الحقوق محفوظة لأصحابها

عمر بن عمر
د. عمر بن عمر

مقاصد الشريعة (2)

اللَّهمَّ صلِّ على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.

أُحييكم بتحية الإسلام: فالسَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

أمَّا بعد: فأشكر للقائمين على هذه الدَّورة استضافتي فيها مع ثُلَّةٍ من إخواننا الدُّعاة إلى الله، نحسبهم من الصَّالحين، ونسأل الله لهم التوفيق أينما حلُّوا وأينما كانوا، وأن ينفع الله بهم العباد والبلاد.

وفي حضور هذا الجمع المبارك نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعله جمعًا مباركًا ميمونًا، وأن يجعل تفرُّقنا من بعده تفرُّقًا معصومًا، وأن يعصمنا وإيَّاكم من الشَّيطان حيثما كنَّا.

حديثنا اليوم -إخوتي الكرام، أخواتي الكريمات- عن مقاصد الشَّريعة، ومقاصد الشَّريعة من الأمور التي لم تُدرج في عهد رسول الله بهذا الاسم، وإن كانت معلومةً في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو الذي أرسى قواعدها، وهو الذي بناها، وهو الذي بيَّنها وبيَّن أنَّ هذه الشَّريعة إنما أُنزلت لجلب المصالح للناس وتكميلها، ودرء المفاسد عنهم وتقليلها.

فهذه الشَّريعة جاءت لحكمةٍ، جاءت لمقصدٍ، جاءت لغايةٍ، هذه الغايات وهذه المقاصد وهذه المعاني -كما يُسميها البعض- وهذه الحِكَم -كما يُسميها البعض الآخر، ويُسميها الفقهاء بالأسرار فيقولون: أسرار الشَّريعة- جاء بها وبيَّنها الله -سبحانه وتعالى- إمَّا في كتابه، أو بيَّنها رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في سنَّته المُطهرة، أو استنبطها فيما بعد سادتنا العلماء -رحمهم الله تعالى.

فمقاصد الشَّريعة اليوم نحتاج إليها كثيرًا، ونحتاج إلى معرفتها وفهمها حتى نعيشها، وحتى نُطبِّقها في حياتنا، فكثيرٌ من المشاكل، وكثيرٌ من المآسي، وكثيرٌ من الاختلافات إنما سببها البعد عن فهم مقاصد هذا الدَّين، وعن الحِكَم والغايات التي من أجلها أُنزل، والإمام الشَّاطبي -رحمه الله- في كتابه "المُوافقات" يُعتبر هو أول مَن دوَّن هذه المقاصد بعد الإمام العِزّ، وإنما الإمام العِزُّ المتوفى سنة ستين بعد ستمئةٍ للهجرة كتب كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وهذا الكتاب يُعتبر هو اللَّبنة الأولى في علم مقاصد الشَّريعة، فهو أرجع مقاصد هذا الدِّين إلى مقصدٍ واحدٍ وهو: جلب المصالح للناس؛ لأنَّ درء المفاسد يرجع في حقيقة الأمر إلى جلب المصالح، لأنَّك -أيُّها المسلم- إذا درأتَ المفسدة عن أخيك فإنَّك بالتالي قد جلبت له مصلحةً.

فردَّ الشَّريعة كلَّها إلى جلب المصالح للناس.

جاء بعده تقريبًا بـ130 سنة الإمام الشَّاطبي المتوفى 790 للهجرة، جاء بعده وكتب كتابه "الموافقات"، وهو كتاب معروف، وموجود عندنا في مكتباتنا، ولعلَّ الكثير منكم يملك هذا الكتاب، وهو ضروري لكلِّ مسلمٍ أن يطَّلع عليه، فكتب كتابه هذا، ومن بين ما ذكره -رحمه الله- في هذا الكتاب: أنَّ سبب الخلاف القائم بين الفقهاء يرجع في كثيرٍ من الأحيان إلى الغفلة عن مقاصد هذا الدين.

الغفلة عن مقاصد هذا الدِّين تسببت في ماذا؟

في بُعْد الناس عن بعضها، وتسببت في الاختلافات، فصرنا نفهم الدينَ فهمًا كأنَّه فهمًا حرفيًّا، أو كأننا نأخذ حديثًا أو نأخذ آيةً مبتورةً عن سياقها أو بعيدةً عن موقعها، وبعيدةً عن النُّصوص الأخرى، ثم نحكم بذلك الحكم.

فجاء الإمام الشَّاطبي وكتب كتابه "المقاصد" في محاولةٍ لجمع شتات هذه الأمَّة، وتوحيد صفِّ المسلمين؛ لأنَّ توحيد صف المسلمين مقصدٌ من مقاصد هذا الدِّين يدلُّ عليه قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].

ويقول رسولنا -صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُسْلِمُ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، ثم شبَّك -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه، أي أنَّ المسلمين ينبغي أن يكونوا مُترابطين فيما بينهم، مُتوحِّدين مُتآخين بروح الله، مُتحابِّين في الله، لا يضرُّهم مَن خالفهم، ولا يهمهم مَن يتكلم فيهم، والمسلمون أمة واحدة: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء: 92].

فالمسلم من شرق الأرض إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها هو أخو المسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» كما بيَّن -صلى الله عليه وآله وسلم- «لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ».

فالمسلم أخو المسلم، وهذه الأخوة التي نفتقدها في يومنا هذا.

هذه مقاصد الدين، مقاصد هذا الشَّرع كما قال -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا».

هذه الأخوة التي افتقدناها اليوم، وصرنا نتعلل بعللٍ قد يكون بعضُها صحيحًا، وقد يكون بعضُها لا أساسَ له من الصحة بحجَّة أنَّ هذا في مذهبه كذا، وهذا مذهبه كذا، وهذا ينتمي إلى كذا، وهذا ينتمي إلى كذا، فتفرَّقت بنا السُّبل -والعياذ بالله- ونسينا المقصدَ الأساس لهذا الدين وهو أن نكون أمَّةً واحدةً، وأن نكون إخوانًا مُتحابِّين مُتآخين بروح الله، يغار المسلمُ على أخيه المسلم، ويأخذ به، ولا يظلمه، ولا يخذله، ولا يُسلِمه.

وقد ابتعدنا عن ذلك في صراعاتٍ كثيرةٍ، ونستطيع أن نقول: في صراعات المذاهب، ابتعدت عنَّا في التَّعصُّب -إن صح التَّعبير- ولا بأسَ أن نقول: التَّعصُّب إلى بعض المذاهب، أو إلى بعض الاتِّجاهات حتى صرنا كما قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 32]، أو يقول المثل عندنا في تونس: "كل واحد له ذكاؤه..".

لا، المسلم أخو المسلم، قد نختلف، ولا ضير -إخوتي الكرام، أخواتي الكريمات- في الاختلاف، ولا خوفَ من الاختلاف، فقد كان أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يختلفون، وكانوا في بعض الأحيان تختلف آراؤهم وتختلف فتاويهم، ولكن هذا الاختلاف لم يُذهِب أخوتهم، ولم يُذهِب حبَّ بعضهم لبعض، وقد اختلفوا في كثيرٍ من المسائل الفقهيَّة، والمجال ليس مجال سردها، فمثلًا في الرِّبا: هل الرِّبا هو ربا الفضل فقط أو ربا النَّسيئة؟ أو ربا الفضل وربا النَّسيئة؟ واختلفوا في كثيرٍ من المسائل الأخرى، وخالف بعضُهم بعضًا، ومع ذلك ظلَّ صفُّهم واحدًا، وظلوا متماسكين مُترابطين مُتآخين بروح هذا الدين، ومُتحابين في الله -عز وجل- وما ضرَّهم الاختلاف.

قد نختلف؛ لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- عندما خلق الناسَ خلق الناسَ لهم عقول، وبهذا تميز الإنسانُ عن سائر الكائنات، بعقولنا ميَّزنا الله -سبحانه وتعالى- وبعقولنا شرَّفنا الله -سبحانه وتعالى- وبعقولنا فضَّلنا الله -عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70].

فضَّلنا بماذا؟

إذا كان بالأكل؛ فكثيرٌ من الحيوانات -أكرمكم الله- مَن يأكل أكثر من الإنسان.

إذا فُضَّلنا بالطول، فهناك مَن هو أطول منَّا.

إذا فُضَّلنا بالسُّرعة؛ فهناك من الحيوانات مَن هو أسرع منَّا.

إذا فُضِّلنا بالأمور الجنسيَّة؛ فهناك من الحيوانات مَن هو أكثر منَّا.

إذن فُضِّلنا بماذا؟

فُضِّلنا بالعقل، والعقل جعله الله -سبحانه وتعالى- مناط التَّكليف.

جعله ماذا؟

مناط التَّكليف.

ما معنى "مناط"؟

أي مُتعلَّق التَّكليف، أي أنَّ الإنسان لا يكون مُكلَّفًا إلا إذا كان له عقلٌ، وإذا ذهب العقلُ فيُرفَع القلم، فلا تكليفَ.

فإذا كان الله -سبحانه وتعالى- ميَّزنا بالعقل؛ فهل جعل عقولنا واحدةً؟

كم عددنا تقريبًا في المسجد؟

خمسة آلاف؟ ألفين؟ إذا أرد أن تنقص فقل ألف؛ ففي هذا الألف نجد ألف عقل، كلُّ واحدٍ يفكر، وكلٌّ له طريقة تفكيره، وهذا من فضل الله.

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه القيِّم -وهو كتيب صغير كتبه- الموسوم بـ"رفع المَلَام عن الأئمَّة الأعلام"، من الأسباب التي اعتذر فيها للعلماء ولاختلافاتهم ذكر اختلافَ العقول واختلاف الناس في الفهم، فأنت تفهم من النَّص شيئًا، وأنا أفهم من النَّصِّ شيئًا آخر، وقد كان الأمرُ كذلك في عهد سلفنا -رحمهم الله- في عهد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل مجموعةً إلى بني قُريظة فقال كما في رواية مسلم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الظُّهْرَ -وَالرِّواية المعروفة: الْعَصْرَ- إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَانْطَلَقَ الْقَوْمُ» فلمَّا حان وقتُ الصلاة ماذا حدث؟ تعرفون أم لا؟

اختلفوا، الحمد لله ففي الاختلاف رحمة، فمجموعة صلَّت، والمجموعة الثانية ما صلَّت.

المجموعة الأولى صلَّت لماذا؟ هل أخذت بحرفيَّة النَّص؟

لا، وإنما أخذت -وليس الظَّاهر هو الحرفيَّة- بمعنى النَّص، عندما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» قالوا: إنما كان يعني رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن نُسرع إلى درجة أن نصل إلى بني قُريظة قبل الظُّهر فنُصلي هناك، وبما أننا امتثلنا للأمر وأسرعنا وأدركتنا الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، إذن وقفوا وصلوا.

الفريق الثاني: أخذوا بظاهر النَّص، وبحرفية الناس، قال: "لا تصلون إلا في بني قريظة"، حتى وإنَّ صليناها بعد صلاة العشاء، امتثلوا للأمر أو ما امتثلوا؟

امتثلوا للأمر، والفريق الأول حتى تعرف امتثلوا أو ما امتثلوا؟

امتثلوا، فلمَّا رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأخبروه الخبر ماذا فعل؟

أقرَّ الطَّائفتين.

ما معنى أقرَّ الطَّائفتين؟

معناها: لم يُخطِّئ أيَّ فريقٍ، أنتم بارك الله فيكم، وأنتم بارك الله فيكم، والجميع بارك الله فيه.

ما معناها؟

معناها: أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ الاجتهادَ أو ما أقرَّه؟

أقرَّ الاجتهاد.

فلماذا -يا أخي- اليوم حين أختلف أنا وأنت في أن نُصلي ركعتين عندما ندخل إلى المسجد والإمام يخطب؛ لماذا تقول لي: لا تُصلي؟!

أيضًا هذا اجتهاد منك، أنت تقول: لا تُصلي. أنا أقول: أصلي.

هذا يقول: نصلي بعد العصر فهذه صلاة ذات سببٍ: تحية المسجد، والآخر يقول: لا نُصلي.

يا سيدي، هل هذا الخلاف سيُؤدي بنا إلى التَّفرقة أم إلى الوحدة والمحبة؟

أنت فهمت شكلًا، وأنا فهمتُ شكلًا، ورضي الله عن الجميع، فقد كان الفريق الأول الذين هم سلف هذه الأمَّة يأخذون بالمقاصد وغايات هذا الدين.

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما تولى الخلافةَ جاءه المُؤلَّفة قلوبهم، تعرفون المؤلفة قلوبهم أم لا؟

المؤلفة قلوبهم هم الذين تكون قلوبهم ما زالت تُحبِّذ الدنيا على الآخرة، ما زالت الفلوس تغلبهم، تحب أن نُسلم معك نُسلِم لكن أعطني أموالًا، نُسلِم بالإيجار، فكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يتألَّفهم، إمَّا ترسيخًا للدين في قلوبهم، أو يتألفهم خوفًا من شرِّهم.

فلمَّا تولى عمر جاء بعضُ هؤلاء وطلبوا الزَّكاة، والزكاة حقٌّ من حقوقهم في كتاب الله أو لا؟ تحفظون الآية أو لا تحفظونها؟

﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [التوبة: 60].

فقالوا له: يا أمير المؤمنين، أعطنا حقَّنا.

أمير المؤمنين -رضي الله عنه- بثاقب نظره وفهمه لشرع ربِّه، وهو الْمُبَشَّرُ بالجنةِ، وهو الصَّحابي الجليل الذي يقول عنه رسولُنا -صلى الله عليه وسلم: «مَا سَارَ عُمَرُ فِي طَرِيقٍ إِلَّا وَسَلَكَ الشَّيْطَانُ طَرِيقًا آخَرَ»، فلا يلتقيان، إذا حضرت الملائكة غابت الشَّياطين.

فهذا عمر لما جاءه هؤلاء القوم قال: "لا حقَّ لكم في الزَّكاة"، إذا كنتم تحبون أن تُسلِموا لله فأهلًا وسهلًا بكم؛ أسلِمُوا، وإذا كنتم تُسلِمون لكي نُعطيكم أموالًا أو نُكَثِّرَ بكم عددَ المسلمين وسوادَ المسلمين؛ فالمسلمون اليوم عددهم كثير، وإذا كانوا يُعطونكم الفلوسَ من أجل الخوف منكم؛ فالإسلام قويٌّ وما نخاف منكم.

عمر -رضي الله عنه- الشُّجاع، فكلُّ الصحابة -رضي الله عنهم- عندما هاجروا من مكَّة هاجروا سرًّا، إلا عمر فعندما أراد أن يُهاجر إلى مكَّة ماذا فعل؟

طاف بالبيت حتى يُودِّع البيت، ثم التفت إلى كفار قريشٍ وقال: "مَن أراد أن تَثْكَلُه أمُّه، أو تُرَمَّل زوجتُه؛ فليلقني خلفَ الوادي".

نحن ماذا نقول بالتُّونسي؟

"الرجل فيكم يخرج لي".

انظروا لعزَّة الإسلام وقوة الإسلام، مَن هو عمر؟

هو رجل، أو سُوبر مان؟

هو رجل، لكن عندما دخل قلبه الإيمانُ أصبح رجلًا -كما قال أخوكم- كألف، أصبح لا يخاف في الله لومةَ لائمٍ، شعر بعِزَّة الإسلام، ولهذا تحدَّاهم جميعًا.

فعمر -رضي الله عنه- فهم هذا الشَّرع وأنَّ للدين مقاصد، وأنَّ الدين له معانٍ، ليس مجرد حرفيَّات، لأنَّا لو تمسَّكنا بحرفيَّة النَّص فلا بأسَ بذلك، ولكن أحيانًا في خِضَمِّ هذه الأحداث، وفي خِضَمِّ القضايا المُستجدة، وفي خِضَمِّ ما يتعرَّض له الناس اليوم من مشاكل ومن مُستَجَدَّات؛ هذه المُستجَدَّات تحتاج إلى ماذا إخوتي الكرام؟

تحتاج إلى حلولٍ، تحتاج إلى أحكامٍ، هذه الأحكام نستعين بعد الله -سبحانه وتعالى- على معرفة حِكَمِها بفهمنا لمقاصد شرعنا، وبفهمنا لمقاصد ديننا وغاياته وأهدافه.

اليوم -والعياذ بالله- الأمَّة نجدها اهتمت -أو كثير حتى لا نظلم ولا نُعمم- بالفروع وضيَّعت الأصول، اهتممنا ببعض القضايا التي لا يجب أن نهتم بها، فلابُد أن نهتم بديننا، فديننا دينٌ شامل، دينٌ مُتكامل كما قال ربي -سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208]، أمَّا لو لبست القُفَّاز وأدخلت إصبعك هذا وإصبعك هذا وتدع هذا، تتعب أو لا تتعب؟

تتعب.

لكن حين تُدخِل أصابعك كلها ترتاح، ولهذا ربي قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: 208].

فديننا دينٌ متكاملٌ، دينٌ شاملٌ ينبغي أن ندخل فيه بأكملنا، وأن ندخل فيه في جميع مجالاتنا، فلا يكون اقتصادنا في وادٍ، وعبادتنا في وادٍ، وسياستنا في وادٍ، وعلاقتنا في وادٍ، ويقولون فصلَ الدِّين عن الدولة!!

الإسلام جاء ليُهَيْمِن، ليحكم بين الناس، ليحكم بينهم بالحقِّ: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26].

فإذا اتَّبع الإنسانُ هواه واتَّخذ جانبًا من جوانب هذا الدِّين لم يدخل في السِّلم كافَّةً.

فنحن نحتاج في مجتمعنا اليوم إلى ماذا؟

نحتاج إلى أن نجد الحلولَ والأحكامَ الشَّرعية لجميع قضايانا، وهذه الحلول والأحكام لا نجدها إلا في كتاب الله، أو في سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو بفهمنا لمقاصد شرعنا ومقاصد ديننا، فهذا يُساعدنا كثيرًا على حلِّ قضايانا، وعلى توحيدنا، وعلى السَّير في الصِّراط المستقيم كما أمرنا ربُّنا -سبحانه وتعالى- وهو ما نُردد في كلِّ صلاةٍ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6].

أي صراط هذا الصِّراط؟

الذي قال عنه ربُّنا -سبحانه وتعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، وفي الآية الثانية: ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]، هذا هو الرَّفيق، الرَّفيق في الطريق هو مَن يُرِيك الحقَّ، ومَن يُعِينك عليه.

هذه المقاصد -إخوتي الكرام- عندما نُريد أن نتحدَّث عنها وأن نُفصِّل الحديث في بعضها؛ فهذه المقاصد:

- إمَّا أن تكون مقاصدَ عامَّة.

- وإمَّا أن تكون مقاصدَ جزئيَّة.

- وإمَّا أن تكون مقاصدَ خاصَّة.

مقاصد عامَّة: وهي التي تعم الشَّريعة بأسرها، تعم الأحكامَ بأكملها تقريبًا، كرفع الحَرَج عن الناس والتَّخفيف عنهم، فهذا مقصدٌ من مقاصد هذا الدين، والله -سبحانه وتعالى- يقول في ذلك: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وفي آيةٍ أخرى يقول: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

وفي حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما أرسل معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن ماذا قال لهما؟

قال: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا».

فهذا مقصدٌ من مقاصد ديننا، ونحن نعيش في خواتيم ثورةٍ، أو أبواب ثورة، فبعد هذه الثَّورة المباركة التي مَنَّ الله بها علينا فأصبحنا نتكلم في دين الله ونقول كلمةَ الحقِّ لا نخاف في الله لومةَ لائمٍ، وقد كنا لا نستطيع أن نقول حتى "لا إله إلا الله" جهارًا، ويا ويلَه مَن يمشي للمسجد ويُصلي الصبح أو كذا، لكن هذا من فضل الله -سبحانه وتعالى.

وشعبنا كان مُغَيَّبًا عن شرع الله، وكان بعيدًا كلَّ البُعْد عن دين الله، فأحوج ما نحتاج إليه اليوم هو فَهْم مقاصد شرعنا، وكيف نُنَزِّل هذا المقصد: "رفع الحرج عن الناس، والتَّخفيف عنهم" في واقعنا اليوم عندما ندعو الناسَ إلى دين الله، وعندما ندعو الناس إلى شرع الله؟ كيف نُعاملهم المعاملة الطَّيبة؟

ربنا -سبحانه وتعالى- يقول لموسى -عليه السلام- وهو رسول ومعه أخوه هارون وزير له: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾ [طه: 29- 34].

فماذا قال له عندما أراد أن يُرسله إلى فرعون؟

هل قال له: اكسر رأسه؟ هل قال له: يا كافر؟ ماذا قال له؟

﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 43، 44].

قولا له ماذا؟

قولًا لينًا.

فرعون الذي ادَّعى الرُّبوبية، فرعون الذي قال للناس: أنا ربكم الأعلى، وقال: ألك إله غيري، لما جاءه موسى وبدأ يُكلمه، قال: عندك رب غيري؟!

ومع ذلك ربنا -سبحانه وتعالى- قال: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 43، 44].

نحن أحوج ما نحتاج أن نُطبق هذا المقصد في دعوتنا، في علاقتنا فيما بيننا، في كلامنا مع الناس، المسلم هيِّنٌ ليِّنٌ كَيِّسٌ فَطِنٌ، واحد قرأه: "المسلم كِيس قُطْن"!

كَيِّسٌ فَطِنٌ هَيِّنٌ ليِّنٌ، يقول سيدنا -صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا كَانَ اللِّينُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ».

فنحن في دعوتنا اليوم في علاقتنا فيما بيننا ينبغي أن نكون هينين لينين، نُعامل الناسَ بالتي هي أحسن، وقد قرأ علينا إمامُنا في صلاة المغرب -جزاه الله عنا خير الجزاء: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، وقال تتمة الآية بعدها: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]، لكن هذه تكون لمَن؟

قال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 35]، تحبون أن تكونوا من الذين صبروا أو لا؟

اصبروا على إخوانكم في تونس.

أحكي للطلبة قبل أيام كيف نحتاج إلى صبرٍ ومُصابرةٍ، وأن شعبنا لا زالَ لا يفهم دينه، فقلتُ لهم: واحد كان معلمًا في منطقةٍ من مناطقنا هنا قام يصلي في الفجر فوجد الناسَ سبقوه قيامًا، ولاحظ أنَّهم يُصلون سنة الفجر، ويجلسون إلى أن تُشرق الشمس، فإذا أشرقت الشمس ماذا يفعلون؟

يقومون ليصلوا صلاة الصبح؟

ماذا تفعلون؟ وما الحكاية؟

قالوا: هذه صلاة سُنَّة الفجر، وهذا الصُّبح، والصُّبح وقته بعدما تُشرق الشمس.

فحكيت الحكاية فقامت طالبةٌ -وأحسبها من الصَّادقات الصَّالحات- وقالت: قسمًا بالله يا أستاذ هذا حصل معي هذه الأيام في سكن الطَّالبات، تقوم الطالبة فتُصلي سنة الفجر وتجلس حتى تشرقَ الشمس وتُصلي الصبح.

هذا شعبنا لا يفهم دينه.

كنتُ مرةً أمشي في منطقةٍ هناك في الشمال، ووقفتُ أشتري "هندي"، وهو التين الشُّوكي، ووقفت أسأل البائع: يا فلان أتُصلي؟

قال: لا، ما أُصلي.

قلت له: لماذا لا تُصلي؟

قال لي: لا أُصلي!

قلت له: تشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ الله؟

قال لي: مَن محمد؟

بهذا اللَّفظ! لا يفهم حتى مَن هو محمد!

وقناة الإنسان مع أنَّها قبل القافلة الأخيرة استمع إليها، فمرُّوا بقريةٍ فوجدوا العائلة التي اتَّصلوا بها لا تحفظ سورة الفاتحة، فكيف هدوا الناس؟

معناه أننا نُحبهم، ومُتمسِّكين بدينهم، ونُحبهم كذلك مُتَّبعين للسَّلف الصَّالح، اصبروا قليلًا يا شباب: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 35].

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الذين يصبرون ويُصابرون ويُرابطون حتى يأتينا الفلاحُ، وأن يجعلنا من أصحاب الحظِّ العظيم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

وأعتذر عن الإطالة، والله أعلم، وبالله التَّوفيق، والسَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=89