الحقوق محفوظة لأصحابها

عمر بن عمر
د. عمر بن عمر

مقاصد الشريعة (5)

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العلي العظيم، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الكريم.

تحدَّثنا فيما سبق عن المصلحة وتعريفها، ومراتبها، وضوابط المصلحة المُعْتَبرة شرعًا، وأنَّه لا يُلتَفت إلى المصلحة التي لم يعتبرها الشَّارع، حتى ولو زيَّن لنا الشيطانُ، أو زيَّنت لنا أهواؤُنا أنَّ هذه مصلحة؛ فلا ينبغي أن يُلتَفت إليها، وإنما المصلحة هي التي حددها الشَّارعُ، وبيَّنها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه، أو بيَّنها رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- في سُنَّته، أو اجتهد فيها العلماء، وبيَّنَّا كذلك شروط وضوابط مَن أراد أن ينظر في الأفعال: هل هي من قبيل المصالح أو ليست من قبيل المصالح؟

وانتهى بنا الحديثُ إلى شروط المصلحة، وقلنا: شروطها تتمثل في ماذا؟

1- أن تكون ضروريَّةً.

2- كليَّةً.

3- قطعيَّةً.

4- لا تتعارض مع النَّص الشَّرعي.

5- لا تُفوِّت مصلحةً أعلى.

وإن شاء الله نكون من أصحاب اليمين، وإن شاء الله كما اجتمعنا هنا نجتمع على حوض نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ونشرب منه شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا.

قولوا: آمين.

قلنا: الشَّرط الخامس: ألا تُفَوِّت مصلحةً أكبر منها.

إمامنا الشَّاطبي -رحمه الله- ذكر قصد الشَّارع أو مقاصد الشَّريعة وحصرها في أربعة، وهي:

- قصد الشَّارع في وضع الشَّريعة ابتداءً: وهذا ما يعني به المصلحة، وما يتعلَّق بالمصلحة.

- ثم بعد ذلك قال: قصد الشَّارع في وضع الشَّريعة للإفهام: أي أنَّ الشَّارع ما وضع هذه الشَّريعة إلا ليفهمها الناس.

وهذا كما قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4].

فهذه الشَّريعة جاءت لتُفْهَم، ولهذا جاءت باللغة العربية، وهي مفهومة، والقرآن حمَّالُ أوجهٍ، فمن الممكن أن تفهم من هذه الآية شيئًا، والآخر يفهم منها شيئًا آخر، ولا حرجَ.

ولهذا عندما ننظر في تفسير سادتنا العلماء -رحمهم الله- نجد أشياء كثيرةً، وكلُّ واحدٍ يُفسِّر بما أوصله الله إليه.

- القصد الثالث، قال: وضع الشَّريعة للتَّكليف بمُقتضاها.

- والقصد الرابع قال: وضع الشَّريعة لإخراج المُكَلَّف -هذا فيما معناه- عن داعية أهوائه: أي أنَّ هذه الشَّريعة إنما جاءت لتُخرِج المُكَلَّفين عن أهوائهم؛ لأنَّ النفس كما قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53]، وكما يُقال في الأمثال: "النفس طمَّاعة، فعَوِّدها القناعة".

ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى ثَالِثًا، وَمَا يَمْلَأُ بَطْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ».

فهذه هي المقاصد الأربعة التي ذكرها الإمام الشَّاطبي في كتابه "المُوافَقات".

واليوم -بإذن الله- سنتحدَّث عن قصد المُكَلَّف، أي قصد المُكَلَّفِين.

أتُحبُّون المقاصد في أربعة أيام؟! 45 × 4 = 180 أي ثلاث ساعات، فهل تُحبُّون أن تأخذوا المقاصد كلها في ثلاث ساعات؟!

ما شاء الله! الناس جلست سنوات حتى تأخذ هذا العلم، فهذا يحتاج إلى طول وقتٍ، وإلى صبرٍ، وإلى مُصابرةٍ؛ حتى نفهم ما مقاصد ديننا؟ ولكن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُلَّه، ومعناه: ما لم نستطع إعطاءه إيَّاكم؛ نُعطيكم في هذا الدرس المبارك مع هذه الوجوه المباركة نوعًا من الوَمَضَات للمقاصد، وبعد ذلك كلٌّ منكم يغرف -إن شاء الله- من بحر المقاصد من كتب المقاصد، وإذا ما فهمتم شيئًا فرقبتي سدَّادة، فخذوا رقم هاتفي واعملوا دعاية للهواتف، واسألوا ونُجاوبكم.

فنتحدث اليوم -إن شاء الله- عن مقاصد المُكَلَّفين.

لماذا نتحدث عن مقاصد المُكَلَّفين؟ لماذا اختيار هذا الموضوع؟

لأنَّ مقاصد الشَّريعة تظل مجرد شعارات ومجرد نظريات إذا لم يكن قصدُ المُكلَّف مُوافقًا لقصد الشَّارع، فلابُد أن نُحسِن قصدنا، ولابُد أن يكون قصدنا حسنًا، وأن يكون قصدنا صالحًا؛ حتى يتوافق قصدُنا مع قصد الشَّارع، فالذي يهمنا في هذا الكلام أنَّ قصد المُكَلَّف ينبغي أن يكون مُوافقًا لقصد الشَّارع، وإذا لم يكن مُوافقًا لقصد الشارع فمعنى هذا أننا لا نستطيع أن نُحقق من قصد الشَّارع شيئًا.

يقول الإمامُ الشَّاطبي -رحمه الله: "لا ينبغي للمُكَلَّف أن يُخالِف ما قصده الشَّارعُ".

وقصد الشَّارع ما هو؟

قصد الشَّارع هو: تحصيل الضَّروريات وما يُكمِّلها.

ماذا يُقصَد بـ"ما يُكمِّلها؟؟

الحاجيَّات والتَّحسينيَّات.

فقصد الشَّارع هو المحافظة على هذه الضَّروريات وما يُكمِّلها.

وكلُّ مَن ابتغى في تكاليف الشَّريعة ما يُناقضها فهو يُناقض الشَّريعة.

وربي أمر بالصلاة، وقد بيَّن القرآنُ المقصد منها وهو: النَّهي -بارك الله فيكم جميعًا- عن الفحشاء والمنكر، كما قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].

فإذا كان قصد المُكَلَّف من هذه الصَّلاة ليس هذا القصد، وليس هذا الهدف، وليست هذه الغاية؛ وإنما قصده أن يُقال فلانٌ مُصلٍّ ما شاء الله عليه!

أحكي لكم نكتةً: واحد كان يُصلي في المسجد، وهناك اثنان جالسان يريانه يُصلي، فالتفت أحدُهم للآخر وقال: ما شاء الله! ما شاء الله! ما أحلى صلاته!

فالتفت لهما وهو يُصلي وقال: ومع ذلك فأنا صائم.

يعني زيدوا واشكروا لي.

صَلَّى وَصَامَ لِأَمْرٍ كَانَ يَطْلُبُهُ

فَلَمَّا قَضَاهُ لَا صَلَّى وَلَا صَامَ

فهناك أناس هدفهم الرِّياء -والعياذ بالله.

ولذا حذَّرنا منه نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إِيَّاكُمْ وَالشِّرْكَ الْأَصْغَرَ».

قالوا: وما الشِّرك الأصغر؟

قال: «الرِّيَاءُ».

والحديث يطول في الرِّياء، فلهذا لابُد أن يكون قصدُ المُكَلَّف مُوافقًا لقصد الشارع.

ما الدليل على أنَّ الشارع اهتمَّ بقصد المُكلَّفين؟

الدليل في القرآن والسُّنة، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، وقال في آيةٍ ثانيةٍ: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162، 163].

أي حياتي كلها لله، وهناك أنشودة اسمها حياتي كلها لله، ما عندنا وقت! ولو كان عندنا وقت لكنا جئنا بواحدٍ وقلنا له يقول لنا بيتين.

فقصد الإنسان لابُد من الاهتمام به، فحياتك يا مسلم كلها ينبغي أن تتوجه لله -سبحانه وتعالى.

يقول معاذٌ في جلسةٍ مع أبي موسى الأشعري -والحديث في البخاري- يقول له: "إني أحتسب نومَتي كما أحتسب قَومَتي".

ما معنى: أحتَسِب نومتي؟

أي أحتسب أجرَها عند الله -سبحانه وتعالى.

ونحن -إن شاء الله كما ذكرنا- على أبواب رمضان، ونسأل الله أن يُبلِّغنا رمضان، وإن شاء الله نصومه بالصحة والعافية جميعًا.

فيقول المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا»، ما معنى: «وَاحْتِسَابًا»؟

أي يحتسب أجرَه عند الله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9].

فقال: "إني أحتسب نومتي"، أي حتى النوم.

النوم مباح أم واجب؟

مباح، تحب ترقد؛ ارقد، ما تحب أن ترقد؛ فلا ترقد.

والأكل مباح في الكلِّ.

وهذا موضوعٌ مهمٌّ في الموافقات لطلبة العلم، ولابُد أن يطلعوا عليه في الجزء الأول عندما تكلَّم عن المباح؛ لأنَّ الأحكام التَّكليفيَّة -إخوتي الكرام- خمسة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمُحرَّم.

وعند الحنفية سبعة، فزادوا: "الفرض" قبل "الواجب"، فهي عندهم: الفرض، والواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه تنزيهًا، وزادوا المكروه تحريمًا، والمُحرَّم؛ فصاروا سبعة.

فالمباح حكمٌ من الأحكام التَّكليفية، وهو: ما لا يُثاب فاعلُه، ولا يُعاقَب تاركه.

هل تُحب أن تلبس جُبَّةً بيضاء؟ البس، هل تُحب أن تلبس جُبَّةً خضراء؟ البس، لا يأتي واحد يُحاسبني ويقول لي: لماذا لبست؟!

أتُحب أن تلبس غُتْرَةً؟ والغُتْرَة عند السُّعوديين بيضاء، أتُحب أن تعمل شماخ أحمر؟ اعمل، مباح، فكله يدخل في دائرة الإباحة.

أتُحب أن تأكل مكرونة؟ كل، أتُحب أن تأكل كسكسي؟ كل؛ فهذا كله مباح.

هذا المباح يقول عنه الإمامُ الشَّاطبي: "قد يتحوَّل المباحُ بصالح القصد -والكلام بمعناه ليس بلفظه- إلى عبادةٍ وقُربةٍ"، أي أنَّ هذا المباح تحوَّل من شيءٍ لا يُؤجَر عليه الإنسانُ إلى شيءٍ يُؤجَر عليه ويُثاب، بماذا؟

بالنية، بالقصد الحسن، بالقصد الصَّالح.

ولذا يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، معناها -يا طلبة العلم- فيه موضوعٌ وفيه قاعدةٌ أصوليَّة، وهي دلالة الاقتضاء.

لأنَّ أنواع الدِّلالات هي:

- دلالة العبارة.

- ودلالة الإشارة.

- ودلالة النَّص.

- ودلالة الاقتِضَاء.

ولهذا إخواننا تبحَّروا في العلم، واقرؤوا ولا تتعبوا، ولا تقل: قرأتُ كلمتين، أو قرأتُ حديثًا أو حديثين، حتى لو حفظت القرآنَ كاملًا؛ لابُد لفهم هذا القرآن من علومٍ، وهي التي يُسمُّونها: علوم الآلة، مثل النَّجَّار، أليس النَّجَّار عنده آلاته؟

فهذه آلات هي الصَّنعة، فلابُد أن يكون عندك -طالب العلم- أداوت -آلات- حتى تفهم النصَّ؛ لأنَّك غدًا ستجلس في هذا المجلس -إن شاء الله- وستجلس في مجلسٍ أعلى منه، وتُخاطِب الناسَ، وتُفتيهم، فستُفْتِي الناسَ بماذا؟

فلابُد أن يكون عندك فهمٌ لما قرَّره سادتنا العلماء من أول ما جاءوا من عهد الصَّحابة.

صحيحٌ أنَّ أصول الفقه لم يكن مُدَوَّنًا في عهد صحابة رسول الله، وإنما كانوا يفهمونه بالسَّليقَة، مثل الشُّعراء أيام زمان، فقد كانوا يقولون الشِّعر بالسَّليقة، حتى جاء الخليل بن أحمد الفَرَاهِيدي فوضع علم الشِّعر الذي يُسمونه: علم العَرُوض.

وعلم الأصول ظلَّ كذلك بالسَّليقة، فكان الناسُ يفهمون أنَّ هذا ناسخ وهذا منسوخ، وأنَّ هذا مُطلَق وهذا مُقَيَّد، وأنَّ هذا عامّ وهذا خاصّ خصصه، إلى غير ذلك، تفهمها بالسَّليقة، حتى جاء مَن؟

الإمام الشَّافعي فكتب كتابه "الرِّسالة"، فتُعتبر الرِّسالة هي أول مُؤَلَّف أُلِّف في أصول الفقه.

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ»، هل معناه أنَّه لا عمل بدون نيةٍ؟

هناك أعمال بدون نيةٍ، طيب، كيف يقول الرسول: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»؟

معناه: كأنَّه قال: لا عمل إلا بالنية.

فهذا الكلام يقتضي كلامًا، أي كأنَّه قال -صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال المُتقَبَّلة ما كانت مصحوبةً بنيةٍ".

ولهذا قال معاذ: "إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"، ما معنى "قومتي"؟

أي قيام الليل.

فمعناه: أعتبر هذه النَّومة التي أرقدها -وهي مُباحة- أعتبر أجرها كاعتبار أجر صلاة ركعات في الليل.

فأنت أيُّها المسلم إذا حَسُنَ وَصَلُحَ قصدُك فهذه الأعمال المُباحة تتحوَّل إلى ماذا؟

إلى عبادةٍ.

فحين تأتي لتأكل لابُد أن تنوي: أنا آكل لماذا؟

حتى أمشي فأهدم الجبال؟!

آكل حتى أتقوى على طاعة الله.

أنا سأنام، سأنام لماذا؟

لأتقوى على العبادة.

وحين نشتري لعبة، أو نشتري حلوى، أو نشتري حاجةً؛ نقول: حتى أُدخِل السُّرور على إخوتي، أو على أولادي، أو على أحفادي، أو على أبناء إخواني، أو نحو ذلك؛ فتكون هذه هدية، ولكنَّها مصحوبة بنيةٍ وبقصدٍ صالحٍ، فتُثاب على ذلك.

وحين تُمِيط الأذى عن الطريق، فقد قال النبيُّ –صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»، هل إماطة الأذى عن الطريق تُؤجَر عليها إذا لم تكن بقصدٍ حسنٍ وبنيةٍ صالحةٍ؟

لا، والله أنا في الطريق رأيتُ هذا وقلتُ: والله دعه حتى يقولوا معناه كذا وكذا، أحيانًا تلقى الطالب يقول لك: صباح الخير يا أستاذ، السَّلام عليكم يا أستاذ، فأينما ألتفت يأتي ويُسلِّم عليَّ، وبعدما أكمل الفصل ولم يعد يقرأ عندي؛ يراني فيبعد وجهه كأنَّه ما رآني.

طيب، هو يُسَلِّم عليَّ لماذا؟!

هناك بعض الطلبة تلقاه مع زميله ما يُكلِّمك طوال العام، لكن قبل الامتحانات: أهلًا يا فلان، كيف أحوالك؟

خير إن شاء الله، تستغرب! وإذا به بعد قليلٍ يقول: والله أنت -ما شاء الله- تحضر الكثير، لو تُعطيني المُلخص للدروس أُصورها.

فالسَّلام كان لماذا؟

هل كان لقصدٍ صالحٍ -أي لقصدٍ أُخروي- أو لقصدٍ دنيوي؟

كان لقصدٍ دنيويٍّ، فإذا كان لقصدٍ دنيويٍّ فهذا يدخل في حديث الرسول: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا»، فأنت سلامك وتحيتك لأخيك، أو إماطة الأذى، أو صلاتك ما كانت لله.

تعرفون -إخوتي الكرام- أول ما تُسَعَّر النار يوم القيامة على مَن؟

ثلاثة أصناف، مَن هم؟

1- عالِم.

يا لطيف! بدأتم بالعالِم ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله، الله يُعطينا المقصد الحسن.

2- المُجاهد.

3- المُتَصَدِّق.

فيُؤتى بالعالِم، ما فعلتَ؟

فيقول: يا رب، تعلَّمتُ العلمَ فيك وعلَّمته.

فيُقال له: كذبتَ، وإنما تعلَّمت العلمَ حتى يُقال: فلان عالم، وقد قيل، وأخذت أجرَك في الدنيا، فيُؤمَر به فيُسحَب إلى النار -والعياذ بالله.

ثم يُؤتَى بالمجاهد: ماذا فعلت؟

فيقول: يا ربِّ، جاهدتُ فيك حتى قُتلتُ.

فيُقال له: كذبتَ، وإنما جاهدتَ حتى يُقال: فلان شجاع، وقد قيل، فيُسْحَب إلى النار.

والثالث: الجَوَاد الكريم المُتصَدِّق، فيُسأل فيقول: يا ربِّ، تصدَّقتُ فيك.

فيُقال له: كذبتَ، وإنما تصدَّقتَ ليُقال: فلان جواد، أو فلان كريم، وقد قِيل.

وقد ورد في الأثر: "كلُّ الناس هلكى إلا العالِمون، وكلُّ العالِمِين هَلْكَى إلا العاملون".

فالعلم وحده لا يكفي، فلابُد من العمل، ولهذا ربي قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2، 3].

"فكلُّ الناس هَلْكَى إلا العالمون، وكلُّ العالِمين هَلْكَى إلا العاملون، وكلُّ العاملين هَلْكَى إلا المُخلِصُون، والمُخلِصون على وَجَلٍ".

سترك يا رب! الله يخلص النيةَ -إن شاء الله.

فهذا قصدٌ مهمٌّ بالنسبة للإنسان، والإمام العِزُّ على ذكر هذا يقول: "كلُّ تصرُّفٍ لم يُحصِّل مقصودَه فهو باطلٌ" قاعدة ذهبيَّة.

"كلُّ تصرُّفٍ لم يُحصِّل مقصودَه فهو باطلٌ"، أي كلُّ عملٍ ما فيه تحقيقٌ لقصد الشَّرع فهو باطلٌ.

ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى- عن الكفَّار -لأنَّ قصدهم لم يكن قصدًا صالحًا: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾ [الفرقان: 23].

ننتقل الآن إلى علاقة قصد المُكَلَّف بالأفعال التي يقوم بها:

قد يقصد المُكلَّف المُوافقةَ، ما معنى المُوافقة؟

أي مُوافقة الشَّرع، فيأتي الفعلُ مُوافقًا، فهذا لا خلافَ في صحته، فنحن نحكم بصحته، وبعض الناس يأتي فيسأل ويقول: يا شيخ، صلاتي مقبولة إذا صليتُ كذا وكذا؟

أقول له: القبول عند الله، وإنما أنا أقول لك أنَّ صلاتك صحيحة أو باطلة.

فالجمهور لا يُفرِّقون بين الباطل والفاسد، بينما الحنفيَّة يُفرِّقون بين الباطل والفاسد في المُعاملات، لكن في العبادات لا فرقَ، مثلهم مثل الجمهور.

فالحنفية يُفرِّقون بين الباطل والفاسد في مسألة المُعاملات، أمَّا العبادة باطلة أو فاسدة فلا يُفرِّقون كالجمهور.

فالإنسان تَوجَّه إلى الله -سبحانه وتعالى- بصلاته فجاءت صلاتُه صحيحةً؛ فهذا لا خلافَ في صحته.

طيب، إنسانٌ يقصد المخالفةَ فجاء فعله مخالفًا؛ فهذا لا خلافَ في بُطلانه، فهو من البداية نواها للشَّر فجاء الشَّر -والعياذ بالله- ونواها مفسدةً فجاءت مفسدة.

الثالث: نوى المُوافقة فجاء فعله مخالفًا.

خرج ليصطاد، فرأى سوادًا أمامه فظنَّه غزالةً أو حيوانًا أو شيئًا؛ فرماه وإذا به إنسان.

هو نوى ماذا؟ قصده صالح أو غير صالح؟

صالح، لكن جاء الفعلُ مخالفًا.

مرةً في منطقةٍ في بلدٍ خارج هذا البلد على ما أذكر، كانت الشُّرطة تُطلِق النارَ على الكلاب، فدخلت بعضُ الكلاب المدينةَ فأطلقوا عليها النار، فسبحان الله! الشرطي أطلق النار، فانطلقت الرصاصةُ فدخلت في ثقبٍ من الباب فدخلت إلى ولدٍ في بيته فتوفَّاه الله، فهذا قصده صالح أو فاسد؟

صالح، ولكن جاء الفعلُ مخالفًا.

فالشَّاطبي يُقسِّم هذا النوعَ إلى: أنَّه يعلم أنَّه خالف، أو لا يعلم.

فنقول باختصارٍ حتى لا نُطيل عليكم ولا نُشَعِّب المسألة: إنَّ هذا يُعامَل على قصده ونيته.

الرابع: نوى المُخالفة فجاء الفعلُ موافقًا.

يعني مثلًا شابٌّ من الشَّباب يُغازل امرأةً أو نحو كذا، وإذا بها زوجته، يا ويله.

فهذا يُعامَل على ماذا؟

هل اعتدى على حقوق الناس؟

ما اعتدى على حقِّ أحدٍ، ولكن كان قصدُه المخالفة، فلا يُحاسَب على الفعل، وإنما يُحاسَب على القصد، يُحاسب على قصده؛ لأنَّ الأصل في المؤمن ألا يهمَّ ولا يُفكِّر إلا فيما فيه خير، وفيما أمر الشَّرع به.

ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هَمَّ -أي مَن فكَّر، مَن قصد- بِحَسَنَةٍ فَفَعَلَهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ إِلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَفْعَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَفَعَلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَفْعَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ»، لكن هل كُتبت له حسنة مُباشرةً؟

هناك تفصيل، ماذا يقول المثلُ عندنا؟

"القط إذا ما لحق الشَّحمةَ يقول ما أنتنها!".

معناه: أنَّ القُطَّ أراد أن يأكل الشَّحمة -أو اللَّحمة- فلم يصل إليها، فحاول ولم يصل إليها، فلمَّا لم يصل إليها قال: ما أنتنها من لحمةٍ! ما تصلح هذه!

فقد يحاول الإنسانُ الشَّر أو المفسدةَ، ولكن الحال حال الله، ربي أراد به الخير فلم يصل لها؛ فهذا يُكتَب له على النية -على القصد- ولكنَّه لم يصل.

أمَّا متى تُكتَب له الحسنة؟

إذا همَّ بسيئةٍ أو بمفسدةٍ ولم يفعلها بإرادته، فهذا تُكتَب له حسنة.

ولعلكم تذكرون القصة التي رواها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن الثلاثة نفر الذين آواهم المبيتُ إلى غارٍ، فمن بينهم رجلٌ له ابنة عمٍّ راودها عن نفسها فأبت، حتى جاءت سَنَةٌ من السَّنوات العِجَاف فاحتاجت إلى مالٍ، فطلبت منه المالَ فراودها عن نفسها، فقال: ما أُعطيكِ المالَ إلا بكذا، فاستجابت، حتى إذا جلس منها مجلس الرجل من زوجته قالت له: يا فلان، اتَّقِ الله.

سمعتم الكلمة؟

حين يأتي واحدٌ وتقول له: اتَّقِ الله.

يقول: أنا كفرتُ؟!

قالت: اتَّقِ الله، ولا تَفُضَّ الخاتمَ إلا بحقِّه -أي بالزواج.

قال: فقمتُ عنها وتركتُ لها المال، اللَّهمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلك من أجلك ففرِّج عنَّا ما نحن فيه، فتزحزحت الصَّخرة.

فهذا الرجل لما ترك المعصيةَ تركها لماذا؟

لأنَّه لم يقدر عليها أم أنَّه كان أقدر ما يكون عليها؟

كان أقدر ما يكون عليها، ولكنَّه تركها لله -عز وجل.

ولهذا مريم عندما جاءها جبريلُ قالت: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 18].

وأحيانًا واحد يُناديك فيقول: يا حاج، يا حاج. لماذا؟

حتى يُذكِّرك بطاعة ربك، فانتبه!

فهذا تقريبًا ما وفَّقنا الله إليه، والحديث هذا لعلَّ فيه شيئًا.

سؤال:

أحسن الله إليك، المُخطئ الذي قصد النيةَ الحسنةَ لا يُحاسَب والله يقول: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ [النساء: 92]؟

لا يُحاسَب لأنَّه قتله خطأً، هل يُحاسبه ربي -سبحانه وتعالى؟ أين الحساب؟ ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92]، هل قال: "في عذاب جهنم" أم ماذا قال له؟ وبماذا أمره؟

بالدِّية، والدِّية هذه هل هي حقٌّ لله أو حقٌّ للعباد؟

دائمًا خذوا هذه القاعدة: "حقوق العباد مبنيةٌ على المُشاحة، وحقوق الله مبينةٌ على المُسامحة".

فالله سامح في حقِّه؛ لأنَّه قتله خطأً ولم يقصد قتلَه، وحتى لا يذهب دمُ المؤمن هدرًا أوجب فيه الدِّية، والدِّية ليست عليه، وإنما الدِّية على العاقِلَة -أي على أقاربه.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُخلِص أعمالنا، وأن يجعل مقاصدَنا حسنةً، ونياتنا صالحةً، وألا نُفكِّر إلا فيما يُرضي ربنا، وألا يخطر ببالنا إلا ما يُرضي ربنا.

أقول قولي هذا وأستسمح إخوتي الطلاب؛ لأني قصَّرتُ بعضَ الشيء في حقِّهم، ولو كنا في قاعات الدرس لكان لنا كلامٌ آخر، ولتعمَّقنا في هذه الدروس، ولكن بحضرة هذه الوجوه النَّيِّرة حاولنا -كما يقولون- أن "نضرب عصفورين بحجرٍ"، لكن أحبابنا أعطيناكم بعضَ الشيء، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفع بنا وبكم، ويُوفِّقنا وإيَّاكم إلى ما يُحبُّه ويرضاه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرَّحيم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=89