الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد حسان
فقه الدعوة (2)

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شُرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله.

اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله الطَّيبين الطَّاهرين، وأصحابه الغُرِّ الميامِين، وعلى كلِّ مَن سار على دَرْبِه واستنَّ بسُنَّته، واقتفى أثرَه إلى يوم الدِّين.

أمَّا بعد، فحيَّى الله هذه الوجوه المُشرقة الطيبة، وزكَّى الله هذه الأنفس الكريمة، وشرح الله هذه الصُّدور العامرة بحب الإسلام، وطِبتم وطاب سعيكم وممشاكم، وتبَوَّأتم من الجنة منزلًا، وأسأل الله الحليم الكريم -جل وعلا- الذي جمعني بحضراتكم في هذا الجامع العامر المُبارك -جامع الإمام مالك بن أنس- على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدُّعاة وإمام النَّبيين في جنته ودار مقامته، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.

أشكر لأحبابي وإخواني، وأشكر لأخي الحبيب الدكتور سامي مقدمته المُحبَّة، وأسأل الله أن يجمعني بكم جميعًا مع المُتحابِّين بجلاله في ظلِّ عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظله.

وأشكر لأخي الفاضل فضيلة الدكتور عمر، ولأخي الفاضل فضيلة الدكتور راشد على هاتين المحاضرتين البليغتين الكريمتين، والله تعالى أسأل أن ينفعنا جميعًا بهذه الكلمات، وأن يجزيهما عنَّا خير الجزاء.

أحبتي في الله، لقد حرَّك الشيخُ عمر بحديثه عن مقاصد الشَّريعة، وحرَّك الشيخ راشد في مقدمة محاضرته بحديثه عن أدب الخلاف بين الأئمَّة؛ حرَّكا شَهِيَّتي وهِمَّتي وإرادتي أن تكون محاضرتنا الليلة محاضرةً علميَّةً منهجيَّةً -وسامحوني- في أدب الخلاف بين الأئمَّة والعلماء، وسأُركِّز الحديثَ مع حضراتكم تركيزًا شديدًا في المحاور التالية:

أولًا: أسباب الخلاف.

ثانيًا: فقه الخلاف.

ثالثًا: أدب الخلاف.

فأعرني قلبك وسمعَك جيدًا؛ لأننا الآن في أمس الحاجة إلى الوقوف على هذه الأصول، فاختلاف العقول ثَرَاء، واختلاف القلوب دَاء، وتباين الآراء أمر قدَّره رب الأرض والسَّماء.

أسباب الخلاف؛ وقبل ذلك نذكر أنواع الخلاف.

الخلاف نوعان:

- خلاف في الأصول.

- وخلاف في الفروع ومسائل الأحكام.

الخلاف في الأصول: هو المراد في قوله تعالى: ﴿ولَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119].

قرر الإمامُ الشَّاطبي وابنُ تيمية وابن القَيِّم وابن حزم وغيرهم أنَّ الخلافَ المذموم باتِّفاقٍ: هو الخلاف في أصل الملَّة، وهذا خلافٌ ثابتٌ قدرًا وشرعًا، فأهل الإيمان في جنب أهل الكفر قلَّة، قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم باللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106].

وقال تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103].

وقال تعالى: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء: 89].

وقال تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].

وقال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13].

وقال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: 24].

وفي الصَّحيحين من حديث ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في قبَّةٍ، فقال -عليه الصلاة والسلام: «أَتَرْضَونَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟».

قلنا: نعم.

قال: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟».

قلنا: نعم.

قال: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟».

قلنا: نعم.

قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ -أي نصف- أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ مُؤْمِنَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الْكُفْرِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ».

إذن الخلاف المذموم باتِّفاقٍ هو الخلاف في أصل المِلَّة، فالناس ثلاثة أصناف:

- مؤمنون.

- وكافرون.

- ومُنافقون.

مؤمنون: هم الذين آمنوا بالله -جل وعلا- وبأنبيائه ورُسله.

وكافرون: كفروا بالله -جل وعلا- وهم أكثر أهل الأرض.

ومنافقون: وهم نوعان:

• نوع وقع في نفاق الاعتقاد: وهم أولئك الذين أظهروا الإسلامَ بألسنتهم وأبطنت قلوبهم الكفرَ، وهذا هو النِّفاق الأكبر الذي يُخرِج صاحبَه من المِلَّة باتِّفاقٍ.

• والنوع الثاني: نفاقٌ أصغر، جمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصولَه في خمس خِصالٍ بمجموع روايتي أبي هريرةَ وعبد الله بن عمرو، والرِّوايتان في الصَّحيحين، قال -صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ».

وفي رواية عبد الله بن عمرو: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» وفي لفظٍ: «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ».

هؤلاء هم أصناف الناس الثلاثة:

- مؤمنون.

- وكافرون.

- ومنافقون.

فالخلاف المذموم باتِّفاقٍ هو الخلاف في أصل الدين: ﴿ولَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119].

أمَّا النوع الثاني باختصارٍ: فهو الخلاف في مسائل الفروع والأحكام:

وهذا لا حصرَ له ولا عدَّ، وأهله هم أهل رحمة الله -جل وعلا- إن كانوا من أهل السُّنة.

قال الشَّاطبي: "والخلاف المذموم في الآية باتِّفاقٍ هو الخلاف في أصل المِلَّة، أمَّا الخلاف في مسائل الفروع والأحكام فأهله هم أهل رحمة الله -تبارك وتعالى- من الصَّحابة والتَّابعين والأئمَّة من بعدهم".

فهؤلاء وقعوا في الخلاف في مسائل الفروع، وفي مسائل الأحكام، والخلاف في مسائل الأحكام لا يجوز فيه الإنكار على المُخالِف.

انتبهوا أيُّها الأبناء وأيُّها الأحباب! قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلَّما اختلف مسلمان في شيءٍ من مسائل الأحكام تهاجرا لم يبقَ بين المسلمين عصمة ولا أُخوة".

هل نظرتم إلى أدب الأئمَّة مع بعضهم البعض على اختلافهم في مسائل الفروع وفي مسائل الأحكام؟

الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط، فلا يجوز أن تهجر أخاك إن خالفته في عشرات المسائل في فروع المسائل أو مسائل الأحكام، أبدًا، الأمر فيه سَعَة، ستضع يدك على صدرك بعد الرفع من الركوع والآخر سيُرسِل يديه، لا حرجَ، ستنزل على يديك للسُّجود والآخر سيهوي على ركبتيه، لا حرجَ.

بل ستعجبون إذا قلتُ لكم: إنَّ الأدلة التي يستدلُّ بها كلُّ فريقٍ من علمائنا وأئمَّتنا ربما تكون أدلَّةً واحدةً في نفس المسألة المختلف فيها من مسائل الفروع والأحكام، ولكن الخلاف -كما سأُبين في الأسباب الآن- يقع بسبب اختلاف الأئمَّة في فهم الأدلة، فالخلاف في مسائل الفروع لا حصرَ له ولا عدَّ، وهو خلافٌ جائزٌ.

اسمع مني هذه العبارة التي أرى أن تُكتَب بأغلى من ماء الذهب لأبي حامد الغزالي، ومنهجنا الذي ندين الله به أننا نقبل الحقَّ على لسان أي أحدٍ، ونرد الباطل على لسان أي أحدٍ، قال علي -رضي الله عنه: "اعرف الحقَّ تعرف أهلَه، فإنَّ الحقَّ لا يُعرَف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يُعرَفون بالحقِّ".

يقول أبو حامد الغزالي -غفر الله لنا وله: "لو سكت مَن لا يعلم لسقط الخلافُ".

فالذي يُؤجِّج الخلافَ ويُضخِّمه إلى حدِّ النزاع والصِّراع هم الجهلاء الذين لا يعلمون ولا يُفرِّقون بين الدليل ومراتب الدليل ومناطات الدليل، والمُجْمَل والمُبَين، والعام والخاص، والنَّاسخ والمنسوخ، ولا يعرفون مآلات الأقوال والأفعال، هؤلاء هم الذين يُؤجِّجون الخلافَ، لا حرج أن تختلف معي في مئات المسائل -أنا لا أُبالغ، فأنا أعي كلَّ لفظةٍ- فلا حرج أن تختلف معي في عشرات بل في مئات المسائل في مسائل الفروع والأحكام.

انظر إلى هذه المجلدات الضَّخمة من كتب الفقه لسادتنا وأئمَّتنا وعلمائنا كلها مسائل خلافية، كلها مسائل فروع، كلها في مسائل الأحكام، ولو وقفتَ على كتاب "الإجماع" لابن المنذر مثلًا أو على مسائل الإجماع التي أجمع عليها الصحابة وأجمعت عليها الأمَّةُ من بعدهم، لوقفتَ على عددٍ قليلٍ جدًّا من المسائل، ولو شاء الله -جل وعلا- أن يجعل الشَّريعة قواطع لجعلها: حلال حرام، حلال حرام، حلال حرام، لو شاء الله أن يجعل الشَّريعة هكذا قواطع لجعلها، فالأمر فيه سَعَة -بفضل الله- بشرط أن يتكلم في المسألة مَن يُحسِن الكلامَ عن الله ورسوله، مَن يفهم مراد الله، مَن يفهم مراد رسول الله، مَن يُفرِّق بين الدليل ومراتبه ومناطاته كما سأبيِّن الآن في أسباب الخلاف -إن شاء الله.

ثانيًا باختصارٍ: أسباب الخلاف:

أنا لا أرى فارقًا بين الاختلاف والخلاف، وإن كان بعضُ أهل العلم يرى فارقًا، لكن الفارقَ لا أراه جوهريًّا من الناحية اللُّغوية، بل والتَّأصيليَّة والشَّرعيَّة.

أسباب الخلاف:

أول سبب: طبيعة البشر:

كما ذكر الدكتور عمر -جزاه الله خيرًا.

فلا يقول عاقلٌ أبدًا أنَّ هذا الجمع الكبير يتفق في كلِّ شيءٍ، لا، بل ولا يتَّفق أبناؤك أنت في بيتك في كلِّ شيءٍ.

طبيعة البشر، فالناس خُلِقُوا بطريقةٍ متفاوتةٍ، أو متفاوتون في الخَلْق، وفي الفهم، وفي العقل، وفي التَّلقِّي، وفي الإدراك.

يقول شيخي ابنُ القيم: "دلالة النُّصوص نوعان:

- دلالة حقيقيَّة.

- ودلالة إضافيَّة.

أمَّا الدلالة الحقيقيَّة: فهي التَّابعة لقصد المتكلم، وهذه لا تختلف.

وأمَّا الدلالة الإضافيَّة: فهي التابعة للمُستَمِعين، وهذه تختلف وتتعدد بتعدد وأعداد المستمعين".

فكلُّ أخٍ يجلس بين يدي الليلة، وكلُّ أختٍ تسمع كلامي وكلام المشايخ من قبلي بطريقةٍ تختلف تمامًا عن الطريقة التي تسمع بها أنت، أو تسمع بها أختها الأخرى، فطبيعة البشر مختلفة، مختلفون في عقولهم، وأفهامهم، ومداركهم.

قال الله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22].

فأنا أعجب كيف جعلنا آيةً من آيات الله نقمة؟! كيف لا يكون هذا الاختلاف نعمةً؟! كيف لا يكون الخلافُ بيننا وبين علمائنا إثراءً للعمل الإسلامي، وإثراءً للدَّعوة وللاجتهاد؟! لماذا جعلناه نقمةً على العمل الإسلامي؟!

السبب الثاني -باختصارٍ- من أسباب الاختلاف: عدم بلوغ الدليل:

وقد أختلف مع الشيخ عمر الآن أو مع الشيخ راشد في مسألةٍ، فيُذكِّرني الشَّيخان بحديثٍ ويقولان: الحديث ثابتٌ صحيحٌ، في صحيح البخاري مثلًا، أو في صحيح مسلمٍ، أو عند أصحاب السُّنن، أو عند أصحاب المسانيد، أقول: أستغفر الله، معذرةً، أنا لم يبلغني هذا الدليل في هذه المسألة، وحينئذٍ إن كنت من أهل الحقِّ أرجع إلى الحقِّ الذي بصَّرني الله به.

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في كلمات تُكتَب بماء الدموع الخاشعة، واحفظ مني هذا: "مَن اعتقد أنَّ كلَّ حديثٍ صحيحٍ قد بلغ كلَّ إمامٍ من الأئمَّة فقط أخطأ خطأً فاحشًا".

بل أنا أقول لشيخ الإسلام: وأنا أضيف يا إمامنا وأقول: مَن اعتقد أنَّ كلَّ حديثٍ صحيحٍ قد بلغ كلَّ صحابي من الصَّحابة فقد أخطأ خطأً فاحشًا.

حتى الصحابة؟!

نعم، حتى الصَّحابة.

تريدون الأدلة على هذا التَّأصيل الخطير؟

ذكَّرنا الشيخ عمر -جزاه الله خيرًا- بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصَّحيحين: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» هذا لفظ البخاري، واختلف الصَّحابة كما سمعتم.

قال: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، دع هذا الدليل الآن.

خذوا حديثًا آخر في الصَّحيحين، وهو حديث عبد الرحمن بن عوف في طاعون الشام، فلم يبلغ الدليل في مسألة الطاعون عمرَ بن الخطاب.

عمر؟!

نعم، بل ولم يبلغ الدليلُ في مسألة الطاعون المهاجرين، أو كثيرًا منهم، ولم يبلغ الدليلُ في مسألة الطَّاعون أمين الأمَّة أبا عبيدة بن الجرَّاح ومعه عددٌ كبيرٌ من الصَّحابة، وانقسم الصَّحابةُ إلى فريقين:

- فريقٍ -أو فريقٌ، كلاهما يصح لغةً- على رأسه عمر.

- وفريق على رأسه أبو عبيدة.

فإنَّه لما استشار عمرُ مشيخة المهاجرين أشاروا عليه أن يرجع، وألا يَقْدُمَ على الطاعون بمَن معه من الصحابة، فقال له أبو عبيدة قولته الجميلة التي تحفظونها: "يا أمير المؤمنين، أتفرُّ من قدر الله؟"، أو "أَفِرَارًا من قدر الله؟".

فقال عمر قولته الرائعة: "لو قالها غيرُك يا أبا عبيدة! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله".

الشَّاهد: اختلف الصَّحابة في هذه المسألة، ولم يبلغ الصحابةَ في فريق عمر ولا في فريق أبي عبيدة الدليلُ في هذه المسألة، حتى جاء عبدُ الرحمن بن عوف وقال: "سمعت رسولَ الله"، لم يسمع عمر؟

نعم.

لم يسمع أبو عبيدة؟

نعم.

لم يبلغ الدليلُ هؤلاء الفُضلاء؟

نعم.

قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِأَرْضٍ وَلَمْ تَدْخُلُوهَا فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي أَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ»".

وحسم عبدُ الرحمن بن عوف بالدليل الخلافَ بين الفريقين، فحمد عمر بن الخطاب ربَّه أن وافق قولُه واجتهادُه قولَ رسول الله الذي لم يبلغه -رضي الله عنه.

الشاهد: أنَّ من أعظم أسباب الخلاف: عدم بلوغ الدليل.

السبب الثالث: اختلافهم في فهم الدليل:

وأرجو أن تنتبه معي، احفظوا مني -يا أحبابي- هذه العبارة، أقول لكم يا طلبة العلم: الدليل ليس مُنتهى العلم، ولو كان الدليلُ صريحًا في القرآن، ولو كان الدليلُ صحيحًا في السُّنة، ليس منتهى العلم، بل لابُدَّ من فهم الدليل.

ترجم الإمامُ البخاري في كتاب "العلم" بابين بعنوان: باب العلم قبل القول والعمل.

وصدَّر البابَ بقوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19].

وبوَّب بابًا آخر في كتاب "العلم" بعنوان: باب الفهم في العلم.

انتبهوا يا شباب! باب الفهم في العلم، وصدَّر البخاري -رحمه الله- البابَ بحديث معاويةَ -رضي الله عنه- أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ يُرِدِ اللهَ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، وبمفهوم المخالفة: "مَن لم يُرد الله به خيرًا لن يُفقهه في الدين".

يُفقهه: قال الحافظ ابن حجر: "أي يُفهمه".

فلابُد من فهم الدليل، ومراتب الدليل، وتحقيق مناط الدليل.

قال شيخي ابنُ القيم -رحمه الله: "لا يجوز للعالم أو الحاكم أو المُفتي أن يُفتي في مسألةٍ إلا بعلمين:

الأول: فهم الواقع.

والثاني: فهم الواجب في الواقع"، أي فهم الدليل الشَّرعي الذي ينسحب على هذا الواقع.

فلابُد من الفهم، فقد يحدث الخلافُ بسبب اختلاف الأئمَّة في فهم الدليل.

وهناك مسألةٌ معاصرةٌ تُحدِث خلافًا بين أبنائنا وشبابنا في المساجد في تونس ومصر وغيرهما، فما من مكانٍ أذهب إليه إلا وأُسأل فيها: هل أضع يدي على صدري بعد الرفع من الركوع أم لا؟

الشيخ الألباني يرى أنَّ وضعها على الصدر لا أصلَ له، والشيخ ابنُ باز يرى أنَّها سنَّة، والشَّيخان يستدلان بدليلٍ واحدٍ، لكنَّهما اختلفا بسبب اختلافهما في فهمها للدليل، وقد سبقهما في ذلك الصَّحابةُ الكرام، فقد اختلفوا في فَهم الحديث الذي ذكرت: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ».

أنا أرجو أن أُضيف لطيفةً أخرى إلى اللَّطائف الجميلة التي ذكرها الشيخُ عمر، ألا وهي: هل أنكر النبيُّ على فريقٍ من الفريقين؟

أجبتم وقلتم: لا.

وأنا أقول: وإنما جمعهما -صلى الله عليه وسلم- في صفٍّ واحدٍ وقاتل بهما معًا بني قُريظة، فهل سنستوعب الدرسَ لنكون صفًّا واحدًا في وجه أعداء هذا الدين؟

ويبقى الخلافُ بيننا في مسائل الفروع والأحكام سائغًا مقبولًا، ولا يكون سببًا للنزاع والشِّقاق والخِصَام والصِّراع بل والصِّدام.

لا زلتُ أذكر وأنا في مُزدلفة في عامٍ من الأعوام أني صليت المغرب والعشاء بإخواني جمعًا وقصرًا وأنا بملابس الإحرام، وجلستُ أردد أذكارَ الصلاة، وإذ بأحد الإخوة الأفاضل يقترب مني ويُلقِي عليَّ السلامَ ويقول لي: يعِزُّ عليَّ أن أرى وجهك ووجوه إخوانك من خلفك وجوه أهل السُّنة وأنتم جالسون على بدعةٍ.

قلت: أعوذ بالله، بدعة! أستغفر الله، علِّمني يا أخي.

والله يا إخواني، أقسم بالله، أنا لا أستحيي أبدًا أن يُعلِّمني أصغر طلابي، وأنا أقول لإخواني الذين يأخذون عليَّ بعضَ المآخذ أو يُعددون بعضَ الأخطاء، أقول لهم: أنا أفتح قلبي وصدري، بل أسألكم بالله مَن وقف منكم لي على خطأ في الأصول أو في الأركان، أسألك بالله أسرع وعلِّمني إيَّاه، وستجدني -إن شاء الله- من أحبِّ الناس لقبول الحقِّ، وأسرع الناس للإذعان للحقِّ، وسأُعلن ذلك في الدنيا وعلى الفضائيَّات.

لكن إن خالفتُك في مسألةٍ من مسائل الفروع، أو في عشرات المسائل من مسائل الأحكام، فلا حرجَ؛ فهذا خلافٌ سائغٌ، لا تُنكِر عليَّ فيه، وليس من حقِّي أن أنكر عليك فيه، لكن صحح لي خطئي إن أخطأتُ في أصلٍ من الأصول، أو في ركنٍ من الأركان، أو حتى في واجبٍ من الواجبات، بل أنشدك الله أن تفعل.

المهم، قلت: علِّمني يا أخي -جزاك الله خيرًا.

قال: ثبت في صحيح البخاري وغيره أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يُسَبِّحُ في السَّفر.

قلت: سامحك الله، يا أخي الحبيب، كان لا يُسَبِّحُ في السَّفر: أي لا يُصلي صلاة النَّافلة.

قال: سبحان الله! عجيب.

قلت: أنت بدَّعتنا، وحكمت علينا بالبدعيَّة أنا ومَن معي، وأنت لم تُحسِن أن تفهم مرادَ رسول الله، روى البخاري وغيره أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ»، أي لو كنتُ مُصليًا النَّافلة لأتممت الفريضةَ، إلا ما دلَّ عليه الدليلُ من صلاته في السَّفر -صلى الله عليه وسلم.

وتذكرون أنني ذكرتُ لكم قصةً طريفةً وأنتم تحفظونها جميعًا، وهذه ليست قصةً وهميَّةً، بل هي حقيقيَّة، وأنا ألقي الدرسَ الأسبوعي لي في مسجد التَّوحيد بمدينة المنصورة إذ بمجموعةٍ من الأفاضل من أهلنا الطَّيبين في مصر يقول أحدُهم في الزِّحام: يا شيخ محمد، يا شيخ محمد.

قلت: نعم.

قال: أودُّ ألا تنصرف حتى أسألك عن صحة حديثٍ.

قلت: تفضَّل، اسأل.

قال: كان -صلى الله عليه وسلم- لا يرد الدُّهن، حديث صحيح؟

قلت: نعم، حديث صحيح.

فالتفت بلغة المصريين الجميلة الرَّقيقة إلى مَن معه وقال: ألم أقل لكم؟! قلت لكم الحديث صحيح.

فواحد منهم ردَّ قائلًا: يا شيخ، هذا كان سيقتلنا.

قلت: ما الموضوع؟ تعالوا.

فجاءوا وجلسوا أمامي، قلت: خيرًا إن شاء الله.

فقال الرجل: هذا الرجل دعانا للغداء اليوم وأحضر لنا ليَّة الخروف -وهو الشَّحم- ما شاء الله! حمَّرها بالسَّمنة البلدي ووضعها على الأُرز، ثم جعل يقطع بالسكين ويُعطينا.

فيقول أحدنا: أنا لا أقدر عليه.

فيقول: كان -صلى الله عليه وسلم- لا يرد الدُّهن.

فالإخوة طيبون، وعندنا أهل مصر يحبون رسولَ الله جدًّا، وأهل تونس والله، أسأل الله أن يزيدكم رقَّةً، وأن يزيدكم فضلًا وأدبًا.

فالأخ يأخذ القطعة ويقول: يا بُني، النبي قال هذا؟

يقول له: والله الحديث صحيح.

يقول له: صلى الله عليه وسلم.

ويأخذ ويأكل، ثم يُعطيه مرةً أخرى فيقول: كفى يا بني.

يقول: أترد السُّنة؟ هذه مُصيبة!

يقول: صلى الله عليه وسلم.

ثم قال له: لابد أن نسأل.

فقلت له: يا أخي، سامحك الله! كان -صلى الله عليه وسلم- لا يرد الدُّهن: أي لا يرد الطِّيْبَ.

وقالوا عبارةً خطيرةً جدًّا، قالوا: أنت ستقتلنا باسم النبي؟!

روى الإمامُ أحمد في مسنده بسندٍ صححه شيخُنا الألباني من حديث جابر وابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كنا في سفرٍ فأصاب رجلًا منَّا حجرٌ فشَجَّه في رأسه، ثم احتلم، فقال: هل تجدون لي رخصةً في التيمم؟

قالوا: لا، ما دمتَ تقدر على الماء.

فاغتسل، فمات، فلمَّا أخبروا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «قَتَلُوهُ قَاتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟! إِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»".

لهذا القدر الحديث صحيح، والزيادة ضعيفة: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ...»، وما بعد ذلك ضعيف.

انظر كيف قال النبيُّ: «قَتَلُوهُ»، وقال: «قَاتَلَهُمُ اللهُ»، وحكم عليهم بالجهل مع أنَّهم أفتوه بدليلٍ صحيحٍ مئة بالمئة: "إذا وُجِد الماء بطل التيمم"، لكنَّهم أفتوه بدليلٍ عامٍّ لمناط خاصٍّ فقتلوه.

جاءت امرأةٌ إلى الإمام أحمد فقالت: يا إمام، نجلس فوق سطح دارنا لنغزل الصُّوفَ على ضوء القمر، فيمر علينا أحيانًا جند السُّلطان يحملون مشاعِلَهم، فتُضيء لنا مشاعلُ جند السُّلطان، فهل يجوز لنا أن نغزل الصُّوفَ على ضوء مشاعل جند السلطان؟

الله أكبر!

انظر إلى الإمام الفقيه: قال: مَن أنتِ.

قالت: أنا أخت بشر الحافي.

قال: أنتِ أخت بشر؟

قالت: نعم.

قال: من بيتكم خرج الورعُ، إذن لا يجوز لكُنَّ.

أمَّا لو محمد حسان سأله لقال: اغزل للصبح.

هذا مقام ورع، انظر إلى فقه الأئمَّة.

الشاهد: أنَّ من أعظم أسباب الخلاف: الاختلاف في فهم الدليل، فقد تفهم دليلًا فهمًا مُعيَّنًا، وقد أفهم أنا من نفس الدليل فهمًا آخر؛ فنختلف، وقد يُوقِع هذا الخلاف النِّزاع، بل والصِّراع.

أيضًا من أسباب الخلاف: النِّسيان:

قد أنسى الدليل فذكِّرني به، وقد تنسى الدليل، فلأذكرك به.

روى البخاري أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَونَ»، وقرأ يومًا إمامًا في الصلاة فنسي آيةً، فلمَّا أنهى الصلاةَ رأى أُبي بن كعب، فقال: «هَلْ صَلَّيْتَ مَعَنَا يَا أُبَيُّ؟».

قال: نعم.

قال: «هَلَّا ذَكَّرْتَنِي هَذِهِ الْآيَةَ».

وهو مَن هو الذي ينزل عليه الوحي.

فالنِّسيان قد يكون سببًا.

أيضًا من الأسباب: عدم العلم بنسخ الدليل:

قد لا أقف على النَّسخ، ولذلك لابُد للمُفتي والعالم أن يكون بصيرًا بأقوال أهل العلم، وأن يكون مُلِمًّا بمسائل الخلاف، وأن يكون على علمٍ بالنَّاسخ والمنسوخ.

لا أريد أن أُطيل النَّفَس لأخلص إلى أهم ما أريد أن أذكره، ألا وهو: أدب الخلاف.

أعظم أدبٍ من آداب الخلاف: أن نحترم المُخالِف، وأن نُحسِن به الظَّن:

ولاحظ أنني أتكلم الآن في إطار أهل السُّنة، ولا أتكلم عن أهل البدع، بل خذوا مني هذه الفقرة لشيخ الإسلام ابن تيمية، يقول: "إذا نظرتَ إلى أهل البدع بعين القدر رحمتهم وترفَّقتَ بهم".

هذا كلام شيخ الإسلام، وشيخنا يُقَسِّم البدعَ إلى ثلاثة أقسام:

- بدعٍ مُكَفِّرةٍ.

- وبدعٍ مُفَسِّقةٍ.

- وبدعٍ يُعذَر فيها أصحابها، وإن سُمِّيت ضلالة.

راجع تفسير شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في كتاب "رياض الصَّالحين" وهو يشرح حديث العِرباض بن سارية.

- بدع مُكفِّرة.

- وبدع مُفَسِّقة.

- وبدع يُعذَر فيها أصحابها، وإن سُمِّيت ضلالة.

فيقول ابنُ تيمية: "إذا نظرتَ إلى أهل البدع بعين القدر".

يعين القدر يعني ماذا؟

يعني: الذي وفَّقك للاتباع هو الذي ابتلى فلانًا بالابتداع، فتتواضع وتنكسر لله، وتحمد الله على أن رزقك الهدى والاتِّباع.

قال: "إذا نظرتَ إلى أهل البدع بعين القدر والحيرة مُستَوليةٌ عليهم، والشَّيطان مُستحوذ عليهم؛ رحمتهم وترفَّقتَ بهم، أوتوا ذكاءً وما أتوا زكاءً".

أتوا ذكاءً: أي في عقولهم.

وما أوتوا زكاءً: أي تزكيةً في نفوسهم.

قال: "وأُعطِوا علومًا وما أُوتوا فُهُومًا، وأوتوا سمعًا وأبصارًا وأفئدةً، فما أغنى عنهم سمعُهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيءٍ".

﴿كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: 94]، هل وُلِدْتَ عالمًا بالتَّوحيد والسُّنة؟ هل وُلِدْتُ أنا حافظًا للقرآن عالمًا بالتَّوحيد والسنة؟

أبدًا، ﴿كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: 94].

الشاهد -أيُّها الأفاضل: أن نحترم المُخالِف، كيف لا أحترم ابنَ تيمية، وابن القيم، وابن حزم، والشَّاطبي، وابن حجر، والبخاري.

سمعتُ بأذني والله شابًّا من أولادنا يقول: ابن حجر مَن وابن زلطٍ مَن؟! وابن باز مَن وابن جازٍ مَن؟!

ودخلتُ مكتبةً فرأيتُ طالبًا لمَّا تنبت لحيته يُحقِّق حديثًا، فسعدتُ به جدًّا، واقتربتُ منه وقبَّلته، قلت: ما شاء الله! ماذا تصنع؟

قال: أُحقق حديثًا -بلهجة لا يصح أن تخرج من الولد.

قلت: تحقق! بلغة المصريين: "مرة واحدة؟!".

قال: نعم.

قلت: ما الحديث؟

فذكر لي حديثًا في مسند الإمام أحمد صحَّحه الشيخُ الألباني.

قلت: يا ولدي، هذا حديثٌ صحيحٌ.

قال: مَن صحَّحه؟

قلتُ: الشيخ الألباني.

قال: لا، الألباني مُتساهِلٌ في التَّصحيح.

إي والله! قلت: أغلق الكتبَ، أغلق يا ولد، وأمسكتُ أذنه وفركتُها فركًا -ولي في ذلك سلف- وقلت: اقرأ عليَّ سورةَ المطففين.

قال: نعم!

قلت: اقرأ سورةَ المطففين.

فأخطأ! فعاتبتُ شيخه وقلتُ: لا ينبغي أبدًا أن يبدأ الطالبُ في مثل هذا السن بمثل هذا العلم، وإنما فليحفظ أولًا كتابَ الله، وليحفظ قدرًا كبيرًا من حديث رسول الله، فإن اطمأننتَ له فاختر له التَّخصص الذي يُناسبه، لكن لا يحفظ شيئًا من كتاب الله!

والله جاءني شابٌّ من أولادي وقال: يا شيخ محمد.

قلت: نعم.

قال: نريد أن نجلس معك لنُناقشك في قضية التَّكفير.

قلت: أهلًا وسهلًا، تفضَّل.

وأنا أرجو من أهل العلم ألا يُعاملوا أبناءنا بكبرٍ أو بعُجْبٍ أو باستخفافٍ، هؤلاء من أخلص أولادنا، لكن يحتاجون إلى مَن يُصحح لهم ويُبين لهم الحقَّ بأدبٍ.

قلت له: حسنًا، تعالَ تفضَّل.

ومعه مجموعةٌ كبيرةٌ من الشَّباب والنساء، فقلت: أنا عندي الآن محاضرة، تعالوا احضروا معي المحاضرة وبعد العشاء نجلس معكم.

قال: لا، لا نحضر مع هؤلاء.

قلت: لماذا؟ ما لهؤلاء؟

قال: كفَّار.

قلت له: وأنا؟

قال: كافر.

قلت له: أنا كافر؟

قال: نعم، كافر.

قلت له: إن شئتم أن تنتظروا في الميكروباص فانتظروا وإلا فأتوا في مكانٍ داخل المسجد في المكتبة؟

قال: لا، سنظل هنا.

قلت: حسنًا، بكلِّ أدبٍ.

وانتهيت وخرجتُ لهم، قلت: تعالوا تفضَّلوا.

قال: نجلس وحدنا.

قلت لهم: حسنًا، وجلستُ معهم.

وقلتُ لشابٍّ صغيرٍ من أولادي: تعالَ يا حبيبي، تفضَّل، أنت المسئول عن هذه المجموعة؟

قال: نعم.

قلت: أنا كافر عندك؟

قال: نعم.

قلت: وأنا أريد أن أدخل الإسلام.

إي والله هكذا، قلت: ماذا أصنع؟

قال: تنطق الشَّهادتين.

قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله.

بكلِّ احترامٍ وأدبٍ، وقلت له: أنا هكذا أسلمت؟

قال: نعم.

قلت: كان من المُفترض أن أغتسل، لكن أنا -بفضل الله- مُغْتَسِلٌ، وأنا صادقٌ فيما أقول لك، وسأنطق الشَّهادتين، لكن يبقى أن أقول لك: يجب عليَّ أن أُظهر أول أركان الإسلام العمليَّة، ألا وهو الصلاة، وأنتم ما صليتم المغربَ والعشاء، فأقسمتُ عليك بالله لتُصلينَّ المغرب والعشاء إمامًا بنا، وسأُصلي خلفك المغرب والعشاء؛ لأثبت لك أني أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإني أُقيم الصلاة، وإني -إن شاء الله تعالى- محافظٌ على الزَّكاة، وقد حججتُ أكثر من ثلاثين مرةً، واعتمرتُ عشرات المرات -بفضل الله تعالى- وأُبشِّرك: أنا أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأُثْبِت لله ما أثبته لذاته من الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا، وما أثبته له عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تشبيهٍ ولا تمثيلٍ.

هل تريد مني شيئًا آخر لأقرَّ لك به؟

قال: لا.

قلت: أنا الحمد لله صرتُ مسلمًا؟

قال: نعم.

قلت: طيب، نتكلم.

قال: تفضَّل.

قلت: حبيبي، هل تحفظ القرآن؟

قال: لا.

قلت: هل تحفظ نصفه؟

قال: لا.

قلت له: هل تحفظ ربعه؟

قال: لا.

إي والله!

قلت له: حبيبي، هل تحفظ ألفَ حديثٍ؟

قال: ألف حديث؟! لا.

قلت: خمسمئة، مئة، خمسين؟

قال: لا.

قلت له: طيب، والله أنا لا أُريد أن أُقلل من شأنك، ولا أُريد أن أُسفهك أبدًا، فهذا ليس من خُلُقي، لكن أنا أريد أن أضع أنا وأنت أصولًا وقواعدَ لنقف عليها للحوار بأدبٍ وإخلاصٍ وتجرُّدٍ: هل تُفرِّق بين الدليل ومراتب الدليل، والمجمل والمُبيَّن، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ؟

هذه أصول كبيرة كما علَّمنا الشيخ الآن في محاضرةٍ قيمةٍ.

قال: لا، أنا لا أعرف هذا.

قلت له: طيب، يا ولدي، هذه أخطر مسألة اختلفت فيها الأمَّة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "إني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسَب مُعيَّنٌ إلى تكفيرٍ أو تفسيقٍ أو تبديعٍ، حتى تُقام عليه الحُجَّة الرِّسالية التي يكون منكرُها وجاحدُها كافرًا تارةً، وفاسقًا تارةً، ومُبتدعًا تارةً".

فهذه مسألة خطيرة يا ولدي، كيف تتكلم فيها وأنت لا تمتلك أصلَ الأصول من القرآن والسُّنة؟!

وأعطيت له كتابًا جميلًا هو: "ضوابط التَّكفير عند أهل السنة والجماعة"، وقلت: أنا أرجو أن تقرأ هذا الكتاب، وأنا معك -إن شاء الله- إن قدَّر الله لنا البقاء واللقاء، إن أنهيته تعالَ، نلتقي بعد أسبوعين، بعد شهر، ونجلس معًا نتناقش -بفضل الله- بعد أن تطَّلع على هذا الكتاب، وأرجو أن ترجع إلى تفسير الحافظ ابن كثير وتقرأ بعضَ الآيات: كذا وكذا وكذا، وعُدْ إليَّ، ودوِّن ما تستطيع.

والله -يا إخواني- جاء إلي بعد أسبوعٍ وقال: جزاك الله عنَّا خيرًا، وأُشهِد الله أن الله -عز وجل- قد هداني للحقِّ الذي يُرضيه.

قرأ، وتعلم، وفَهِمَ، فليس عيبًا أن تسمع الحقَّ من أي أحدٍ إن كنت بحقٍّ تريد أن تصل إلى الحقِّ، ولا يجوز أبدًا أن تتكبر على أي أحدٍ، فهو يظن ويعتقد أنَّه على الحقِّ وأنَّه مخلصٌ، فبيِّن له الحقَّ بأدبٍ.

الشاهد: أنَّ من أعظم أدب الخلاف: أن تُحسِن الظنَّ بالمُخالِف، يعني أنت تزعم لنفسك الآن أنَّك غيورٌ على الدين، فلِمَ تَنْفِ عنِّي هذه الغيرة؟ لِمَ تتهمني بأنني لستُ غيورًا على الدين مثلك؟!

وأيضًا -أيُّها الأفاضل: اختيار الألفاظ والكلمات:

كان الشَّافعي يقول للربيع: "يا ربيع، اكسُ ألفاظك".

وجاء رجلٌ إلى أبي الدَّرداء ليسُبَّه، فقال له أبو الدرداء: "يا أخي، لا تُفرِط في سبِّنا وضع للصُّلح موضعًا، فإنَّا لا نُكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه".

وكان الشَّافعي بأدبه الجمِّ يقول: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصَّواب".

فهل أقول أنا محمد حسان: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ؟!

يا أخي، لا داعي للفَذْلَكَة! لماذا؟ هو رأي قرآن؟ رأي وحي؟

فهمي للنَّص ليس وحيًا، يقبل أن تختلف معه، ويقبل أن أختلف في فهمك أيضًا للدليل، فلا ينبغي أن نُسَفِّه إخواننا وأئمَّتنا من أهل السُّنة ومشايخ أهل السُّنة، وأن نَذُبَّ عن أعراضهم، وأن نَذُبَّ عنهم، لا تنتظروا أن يذبَّ شيخٌ من شيوخكم عن نفسه إن أُسِيء إليه، بل فليرد عنه طلَّابُه، ليرد عنه مُحبُّوه، وليُبيِّن طلابُه أصولَه ومنهجَه الذي لا لبسَ فيه ولا غموضَ.

بكلِّ أسفٍ انتهى الوقت، وأنا لا أُريد أن أُخالِف؛ فسأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُبصِّرني وإيَّاكم بالحقِّ.

اللَّهم لا تدع لأحدٍ منَّا ذنبًا إلا غفرتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا دَيْنًا إلا قضيتَه، ولا ميتًا لنا إلا رحمتَه، ولا عاصيًا بيننا إلا هديتَه، ولا طائعًا إلا زِدْتَه وثبَّته، ولا حاجةً هي لك رضًا ولنا فيها صلاحٌ إلا قضيتها يا رب العالمين.

اللَّهم اجعل تونسَ أمنًا أمانًا، سخاءً رخاءً، وجميعَ بلاد المسلمين.

http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=91