الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد حسان
فقه الدعوة (1)

الحمد لله الواحد الأحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.

وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله الذي عاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين حتى علَّم الجاهل، وقوَّم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء التوحيد والرحمة والتسامح والعفو والخير كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنَّا خير ما جزيت نبيًّا عن أمته، ورسولًا عن دعوته ورسالته، وكما آمنَّا به ولم نره لا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، وأوردنا يا رب بفضلك وكرمك حوضه الأصفى، واسقنا منه بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبدًا يا رب العالمين.

أما بعد، فحيى الله هذه الوجوه المشرقة الطيبة التي طال والله شوقي إليها، وزكَّى الله هذه الأنفس الكريمة التي انصهرْتُ معها من قديم في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور العامرة بحب الإسلام.

حيى الله أهل تونس الخضراء، حيى الله أهل تونس أرض العلم والعلماء، حيى الله أهل تونس أرض المحبة والسلام، حيى الله تونس الزيتونة، حيى الله تونس الخير والكرم والضيافة.

أشهد الله أني ما جئت إليكم إلا لأني أحبكم في الله، والله ما جئت لأنصر جماعة، والله ما جئت لأنصر حزبًا، والله ما جئت لأنصر تيَّارًا؛ بل ما جئت إلا لأني كنتُ في غاية الشَّوق منذ سنوات بعيدة مضت أن تطأ قدمي وتشرف بأن تطأ أرض تونس، وأن ألتقي بآبائي وأبنائي من أهل تونس المباركة.

أنا أعتذر غاية الاعتذار أن يُذكر اسمي إلى جوار اسم الإمام مالك، فأنا لا أساوي حبة رملٍ يطؤها الإمام مالك؛ بل وإذا ذكر الإمام مالك وهو شيخ الإمام الشافعي الذي هو شيخ أحمد وذُكرتُ أنا؛ أقول:

أسير خلف ركب القوم ذا عرجٍ

مؤمِّلًا جبر ما لقيتُ من عوج

فإن لحقت بهم بعدما سبقوا

فكم لرب السما للناس من فرجِ

وإن ضللت بقفرِ الأرض منقطعًا

فما على أعرجٍ في ذاك من حرجِ

إلهي لا تعذبني فإني

مقر بالذي قد كان مني

فكم من زلة لي في البرايا

وأنت عليَّ ذو فضل ومنِّ

يظن الناس بي خيرًا

وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني

اللهم اعفُ عنَّا، اللهم لا تفضحنا بخفيِّ ما اطلعت عليه من أسرارنا، ولا بقبيح ما تجرأنا به عليك في خلواتنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

أيها الأحبة، طيَّرتم كل ما أعددته لكم بدفء استقبالكم وحرارة حبكم، فلا أدري -والله وأنا صادق- هل أكلمك الليلة -كما طلب مني إخواني- في فقه الخلاف؟ أم هل أكلمكم في منهج المؤمن في الفتن؟ أم هل أكلمك في الإيمان والاستقامة؟ أم هل أكلمكم في الخوف والخشية؟

الخوف والخشية، على بركة الله.

قال الله -عز وجل- بلا مقدمات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم برَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون57-61].

إننا نعيش زمانًا قلَّ فيه الخوف من الله، وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقست فيه القلوب، قلَّ أن تجدد اليوم قلبًا يخشع لذكر الله -جل وعلا- بل وقد تدخل الليلة جوامعَ كثيرة -لا في تونس فحسب؛ بل في الأرض- فلا تجد في الجامع الجامع باكيًا خاشعًا من خشية الله -جل وعلا.

القلب رمز الحياة، وحقيقة الإنسان، فهو في الدنيا جماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، له في جسم الإنسان المكانة الأولى، وله على جميع الجوارح اليد الطولى، فهو الملك، والأعضاء تبع له وحشم، وهو القائد والجوارح جند له وخدم، إذا صلح صلح البدن كله، وإذا فسد فسد البدن كله، اتحد شكله في كل البشر، واختلفت حقيقته بعدد البشر، فقلب أصفى من الدرر، وقلب أقسى من الحجر.

قلب يحوم حول السماء، وقلب يحوم حول الخلاء، قلب معلق بعرش رب العالمين، وقلب في أسفل سافلين معلق بالشهوات والشبهات في درك الشياطين.

القلب قد يمرض وقد يموت، لا سيما في هذه الأزمنة التي صار الحديث فيها عن السياسة أكثر من ذكر الله -جل وعلا- بل لقد انشغل كثير من العلماء وطلبة العلم بالحديث عن السياسة أكثر من تذكيرهم بالله حتى قست القلوب فعلًا، وصار كثير من أولادنا وشبابنا يقضون الليل بطوله مع الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر وغيرها، وربما تنقضي الليلة كاملة ولا يفكر هذا الابن من أبنائنا أن يصلي لله ركعة أو أن يذكر الله مرة.

أنا لا أقول: لا تنشغل بأحداث الأمة وأحداث بلدك؛ أبدًا، وإنما أقول: كن متوازنًا، قدِّم الأهم على المهم، وكن فقيهًا بوصية النبي لمعاذ: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة»، إلى آخره.

إنه فقه الأولويات في الدعوة إلى الله -جل وعلا.

نعم نحتاج الآن إلى العلماء الربانيين والدعاة الصادقين الذين يجمعون بين فهم مراد الله ورسوله وفهم الواقع ليعلِّموا الأمة من جديد بكتاب ربها وسنة نبيها، إذ لا يجوز للعالم أو المفتي أن يفتي في أي مسألة إلا بعلمين:

الأول: فهم الواقع.

والعلم الثاني: فهم الواجب في الواقع، أي فهم الأدلة الشرعية التي تنسحب على الواقع.

فنحن نريد الآن مَن يرد الأمة إلى الله، والله الذي لا إله غيره لن تخرج تونس من أزمتها ولا من كبوتها كما لم تخرج مصر من أزمتها وكبوتها، ولن تخرج ليبيا من أزمتها وكبوتها، ولن تخرج سوريا من أزمتها وكبوتها، بل ولن تخرج الأمة من أزمته وكبوتها إلا إذا خطت الخطوة الأولى على الطريق، ألا وهي معرفة الله -جل وعلا- والعودة إليه، والتوبة إليه، والإقلاع عن المعاصي، أن تقول الأمة لربها مع السابقين الأولين قولتهم الخالدة: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

نعم نحتاج إلى قلوب تعرف الله، أنا لا أنفي الإيمان عن الأمة، حاشا وكلا؛ بل أمة التَّوحيد كانت ولا زالت وستظل أشرف وأطهر وخير أمة أخرجت للناس، وأرجو من شبابنا وأولادنا ألا يتعجَّلوا بالحكم على الأمة، فأمتكم هي أشرف أمَّة مع ما فيها اليوم من تقصير، ومع ما وقع فيه كثير من أفرادها في المعاصي والذنب. لماذا؟

﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [القلم: 35]، ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28]، لا يوجد الآن على ظاهر الأرض أمة توحِّد الله إلا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، لكنها تحتاج الآن إلى الربانيين الذين يذكرونها بربها ويجددون لها إيمانها، ويؤكدون لها صفتها بربها -تبارك وتعالى- هذا هو الطريق.

لقد كنَّا أذلَّ قوم فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله.

أيها الأحبة، جاء رجل إلى سفيان الثوري، فقال: يا سفيان، لقد ابتليت بمرض قلبي، فصِف لي دواءً.

فقال له سفيان: "عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التَّواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصبَّ عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن على المعصية، وصفِّه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكفِّ الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابتعد عن الحرص والطمع؛ تُشفى من مرضك بإذن الله". منهج.

والله ما سفك الدماء إلا رجل لم يخشَ الله، ولم يخف ربه، والله ما قطع الطريق إلا رجل لا يخاف الله، والله ما حرق الممتلكات والمؤسسات العامة والخاصة إلا رجل لا يخاف الله.

والله يا إخواني، ما تجرأ مَن تجرأ على الله -جل وعلا- بارتكاب معصية في أي ساعة من ليل أو نهار إلا لأنه لم يتذوق حقيقة الحب له وجلال الخوف منه، ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57]، ما الفرق بين الخشية والإشفاق؟

الخشية: خوف بعلم، لذا خصَّ الله العلماء بها، فقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

أما الإشفاق: خوف برقَّة.

فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء الربانيين، والوجل للمحبين المقرَّبين، ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]، قالت عائشة: "يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟".

قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله»، وفي لفظ: «وهو يخشى ألا يتقبَّل الله منه»، والحديث رواه أحمد وأبو داوود والترمذي بسندٍ صححه الألباني وغيره، وحسَّنه البعض.

إذن الخشية: خوف برقَّة.

حبيبي في الله، هل تستشعر جلال الله وقدر الله وعظمة الله؟

كيف تجرأت على الله وأنت تمسك بما يُعرف بالريموت كنترول لتبحث في الليل حيث لا يراك أحد من الخلق عن منظر مخل، أو فيلم سيء، أو موقع إباحي؟!

أنسيت أن الله مطَّلع عليك يسمع ويراك؟

كيف تجرأت على الغيبة والنميمة، وانتهاك الحرمات، والتعدي على الأعراض، وقطع الطرقات، وحرق المؤسسات، والتعدي على الممتلكات، والإساءة إلى المجتمع؟!

لو عرف القلب حقيقة الخوف، وتذوق القلب حقيقة الخشية، وامتلأ بقدر الله وجلاله؛ والله لغير الله أحوال المسلمين في كل بلادنا، فمن عرف الله أحبَّه، ومن ذاق قلبه الخوف منه دلَّه الخوف على كل خير، فكل قلب ليس فيه خوف الله فهو قبل خَرِب.

قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد، إننا نجالس أقوامًا يخوفوننا بالله حتى تكاد قلوبنا أن تطير.

فقال الحسن البصري: "يا هذا، إنك إن تجالس أقوامًا يخوفونك بالله حتى يدركك الأمن في الآخرة خير من أن تخالط أقوامًا يؤمِّنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة".

وفي الحديث الذي رواه البيهقي وغيره بسند صحيح بشواهده أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله تعالى: وعزَّتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، فإذا خافني في الدنيا أمَّنته في الآخرة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة».

الخوف ثمرة حتميَّة للإيمان، قال -جل وعلا: ﴿وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].

وقال -جل وعلا: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران 172، 175].

بل وأمرنا ربنا -جل وعلا- بالخوف منه، فقال -جل وعلا: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: 28].

وقال -جل وعلا: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: 12].

وقال -جل وعلا: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40].

وقال -جل وعلا: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91].

والله ما قدرنا الله حق قدره.

جاء حبر يهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود وقال: يا محمد يا محمد، إنَّا نجد مكتوبًا عندنا في التوراة: "أن الله تعالى يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك".

فمن الملك الحق؟

الله.

﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [طه: 114].

"ثم يهزهن ويقول: أنا الملك"، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقًا منه لقول الحبر اليهودي، وقرأ النبي قول الرب العلي: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].

هذه هي الخطوة الأولى على طريق السعادة والفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة، أن تعرف الله، وأن يمتلئ قلبك بجلاله وعظمته وقدره -سبحانه وتعالى- فضلًا عن توحيده والإيمان به، فضلًا عن أن تفرده وحده -جل وعلا- بالعبادة بلا منازع أو شريك، والله لا فلاح ولا نجاة، ولا سعادة لنا في تونس أو في مصر أو في الأمة إلا بهذا المنهج، إلا بهذا الطريق.

هذا هو الطريق الذي حوَّل رعاة الإبل والغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم.

اجعل بربك كل عز يستقر ويثبت

فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميت

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].

فالله يأمرنا أن نخافه؛ بل وجمع لأهل الخوف أعلى مقامات أهل الجنان من الخشية والعلم والهدى والرحمة والرضوان والإنابة والجنة، قال -جل وعلا: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: 154].

وقال -جل وعلا: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فالعلم والخشية مقترنان متلازمان.

وقال -جل وعلا: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾ [الأعلى: 10].

وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]، حاضر القلب وحاضر السمع.

وقال: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ [ق 31، 34].

ما أكثر الآيات!

والخوف -أيها الأحبة- درجات كما قال شيخي ابن القيم -لله دره:

- خوف من مكر الله.

- وخوف من سوء الخاتمة.

- وخوف من عذاب الله في الآخرة.

• خوف من مكر الله: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99]، لا تأمن مكر الله أبدًا.

ولدي الحبيب: لا تغتر بعلم، ولا تغتر بعبادة، ولا تغتر بعمل، ولا تغر بقيام ليل، ولكن كن دائمًا حذرًا وجلًا.

أحسنت ظنك بالأيام إذا حسنت

ولم تخف سواء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها

وعند صفو الليالي يحدث الكدر

فلا تأمن مكر الله أبدًا.

ها هو نبينا صاحب القلب الموصول بالله -كما في صحيح البخاري- لما مات عثمان بن مظعون قالت امرأة من الأنصار يُقال لها أم العلاء، قالت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي لك أن الله أكرمك، فسمعها رسول الله فقال: «وما يدريك يا أم العلاء أن الله أكرمه؟!».

قالت: سبحان الله! فمن؟!

يعني فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يُكرم الله عثمان بن مظعون؟!

هل تعلم أن عثمان بن مظعون هو أول من لُقِّب بالسلف الصالح؟

هل تعلم أن عثمان بن مظعون هو أول مَن دُفن بالبقيع؟

هل تعلم أن عثمان بن مظعون ممن شهدوا بدرًا؟

هل تعلم أن عثمان بن مظعون لما مات -كما في رواية في مسند أحمد بسند حسنه العلامة أحمد شاكر- لما مات قبَّله النبي بين عينيه وبكى؟

فسالت دموع النبي على خدي عثمان، وكفى عثمان شرفًا أن يلقى ربه ودموع رسول الله على خديه.

ومع ذلك تقول أم العلاء: شهادتي لك أن الله أكرمك.

فقال لها سينا رسول الله: «وما يدريكِ أن الله أكرمه».

قالت: سبحان الله! فمن؟!

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير، ووالله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي ولا بكم».

علامَ الكبر وعلامَ الغرور؟!

نحن الآن مع قلة عملنا يظن أحدنا أنه هو أول مَن سيدخلون الجنة، أنا أحب الرجاء، لكن أودُّ من أولادي وإخواني أن نقف جميعًا على أرض الحق والواقع، سلفنا مع كثرة عملهم كانوا من أشد الناس خوفًا من الله، ونحن مع قلة عملنا من أشد الناس جرأة على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فلا تأمن مكر الله، كم من عزيز أصبح ذليلًا! وكم من ذليلٍ أصبح عزيزًا! وكم من ملك أصبح سجينًا! وكم من سجينٍ أصبح رئيسًا! وكم من غني أصبح فقيرًا! وكم من فقير أصبح غنيًّا! ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، يرفع أقوامًا، ويخفض آخرين، يعز مَن يشاء، ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويخفض مَن يشاء.

لما سُجِنَ خالد بن برمك مع ولده في زنزانة واحدة بعد ملك لسنوات طويلة بكى ولده وقال: يا أبتِ؛ من الملك والجاه والسلطان إلى السجن والقيد في زنزانة واحدة؟!

فقال له والده -وانتبه: يا بني إنها دعوة مظلوم سرت إلى الله بليل غفلنا عنها ولم يغفل عنها الله.

لا تأمن مكر الله، بل كن دائمًا على حذر، امتثل الأمر واجتنب النهي، وقف عند حدودك وأنت في غاية الحب له والرضا عنه والحذر من مكره -سبحانه وتعالى.

ولا أريد أن أطيل في كل درجة من درجات الخوف.

• ثم الخوف من سوء الخاتمة:

والله لقد مزَّق هذا الخوف قلوب الصادقين، وقلوب العلماء الربانيين، ها هو فاروق الأمة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما نام على فراش الموت ودخل عليه ابن عباس وأثنى عليه، وقال: "أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين، لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راضٍ، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن متَّ اليوم فوالله لهم عنك لراضون، ثم شهادة في سبيل الله؛ فأبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين".

فبكى عمر وقال: "والله ذلك منٌّ منَّ الله به عليَّ، وإن المغرور لمَن غررتموه، والله وددت أن أخرج من الدنيا كفافًا لا لي ولا علي، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهبًا -أي ملء الأرض ذهبًا- لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه".

وهذا معاذ بن جبل حبيب حبيبنا الذي قال له: «والله يا معاذ إني لأحبك»، لما ابتلي بالطاعون في بلاد الشام ونام على فراش الموت، قال لأصحابه من حوله: "انظروا هل أصبح الصباح؟".

فنظر بعضهم وقال: لا بعد، أي لمَّا يُصبح الصباح بعد.

فسكت ثم قال: "انظروا هل أصبح الصباح؟".

قالوا: لا بعد، وماذا تريد؟

فبكى معاذ -رضي الله عنه- وقال: "أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار".

هذا معاذ يقول: "أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار".

ثم بكى وقال: "اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أُرِد الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب"، وظل يردد كلمة التَّوحيد حتى ختم الله له بالتَّوحيد.

وهذا إمام من أئمة الزهد والعلم والورع: سفيان الثوري لما دخل عليه حمَّاد بن سَلَمَةَ وهو على فراش الموت ومعه رجل، فرأى الرجلُ سفيانَ يبكي بكاءً شديدًا، فقال له هذا الرجل: يا أبا عبد الله، أراك كثير الذنوب إلى هذا الحد؟

فأخذ سفيان الثوري عودًا من الأرض وقال: "والله لذنوبي أهون عندي من مثل هذا، ولكني أخشى أن أُسْلَبَ الإيمان قبل الموت".

فقال له حمَّاد: أبشر يا أبا عبد الله، إنك مقبل على مَن كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين.

فقال له: "أسألك بالله يا حمَّاد، أتظن أن مثلي ينجو من النار؟".

وهذا الشافعي الإمام يدخل عليه تلميذه المزني وهو على فراش الموت فيقول له: كيف أصبحت يا إمام؟

فيقول الشافعي: "أصبحت للدنيا مفارقًا، وعلى الآخرة مقبلًا، ولعملي ملاقيًا، ولا أدري يا مزني أتصير روحي إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها".

هؤلاء هم الأئمة، مع عملهم يخافون ربهم -جل وعلا.

فعلينا جميعًا -أيها الأفاضل- أن نعيد على قلوبنا وأسماعنا هذه المعاني في هذه الأزمنة بالذَّات، ثم هل فكرنا في عذاب الآخرة؟ هل خفنا الله -عز وجل- في الآخرة؟ وفكَّر كل واحد منَّا في ساعة سيقف فيها بين يدي الله -تبارك وتعالى- ليكلِّمه الله بلا ترجمان كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم: «ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاقتوا النار ولو بشق تمرة».

أيا عبد كم يراك الله عاصيًا

حريصًا على الدنيا وللموت ناسيا

أنسيت لقاء الله واللحد والثرى

ويومًا عبوسًا تشيب فيه النواصي

لو أن المرء لم يلبس ثيابًا من التقى

تجرد عريانًا ولو كان كاسيًا

ولو أن الدنيا تدوم لأهلها

لكن رسول الله حيًّا وباقيًا

ولكنها تفنى ويفنى نعيمها

وتبقى الذنوب والمعاصي كما هي

فكر في ساعة ستُعرض فيها على الله، وسينادى فيها عليك على رءوس الخلائق أين فلان بن فلان؟

ويقرع النداء قلبك فترتعد فرائصك وتضطرب جوارحك، وتسوقك الملائكة سوقًا للقيام بين يدي الحق -جل وعلا- للسؤال عن القليل والكثير، والصغير والكبير ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].

قال -جل وعلا: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة 7، 8].

هيا الليلة فكِّر في هذه المعاني وجدد الأوبة، وجدد التوبة، واعلم بأن الطعام في النار نارًا، وأن الشراب في النار نارًا، وأن الثياب في النار نارًا.

قال -جل وعلا: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾ [الغاشية: 1 - 6]، والضريع: نوع من أنواع الشوك ينبت في أرض الجزيرة.

قال -جل وعلا: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا‎ لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة: 25- 36].

الغسلين: عصارة أهل النار.

قال تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ [الصافات: 62 - 66]، فإذا أكلوا الضريع والغسلين والزقوم، وتأججت النار في البطون؛ استغاثوا يريدون ماءً، فيُغاثوا بماء ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ﴾ كالزيت المغلي ﴿يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: 29]

حتى الثياب تُفصَّل لهم من النار، قال -جل وعلا: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ [الحج: 19 - 21].

لا أريد أن أطيل النفس في هذا، لكنها معانٍ نحتاج إليها الآن والله، أنا أعلم أنه لا يوجد الآن في علماء الأمة إلا قلة تذكر الناس بهذه المعاني الإيمانية المهمة، نحتاج الآن إلى مَن يجدد إيماننا بالله، نحتاج إلى مَن يجدد معرفتنا بالله، نحتاج إلى مَن يذكرنا بحقيقة دنيانا، ونحتاج إلى مَن يُبَصِّرُنَا بحقيقة أخرانا؛ لنجدد التوبة، لنجدد الأوبة، فهذه هي البداية الحقيقة لفلاح الدنيا والآخرة، لسعادة الدنيا والآخرة.

أخي، هل تراجع نفسك الآن؟

هل تعاهد ربك اللحظة على التَّوبة والأوبة؟

هيا بصدق، فكِّر في ذنوبك، فِّكر في معاصيك، فكِّر في تجرؤك عليه -جل وعلا.

كم مرة عصيته بالليل والنهار وهو يسترك؟ كم مرة عاهدت الله على التوبة والأوبة ثم تجرأت عليه وعصيته في الخلوة، ونسيت أنه -جل وعلا- يطلع عليك ويسمعك ويراك؟

هيا الآن، عُدْ إليه، واعلم علم اليقين أنه -جل جلاله- سيفرح بتوبتك وأوبتك وهو الغني عنك وعن العالمين، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

أنا إن تُبتُ منَّاني

وإن أذنبتُ رجَّاني

وإن أدبرتُ ناداني

وإن أقبلتُ أدناني

وإن قصرَّتُ عافاني

وإن أحسنت جازاني

إلهي أنت رحماني

فصرف عني أحزاني

قم الليلة، عاهد ربك على تحقيق التَّوحيد، عاهد ربك على اتِّباع النبي محمد، عاهد ربك على المحافظة على الصلوات، عاهد ربك على المحافظة على الزكوات إن كنت من أهلها، عاهد ربك العام على حج بيته الحرام إن لم تؤدِّ الفريضة، عاهدي ربكِ يا أمَّاه ويا أختاه على الحجاب الشرعي مع تحقيق التَّوحيد واتِّباع الحبيب النبي والمحافظة على الصلوات.

عاهد ربك الليلة على حُسن الخلق، عاهد ربك على أن تتحرك بين الناس بأدبٍ جم لتدعوهم لتبلغهم عن الله ورسوله، عاهد ربك الليلة على التوبة، على الأوبة.

هيا، اطرح قلبك بذل وانكسار واعترف له بضعفك، واعترف له بذنوبك، واعترف له بتقصيرك، وقل:

بك أستجير ومن يُجير سواك

فأجر ضعيفًا يحتمي بحماك

إني ضعيف أستعين على قوي

ذنبي ومعصيتي ببعض قواك

أذنبت يا ربي وقادتني ذنوب

ما لها من غافر إلاك

دنياي غرتني وعفوك شدَّني

ما حيلتي في هذه أو ذاك

لو أن قلبي شكَّ لم يكُ مؤمنًا

بكريم عفوك ما غوى وعصاك

رباه ها أنا ذا خُلِّصتُ من الهوى

واستقبل القلب الخلي هداك

ربــاه ربــاه ربــاه

قلب تــائب ناجــاك

أترده وترد صادق توبتي؟!

حاشاك ترفض تائبًا حاشاك

فليرضَ عني الناس أو فليسخطوا

أنا لم أعد أسعى لغير رضاك

يقول ربنا -جل جلاله- في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي وغيره بسند صحيح: «يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيت بقرابها مغفرة».

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أذنب عبد ذنبًا»، وأنا ذلكم العبد، وكلنا ذلكم العبد، «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون».

قال: «أذنب عبد ذنبًا فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي.

فقال الله: أذنب عبد ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.

ثم عاد العبد فأذنب، فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي.

فقال الله: أذنب عبد ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.

ثم عاد العبد فأذنب، فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي.

فقال الله: أذنب عبد ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب؛ فليفعل عبدي ما شاء، فقد غفرت له».

هذا لا يفتح لنا باب التجرؤ عليه؛ بل يفتح لنا باب الرجاء فيه، فمن عرف الله أحبه، ومَن عرف الله خافه وقدره حق قدره، فعاهد ربك الليلة على الإنابة، وهذه كلمات أرجو أن تعيدها مرات ومرات على قلبك وعقلك، فنحن الآن نحتاج ورب الكعبة إلى هذه المعاني الإيمانية الرقيقة التي تجدد الإيمان في قلوبنا، فلقد كان الصحابي يلقى الصحابيَّ ويقول: هيا بنا نؤمن ساعة، هو لا يقصد أصل الإيمان؛ وإنما يقصد أن يجلس مع أخيه ليذكرا الله، وليذكرا حديث رسول الله ليتجدد إيمانهما بالله -جل وعلا.

فالإيمان -يا إخواني- كما هو منهج أهل السنة والجماعة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال -جل وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4].

وقال الإمام البخاري: "لقيت ألف رجل من علماء الأمصار كلهم متفقون على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص".

فاعرض مواد الإيمان على قلبك، وابتعد عن مواد المعاصي ومواد النفاق، ابتعد عن الغيبة والنميمة، واترك شهادة الزُّور، وابتعد عن الكذب، وقُل قَوْلَةَ حق، وحقِّق الإيمان، وجدِّد الإيمان، واجتهد في تحقيق التَّوحيد، وتحرك بين الناس بالدعوة إلى الله، بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، وارفع للحق راية، وارفع للخير راية، وكن مؤثرًا في مجتمعك تأثيرًا إيجابيًّا، كُن إمام هدى، وباب رحمة، ولا تحقرنَّ من عملك شيئًا، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، والله لن تزول فرقتنا ولن يزول نزاعنا واختلافنا إلا بهذه الضوابط، إلا بهذه الأصول، إلا بأن تتذوق قلوبنا حلاوة الإيمان وحقيقة التَّوحيد وعظمة الاعتصام بالله -جل وعلا- ومعرفة أدب وأصول الخلاف الذي أصلها لنا علماؤنا.

وأختم بهذه الكلمات حتى لا تُنسى: اختلاف القلوب داء، واختلاف العقول ثراء، وتباين الأفهام والآراء أمر قدَّره ربُّ الأرض والسَّماء، فارحموا الخلق وبلغوهم عن الحق بحق، واعلموا أن وظيفتنا هي الدعوة فقط، أما هداية التوفيق فلا يملكها منَّا أحد لا لنفسه ولا لولده، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [القصص: 56].

أسأل الله -جل وعلا- في هذه الليلة الكريمة الطيبة المباركة أن يملأ قلوبنا بالخوف منه، اللهم املأ قلوبنا بخشيتك، اللهم املأ قلوبنا بحبك، اللهم املأ قلوبنا بخوفك، اللهم املأ قلوبنا بعظمتك، اللهم املأ قلوبنا بقدرك وجلالك، اللهم لا تدع لأحد منَّا في هذه الجمع الكريم ذنبًا إلا غفرته، ولا مريضًا بيننا إلا شفيته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا ميتًا لنا إلا رحمته، ولا عاصيًا بيننا إلا هديته، ولا طائعًا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضًا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.

يا رب اجعل جمعنا هذا مرحومًا، وتفرقنا من بعده معصومًا، ولا تجعل فينا ولا منَّا شقيًّا ولا محرومًا.

اللهم اجعل تونس في كنفك وأمانك، اللهم أنزل على تونس من رحماتك وبركاتك، اللهم وفق ولاة أمور هذا البلد لكل ما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة النافعة يا رب العالمين.

اللهم إني أسألك أن تستر نساءنا، وأن تحفظ بناتنا، وأن تصلح شبابنا، وأن تربي لنا أولادنا، اللهم ربِّ لنا أولادنا، اللهم ارزقنا جميعًا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا ورضوانًا.

اللهم إني أسألك أن تجزي كل مشايخنا في تونس وكل إخواننا في تونس خير ما جزى العلماء الربانيين والدعاة الصادقين على أن هيَّئوا لي هذا اللقاء المبارك، واللقاء بإخواني وأحبابي في هذه الأرض الطيبة.

وأسأله كما جمعنا في هذه الدنيا على طاعته أن يجمعنا في الفردوس الأعلى مع نبينا في دار كرامته، إنه ولي ذلك ومولاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=91