الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد حسان
شرح متن أصول السنة

لفضيلة الشيخ محمد حسان

الدرس «2»

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب70، 71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

حياكم الله جميعًا -أيها الإخوة والأخوات- وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم، وتبوأتم جميعًا من الجنة منزلًا.

وأسأل الله الكريم -جل وعلا- الذي جمعنا في هذا البيت العامر على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.

هذا هو لقاؤنا الثاني من لقاءات شرح أصول السنة للإمام أحمد -رحمه الله.

وكنت وعدتُّ بالأمس أن أستهل الشرح بثلاث مقدمات، تكلمت عن مقدمتين اثنين فقط في محاضرة الأمس، وأود الليلة بعد أن قدمت بمحاضرة في فضل العلم ومكانة طلب العلم وطلاب العلم، وتحدثت عن أصول السنة لغةً واصطلاحًا، أود الليلة أن أترجم ترجمة مستفيضة بعض الشيء لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى.

وأنا لا أريد أن أترجم للإمام ترجمة بالمفهوم الأكاديمي، ولد سنة كذا، وتوفي سنة كذا، وأولاده كذا، ومصنفاته كذا، وانتهت الترجمة، لا، بل أنا أريد أن نتعلم من الترجمة، وأريد أن نستفيد من الترجمة، لا سيما ونحن الآن في عصر عزَّ فيه العلماء الربانيون العاملون الصادقون الذي يؤثرون في الأمة ويوجهون الأمة، والذين يثبتون في المحن وفي الفتن على المنهج الصحيح وعلى الحق، تحتاج الأمة الآن إلى هذا الطراز، إلى طراز أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى.

وأرجو أن تركزوا معي في غضون هذه الساعة وسأكون سريعًا لأذكر لحضراتكم كثيرًا من الحقائق عن شخصية الإمام الفذَّّة.

الإمام أحمد إمام أهل السنة الذي عُرضت عليه الدنيا فأباها، وعُرضت عليه البدع فنفاها، وأرجو أن تتدبروا كل لفظة.

إنه شيخ الإسلام، وسيد المسلمين في عصر وبعد عصره.

اسمع العبارة الآتية! إنه أئمة في إمام، لقد كان الإمام أحمد -رحمه الله- إمامًا في السنة، إمامًا في الحديث، إمامًا في الفقه، إمامًا في العقيدة، إمامًا في الزهد، إمامًا في الورع، إنه الإمام الذي بذل نفسه وروحه للزود عن حياض السنة المطهرة، إنه الجبل الصابر الثابت الراسخ التي لا تزعزعه الأعاصير، ولا تميد به العواصف، إنه الرجل الذي إن طالعت سيرته وترجمته شعرت أنك تتحدث عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي صحبوا نفسه وأنفاسه -عليه الصلاة والسلام.

إنه الإمام المبجل أحمد بن حنبل.

تعالوا بنا سريعًا يا طلاب العلم لنطالع ترجمة أو سيرة سريعة لهذا الحبر ولهذا الإمام.

ولد الإمام أحمد في السنة الرابعة والستين بعد المائة في بغداد، فهو بغدادي المولد، بغدادي النشأة، بغدادي الوفاة، يعني ولد في بغداد، وعاش في بغداد، رحل ثم عاد -كما سأبين- ثم توفي في بغداد.

إذن، ولد الإمام في السنة الرابعة والستين بعد المائة الأولى في بغداد -أسأل الله أن يفرج كربها.

فهو بغدادي المولد النشأة والوفاة.

لما بلغ الإمام الثالثة من عمره توفي والده وكان في الثلاثين من عمره، يعني توفي والد الإمام أحمد وهو شاب في ريعان الشباب، كان والده في الثلاثين من عمره، وكان الإمام في الثالثة من عمره.

فتولته أمه، ووليته أمه بالعناية والرعاية، فأدخلته مباشرة إلى الكتاب في هذه السن المبكرة، هذه سيرة يجب أن نستفيد منها، وأن نعلم يقينًا أننا في أمس الحاجة الآن إلى الكتاتيب ليعود أبناؤنا من جديد ليحفظوا القرآن الكريم في المساجد وفي غير المساجد، فهذه هي البداية المباركة التي بدأ بها كل عالم من القدامى والمعاصرين.

أذكر أنني كنت في كتَّاب القرية مع ستة وعشرين طفلًا، ختمنا القرآن الكريم كله قبل أن نبلغ الثامنة من أعمارنا -أسأل الله أن يرحم شيخنا الشيخ مصباح محمد عوض.

فما أحوج شبابنا الآن لا سيما من يطلبون العلم إلى حفظ القرآن، وإذا أردت أن تحفظ القرآن حفظًا متقنًا، فلابد أن تحفظه على يد شيخ، فالقرآن لابد فيه من الْتَّلَقِّيَ.

فدفعته أمه إلى الكتاب وكان الإمام في الثالثة من عمره، فحفظ القرآن الكريم كله في سنة مبكرة، وتعلم القراءة والكتابة.

ثم نبغ الإمام نبوغًا ملفتًا جدًّا، فبدأ بدراسة الفقه والشريعة على يد شيخه الأول هشيم بن بشير -رحمه الله تعالى- ولما بلغ الإمام الثامنة عشرة من عمره تفرغ تفرغًُا تامًا لدراسة علم الحديث.

وهنا أنصح طلابنا وأحبابنا أن يبدءوا أولًا بالقرآن، فإن انتهيت من القرآن فلا حرج أن تتفرغ للعلم الذي تريد أن تدرسه وأن تتعلمه، أما أن تبدأ بغير القرآن، فلا.

كم من طالب بدأ بغير القرآن فتأسَّد وتنمَّر، وحفظ بعض المسائل من أبواب العلم لا سيما في الأصول وفي المصطلح، ثم جلس بها في المجالس بين إخوانه ليتأسَّد بها ويتنمَّر بها، فلم يبارك الله -عز وجل- له في علمه، ولم ينفع به، أهل القرآن لهم سمت ولهم سيمة، ولهم خلق، ولهم أدب، حتى لو تفرغ بعد ذلك لأي باب من أبواب العلوم الشرعية.

حفظ الإمام القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم تفرغ في الثامن عشرة من عمره لدراسة علم الحديث سندًا ومتنًا وحفظًا.

أخذ كل الروايات من علماء بغداد حتى شعر الإمام بأنه في حاجة إلى الرحلة خارج بغداد، فرحل الإمام أحمد لطلب علم الحديث، ليسمع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحفاظ والمحدثين في أقطار الأرض، رحل إلى مكة، وإلى المدينة، وإلى اليمن، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وإلى خرسان، وإلى فارس، حتى قال الحافظ ابن كثير: "لقد طاف أحمد في البلاد والآفاق".

وأنا أحيي بعض الطلاب الذي شرفونا من لبنان ومن اليمن ومن سوريا، وأتوا خصِّيصًا لحضور هذه الدورة المختصرة في هذه الأيام القليلة، وأقول: لقد شرفكم الله -عز وجل- بما شرَّف به أهل العلم القدامى في الرحلة لطلب العلم للسماع من أهل العلم، وهذا أشرف ما يُرحل له، وأغلى ما يُطلب في هذه الدنيا، فلم يأمر الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالازدياد من شيء إلا من هذا العلم، فقال -جل وعلا- لنبيه ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114].

رحل الإمام أحمد كما قال الحافظ ابن كثير: "لقد طاف أحمد في البلاد والآفاق".

ولم يترك الإمام لحظة من شبابه إلا وحرص فيها أن يسمع حديثًا أو أن يصحح رواية، أو أن يوصل سندًا، ورحل في سبيل ذلك إلى معظم مدن الأرض في هذا الوقت -إن لم يجد ما يركبه- على قدميه، يا الله!

إن لم يجد ما يركبه يرحل على قدميه حتى تشققت قدماه وضعف بدنه جدًا بسبب طول الرحلة ومشقتها، لكنه كان إذا سمع حديثًا واحدًا من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يفرح به فرحًا ينسيه كل آلامه، ويُذهب عنه كل أحزانه وجروحه، حتى لقيه يومًا رجلًت فقال: يا أبا عبد الله، مرة إلى الكوفة، ومرة إلى البصرة، ومرة إلى اليمن، ومرة إلى مكة، ومرة إلى المدينة!

فهل إذا كتب الرجل ثلاثين ألف حديث ألم يكفه؟!

ألا يكفيك أنك كتبت ثلاثين ألف حديث؟!

فسكت الإمام.

فقال الرجل: ستين ألف حديث؟

فسكت الإمام.

فقال الرجل: مائة ألف؟

فقال الإمام أحمد: حيئنذٍ يعرف شيئًا.

قال ولده صالح بن أحمد: رأى رجل مع أبي المحبرة، يكتب، يكتب.

ولذلك أنا أنصح طلاب العلم بالكتابة، يعني لا تكتفي بالسماع فقط، قيِّدوا العلم بالكتابة.

يعني هذه المحاضرة أنا كتبتها بخط يدي، سنة كم؟ نرجع للتاريخ، 26/ 1/ 1414 هجرية - 16/ 7/ 1993 ميلادية، وألقيتها أول مرة في القصيم في المملكة العربية السعودية، كتبتها بخط يدي، حين احتجتها الآن عدت إلى أوراق ودفاتري وأخرجت المحاضرة، وها أنا ألقها مرة أخرى على مسامعكم.

لو لم أقيد هذا العلم لاحتجت أن أعود مرة أخرى إلى كتب التراجم والسير لأعدَّ لكم من جديد محاضرة أو ترجمة مستفيضة لإمام أهل السنة.

فأنا أنصح طلابنا بتقييد العلم بالكتابة.

روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه".

انتبهوا يا شباب! "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه"، يعني إن أردت الحفظ، قيِّد، اكتب.

الحديث قال: "فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: رسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، قال: فأمسكت عن الكتابة وذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: «اكتب، وأشار إلى فيه الطاهر -عليه الصلاة والسلام- وقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق»"، عليه الصلاة والسلام.

فأنا أنصح أبنائي وأحبابي وإخواني من طلاب العلم أن يقيدوا العلم بالكتابة، إن منَّ الله عليك بخاطرة، لا تضيع هذه الخاطرة بلا صيد، وقيد هذه الخاطرة بعد الصيد بالكتابة والتقييد، كما قال الإمام ابن الجوزي: صيد الخاطر، إذا وردت على ذهنه خاطرة اصطادها فقيدها بالكتابة.

قال صالح ابن الإمام أحمد: رأى رجل المحبرة مع أبي -فوصل الإمام إلى ما وصل إليه ومع ذلك يكتب في دروس العلم ومجالس العلم يكتب- فقال له هذا الرجل: يا إمام، يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ ولا زلت تحمل المحبرة؟!

فقال له الإمام كلمته الجميلة التي تحفظونها جميعًا، قال: "نعم، مع المحبرة إلى المقبرة" يعني سأظل أدوِّن وأكتب هذا العلم حتى أموت.

ولذا بلغ الإمام منزلة كبيرة، فهو محدث الفقهاء، وفقيه المحدثين، وهو إمام أهل السنة في عصره، بل وبعد عصره أجمعين، حتى قال ولده عبد الله -تدبروا هذا القول البديع: قال لي والدي يومًا -الإمام أحمد يقول لابنه عبد الله ابن الإمام أحمد- قال له الإمام يومًا: "يا عبد الله، خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت تسألني عن الإسناد حتى أخبرك بالكلام"، يعني هو يحفظ كتب وكيع سندًا ومتنًا.

وإن أعظم دليل على علم الإمام هو مسنده، المورد السَّجاج لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأقوال الصحابة وبعض التابعين، وقد اختلف العلماء في عدد أحاديث المسند:

- فمنهم مَن قال بأن أحاديث المسند تتراوح بين ثمانية وعشرين ألفًا وتسعة وعشرين ألف حديث -هذا قول- من ثمانية وعشرين إلى تسعة وعشرين ألف حديث في المسند.

- وقال أبو بكر بن مالك: إن جملة ما وعاه المسند أربعون ألف حديث.

- وقال الإمام أحمد نفسه: لقد جمعت المسند وأتقنته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث.

جمع المسند من بين 750 ألف حديث، قرأها، وفحصها، وحفظها سندًا ومتنًا، الإمام كان يحفظ مليون حديث -ألف ألف- رحمه الله تعالى.

وأنتم تعلمون أن المسانيد تختلف في منهجها عن كتب السنن، المسند يختلف في منهجه عن كتب السنن:

- كتب السنن مبنية على أبواب الفقه، الطهارة، والصلاة، والصيام، الزكاة، الحج، إلى غير ذلك.

- أما المسانيد: فهي مبنية على مسانيد الصحابة، فيذكر الإمامُ الصحابيَّ ويذكر كل الأحاديث التي رواها هذا الصحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغير ترتيب للموضوعات التي تحملها هذه الأحاديث، ويجمع كل روايات هذا الصحابي وكل فتاويه وكل أقواله دونما ترتيب للموضوعات التي يرويها هذا الصحابي عن رسول الله أو يقولها في فتاويه وموضوعاته.

إذن، منهج المسانيد يختلف عن منهج كتب السنن، وقد أولى الإمام أحمد المسند عناية كبيرة، ومع ذلك -وانتبه لما أقوله !- ومع ذلك أبى الله -جل وعلا- إلا أن يكون الكمال لكتابه فقط، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].

وقع في المسند الضعيف، بل والموضوع، كما في أحاديث فضائل مرو وعسقلان مثلًا، لكن الأمانة العلمية تقتضي كما قال الحافظ الكبير -الحافظ ابن حجر- في كتابه الممتع المدهش "القول المُسدَّد في الذب عن مسند أحمد" ردَّ فيه الحافظ ابن حجر على شيخه الحافظ العراقي، وقال بأن الأحاديث الموضوعة في مسند الإمام أحمد ليست من رواية الإمام، بل ولا من رواية ولده عبد الله، وإنما هي من الزوائد التي ألحقت بالمسند من غير رواية الإمام وولده عبد الله.

وهذا هو الذي يليق بإمام أهل السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى.

أرجو أن تنتبهوا لهذه اللطيفة حتى لا يتطاول أحد على المسند ويأتي طويلب علم صغير ينال من مسند إمام أهل السنة الجليل الكبير، نعم فيه أحاديث موضوعة ولا أقول ضعيفة فقط كأحاديث كثيرة جدًّا في فضائل مَرْو وفي فضائل عسقلان وفي فضائل بعض البلدان،لم تصح ولم تثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام.

الحافظ ابن حجر ردَّ على شيخه العراقي، وأثبت بالأدلة أن كل هذه الروايات ليست من رواية الإمام أحمد، ولا من رواية ولده عبد الله بن أحمد، وإنما هي من الزوائد التي ألحقت على مسند الإمام -رحمه الله تعالى.

لقد كان الإمام أحمد يجلُّ الحديث وأهله، ويقول عنهم: "أصحاب الحديث أمراء العلم".

وكان يقول كلامًا جميلًا جدًّا -يا إخواني- يقول: "مَن عَظَّمَ أصحاب الحديث عَظُمَ في عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومَن حَقَّرَهُمْ سقط من عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن أصحاب الحديث أحبار رسول الله -عليه الصلاة والسلام".

ولذلك لما سُئل يومًا عن الحديث المخرج في الصحيحين وكذلك في المسند من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»، وفي لفظ: «وهم ظاهرون على الناس»، لما سُئل الإمام أحمد عن هذا الحديث قال: "إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة هم أصحاب الحديث، فلا أدري مَن هم".

«لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»، وفي لفظ: «حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس».

الإمام لما سُئل عن هذا الحديث الْمُخَرَّج في الصحيحين وفي المسند أيضًا قال: "إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة هم أصحاب الحديث، فما أدري مَن هم".

فلقد كان معظمًا جدًّا للحديث وأهله، وهو أيضًا فقيه المحدثين، حتى وإن لم يترك الإمام كتابًا لنا من كتب الفقه كما ترك لنا كتابًا في الحديث كالمسند، فهو فقيه المحدثين.

هل تعلمون -يا إخواني- أن الإمام أحمد قد أجاب عن ستين ألف مسألة بآية وحديث؟

أجاب عن ستين ألف مسألة بآية، قال الله، قال الرسول، بالمصدريين الأصليين -القرآن والسنة.

يُسأل في فتوى أو في مسألة من مسائل الفقه أو مسائل الدين، فيُجيب الإمام بالآية والحديث، قرابة ستين أو أكثر من ستين ألف مسألة قليلًا.

مَن رجع إلى المغني لابن قدامة عرف هذه الحقيقة، ما من مسألة يذكرها الإمام ابن قدامة في المغني إلا ويذكر فيها قولًا أو أكثر للإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إلا ما ندر، فكان دقيق النظر.

وانتبه إلى أصول الإمام الفقهية التي سأذكرها لحضرتك الآن!

الإمام أحمد فقيه دقيق النظر، عظيم الحيطة، كبير الورع، زاده القرآن والسنة، وإن أعظم ما يخشاه الإمام في أقواله ومسائله وفتاويه أن يقرر حكمًا مخالفًا للمصدرين الكبيرين -القرآن والسنة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في فقه الإمام أحمد عبارة جميلة مسددة، يقول: "فقه الإمام مبني على التوقيف في العبادات، والعفو في المعاملات".

عبارة جميلة، "توقيف في العبادات، وعفو في المعاملات".

العبادات توقيفية، لا يجوز أبدًا أن تزيد أو أن تنقص -كما سأبين في أصوله المباركة وهو يتحدث عن البدعة.

"توقيف في العبادات، وعفو في المعاملات"، الأمر في المعاملات على الإباحة وعلى السعة وعلى العفو ما لم يأتِ نصٌّ بالتحريم.

وذكر شيخنا ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين خمسة أصول بنى عليها الإمام أحمد فقهه:

الأصل الأول: النص.

لا يحيد الإمام عن النص أبدًا، فإذا وجد الإمام نصًّا في القرآن أو في السنة قال به، ولا يلتفت إلى ما خالفه، ولا إلى مَن خالفه كائنًا مَن كان.

إذن، الأصل الأول من الأصول الفقهية التي بنى عليها الإمامُ فقهَه هو النص، احترام النص، لا يحيد عن النص القرآن ولا النبوي، فهو من أعظم الأئمة اتباعًا للقرآن والسنة، إذا وجد نصًّا من القرآن أو نصًّا من السنة قال به في المسألة، ولا يخالف النص أبدًا إلى قول أي أحد مهما كانت مرتبته ومنزلته.

الأصل الثاني: فتاوى الصحابة -رضي الله عنهم.

كان لا يقدم الإمام عليها قولًا ولا رأيًا بعد كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟

لأن الصحابة هم أدرى الناس بمراد الله ورسوله، وهم أفهم الناس لمراد الله ورسوله، وسأبيِّن هذا في أصل من أصوله -إن شاء الله تعالى- باستفاضة، لأننا نحتاج الآن أن نبرز مكانة الصحابة في وقت احتجنا فيه -بكل خزي وأسف- أن نبيِّن مكانة الصحابة وقدر الصحابة -رضي الله عنهم.

يقول عبد الله مسعود -رضي الله عنه: "مَن كان مستنًّا فليستن بمَن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"، اللهم اعصمني وإياكم من الفتن.

قال: "فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، إنهم كانوا على الهدى المستقيم".

إذن، الأصل الأول: النص.

الأصل الثاني: فتاوى الصحابة وأقوال الصحابة -رضوان الله عليهم.

الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة في مسألة من المسائل، ووقف الإمام على أكثر من قول في المسألة الواحدة للصحابة، اختار أقرب الأقوال إلى كتاب الله وسنة رسوله.

وقف على قولين في مسألة واحدة لصحابيين جليلين، ما يتَّبع الهوى، وإنما يأخذ بقول الصحابي الذي يراه هو -الإمام- قريبًا إلى النصوص القرآنية والنبوية.

الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والضعيف.

لكن متى؟ إن لم يجد نصًّا في القرآن أو نصًّا في السنة أو قول صحابي، يأخذ بالمرسل، ويأخذ بالضعيف.

وكان يقول: إذا لم يجد في الباب شيئًا صحيحًا، يقدم المرسل والضعيف ويقول: أحب إليَ من القول بالرأي.

انظر إلى الحرص والتواضع للعلم، قال: "أحب إليَّ من القول بالرأي".

لما يأتي صحابي جليل مثل سهل بن حنيف، وسهل بن حنيف كان من أحلم الناس ومن أحكم الصحابة، وكان لا يستثار ولا يغضب إلا بصعوبة بالغة، ولذلك قيل: "لو غضب سهل بن حنيف غضب له قومه، ورفعوا لغضبه مائة ألف سيف".

ومع ذلك يقول سهل بن حنيف يوم صفين: "أيها الناس، اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو استطعت أن أرد أمر رسول الله لرددته"، فاتهم رأيك، والأثر في البخاري عن سهل بن حنيف، في لفظ "يا أيها الناس اتهموا أنفسكم"، لأن قلَّ من يتهم رأيه، وقلَّ مَن يتهم نفسه، بل الغالبية الآن كل واحد منَّا أن رأيه هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، وأن رأي غيره هو الخطأ الذي لا يحتمل الصواب.

فالإمام كان يأخذ بالمرسل والضعيف ويقدمه ويقول: "أفضل عندي من القول بالرأي".

الأصل الخامس: القياس.

وهذا آخر الأصول عند الإمام، وكان لا يأخذ بالقياس إلى نادرًا إذا لم يجد نصًّا في القرآن، أو نصًّا في السنة، أو قول صحابي من الصحابة، أو مرسلًا أو ضعيفًا في الباب،حينئذٍ يستعمل القياس للضرورة، ويقول: "الخبر الضعيف عندي خير من القياس".

لكن شيخ الإسلام ابن تيمية علَّق على كلام الإمام أحمد هذا تعليقًا جميلًا؛ لأنه استشكل عليَّ قول الإمام أحمد هذا حين قال: "الخبر الضعيف عندي خير من القياس"، فوجدت تعليقًا بديعًا لشيخ الإسلام ابن تيمية -طيب الله ثراه- حين يقول: "والضعيف عند أحمد قسيم الصحيح، وهو قسم من أقسام الحسن".

أما إن تحدثت عن الإمام في العقيدة، فهو إمام في العقيدة، لا يحيد عن النبعين الصافيين -القرآن والسنة- يؤمن بالله إيمانًا صافيًا، يثبت كل ما أثبته الله لذاته، ويثبت كل ما أثبته رسول الله لربه، وينفي كل ما نفاه الله -جل جلاله- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، يؤمن بالأسماء الحسنى والصفات العليا من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تشبيه، ولا تمثيل، وله قول بديع في كل صفة من صفات الله، كالوجه، واليد، والغضب، والمجيء، إلى غير ذلك.

ولا يتسع الوقت أبدًا للحديث ولذكر أقوال الإمام أحمد في هذا الباب الذي ضلت فيه أفهام، وزلت فيه أقدام وأقلام.

فالإمام إمام في السنة لا يحيد في مبحث الأسماء والصفات أبدًا عن منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ممن أدركهم الإمام -رحمه الله تعالى.

انتبه معي في إيجاز شديد فيما تبقى من الوقت قبل الأذان!

أقول:لم يخرج الإمام أبدًا في معتقده عن معتقد الصحابة، وقال بقولهم، وكان شديد الاتباع، وكان من أشد الناس بغضًا للابتداع، بل وكان سيفًا مطلقًا على البدع، وهذا ما عرَّضه لكثير من الأذى والابتلاءات والمحن، ولعل أعظم فتنة تعرض لها إمامنا -كما تعلمون جميعًا- هي الفتنة المعروفة بخلق القرآن -ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تلك الفتنة التي كانت سُبَّة الدهر، وتلطخ بها ثلاثة من الخلفاء العباسيين: المأمون، والمعتصم أخوه، والواثق ابن المعتصم.

كانت سُبَّة الدهر فعلًا، وذلك حين أراد الخليفة المأمون الذي اطلع على كثير من الكتب اليونانية المترجمة واقتنع بفكر المعتزلة، وتأثر جدًّا برأس من رءوسهم يقال له: أحمد بن أبي دؤاد، تأثر المأمون بأحمد بن أبي دؤاد، وأراد أن يرغم الناسب بل والعلماء على اعتناق عقيدته في قضية كانت الأمة في غنًى عنها تمامًا، وهي القول بخلق القرآن.

وأنا لا أدري ما هذه الفتنة والمحنة التي ابتليت بها الأمة وتمسَّك هذا الرجل بنصرتها إلى الحد الذي سجن فيها مَن سجن من العلماء وعذب فيها من عذب من الأئمة والكبراء!

وكان من بين هؤلاء الذي امتحنوا امتحانًا شديدًا في هذه المحنة الإمام أحمد -رحمه الله تعالى.

فلما أراد المأمون أن يحمل الناس على القول بقول أحمد بن أبي دؤاد بأن القرآن مخلوق، أحضر العلماء واختبرهم وسألهم، فمن وافق منهم ابن أبي دؤاد نجا، ومَن خالف منهم ابن أبي دؤاد تعرَّض للأذى، لا لشيء إلا أن تكون عقيدته موافقة لعقيدة الخليفة المأمون الذي اعتنق عقيدة المعتزلة.

كان أول مَن أظهر البدعة المشئومة الجعد بن درهم، قال عنه الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال -في الجعد هذا- قال: "مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا"؛ لأنه يريد أن ينفي صفة الكلام كصفة من صفات الله -عز وجل- حتى أن الجعد وغيره حرَّفا قراءة الآية لنفي صفة الكلام ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]، قالوا: "وكلم اللهَ موسى تكليمًا".

إذن "الله": لفظ الجلالة في محل مفعول به مقدم.

"وكلم اللهَ" ثم موسى: فاعل مؤخر.

وتكليمًا: مفعول مطلق مؤكد للفعل.

وكلم: فعل ماضٍ مبني على الفتح.

﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]، قالوا: هذا خطأ "وكلم اللهَ موسى تكليمًا"، أي: وكلم موسى اللهَ تكليمًا.

حرفوا المعنى تمامًا من أجل هذا المعتقد الفاسد، تعطيل وإلغاء صفة الكلام للحق -تبارك وتعالى.

يا أخي أنت لست أعرف بالله من الله، ولست أعرف بالله من رسول الله، الله يثبت لذاته صفة فيجب عليك أن تثبتها من غير تحريف لا للفظ ولا للمعنى، ومن غير تشبيه أو تعطيل أو تمثيل، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

من منا ينكر أن النمل يتكلم؟ هل ينكر أحد ذلك؟! هل سمعت لغة النمل؟ هل تعرفها؟ إذن ما الذي جعلك بهذا اليقين أن النمل يتكلم؟!

سبحان الله! لو قربت الآن مكبر صوت كهذا عند مجموعة من النمل هل يا ترى ستسمع صوت النمل؟ أبدًا، ولو سمعت دبيب النمل هل ستعرف اللغة؟ أبدًا.

فلما فكَّ الله رموز اللغة لنبي الله سليمان عرف ما الذي يتكلم به النمل، ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ... الآيات﴾ [النمل 18، 19].

أنا أقول لحضرتك -وانتبه لما أقوله: إذا كنت قد قطعت اليقين بسكين العقل في أن تدرك لغة النمل مع اعتقادك أنه متكلم، قطعت الطمع بسكين العقل في إدراك لغة النمل مع أنك تعتقد أنه متكلم، أفلا تقطع الظن بسكين اليقين في أن الله متكلم بلغة لا يعرفها الخلق؟!

الله يتكلم، لكن ليس بالضرورة أن يكون بأدوات الكلام التي نتكلم بها، إنما هو متكلم -سبحانه وتعالى- ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]، ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف: 143]، لا أدري كيف سيحرفونها لغة؟!

فالله -جل وعلا- يتكلم بما يليق بجلاله وكماله، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

المهم: الجعد بن درهم هو أول من قال بهذه البدعة، وفي أيام هشام بن عبد الملك حبسه خالد القسري -وهو أمير هشام بن عبد الملك على العراق- وفي يوم عيد الأضحى قال خالد القسري في آخر خطبته: انصرفوا أيها الناس وضحوا تقبل الله منكم، فإن مضحٍّ اليوم بالجعد بن درهم، فخرج من المصلى فقتله.

وتفاقمت المحنة جدًّا أيام المأمون، يعني بدأت المحنة قبل المأمون ولكن تفاقمت محنة القول بخلق القرآن في أيام المأمون.

أنا لا أريد أطيل النفس، لكن أريد أن تقفوا على عظمة الإمام أحمد وعلى صبره وثباته على الحق وعلى القول به مهما كلفه حتى لا يفتن الخلق، وحتى لا تفتن الأمة.

ثبت الله الإمام أحمد ناصر السنة وقامع البدعة، وقال قولته الصريحة: "القرآن كلام الله -عز وجل- غير مخلوق".

فأمر الخليفة المأمون أن يأتوه بالإمام -سبحان الله العظيم، فتنة!- فأتوه بالإمام وهو مقيَّد بالأغلال، الله!

أحمد بن حنبل يُقيَّد بالأغلال والسلاسل الحديد وهو ضعيف البنية جدًّا!

وقد منَّ الله عليَّ برؤيته في الرؤيا، ضعيف جدًّا، سبحان الله! يؤتى به إلى المأمون وهو مقيد بالسلاسل والحديد، وهو في الطريق للمأمون وهو آتٍ من بغداد فقابله رجل يقال له جابر بن عامر، رجل أعرابي -لا إله إلا الله- أعرابي من الأعراب، قابل الإمام أحمد وهم يحملونه مقيدًا بالسلاسل والأغلال فاقترب منه وقال له: يا هذا -أعرابي عندهم غلظة وجفاء، لا يجيدون أن يقدروا الناس حق قدرهم، كان يأتي الواحد منهم يقول: يا محمد، أعطني من مال الله، فإنك لا تعطني من مالك ولا من مال أبيك، صلى الله عليه وسلم- فجاء الأعرابي يقول للإمام أحمد: يا هذا، إنك وافد الناس، فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه -الأعرابي عنده الفقه هذا!- فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيب الناس، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر -أعرابي يقول للإمام- وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدًا.

الإمام أحمد يقول: "فقوَّى كلامه عزمي"، الله الله الله!

ممكن العالم يتقوى بكلمة صادقة من طالب علم، بل من رجل من عامة الناس.

قال: "فقوَّى كلامه عزمي"، وفي رواية يقول: "والله ما كنت أخشى من السجن، ولكن كنت أخشى فتنة السوط" يُضرب بالسوط، فتنة كبيرة والإمام ضعيف البنية جدًّا.

يقول: أنا لا أخاف من السجن، ولكن أخاف من التعذيب يضربوني بالسياط.

فخرج إليه رجل مسجون في السجن قال له: "لا تخف، ما هو إلا سوط أو اثنان، ولن تشعر بعدهما بشيء". هو مجرب.

فقال: "فقوَّى كلامه عزمي"، رجل مسجون، سبحان الله!

المهم: قال الإمام: "فقوى كلامه عزمي على ما أنا فيه، فلما قربت من منزل الخلية المأمون خرج إليَّ من قصره خادم"، وكان الخادم يحب الإمام أحمد، أمة كلها تحب الإمام.

قال: "خرج إليَّ من قصر المأمون خادم وهو يمسح دموعه، ثم قال الخادم: يعز عليَّ يا أبا عبد الله أني رأيت داخل القصر المأمون يسل سيفًا وهو يقسم بقرابته من رسول الله لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن أن يقتلك بهذا السيف" لا إله إلا الله!

فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورفع بصره ورأسه إلى السماء، وتضرع إلى الله -عز وجل- وقال: "سيدي، غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولئك بالضرب والقتل، اللهم إن يكن القرآن كلامك غير مخلوق، فاكفنا مؤنته بما شئت وكيف شئت"، فلم تمضِ الليلة حتى صرخ مَن بالقصر، فسأل الإمام ما الذي جرى؟ قالوا: مات المأمون.

مات في نفس الليلة.

وتولى من بعده أخوه المعتصم، لكنه كان أشد تعصبًا بهذه الفتنة الصماء البكماء العمياء من المأمون، وسار على نفس الدرب، وقرب ابن أبي دؤاد، وأصدر المعتصم أمرًا بسجن الإمام أحمد، فقال الإمام لما سمع بالسجن، قال: ربِّ السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه.

هل تعلمون -يا أبنائي ويا إخواني- أن الإمام أحمد قد لبث في السجن بسبب هذه الفتنة ثمانية وعشرين شهرًا، ثمانية وعشرين شهرًا بالتمام والكمال في السجن لأنه يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. فصبر وثبت.

وقام المعتصم بإجراء مناظرات بين العلماء الذين يقولون بقول المعتزلة -بقول ابن أبي دؤاد- بين إمام أهل السنة الإمام أحمد.

فلما دخل الإمام أحمد على المعتصم في مجلسه أدناه -قربه- ثم قال له: اجلس.

يقول الإمام نفسه: فجلست وقد أثقلتني القيود، فمكثت قليلًا ثم قلت له: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في الكلام؟

انظر للأدب -يا أخي- سبحان الله! حتى وهو في السجن وفي القيد.

قال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في الكلام؟

المعتصم قال: تكلم.

فقال الإمام: إلامَ دعا رسول الله -الإمام يسأل المعتصم- الرسول دعا لماذا؟

فسكت قليلًا ثم قال: دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

فقال الإمام أحمد: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

يعني لِمَ تعذبوني؟!

ثم قال الإمام -رحمه الله- للمعتصم: إن جدك ابن عباس يقول: لما قدم وفد ابن عبد القيس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألوه عن الإيمان، قال: «أتدرون ما الإيمان؟».

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا من المغنم الخمس». وأنا أقرُّ بهذا.

يعني الإمام يريد أن يبين له معتقده أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهو يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، يُقر بما جاء به رسول الله من عند الله -عز وجل- فلِمَ هذا البلاء؟

فقال المعتصم: والله لولا أني وجدتك في يد مَن كان قبلي ما عرضت لك.

ثم التفت إلى رجل يقال له عبد الرحمن بن إسحاق وقال: ألم آمرك أن ترفعوا هذه المحنة؟

يقول الإمام أحمد: فقلت: الله أكبر الله أكبر، إن في هذا لفرجًا للمسلمين.

ثم قال المعتصم للعلماء في مجلسه: كلموه، ناظروه.

يقول الإمام أحمد: فإذا كلمني أحد رددت عليه، فسكتَ. وإذا كلمني الآخر رددت عليه، فسكت. حتى صمتوا جميعًا، فيتكلم أحمد بن أبي دؤاد ويقول: يا أمير المؤمنين، هذا والله ضالٌّ مضلٌّ مبتدع.

لا حول ولا قوة إلا بالله! هذه التهمة وهذه السبة التي تلحق بأهل الفضل في كل زمان مكان.

يقول: هذا والله ضالٌّ مضلٌّ مبتدع.

تُقال للإمام أحمد -ولا حول ولا قوة إلا بالله، ضالٌّ مضلٌّ مبتدع.

إمام أهل السنة!

كلما جُلِدَ الإمام أحمد سوطين أو أكثر اقترب منه المعتصم وقال له: يا أحمد، علامَ تقتل نفسك، إني والله لمشفق عليك، أجبني حتى أطلق عنك الأغلال بيدي.

فيقول الإمام تحت هذا التعذيب: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأقول به. ويأبى الإمام -رحمه الله تعالى.

فلما ضُرِب واشتد الضرب عليه، أغمي عليه، ولم يستفق إلا في اليوم التالي، وكان هذا اليوم الذي أفاق فيه كان يوم الخامس والعشرين من رمضان في السنة الحادية والعشرين بعد المائتين (221 هجرية)، فأتوه بشراب حتى يشرب وهو صائم.

قال له: اشرب يا أحمد، إنك ستموت.

قال: لا، لا أفطر، أريد أن ألقى الله صائمًا.

وخرج الفضلاء من أهل العلم يضجون لسجن إمامهم، ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام إلى باب المعتصم وظلَّ يصرخ مع بعض أبنائه ويقول: أيضرب سيدنا؟ أيضرب سيدنا؟ لا صبر، لا صبر.

وضجَّ الناس، فخشي المعتصم غضبة الناس، فأخرج الإمام أحمد من السجن -رحمه الله تعالى.

ومات المعتصم، وتولى الخلافة من بعده ابنه الواثق سنة سبعة وعشرين ومائتين هجرية، فرفع نفس اللواء ونفس المقولة الخبيثة، إلا أنه خاف أن يتعرض للإمام أحمد لما حدث في عهد أبيه حينما سجن، فأمر بإخراج الإمام أحمد، فاختفى الإمام من بغداد طيلة مدة الواثق، اختفى تمامًا، وكانت المحنة قد بلغت ذروتها في زمن الواثق.

لكن أنا فقط في دقيقتين، من أروع مَن ناظر علماء المعتزلة في زمن الواثق بن المعتصم عالم كبير جدًّا يقال له عبد الرحمن بن محمد الأذرمي شيخ أبي داود والنسائي -كما قال الإمام السيوطي في تاريخ الخلفاء.

هذا من أروع مَن ناظر أئمة المعتزلة في هذه المسألة.

باختصار: مناظرة رائعة جدًّا جميلة: لما دخل على الواثق قال له: ناظر ابن أبي دؤاد.

فالأذرمي قال له: يا أمير المؤمنين إنه يضعف عن المناظرة.

فغضب الواثق جدًّا.

فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين، واحفظ عليَّ وعليه.

ثم قال الشيخ لابن أبي دؤاد: يا ابن أبي دؤاد أخبرني عن مقولتك -أي عن مقولتك بخلق القرآن- أخبرني عن مقالتك هذه، أهي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملًا حتى يقال ما قلت من خلق القرآن؟

قال: نعم.

وانتبه! المناظرة فن.

فقال ابن أبي دؤاد: نعم.

قال الشيخ: فأخبرني: هل كتم رسول الله شيئًا من الوحي؟

فقال ابن أبي دؤاد: لا.

فقال الشيخ: وهل دعا رسول الله إلى مقالتك هذه؟

فسكت.

فالتفت إلى الواثق وقال له: يا أمير المؤمنين واحدة؟

قال: نعم.

أي أنه كسب الجولة هذه.

فقال الشيخ عبد الرحمن بن حمد الأذرمي -رحمه الله: يا ابن أبي دؤاد أخبرني عن الله -عز جل- حين قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، أكان الله هو الصادق في إكمال دينه أم أنت الصادق في نقصان دينه حتى تقول مقالتك هذه التي لم يقلها رسول الله؟

فسكت.

فالتفت إلى الواثق، وقال: اثنان يا أمير المؤمنين؟

قال: نعم، اثنين.

فقال الشيخ: يا ابن أبي دؤاد أخبرني عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله أم جهلها؟

فقال: علمها.

فقال الشيخ: هل دعا الناس إليها؟

فسكت ابن أبي دؤاد.

فقال الشيخ يا أمير المؤمنين ثلاث؟

قال: نعم.

فقال الشيخ -سؤال جميل، وانظر إلى التسلسل في إقامة الحجة على ابن أبي دؤاد- فقال الشيخ: يا ابن أبي دؤاد، هل اتَّسع لرسول الله إن عَلِمَها أن يُمْسِكَ عنها ولم يطالب أمته بها؟

هو يعرفها نعم، لكن أمسكها ولم يقلها للأمة؟ قال: نعم، علمها وأمسكها، لم يُبَلِّغْهَا للأمة.

فقال الشيخ: واتَّسع لأبي بكر -لأنه لم يقلها بعد النبي- واتَّسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟

فقال ابن أبي دؤاد : نعم.

فأعرض الشيخ عن ابن أبي دؤاد والتفت إلى الواثق بن المعتصم وقال: يا أمير المؤمنين، لقد زعم هذا أنه اتَّسع لرسول الله وأبي بكر وعمر أن يعلموا هذه المقالة وأن يمسكوا عنها، فإن لم يتَّسع لك ما اتَّسع لرسول الله ولأبي بكر وعمر فلا وسَّع الله عليك.

قال: صدقت.

ثم أمر الواثق أن يفك قيود الشيخ الجليل عبد الرحمن بن محمد الأذرمي.

فلما فكوا القيود أخذها وهو يبكي.

فقالوا: لِمَ أخذت القيود؟

قال: لأضعها معي في قبري حتى أحاجَّ بها هذا الظالم يوم القيامة.

من هذه اللحظة يقول المهتدي ابن الواثق وكان حاضرًا ويقول: فرجعت عن هذه المقولة الخبيثة -بالقول بخلق القرآن- وفي هذا اليوم رجع الواثق، ثم تولى بعده المتوكل سنة 232 هجرية، وكان محبًّا جدًّا للسنة، وأرسل إلى الإمام أحمد أن يأتيه وقال في كتاب جميل للإمام أحمد -رحمه الله: إني أحب أن آنس بقربك وبالنظر إليك وأن يحصل لي بركة دعائك.

وقد تمنَّت أم المتوكل أو رجت أم المتوكل أن ترى الإمام أحمد، فلما جيء بالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ونظرت إليه أمه من وراء ستر رقيق، قالت: الله الله يا بني في هذا الرجل، فو الله إنه لا يريد ما أنتم فيه، إنه رجل كل همه الآخرة وليس أبدًا يلتفت للدنيا.

وهكذا -أيها الأحبة- انتهت الفتنة، ورفع الله قدر الإمام، وأعلى الله -عز وجل- شأنه، وسجن الله ابن أبي دؤاد في جلده بمرض يسمى بمرض الفالج، حتى دخل عليه عبد العزيز بن يحيى المكي، وهو يقول: أنا لم آتكَ عائدًا، ولكن جئتُ لأحمد الله -عز وجل- الذي سجنك في جلدك.

ثم توفي الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في الثامنة والسبعين من عمره في يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول في السنة الحادية والأربعين بعد المائتين.

رحم الله الإمام رحمة واسعة، وجمعنا به في جنة النعيم.

وسامحوني، الحديث عن الإمام أحمد يحتاج إلى وقت طويل جدًّا، أكتفي بهذا القدر، وأبدأ غدًا -إن شاء الله تعالى- الحديث عن الأصل الأول من أصول السنة، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاتباع.

وإن شاء الله نحن موعدنا بعد الصلاة مباشرة مع أخينا الحبيب الدكتور راشد الزهراني، أسأل الله أن يسدده وأن يفتح عليه وأن ينفع به، وأن يتقبل منا ومنه ومنكم جميعًا صالح الأعمال.

وأقم الصلاة، وكل في مكانه بسكينة وأدب طالب العلم.

http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=61