الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد حسان
شرح متن أصول السنة

لفضيلة الشيخ محمد حسان

الدرس (5)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب70، 71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

حياكم الله جميعًا -أيها الإخوة والأخوات- وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلًا، وأسأل الله الكريم -جل وعلا- الذي جمعنا في هذا البيت العامر على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.

هذا هو لقاؤنا الخامس من لقاءات شرحنا لأصول السنة للإمام المبجل أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى.

قال الإمام: (يَقُولُ أُصُولُ اَلسُّنَّةِ عِنْدَنَا:

اَلتَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاَلْاِقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَتَرْكُ اَلْبِدَعِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فَهِيَ ضَلَالَةٌ).

انتهينا من شرح هذين الأصلين الكبيرين الجليلين، وقد اتفقنا أنه من الإخلال أن نقدم الأصل وأن نشرحه شرحًا مخلًّا مختصرًا، فليس الغرض هذا، الغرض أن نستفيد من هذه الأصول الجامعة، وأن نتعلم منها، وأن نعمل بها، والأمر يحتاج إلى تأصيل ويحتاج إلى تفصيل، فما أيسر أن أشرح الأصل في خمس دقائق، وأن أردد الكلمات التي قالها الإمام، وأن أفسر المعاني المجملة وفقط، وهذا أراه إخلالًا لا يليق.

الأصل الثالث من أصول السنة، يقول الإمام: (وَتَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ، وَتَرْكُ الْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ).

هذا أصل جليل من أصول السنة، ما أحوج الأمة إلى هذا الأصل الآن، (وَتَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ، وَتَرْكُ الْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ).

هذا أصل يحتاج إلى تفصيل، وسامحوني قد يحتاج منا إلى محاضرتين، هذا الأصل قد يحتاج إلى محاضرتين؛ لأنني أريد أن أتكلم عن قول الإمام (وَتَرْكُ الْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ)، وأصحاب الأهواء هم أهل البدع، لكن مَن هم أهل البدع"؟ ومتى يُسمى الرجل حينئذ أنه من أهل البدع؟

ثم السؤال الأخطر والأهم الآن: ما هي ضوابط هجر المبتدع؟ هذا أخطر سؤال يُطرح في هذه القضية: ما هي ضوابط هجر المبتدع؟ لأن الأمر يحتاج إلى ضوابط، وأرى أن واقعنا المر الأليم الذي أراه بين طلاب العلم وأبناء الحركة الإسلامية يحتاج إلى هذه الضوابط، ويحتاج إلى هذا الفهم الدقيق والوعي العميق حتى لا يهجر الأخ أخاه بلا علم ولا فهم ولا ضوابط، فأنت ترى تشرذمًا وتنازعًا وتهارجًا أنا أدين لله -تبارك وتعالى- بأن غالبه لو فتَّشت عن سببه الحقيقي، لعلمت يقينًا أنه الهوى، لم يكن هذا الخصام بيني وبينك أو هذا النزاع لله، ولم نتجرد فيه أنا ولا أنت، بل تنازعنا وتخاصمنا وتهاجرنا وبدَّع بعضنا بعضًا وفسَّق بعضنا بعضًا ربما في المجالس وعلى شاشات الفضائيات وبين أبنائنا، أنا أفسِّق فلانًا بين طلابي، وهو يفسقني ويبدعني بين طلابه، ولو صدقنا الله وفتَّشنا في سبب هذا النزاع، لوجدنا السبب هو الهوى، ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26].

تدبروا معي، نتكلم الليلة عن قول الإمام: (وَتَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ)، ثم إن بارك الله لنا في وقتنا أُعرِّج على قوله: (وَتَرْكُ الْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ) في مقدمة مهمة ستسمعون فيها كلامًا -ورب الكعبة- هو أغلى من الذهب لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولشيخ الإسلام ابن القيم، وللشاطبي، وللحافظ ابن رجب، وللإمام ابن حزم، ولغيرهم من سادتنا وكبرائنا وعلمائنا، ستسمعون كلامًا أغلى من الذهب، وأنا أعجب كيف غابت هذه الكلمات والأصول عن أبناء الحركة الإسلامية فضلًا عن بعض المشايخ الذين يُعلنون الحرب الآن هوجاء على بعضهم البعض، وإن فتَّشت عن السبب -كما ذكرت- لن تجده إلا الهوى، أسأل الله أن يرزقني وإخواني جميعًا الإخلاص في الأقوال والأعمال والأحوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

(وَتَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ)، ما هي الخصومة لغة واصطلاحًا؟

لابد من هذا التأصيل.

قال ابن منظور في لسان العرب: الخصومة: الجدل، خاصمه خصامًا، ومخاصمة، أي غلبه بالحجة.

هذا هو التأصيل اللغوي لمعنى كلمة خصومة: خاصمه خصامًا ومخاصمة: أي غلبه بالحجة.

والخصومة: الاسم من التخاصم.

وخصمك: الذي يخاصمك، وجمعه: خصوم.

وقد يكون الخصم للاثنين -أي للمثنى- والجمع، يعني قد يُطلق لفظ الخصم على المثنى، وقد يُطلق لفظ الخصم على الجمع، على الخصوم، على المجموع.

وقد يُطلق أيضًا على المؤنث. يقول الله -عز وجل: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ [ص: 21].

وقال -عز وجل: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ﴾ [الحج: 19]، الآية.

قال الزجاج -وهو من أهل اللغة- في قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ قال: عنى المؤمنين والكافرين، والمؤمنون جمع، والكافرون جمع، مع أنه -جل وعلا- يقول: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾، إذن يُطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع وعلى المؤنث.

قال: "عنى المؤمنين والكافرين، وكل واحد من الفريقين خصم". أي مفرد، والمجموع أيضًا خصم.

والخَصِمُ-بفتح الخاء وكسر الصاد: الشديد الخصومة، يعني ليس مخاصم، بل شديد الخصومة، كما قال الله -عز وجل- في شأن مشركي العرب من قريش: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58]، أي شديدوا الخصومة واللَّدد، واللَّدد هو الخصام أيضًا.

فالخَصِمُ: هو شديد الخصام والخصومة.

وفي صحيح البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أبغض الرجال إلى الله -يا رب اكفنا شر هذا يا رب- الألدُّ الخَصِم»، هكذا بصيغة أفعل التفضيل «أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم».

ما هو اللَّدد -الألدُّ؟

اللَّدد: هو الاعوجاج والانحراف عن الحق. هذا من أبغض الناس إلى الله، بل هو من أبغض الرجال إلى الله.

الألدّ: المعوج المنحرف عن الحق، المخاصم في الباطل وهو يعلم، وما أكثر هؤلاء الآن ورب الكعبة، يُخاصمون في الباطل وهم يعلمون، ويجادلون بالباطل وهم يعلمون، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23]، ليس على جهل، إنما على علم.

قال: «أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم».

واللَّدُّ: هو الاعوجاج والانحراف عن الحق،

قال الله -عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ يا إلهي! ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [البقرة 204 - 206].

﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾: أي وهو من أشد الناس خصومة واعوجاجًا وانحرافًا عن الحق، ومع ذلك يخرج ويُعلن للناس أنه مصلح اجتماعي ويريد الخير للدين، ويريد الخير للبلد، ولا يستحيي أن يُشهد الله على ما في قلبه، وهو يعلم يقينًا من نفسه أن الله -جل وعلا- يعلم منه أنه كذاب، وأنه لدود، وأنه في اللَّدد خصيم.

قال الله -عز وجل: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم88-95]، هذا هو اللَّدد، هذا هو الاعوجاج عن الحق، هذا هو الانحراف عن الحق.

وفي سنن أبي داوود وابن ماجة من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بسند صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن أعان على خصومة بظلم أن يُعين على ظلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع»، هذه هي الخصومة، الخصومة تدفع صاحبها على الظلم، أو على الإعانة على الظلم.

وفي لفظ -وهو لفظ لو كان الإنسان يحمل في قلبه ذرة إيمان وسمع هذا الكلام النبوي، والله لفكر ألف مرة قبل أن يخاصم مرة في باطل- قال -عليه الصلاة والسلام: «مَن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع».

تدبروا هذا -يا أبنائي ويا إخوان: «مَن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع».

أنت مخاصم الأخ هذا لماذا؟ ولماذا تهجره، ومخاصم فلان الفلاني لماذا؟

أنت تعلم أن هذا الخصام في باطل، إن كنت تعلم ذلك، فتب وعد إلى الله -عز وجل- وارجع إلى الحق، ولا تتكبر ولا تستعلِ، وتدبر هذا الوعيد:«مَن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع»، أي حتى ينزع عن هذه الخصومة.

تعرفون -يا إخواننا- في صحيح مسلم؛ لأننا نستهين بهذا الأمر جدًّا، يعني الأخ مع أخيه منذ خمس سنين وعشر سنين وعشرين سنة، وموقف سياسي من المواقف الحقيرة الموجودة الآن ممكن تختلف مع أخيك في مسألة سياسية تنقطع الأخوة تمامًا وكأنك لا تعرفه، وكأنه لا يعرفك! هل هذه أخوة؟! هل هذه أخوة الإيمان؟! مستحيل.

كأني لو خالفت في مائة مسألة من مسائل الدين وليس في مسائل السياسة، تنقطع أخوتنا؟! المسائل كلها مسائل أحكام لا يجوز فيها أن يُنكر على المخالف أصلًا! فالإنكار على المخالف في مسائل الاجتهاد غير سائغ باتفاق، الإنكار على المخالف في مسائل الأحكام والاجتهاد غير سائغ باتفاق علمائنا.

قال ابن تيمية -طيَّب الله ثراه: "الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط" كلام يُكتب بالذهب أو بأغلى من الذهب.

قال: "الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء من مسائل الأحكام تهاجرا، لم يبقَ بين المسلمين عصمة ولا أخوة".

احفظوا هذا الكلام يا إخواننا وانقلوه، لو كل أخ من الإخوة الذين يحضرون معنا من أول يوم حرص على أن يأتي معه باثنين من طلاب العلم، لكان العدد أضعاف هذا مرتين ثلاثة، لكنك أتيت تسمع وفقط، لكن لو حرصت على أنك تدعو طالبين معك فقط بأسلوبك أنت، ابحث عن أقرب الناس للحق ليسمع معك هذا الخير وهذا الحق، شغلتنا السياسة إلى هذا الحد؟، وأصبحت هممنا لطلب العلم ضعيفة جدًّا ولا حول ولا قوة إلا بالله!

هل تعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس -اللهم اجعلنا من أهل الجنة- فيغفر لكل عبدٍ لا يُشرك بالله شيئًا»، اللهم إنا نشهدك أننا نشهد ألا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، ونشهدك أننا لا نشرك بك شيئًا، ونستغفرك لما نعلمه ونعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.

يقول -صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا»، وانتبه! والله كلام خطير أقسم بالله.

قال: «إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء»، شحناء أي خصومة وغضب وبغض.

قال: «إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين -يعني لا نغفر لهذين- حتى يصطلحا، أنظرا هذين حتى يصطلحا، أنظرا هذين حتى يصطلحا»، كلام خطير، يعني لو الإنسان يخشى ربه -سبحانه وتعالى- والله ما خاصم في باطل أبدًا، لكن تخاصم في حق، ولكن بحق وبضوابط سأبينها؛ لأن هذا من الدين، الخصومة في الحق من الدين، من الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، ومن البراء من الشرك والمشركين، وهذا أصل من أصول الدين، بل يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه: "والله لو قام رجل يعبد الله بين الركن والمقام سبعين سنة، يموت يوم يموت وليس في قلبه حبٌّ لأهل طاعة الله، وبغض لأهل معصية الله، ما نفعه ذلك كله". المرء مع مَن أحب.

وقال عبد الله بن عمر: "والله لو قمت الليل لا أرقد، ولو صمت النهار لا أفطر، لحشرت يوم القيامة مع من أحب". المرء مع من أحب.

ولما قالها -صلى الله عليه وسلم- قال أنس: "والله ما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب»، ثم قال: "اللهم إني أشهدك أني أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، فاحشرني معهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم".

إذن، الخصومة -يا إخواني- مرض عُضال، وداء خطير ووبال، فإذا انقلب فيها الحق باطلًا وصار الباطل فيها حقًّا بدافع من الهوى وإظهار الذات وفضح الخصم، كانت حينئذ خصلة من خصال النفاق، أعاذنا الله وإياكم من النفاق.

انتبه لهذا التأصيل: إذا انقلب الحق في الخصومة إلى باطل، يعني أنا عارف أنك صاحب حق، فيه خصومة بينك وبينك وأنا أعلم أنك على الحق، لكن لا أقدر أعترف لك بالحق، لا أنا سأقلب الحق إلى باطل، وسأنافح وسأقلِب هذا الحق الذي معك -وأنا أعلمه- إلى باطل، وأنا يكون معي الحق، وأنت تصر على أن تقلبه إلى باطل بدافع من الهوى وإظهار الذات، وفضح الخصم وإسقاطه. هذا نفاق.

ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»، هذا هو الفجور.

إذن، الفجور في الخصومة خصلة من خصال النفاق، «آية المنافق ثلاث»، هذه رواية أبي هريرة، والرواية السابقة كانت لعبد الله بن عمرو في الصحيحين أيضًا، قال: «إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»، هذه رواية أبي هريرة.

رواية عبد الله بن عمرو: «أربع من كن فيه... الحديث »، ومنها: «وإذا خاصم فجر»، ما معنى الفجور؟ أن يقلب الحق مع خصمه إلى باطل، وأن يقدم الباطل الذي هو عليه وهو يعلمه على أنه الحق، سبحان الله!

يقول عمار بن ياسر أثراً رائعاً جدًّا في صحيح البخاري، يقول: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان".

اكتبوا الأثر هذا: في صحيح البخاري من حديث عمار بن ياسر موقوفًا عليه: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان -أول خصلة:- الإنصاف من نفسك"، هذه صعبة، لا يستطيعها أي أحد، ولا يقدر عليها كل طالب علم ولو كان عالمًا ولو كان شيخًا -إلا مَن رحم ربي، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.

قال: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك"، لو أنا مخطئ أقول: والله أنا أعتذر، أنا خطئ، أنا آسف، أستغفر الله وأتوب إليه.

لماذا تتكبر؟ اعترف بالخطأ واعتذر، لا حرج على الإطلاق، كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، ما الحرج في ذلك؟ ما الحرج أن أخطئ ويأتيني طالب علم من طلابي أقسم بالله لا أتردد لحظة واحدة، بل ولا أحدث نفسي إذا جاءني طالب من طلابي وقال هذا خطأ بالدليل وبأدب، أن أعلن ذلك في التوِّ واللحظة وعلى الفور، وإلا فأحبس نفسي في بيتي حتى أطهر قلبي من مرض الكبر، ثم بعد ذلك أخرج لأعلم الناس.

"الإنصاف من نفسك، والإنفاق من الإقتار"، يعني من الضيق، أن تنفق.

قال: "والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالَم"، وليس لأهل الإسلام فقط؛ لأن أنت سِلم لكل الناس تبلغ عن الحق بحق، ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6].

قال: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالَم".

إذن، الفجور في الخصومة وهو قلب الحق إلى باطل، وقلب الباطل إلى حق بدافع من الهوى والظلم والتشفي وإسقاط الخصم، هذا من خصال المنافقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولذا، حذر نبينا -صلى الله عليه وسلم- المتخاصمين تحذيرًا شديدًا أن يجادل أحدهما ويماري بالباطل ليقلب الحق مع خصمه إلى باطل، أو ليقدم الباطل الذي عليه على أنه الحق، فقال -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين من حديث أم سلمة: «إنكم لتختصمون إليَّ -في كثير من المسائل- ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض»، يعني ربما يقدِّم خصم من الخصمين الحجة ببلاغة، انتبه! فلو أنت بليغ وفصيح وتقدِّم الحجة ببلاغة حتى تقنع القاضي أو تقنع الحاكم الذي سيحكم بينك وبين خصمك بالباطل وأنت تعلم، فاعلم يقينًا أن هذا القاضي لو قضى لك إنما يقضي لك بقطعة من النار.

يقول -صلى الله عليه وسلم: «إنكم لتختصمون إليَّ، ولعل بعضَكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحوِ مما أسمع».

العالِم أو المفتي يفتي على قدر السؤال حين يُطرح، قال: «وإنما أقضي على نحوٍ مما أسمع، فمَن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار»، هل تدبرتم يا إخواني؟ وهذا كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- «فمَن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار».

وفي صحيح البخاري أيضًا من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله منها، فإنه ليس ثمَّ دينار ولا درهم» يعني يوم القيامة.

«قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أخذ من سيئات فطُرحت عليه».

وفي لفظة أبي هريرة في حديث المفلس في صحيح مسلم: «قال أتدرون من المفلس؟».

قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.

قال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد قذف هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم، ثم طُرحت عليه، ثم طرح في النار». أتى بصلاة وصوم وزكاة، ولكنه رجل شديد الخصومة، كثير المظالم، كثير الغيبة، كثير النميمة، رجل لا يتقي الله في قوله ولا فعله، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج، كل هذا ويأتي يوم القيامة كلٌّ يطالب بحقه، -وربما أتعرض لشيء من ذلك في خطبة الجمعة القادمة هنا -بإذن الله تعالى- في جامع الحصري- كلٌّ يطالب بحقه؛ لأنه ثِق تمامًا أنك لن تدخل الجنة وإن كنت من أعلها وعليك مظلمة لأحد، أبدًا، لابد أن تقضي المظالم، ولابد أن تؤدي الحقوق.

النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها، أو لتؤدَّن الحقوق إلى أهلها، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»، الله أكبر، حتى القَصاص -أو القِصاص، وكلاهما صحيح- بين البهائم العجماوات، بين الحيوانات، الشاة التي نطحت شاة أخرى بلا قرون يقتص الله لهذه من تلك يوم القيامة.

في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد -الرواية التي ذكرتها آنفًا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة- فيه رواية في مسند أحمد من حديث أبي ذر بسندٍ صحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى يومًا شاتين تنتطحان، فقال النبي لأبي ذر: «أتدري فيمَ تنتطحان؟» الله أكبر!

قال: لا أدري.

فقال -صلى الله عليه وسلم: «ولكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة»، أنت تظن أن المظالم هذه ستضيع والدماء هذه ستضيع؟ الدماء التي تسفك على الأرض في سوريا أو في بورما أو في العراق أو في فلسطين أو على أرض مصر، ستضيع؟

والظالمون المجرمون الذي يتراقصون على دماء أبنائنا ودماء أولادنا، هل تعتقد لحظة أن الله -جل وعلا- لن ينتقم منهم في الدنيا قبل الآخرة؟ لا والله، والله عقيدة فاسدة مَن اعتقد أن الله لن ينتقم من هؤلاء الظالمين المجرمين في الدنيا قبل الآخرة.

عندك دليل؟

ما في كلمة بدون دليل، لا أستطيع أقول كلمة بدون دليل.

قال -صلى الله عليه وسلم: «اثنتان يعجلهما الله في الدنيا قبل الآخرة: البغي -أي الظلم- وعقوق الوالدين»، لازم الظالم يدفع الثمن في الدنيا، وهناك في الآخرة يقتص الله منه، لكن في الدنيا لابد أن يدفع الثمن، والعاق لوالديه سيء الأدب وسيء الخلق، الذي يتطاول على أبيه، أو لا يحترم ولا يُجلُّ أمه، ولا يقبل رجلها وقدمها، هذا ينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة، عاق والديه، والظالم لِخَلق الله وعباد الله.

الحديث في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102] ».

الظلم ظلمات، «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة».

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا

فالظلم آخره يفضي إلى الندم

تنام عيناك والمظلوم منتبه

يدعو عليك وعين الله لم تنم

قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وقبل عمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»، جل جلال ربي.

آهٍ لو امتلأت قلوبنا بجلاله! آهٍ لو عرفنا عظمته سبحانه! آهٍ لو امتلأت قلوبنا بحبه وخشيته، والله ما كان هذا هو الحال، نسأل الله أن يملأ قلوبنا بخشيته والحب له، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا»، ما معنى «ولا تناجشوا»؟

النجش: هو زيادة سعر السلعة في السوق وهو لا يرغب شراءها من أجل أن يفسد البيع على أخيه، وهذا موجود، ينزل السوق مخصوص، السلعة سعرها مائة جنيه، يقول: أنا أشتري بمائة وعشرين، وهو لن يشتري، ولكن حتى يفسد السعر على أخيه، هذا اسمه نجش.

انظر إلى دقة اللفظ النبوي، إلى هذا الحد: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير صلى الله عليه وسلم إلى صدره الشريف- التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه».

أقسم بالله، لو عملت الأمة بهذا الحديث فقط، لسعدت في الدنيا والآخرة، والله العظيم ما رأيت بغضًا ولا خصومة ولا تدابرًا ولا تقاطعًا ولا هجرانًا بالباطل، ولا سفكًا للدماء، ولا انتهاكًا للأعراض، ولا أكلًا للأموال بالحرام.

انظر للحديث: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه».

انظر إلى جوامع الكلم؟

بفضل الله أنا مستعد أشرح في الحديث هذا طوال شهر رمضان، أقسم بالله ثلاثين حلقة في الحديث هذا فقط، وأنا رجل جاهل جدًّا، تصور لو عالم من علمائنا في كم سيشرح الحديث؟ في سنة!

هذا ما قال فيه -عليه الصلاة والسلام: «وأتيت جوامع الكلم»، كلمات قليلة فيها السعادة، فيها منهج لصلاح المجتمع، منهج لصلاح القلوب، منهج لصلاح النفوس، أنت لو أخذت آخر الحديث يكفي «كل المسلم على المسلم حرام»، يا أخي دمي حرام عليك، ودمك حرام عليَّ، وعرضك حرام عليَّ، ومالك حرام عليَّ، يكفي هذا، أنا لا أعلم زمانًا سُفكت فيه الدماء كهذا الزمان، ولا أعلم زمانًا انتُهكت فيه الأعراض كزمان الإنترنت والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي.

مواقع التواصل الاجتماعي ذبح للشرف -في كثير منها طبعًا- ذبح للأعراض، وانتهاك للحرمات، يدخل أي من شاء ليكتب ما شاء في أي وقت شاء ليذبح شريفًا، وليقتل عفيفًا، ويمضي بعد ذلك آمنًا مطمئنًا إذ لا يعرفه أحد من البشر، يدخل باسم مستعار وبأي صورة من الصور ليُجرِّح من شاء، وليذبح من شاء، وليقتل مَن شاء، وليقول أي وقت شاء ما شاء، ثم يمضي آمنًا مطمئنًّا، ويصبح الناس ويمسون وأعراضهم مجرَّحة، وسمعتهم ملوثة، وإذا كل فرد فيهم متَّهم أو مهدد بالاتهام غدًا أو بعده!

وهذه حالة من القلق والريبة والشك، لا يمكن أن تطاق بحال من الأحوال والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال وليس بخارج»، في غير هذه الرواية: قيل: يا رسول الله، وما ردغة الخبال؟ قال: «عصارة أهل النار»، هذا كلام يرعب، الناس صارت عندها جرأة وتهكم شديد واستسهال واستهوان واستهانة شديدة جدًّا بهذه النصوص القرآنية والنبوية، كأنك لا تقول شيئًا!

لما يقول: «من قال في مؤمن ما ليس فيه»، أتهم إنسانًا وما عندي بينة، وما عندي دليل، إنما يقول لك: قالوا، يقولون.

من الذي يقول؟

يقول: هم يقولون.

ومَن هم؟

وتخرج الإشاعة تروج في الأرض وتجوب الأرض في ساعة واحدة، وتكون على كل مواقع التواصل، وتكون على كل الفضائيات في لحظات، وتبحث عن سبب، تبحث عن البينة، تبحث، ما في بينة!

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ وفي قراءة: "فتثبتوا" ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]، اللهم ارزقنا صدق القلب، وطهارة النية، وعفة الألسن يا أرحم الراحمين.

والله نحن محتاجون نرجع للدعوة، والله محتاجون نرجع للقرآن والسنة، والله محتاجون نرجع للعلماء ودروس العلم، كفانا سياسة، مللنا منها، نريد نرجع نتعلم الخشية من ربنا، اليوم -سبحان الله!- لم تعد تسمع أخ يبكي خلف الإمام من خشية الله، صارت مسألة قليلة جدًّا؛ لأن القلوب قست، والأعين أصبحت جامدة، يا رجل ممكن تقرأ جزءً من القرآن لا تبكي دمعة، والله ما تنزل دمعة، يا رجل أنت طوال الليل سهران مع الفضائيات وتقلب شمالًا ويمينًا ولم تقم تصلي ركعة! لم تقرأ الورد القرآني اليومي، لم ترفع أكف الضراعة بالدعاء إلى الله ربع ساعة أو عشر دقائق، أهذا واقع تنصر فيه الأمة؟!

أهذا واقع ربنا يرفع بسببه الغمة؟! والله أبدًا، إن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته.

يقول الصادق كما في الحلية لأبي نعيم بسند صحيح: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته»، نريد أمنًا وأمانًا واستقراراً ورخاءً وبركة وسعة أموال وغنىً، هل سيأتي بهذا الوضع الذي نحن فيه؟ بقطع الطرق؟ بالحرق؟ بالاعتداء على المؤسسات؟ بالاعتداء على مؤسسة الرئاسة؟ هل سيأتي النصر بهذا الخلق وبهذا السلوك؟

يا رجل أن تقبل واحد يمسك عصا ويأتي يكسر باب بيتك؟ تقبل أنت هذا الكلام؟

تقبل واحد يعتدي عليك في الشركة التي فيها مكتبك ويكسره؟ هذا سفه، هذا إفساد في الأرض، هذا تدمير وتخريب، هذا خروج عن الحق، وخروج عن الشرع، وخروج عن القانون، وخروج عن المنطق والعقل، وخروج عن كل القيم والأخلاق، وتسمونه تظاهر! كلام فارغ! نسمي الأمور بأسمائها يا إخواننا حتى نخرج من حالة الهم والغم التي نعيشها؛ لأن ما عند الله لا يُنال بهذه المعاصي وبهذا التهريج، وإنما يُنال بطاعته -سبحانه وتعالى.

اللهم ردنا جميعًا إلى الحق ردًّا جميلًا.

كما قال -صلى الله عليه وسلم: «المسلم ينصر أخاه ظالمًا ومظلومًا»، «انصر أخاك ظالمًا ومظلومًا».

فقال: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، فكيف إذا كان ظالمًا.

قال: «تمنعه من الظلم، فإن ذاك نصره».

هذا هو الحق، تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره.

وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده».

ويعجبني كلام رائع لشيخي ابن القيم -شيخي وأستاذي- يقول -وانتبه واحفظ وسجل الكلام الغالي هذا- يتكلم عن جِماع حُسن الخُلق، يقول: "أَمْنُ الخَلق منك، وحب الخَلق لك، ونجاة الخَلق بك"، هذا هو الدين، هذا هو حُسن الخُلق، أن يأمن الناس من شرك، أن يأمن الناس من أذاك.

"أَمْنُ الخَلق منك " من لسانك، من أفعالك.

" أَمْنُ الخَلق منك، وحب الخلق لك"، حب الخلق لك علامة على حب الله لك يقينًا كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96]، أي محبة في قلوب الخلق، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل...»، إلى آخر الحديث.

"حب الخلق لك" لن يحبك الخلق إلا بحسن خلقك، إلا بتواضعك، إلا بأدبك، إلا بصدقك، إلا بعلمك وعملك، إلا بوفائك وأخلاقك ونبلك، الأخلاق والبر، البر حسن الخلق، لما ترجع إلى البر في القرآن تجده شامل عقائد وعبادات ومعاملات، البر ليس مجرد كلمة، ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، كل هذا بر، البر حسن الخلق.

إذن، البر كما يقول شيخي ابن القيم: "عقائد، إيمان وعبادات، ومعاملات"، انظر للآية في وصف البر، وانظر كيف وصف الله البر، والرسول يقول: «البر حسن الخلق».

إذن، حسن الخلق: "أَمْنُ الخَلق منك، وحب الخَلق لك، ونجاة الخَلق بك"،

أن تكون سببًا في نجاة الآخرين، أن تتحرك بهمة عالية، ونية صادقة، وعزيمة وإرادة لنجاة الخلق، بلغ عن الله، بلغ عن رسول الله، كن صاحب إرادة، كن صاحب همة، لِمَ لا تُخطط وتفكر؟ أتاني أبناء وشباب من لبنان، وشباب من اليمن، وشباب من ليبيا، أتوا ليحضروا الدورة عشرة أيام ويرجعون، همة!

انظر كم أنفق وترك أهله، وتعب، وأين يسكن؟ حتى يسمع عن قرب من المشايخ الذين يشرحون في الدورة، ويرجع بهذا النور إلى إخوانه هنالك، همَّة عالية.

اللهم اجعلني وإياهم وإياكم من الصادقين.

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ

وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصَّغيرِ صغارُها

وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ

وكما يقول المتنبي:

وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً

تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

أصحاب الهمم العالية لا ينامون، والله لا ينامون إلا قليلًا.

وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً

تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

اللهم اجعلنا من أصحاب الهمم العالية الكبيرة.

يقول -صلى الله عليه وسلم: «المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب».

وفيه رواية جميلة في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، ونحن نتكلم عن الخصومة وهذا الداء العضال، يقول -عليه الصلاة والسلام- في رواية طويلة في صحيح مسلم: «فمن أراد أن يُزحزَح عن النار ويُدْخَلَ الجنَّة، فلتأته مَنِيَّتُهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر» فقط؟ لا، هذه علاقتك بربك، لكن أين علاقتك بالناس؟ هذا سبب من أسباب النجاة وأنت لا تنتبه، يقول: أنا أصلي الفجر وأصوم الاثنين والخميس، والحج والعمرة.

لا، أبدًا، هذا لا يكفي، هذه علاقتك بربك، لكن علاقتك بالناس أين؟

قال: «فمن أراد أن يُزحزح عن النار ويُدْخَلَ الجنَّة، فلتأته مَنِيَّتُهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحب أن يؤتى إليه».

انتبهوا يا شباب! هذه هي الأخلاق التي أتمنى أن أتعلمها معكم، والله العظيم هذه هي الأخلاق التي أرجو الله أن يعلمني وإياكم إياها، هذه هي الغاية من دروس العلم، ليست الغاية أن تقول: أنا انتهيت من أصول السنة على يد محمد حسان، وانتهى الموضوع، ليست هذه الغاية؛ لأن الطلب ليس غاية، إنما الطلب وسيلة لأشرف غاية وهي الخشية ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

«فمن أراد أن يُزحرح عن النار ويُدْخَلَ الجنَّة، فلتأته مَنِيَّتُهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»، وقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "إذا وجدت أخوة بلا إيمان، فاعلم بأنها ليست أخوة الدِّين، وإذا وجدت إيمانًا بلا أخوة، فاعلم أنه إيمان ناقص".

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].

"إذا وجدت أخوة بلا إيمان، فاعلم بأنها ليست أخوة الدين"، بمجرد أن المصلحة تنتهي، يفارقك. إنما أخوة الدين لا تنقطع، أنا غلطت، أخطأت في حقك، تسامحني وتستر عليَّ، وأنت إذا أخطأت وأنت أخي، أسامحك وأستر عليك، وأنصح وأوجهك، إنما أخوة الدنيا -مصالح- بمجرد أن تنتهي المصلحة، أنت في حالك وأنت في حالي!

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].

قال الله -عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 58].

وبالجملة -يا إخواني- حتى لا أطيل، وإلا فالموضوع طويل، كنت أرى أن أتحدث عن الخصومة في الصلح، وأبين فضل الصلح، وأبين مكانة الإصلاح بين الناس ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114].

بالجملة: الخصومة توقع صاحبها في الغِبية والنميمة والكذب والحقد والحسد والبغضاء.

أختم بكلمات أغلى من الذهب نفسه، يعني تكتب بأغلى من الذهب للإمام النووي -رحمه الله تعالى- وأرجو أن تكتبوها، وأن تحفظوها، وأن تسألوا الله أن يرزقنا جميعًا العمل بها، يقول النووي: "ما رأيت شيئًا أَذْهَبَ للدِّين، ولا أَنْقَصَ للمروءة، ولا أَضْيَعَ للَّذة، ولا أَشْغَلَ للقلبِ من الخصومة". يا الله!

أكرر: "ما رأيت شيئًا أَذْهَبَ للدِّين، ولا أَنْقَصَ للمروءة، ولا أَضْيَعَ للَّذة، ولا أَشْغَلَ للقلبِ من الخصومة".

والإمام أحمد يقول: (وأُصُولُ اَلسُّنَّةِ عِنْدَنَا: تَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ). هذا هو الأصل الثالث.

قال: (تَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ، وَتَرْكُ الْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ).

مَن أصحاب الأهواء؟ أهل البدع.

متى يكون الرجل من أهل البدع؟ وما هي ضوابط هجر المبتدع؟

هذا ما نتعرف عليه في محاضرة الغد -إن شاء الله تعالى- وأنا أراها من أهم محاضرات شرح أصول السنة.

أسأل الله -عز وجل- أن يرزقني وإياكم العلم والفهم والعمل، وأن يتقبل منِّي ومنكم جميعًا صالح الأعمال، وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=61