء الذين وازنوا بين مزايا الأشخاص و مثالبهم الحافظ الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء حيث أنصف من ترجم لهم من الأعلام فلم يبخس أحد حقه.

4. التعميم : التعميم المخل بالموضوعية وصولا لنتائج غير صحيحة.

الإسلام نبه إلى خطورة التعميم في الأحكام بإطلاقه

فقال تعالى في أهل الكتاب: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾

وقال سبحانه عن الأعراب: { وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) }.

ولا نجد تعميما في التاريخ الإسلامي مثل التعميمات الاستشراقية في مجالات

‌أ. الإسلام دين حروب وسفك دماء

‌ب. ليالي الخلفاء مجالس شرب ولهو وغناء

‌ج. المرأة المسلمة مظلومة ومضطهدة .‌

د. العرب لم يبدعوا حضاريا ولكنهم مجرد نقلة للمعارف والعلوم اليونانية والاغريقية .

5. التشويه : التاريخ المشوه ينتج حقائق مشوه

وهو قصد الاتجاه إلى تغيير الحقيقة التاريخية لغرض التشويه، ويكون ذلك بسبب التحيز لجهة وانعدام الموضوعية.

وسنفرد له حلقة لنتعرف فيها على الأسباب المؤدية للتشويه والوسائل المستخدمة في التشويه.

ولأضرب هنا بعض الأمثلة على تشويه التاريخ:

أحيانا يظهر الكاتب أو المستشرق إنصافاً ثم يأتي في بعض المواضع فيشير إلى بعض الغمز واللمز داخل الرواية التاريخية: فهذا (كارل بروكلمان) في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية" يقول: "الكعبة بناء ذو أربعة زوايا يحتضن في إحداها الحجر الأسود، ولعله أقدم وثن عبد في تلك الديار" وهي غمزة ولمزة ينكرها التاريخ، ففي التاريخ العربي وغيره ثابت أن بناء الكعبة كان من قبل سيدنا إبراهيم والحنيفية التي دعى إليها.

6. التجريد: تقييم الأحداث بمعزل عن الأسباب والظروف والدوافع.

وهذا التجريد المطلق مخل بالموضوعية إذ النظر بالأسباب المحيطة بالواقعة يغير بلا شك من أسلوب عرض حادثة ما، ويسهل من استيعاب الأفعال ورداتها في الواقعة التاريخية.

ولنأخذ مثالاً ذكرناه من الحقبة الفاطمية أو العبيدية

فحين يحلل موقف الحاكم بأمر الله من المرأة مثل منع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً و نهاراً سنة 405 هـ، و ظل الأمر كذلك حتي قتل عام 411 هـ،

وأصدر قوانين بمنع النساء من السير خلف الجنازات كما أمر بمنع خروجهن الى السوق والحمامات وحظر عليهن التطلع من النوافذ والوقوف فوق أسطح المنازل وبلغ من حرصه على ذلك بأن منع صانعى الأحذية من صنع احذية للنساء حتى يتعذر عليهن الخروج إلى الشوارع

وأصبح من أثر هذه السياسة التى اتبعها الحاكم إزاء النساء أن اعتكفن فى بيوتهن،

فهذه المواقف غير مستمد من طبيعة الدين الإسلامي تجاه المرأة ومن يحلل ذلك لا شك فإن تحليله خاطيء، ويتبين لنا خطأ هذا التحليل من خلال قراءة الوقائع والأحداث المصاحبة،

فسنعلم حينها يقينا أن الدافع من وراء أحكام الحاكم بأمر الله الظالمة ضد المرأة إنما كانت الخبل والعنجهية التي كانت تصاحبه،

فإنه مع تحريمه لخروج المرأة كذلك حرم أكل الملوخية وبيعها وكذا حرم أكل السمك مع قشره ونهى عن بيع شراب يسمى الفقاع لأنه كان يكره رائحته، فإذا قرأنا الحاكم بأمر الله بهذا الشكل عرفنا أن موقفه من المرأة كان مرجعه أمر آخر غير المستند الديني.

7. المثالية: التعامل مع أحداث التاريخ بمثالية تغفل الدوافع الانسانية الطبيعية.

ومن أخطر وسائل تحليل التاريخ وقوع هذا التحليل بين تطرفين:

الأول: هو الذي يريد أن يفصل فصلا تاما بين الإسلام والمسلمين بحيث يوهمنا أن الإسلام منهاج رباني سماوي، مثالي، ينوء البشر بتطبيقه، وتقعد بهم نوازعهم وشهواتهم عن القيام به، والسمو إلى ما يدعو له ويرمي إليه وبالتالي مثالية هذا الدين لا تسمح بواقعيته وبالتالي باستبعاده مثل التحفة الجميلة المنعزلة في المتحف .

الثاني: هو الذي يريد أن يحمل أخطاء اجتهاد المسلمين للإسلام نفسه ، فهم وإن اجتهدوا فأخطأوا، فإن الإسلام آجرهم على اجتهادهم لا على خطأهم، ومن الطبيعي أن لا تقارن المنهج الكامل وهو الإسلام بالطبيعة الناقصة وهم البشر ولذلك كانت القاعدة العظيمة التي تجبر الفرق بين كمال الإسلام ونقص المسلمين قوله تعالى : (فاتقوا الله ما استطعتم).

ميزان الحلقة:

للتاريخ أكثر من وجه واحد فلا تسلم عقلك لوجه واحد والضد يبرز حسنه الضد

http://www.suwaidan.com/node/6599