الحقوق محفوظة لأصحابها

عمر بن عمر
د. عمر بن عمر

مقاصد الشريعة (4)

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الكريم.

﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 53]، ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32].

اللَّهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا، وصلِّ اللَّهمَّ وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين وسلِّم.

أُحييكم بتحية الإسلام: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

أمَّا بعد، فتحدثنا في الدرس السَّابق عن المصالح وما هي؟ ومَن الذي يُحدد المصالح؟ ووصل بنا الحديثُ إلى وجوب ضبط النَّاظر في تحديد المصالح، وأنَّ الذي يريد أن يُحدد هذا الفعل مصلحة أو ليس بمصلحةٍ؛ لابُد أن تتوافر فيه جملةٌ من الشُّروط، ذكرنا منها:

- الاجتهاد: أن يكون على علمٍ.

- وبينَّا كذلك أنَّه لابُد من إطالة التَّأمُّل والتَّثبت والتَّروي.

- ثم الحذر من الوهم، والحذر من الهوى.

بقي لنا في هذه النقطة كذلك: أنَّه إذا التبس الأمرُ على الإنسان ولم يَسْتَبِنْ هل هذه مصلحة أو ليس بمصلحةٍ؛ فالواجب عليه في هذه الحالة الاستشارة.

وتعلمون أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومن قبله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كانا إذا نزلت بهما نازلةٌ نظرا في كتاب الله، فإن وجدا فالحمد لله قضيا به، وإن لم يجدا نظرا في سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فإن وجدا عملا به، وإلا سألا الناسَ: هل منكم أحدٌ سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه المسألة شيئًا؟

وكما ذكر الشيخُ محمد حسان أنَّه ليس بالضَّرورة أنَّ كلَّ صحابيٍّ يحفظ الحديثَ، وقد كان أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضهم يحفظ بعضَ الأحاديث، والآخر يحفظ أحاديثَ أُخرى، حتى إذا جُمِعت الأحاديثُ ودُوِّنت كانت لنا رحمة من الله ونعمة أن نجد أحاديثَ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- اليوم مُدوَّنةً جميعًا، ويكفي بضغطة زرٍّ أو بكلمةٍ تكتبها على الشبكة التي يُسمونها العنكبوتيَّة -وإنما المراد بها الإنترنت هذا- فيكفي أن تكتب كلمةً ليُعطيك جميع الأحاديث التي وردت فيها تلك الكلمة، وهذا فضلٌ من الله عظيم ونعمة، ونُقابلها بشكر الله -سبحانه وتعالى- وأن نستفيد من هذه الأحاديث ونعمل بها.

فكانا يسألان، فإذا بلغهما حديثُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عملا به، وإلا اجتهدا وجمعا الناس، فكان أبو بكر يجمع الناس وكذلك عمر للاستشارة.

الشاهد: أنَّ الطريق الآخر من طرق معرفة المصلحة هي: المشاورة.

والمشاورة في شرعنا أمرٌ مهمٌّ، يقول الله -سبحانه وتعالى- بالنسبة للمسلمين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38].

وكذلك في آيةٍ أخرى قال لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو المعصوم الذي يتنزل عليه الوحي: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159].

حتى في المسائل العائليَّة، وفي مسائل الحلِّ والرَّبط، ففي مسألة الطلاق ماذا قال ربي -سبحانه وتعالى؟

﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35].

وفي آيةٍ أخرى للتَّشاور: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ [البقرة: 233] يعني المسألة كلها تحتاج إلى تشاورٍ، فحياتنا مبنية على الشُّورى، والاستبداد في شرع الله مرفوضٌ، ومعناه أنَّه لا يُقبَل لا في حكمٍ، ولا في سياسةٍ، ولا في اقتصادٍ، ولا في اجتماعٍ؛ فلابُد من المشاورة.

ولهذا قالوا في الأمثال: "ما خاب مَن استخار، وما ندم مَن استشار".

ما معنى استخار؟

معناه: يستخير الله -سبحانه وتعالى.

وصلاة الاستخارة -أيُّها الإخوة الكرام، وأيتها الأخوات الكريمات- معروفة، ويكفي أن تكتبوا: صلاة الاستخارة في الشبكة العنكبوتية؛ ويأتي الدُّعاء بعدما تصلي ركعتين فتقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ...»، والحديث معروف حتى لا نُطيل.

فما خاب مَن استخار، وما ندم مَن استشار، معناها: أنَّ الإنسان الذي يستشير لا يندم، فالإنسان يُشاور، فهذا طريقٌ من الطرق.

والطريق الآخر كذلك في هذه المسألة من طرق الكشف عن المصالح هو الطريق الأول والطريق الأخير، وهو: الاستعانة بالله -سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [هود: 88].

فالتَّوفيق بيد الله، والله -سبحانه وتعالى- يُعين مَن استعان به: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، فالله -سبحانه وتعالى- يهديك السَّبيل إن توكَّلتَ عليه واستعنتَ به: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] توكَّل على الله وقل: يا ربِّ، إن شاء الله هذا خير أو كذا، فالله -سبحانه وتعالى- كما أخبر فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29].

فالشَّاهد: ﴿يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾، هذا الفُرقان الذي تستطيعون أن تُفرِّقوا به بين الحقِّ والباطل، بين المصلحة والمفسدة، فاتَّقِ الله يا عبدَ الله، واتَّقي الله يا أمةَ الله، والله -سبحانه وتعالى- يُنير لك السَّبيل.

هذه تقريبًا جملةٌ من الضَّوابط لمَن أراد أن ينظر في الفعل أمصلحة هو أم لا؟ وهذا لا يكفي كذلك؛ بل لابُد من النظر إلى هذا الفعل، حتى إذا كان مصلحةً فقد يكون مصلحةً آنيَّةً، ولكن في عاقبة أمره قد يكون مفسدةً ويجر الويلَ على الأمة، وقد يجرُّ الدَّمار على الأمة، فإذا بنا اليوم نستدين، ونستدين، ونستدين؛ مصلحة، ولكن بعدما استدنت بالرِّبا هذا مخالفٌ للنص -وسنتحدث عنه إن شاء الله- لكن بعد هذا الدَّين تتراكم عليَّ ديونٌ أخرى؛ فتكون مفسدةً.

فلابُد من النظر كما قال الإمام الشَّاطبي: "لابُد من النظر في مآلات ذلك الفعل"، النظر في مآلات الأفعال، ما معنى مآلات الأفعال؟

أي ما ستئول إليه هذه الأفعال من مصلحةٍ أو مفسدةٍ، فيمكن أن يكون هو في ظاهره مصلحة، ولكنَّه يجرُّ مفسدةً.

مَن منكم يذكر لي دليلًا من القرآن في هذا الأمر؟

يا فتَّاح يا عليم، يا رزَّاق يا كريم!

﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 216] فيمكن أن تكره في البداية أمرًا من الأمور، ولكن بعده تكون المصلحة.

لا، هناك آية صريحة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 216] لكن لم يُبين المآل.

يقول الحقُّ -تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108] سبُّ آلهة الكفار فيه منفعة أو ما فيه؟

بالنسبة لنا معناه الأصنام، تدفع وتضر؟

ما لها حتى قيمة، لو سببتها ما فيها مشكلة، لكن هذا السَّب إلى ماذا سيئول؟

أنَّك إن سببت آلهتهم فإنَّهم سيسُبُّون الله -سبحانه وتعالى.

ولهذا قال الله: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108].

كذلك عندما قال الله -سبحانه وتعالى- لعباده: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا﴾ [البقرة: 104] هذا توجيهٌ من الله -سبحانه وتعالى- لعباده. لماذا؟

لأنَّ اليهود كانوا يستعملون هذه الكلمة "راعنا" من الرُّعونة، راعنا يا محمد، أي أنت أرعن -حاشاه صلى الله عليه وسلم- ومعناه: أحمق.

فكانوا يستعملونها كسُبَّةٍ يسبُّون بها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا علم الله -سبحانه وتعالى- مكرَهم وخُبثَهم نهى عبادَه أن يقولوا هذه الكلمة؛ حتى لا يُسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من اليهود ومن المنافقين، فمَن يقولها معروفٌ بكفره؛ لأنَّه لا يلتزم شرعَ الله -سبحانه وتعالى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا﴾ [البقرة: 104].

وكذلك من المآلات عندما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، أي المآل، أي أنَّ هذا الصيام يؤول بكم إلى التَّقوى.

وكذلك الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] فإذا صلاتك -أيُّها المسلم، وأيتها المسلمة- لم تنهك عن المنكر؛ فراجع حساباتك، فمعنى ذلك أنَّ صلاتك فيها مرضٌ، وأنَّها غير كاملةٍ، وأنَّها صلاة ناقصة.

فإذا دخل أحدكم في الصلاة فالدنيا كلها تأتي أمامه، وتأتي المشاكل كلها أمامه، ويُصلي بنا الإمام العشاء بـ"قل هو الله أحد" و"قل أعوذ برب الفلق"، وتُوقِف واحدًا عند الباب وتسأله: بماذا صلى الإمام؟

فلعلك تجد أكثر الناس يقول لك: والله ما أدري.

والرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث قال: «يُكْتَبُ لِلْمَرْءِ مِنْ صَلَاتِهِ نِصْفُهَا...، ثُلُثُهَا...، رُبُعُهَا...، سُدُسُهَا، وَلَيْسَ لِلْمَرْءِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقِلَ»، أو كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم.

فإذن لابُد عندما ننظر في الفعل أمصلحة هو أم لا؟ لا يكفي أن ننظر إليه نظرةً آنيَّةً؛ وإنما لابُد أن ننظر إليه نظرةً مآليَّةً، أي ما سيئول إليه هذا الفعل من بعد.

وقد فعل هذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك في سنَّته عندما أراد أن يهدم الكعبةَ ويبنيها على قواعدَ إبراهيم، ولكنَّه لم يفعل، لماذا؟

لأنَّهم كانوا حديثي عهدٍ بإسلامٍ، وما زال إسلامُهم ضعيفًا، فخاف أن يرتدوا فترك ذلك.

وطُلِب منه -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل المنافقين، فأبى -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟

قال: «حَتَّى لَا يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».

بهذا نكون قد انتهينا من ضوابط النَّظر في المصلحة.

ونتحدث اليوم -إن شاء الله- عن مراتب هذه المصلحة وضوابطها.

المصلحة كما حددها العلماءُ ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: أعلاها، وهي ما يُسمُّونها: الضَّروريَّات.

والمرتبة الثانية: أوسطها، وهي الحاجِيَّات.

والثالثة: الكماليَّات.

ما شاء الله عليكم! الكماليَّات تعرفون معناها؛ لأنَّكم كلكم تبحثون عن الكماليَّات، أو التَّحسينيَّات، أو التَّتِمَّات.

فهذه ثلاث مراتب.

هذه المراتب تختلف في الدَّرجات، وعندما قسَّمها العلماءُ هكذا قسَّموها لهدفٍ، وهو أنَّك أيُّها المسلم في حياتك عندما تعترضك بعضُ المصالح لابُد أن تنظر في هذه المصالح، فتُقَدِّم الأعلى على الأدنى، فلا يُعقَل أن نهتم بالحاجيَّات ونُضيع الضَّروريات، فلابُد أن نبدأ بالضَّروريات، ثم بعد ذلك ننتقل إلى الحاجيَّات، ثم إلى التَّحسينيات.

ما الضَّروريات؟

يقول الإمامُ الشَّاطبي -رحمه الله: "هي ما لابُد منه من قيام مصالح الدَّارين"، أي الشَّيء الذي يُحتاج إليه للقيام بمصلحة الدنيا وبمصلحة الآخرة، وبدون هذه المصالح قد تُفقَد الحياة، وقد يُفقَد كذلك في الآخرة النَّعيم، فإذا ضيَّعت الضَّروريات في الدنيا قد لا تتنعَّم في الآخرة.

ما الضَّروريات؟

سُمِّيت بالضَّروريات تعرفون لماذا؟

من عكسها؛ لأنَّ بفقدها يحصل الضَّرر، وبعض هذه الضَّروريات يُسميها العلماء: المقاصد. لماذا؟

لأنَّ جميع أحكام الشَّريعة تخدم هذه المقاصد، أو هذه الضَّروريات.

وبعضهم كذلك سمَّاها: الكُليَّات. لماذا؟

لأنَّ جميع أحكام الشَّريعة مندرجة تحت هذه الضَّروريات.

إذن فما هي هذه الضَّروريات؟ تعرفونها أم لا؟

1- حفظ الدِّين.

2- حفظ النَّفس.

3- حفظ العقل.

4- حفظ المال.

5- حفظ النَّسْل.

وبعضهم زاد: حفظ العِرْض.

وبعضهم قال: العِرْض يندرج في النَّسْل، على خلافٍ بين العلماء في ترتيب هذه المصالح.

الدِّين، النفس، النَّسل، العقل، المال؛ فهذه الكُليَّات الخمس، أو المقاصد الخمس، أو الضَّروريات الخمس.

شيخ الإسلام ابنُ تيمية في حديثه عن هذه الكُليَّات، وكذلك الإمامُ العِزُّ ابن عبد السلام -سلطان العلماء وبائع الملوك- كأنَّهما عابا على مَن تقدَّم من العلماء حصر المقاصد الشَّرعية -أو الكُليَّات أو الضَّروريات- في خمسٍ، فأضافا ما يتعلَّق بأحوال القلوب، وما يتعلَّق بتزكية النُّفوس، قالوا هذا أين؟

في رسالتي للدكتوراه -وكان عنوانها: مقصد الشَّريعة عند الإمام العِزِّ ابن عبد السلام باعتباره مُؤسس هذه المقاصد قبل الشَّاطبي- لمَّا تعرَّضت لهذه المسألة كأني اعتذرتُ لهما؛ لأنَّ الأحوال وأفعال القلوب وتزكية النُّفوس في حقيقة الأمر هذه ترجع إلى حفظ الدِّين.

ما معنى أن يكون قلبُ إنسانٍ قد خَرِب وهو يُصلي أو يصوم؟

معناه كما قال الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

فالقضية هي تزكية، والدِّين هذا جاء لتزكية نفوسنا، ولهذا ربي قال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7- 10].

فتزكية النفس هي في حقيقة الأمر ترجع إلى مصلحة الدِّين.

وبعض علمائنا المُحْدَثِين اليوم -المعاصرين- تكلَّموا كذلك في جملةٍ من المقاصد وقالوا: هذه مقاصد جديدة، فمن بين هذه المقاصد مثلًا ما كتبه الدكتور عبد المجيد النَّجار في كتابه: "مقاصد الشَّريعة بأبعاد جديدةٍ"، وكتب قبله جمال عطية كتابًا بعنوان: "نحو تفعيل المقاصد"، فأشار إلى جملةٍ من المقاصد: كالحُرية، والكرامة، وعمارة الأرض، وحفظ البيئة.

هذه مقاصد بالفعل، ولكن عندما نُمْعِن النَّظر نجد أنَّ هذه المقاصد ترجع إلى ماذا؟

إذا قلنا المحافظة على البيئة فإنَّها ترجع إلى الحفاظ على النَّفس؛ لأنَّه إذا كان هناك تلوث، وإذا كان هناك خرابٌ في البيئة، فمعناه أنَّ نفس الإنسان مُعرَّضةٌ للخطر، وربي -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وفي آيةٍ أخرى قال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29].

ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ ووجد -حاشا قدركم- نُخَامةً -وهو ما يخرجه الإنسان من صدره خاصَّةً في أيام الزَّكمة، أو البلغم- فماذا فعل؟

دفنها، وبيَّن أنَّ كفَّارة النُّخامة في المسجد دفنها.

فكانت في القديم تُدْفَن، أمَّا اليوم فأين تدفنها؟! تحت السِّجاد؟!

تجعلها في طرف ثيابك، ولا تبصق في المسجد.

فهذا عناية بماذا؟

عناية بالبيئة؛ لأنَّ هذه قد يكون فيها جراثيمُ قد تُؤثر على الغير، فلابُد من الحفاظ على البيئة.

كذلك مقصد عمارة الأرض يرجع إلى ماذا؟

إلى حفظ المال، فمعنى عمارة الأرض أن نُحافِظ على أموالنا.

كيف نحافظ على أموالنا؟

بعمارة الأرض.

ولهذا قال الرسولُ -صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ السَّاعَةُ»، طيب، أنا ما الذي أستفيده منها؟!

انظروا إلى ديننا وإسلامنا كيف يحُثُّ على العمل!

قال: زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون.

واحد من الخلفاء مرَّ برجلٍ كبيرٍ فوجده يزرع نخلًا، فقال له: أنت تزرع! أنت تأكل منها؟!

قال: ما ضرَّني إذا غرستها وأكل منها غيري فجاءني أجرُها؟

انظروا للبعد! انظروا للفهم! كيف أن ديننا يحُثُّنا على العمل، ويحثُّنا على ألا نقول: "نفسي نفسي"، لا، المسلمون -كما ذكرنا في أول درسٍ- أُمَّة واحدة: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».

قال: ما يضرُّني إذا غرستها ولا آكل منها، لكن سيأتيني أجرُها.

لماذا؟

لأنَّ أيَّ مخلوقٍ أكل من تلك النَّخلة أو من تلك الشَّجرة أو من ذاك الزَّرع؛ فإنما تُؤجَر عليه، فلو جاءت دابَّةٌ أو نملةٌ فأكلت حبَّةً من الشَّعير أو من القمح، أو عصفور أو حمامة؛ تُؤجَر على ذلك.

قالوا: أَلَنَا في الدَّواب أجر؟

قال: «إِنَّ لَكَ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبٍ أَجْرًا».

هذا ديننا، فهذه هي الضَّروريات الخمس.

فالحرية كذلك إلامَ ترجع؟

والله أعلم ترجع إلى حفظ العقل، وترجع إلى حفظ النَّفس؛ لأنَّ الإنسان بدون حريةٍ هو عبد، هو ميت، ومعنى ذلك أنَّه لا يقدر أن يتكلم، ولا يقدر أن يتحرك، ولا يقدر أن يخرج أو يدخل، ولا يقدر أن يقول ما يشاء، فمعنى هذا أنَّه ليس بإنسانٍ -والعياذ بالله.

فحفظ النَّفْسِ حفظ حياة الإنسان بما فيها من كرامةٍ، وبما فيها من حُريَّةٍ، وقد قال عمرُ -رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناسَ، وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا".

فديننا دينٌ يشمل هذه المقاصد كلها، مع الاعتذار لإخواننا المُفكِّرين والعلماء الذين اجتهدوا في هذا، ونُسدد اجتهادَهم ونُثمِّنه، ولكن هو في حقيقة الأمر يدخل في هذه الضَّروريات.

الحاجيَّات:

وقبل أن نأتي إلى الحاجيَّات، نقول: إنَّ الضَّروريات اليوم تنوَّعت، وأصبحت ضروريات متنوعة: كلمة، كلمتان، هذا ضروري، السيارة ضروريَّة، كذا ضروري، كلُّ حاجةٍ من الضَّروريات.

طيب، نحن عندنا في القواعد الفقهية: الضَّرورات تُبِيح المحظُورات.

فهل معنى ذلك أنَّه قد يأتي الرِّبا فيُبيح المحظورَ؛ لأنَّ هذا ضروري؟

ننبه هنا -يا إخوتي الكرام، ويا أخواتي الكريمات- إلى أمرٍ هو: أنَّ الضَّرورات نوعان:

- إمَّا ضرورة شرعيَّة.

- أو ضرورة عُرفيَّة.

ما معنى: "عُرفيَّة"؟

أي في أعراف الناس، فأعراف الناس تتغير بتغير الأزمان والأماكن، فبتغير الزَّمان والمكان تتغير الأعراف، وكلُّ واحدٍ وعُرفه.

ولهذا طُولِبنا بأن نُراعي أعرافَ الناس عند الفتوى، وعند استنباط الأحكام، وإذا جاء مَن يستفتيك فأجره على عُرْف بلده.

فلو جاءنا أخونا الشيخ الدكتور راشد وقال لي: يا شيخ، أقسمتُ بالله ألا آكل العيش.

عندكم العيش أم لا؟

وجاءني واحدٌ جربي وقال: أقسمتُ ما آكل عيشًا.

عندنا الجربي يعرف العيش أم لا؟

ما العيش؟

العيش هو العَصِيدة عندنا، والعيش عندهم الخبز، وعند إخواننا في الإمارات تعرفون العيش ما هو؟

الأُرز.

فلو جاءني وقال لي: أقسمتُ بالله ألا آكل عيشًا، فأكل خبزًا؛ أقول له: كفِّر عن يمينك.

وجاءني الجربي وقال: أقسمتُ ألا آكل عيشًا فأكلتُ خبزًا؛ أقول له: لا تُكفِّر عن يمينك؛ لأنَّك أنت يا جربي ابن عمي، وهذا سُعودي!

فتوى صحيحة أو غير صحيحةٍ؟

صحيحة؛ لأنَّ العُرْفَ عندهم أنَّ العيش هو العصيدة عندنا.

ولو جاءني إماراتي وقال: أقسمتُ ألا آكل عيشًا، فأكل خبزًا، أقول له: لا تُكفِّر عن يمينك.

لماذا؟

لأنَّ العيش عندهم الأرز.

فقد تختلف الفتوى باختلاف الأعراف.

كذلك الضَّروريات تختلف بأعراف الناس، والأحكام تجري بحسب الحقائق الشَّرعية، وليس الحقائق العُرفية.

ففي أعراف الناس اليوم أصبحت السيارة ضروريَّةً، لكن لا نقول له هنا: الضَّرورات تُبيح المحظورات؛ لأنَّه إذا عاش بدون سيارةٍ لن يموت، فقد يدخل في حرجٍ، فهذه من الحاجيَّات، وهي المرتبة الثانية.

فالحاجيَّات هي ما لابُد منها حتى يعيش الناسُ في بَحْبُوحَةٍ ويبعدون عن الحرج، يقول الإمام الشَّاطبي: "هي ما يدور على التَّوسعة والتَّيسير ورفع الحرج والتَّخفيف على الناس"، ففي معناها تيسير.

يقول -رحمه الله: "هي ما يدور على التَّوسعة والتَّيسير ورفع الضِّيق المُؤدِّي في الغالب إلى المشقة والحرج".

أُعيد: "ما يدور على التَّوسعة والتَّيسير ورفع الضِّيق المُؤدِّي في الغالب إلى المشقة والحرج".

ومعنى ذلك: أنَّ الإنسان قد يعيش بدون سيارةٍ، لكن يتعب ويقف في المحطة وينتظر سيارة أجرة حتى يركبها، أو يركب -أكرمكم الله- على حمارٍ.

كنت أُدرِّس مرةً في الزَّكاة فقلتُ لهم: زكاة الغنم، والغنم يشمل الماعز والضَّأن.

فقالوا: ما الماعز؟

فذهبتُ لعمكم الشيخ "جوجل" وصورت الماعزَ وصورت الضَّأن؛ حتى يُفرِّقوا بين الماعز والضَّأن.

كذلك حين جئتُ أشرح الشَّعير والقمح، قالوا: والله ما نعرف الشَّعير ولا القمح! فما الشَّعير؟

فصورت الشَّعير وصورت القمح، ويمكن ألا يعرف بعضنا الحمار، فما عدنا نراه.

فقد يصل الإنسان إلى بُغْيَتِه، ولكن بمشقَّةٍ، ورغم هذه المشقة يعيش.

المرتبة الأخيرة هي: التَّحسينيات:

ومقولة ابن عاشور مهمَّة هنا، قال: "ما كان بها كمال حال الأمَّة في نظامها حتى تعيش آمنةً مُطمئنَّةً، ولها بهجة منظر المجتمع في مرئى بقية الأمم"، أي بقية الأمم ترى هذه الأمَّة لها وزنها، ولها قيمتها.

قال: "ولها بهجة منظر المجتمع في مرئى بقية الأمم، حتى تكون الأُمَّة الإسلامية مرغوبًا في الاندماج فيها"، أي أن يتمنى الناسُ أن يندمجوا فيها، لكن بعض شبابنا اليوم يقول: يا ليت عندي الجنسية الأمريكيَّة! أو عندي الجنسية الفرنسيَّة! فيتمنى لو كان أمريكيًّا أو فرنسيًّا، أو ما أدري!

"على قدر أهل العَزْم تأتي العزائم".

فهذا حال مَن كانت الدنيا همَّه ويُفَكِّر فيها، أمَّا مَن كانت الآخرة همَّه فلا يُفَكِّر إلا فيما يُرضِي الله.

قال: "ومرغوبًا في الاندماج فيها، أو التَّقرُّب إليها".

نأخذ على وجه السُّرعة مثالًا: فلو قلنا حفظ الدِّين، ما الضَّروري فيه؟ وما الحاجي؟ وما التَّحسيني؟

الضَّروري هو: ما فرضه الله -سبحانه وتعالى- من فروضٍ وشعائر تَعبُّديَّة، فهذه ضروريَّة، ما فيها كلام، ولا جدالَ فيها.

طيب، بعدها: الحاجيَّات:

الحاجيَّات تأتي في هذه العبادات الزَّائدة التي زادها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فلو أخذنا الصلاة مثالًا: فإنَّ السُّنن التي نُسميها السُّنن الرَّواتب -بارك الله فيكم- وهي اثنا عشرة ركعة في اليوم غير الفريضة، فهذه سُنن رواتب حاجيَّة.

فالجاحيَّات ما هي؟

الحاجيَّات مثل: صلاة الضُّحى، وصلاة ركعتين تحية المسجد، وتُصلي ركعتين قيام ليلٍ، ومثل هذا.

فهذه المراتب الثلاث تخدم بعضُها بعضًا، وهي مُترابطة، فالحاجيَّات تخدم الضَّروريات، والتَّحسينيات تخدم الحاجيَّات، وكلها في خدمة الضَّروريات.

وفي هذا يقول الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يرويه عن ربِّه: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، أو كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم.

ولو جئنا لحفظ النَّفْسِ في الأكل مثلًا:

ما الضَّروري فيه؟

«بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ»، هذه ضروريَّة.

والحاجي: الثُّلث: «وَإِنْ كَانَ لَابُدَّ فَاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ».

والتَّحسيني: كأن تأتي لك زوجتُك بسلطةٍ وتضع لك عليها حبَّةَ طماطم، وتضع عليها ورقة نعناعٍ، فهذه المُقبِّلات -أو المُفتِّحات- وكذلك الحلويات كلها تدخل في إطار التَّحسينيات.

وأختم حديثي -إخوتي الكرام، وأخواتي الكريمات- بذكرٍ سريعٍ لضوابط المصلحة، وقد أشرنا إليها في ثنايا حديثنا، وهي:

1- أن تكون المصلحة كليَّةً:

ما معنى كليَّة؟

أي أن تجمع أكثر عددٍ ممكنٍ من الناس، فالإسلام مثلما يُراعِي المصلحة العامَّة فإنَّه يُراعي المصلحة الخاصَّة.

2- أن تكون قطعيَّةً:

ما معنى قطعية؟

أي أن تكون هذه المصلحة مصلحةً مُؤكدةً، وليست بمصلحةٍ موهومةٍ.

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- جاءه الأعمى عبدُ الله ابن أم مكتوم يسأله، وجاءه في نفس الوقت رجالُ قريشٍ وساداتها، فماذا فعل -صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي؟

قدَّم سادةَ قريشٍ على هذا الأعمى، فهذه مصلحة موهومة، ظنًّا منه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ في إسلامهم خيرًا كثيرًا، ولكنَّ الله -سبحانه وتعالى- أنزل عتابًا وأنزل سورةً.

فقد تكون المصلحة موهومةً كمصالح كثيرٍ من الناس اليوم، يقول لك أحدهم: لا نُطبِّق الحدود؛ لأنَّها كذا وكذا؛ وهذه حرية الإنسان، وهذه كذا، إلى غير ذلك؛ فهذه كلها مصالح موهومة.

فلابد أن تكون قطعيَّةً وليست بموهومةٍ.

3- أن تكون ضروريَّةً:

ما معنى ضروريَّة؟

أي تخدم ضرورةً من الضَّروريات الخمس، فإذا كانت كذلك فهي مصلحة، أمَّا إذا كانت خارجةً فلا تُعتبر مصلحةً.

4- ألا تُخالِف نصًّا من النُّصوص الشَّرعية:

فإذا خالفت نصًّا فاضرب بالمصلحة عَرْض الحائط واتَّبع كلام ربك.

5- ألا تفوت مصلحةٌ أكبر منها:

فإذا تعارضت مصلحةٌ مع مصلحةٍ فالتفت إلى المصلحة الأعلى ولا تلتفت إلى الأدنى.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُوفِّقنا وإيَّاكم إلى ما يُحبه ويرضاه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه يغفر لكم، والسَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=89