الحقوق محفوظة لأصحابها

راشد الزهراني
الأكاديمية الإسلامية المفتوحة

الدورة العلمية الثانية

شرح متن الأصول الثلاثة

لفضيلة الشيخ/ راشد الزهراني

الدرس (9)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا وهدًى وتقًى يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وميتة الشهداء، والنصر على الأعداء، اللهم كن لنا يا رب العالمين.

أما بعد أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا هو الدرس الأخير من دروس ثلاثة الأصول، وغدًا -بإذن الله عز وجل- سيكون مكان الدرس حفل الاختتام على شرف معالي وزير الأوقاف معالي الدكتور طلعت عفيفي -بإذن الله عز وجل- فسنكون معكم -بإذن الله عز وجل- غدًا.

كنَّا تحدثنا في كتاب ثلاثة الأصول في هذه الأيام المباركة التي هي من أجمل الأيام التي يعيشها الإنسان مع إخوانه، كان الإنسان يشعر فيها بالتعب والغربة، لكن حينما أزفت هذه الأيام على الرحيل حنَّ القلب لها كثيرًا، فأسأل الله أن يجمعنا وإياكم إخوة على سرر متقابلين.

تحدثنا عن قول المصنف -رحمه الله تعالى- في هذه الأصول الثلاثة، وقلنا: إن الأصول الثلاثة هي: معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد دينه، ومعرفة العبد نبيه -صلى الله عليه وسلم.

تحدثنا عن هذه الأصول الثلاث أو عن هذين الأصلين، وبقي الأصل الثاني وهو معرفة العبد دينه، وقلنا إن الإسلام على ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والمرتبة الثالثة الإحسان.

قال -رحمه الله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ. وله رُكْنٌ وَاحِدٌ).

ما معنى الإحسان؟

قال: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

الإحسان من أعظم المراتب والمنازل التي يصل إليها العبد، وقلنا لكم إن الدين على ثلاث مراتب:

- الدائرة الأوسع هي دائرة الإسلام.

- والدائرة الأضيق: الإيمان.

- والأضيق منها: الإحسان.

وحينما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

ولهذا يقول إمامنا ابن القيم -رحمه الله: "إن الإحسان على مرتبتين:

المرتبة العظمى: أن تعبد الله وأن تشعر أن الله يراك ويطلع عليك". فإذا بلغ العبد هذه الدرجة فإنه يصل إلى درجة الإحسان، والله -عز وجل- يرى ويسمع، يرى دبيب النملة السوداء على الصفاة الصماء في الليلة الظلماء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها: "سبحان مَن وسع سمعه الأصوات كلها، والله لقد أتت المجادِلة تجادل رسول الله في زوجها -خولة رضي الله عنها- وما كان بيني وبينها إلا جدار، فخفي عليَّ بعض كلامها، وسمعها رب العالمين من فوق سبع سماوات، فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1]".

وهذا الإحسان يصل إليه العبد بتعظيمه لله =جل وعلا- وهذا هو الغاية من دراستنا للتوحيد، وهو ان نعظم الله.

ولهذا فإن المصنف الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- له كتاب آخر شهير اسمه كتاب التوحيد، جعل آخر باب فيه قال: باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].

وفي هذا الباب بيَّن لنا النصوص التي تدل على عظمة الله -جل وعلا.

يقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث العباس بن عبد المطلب، قال: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟).

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: (بينهما مسيرة خمسمئة سنة، وبين كل سماء وسماء -وكم عددها؟ سبع- مسيرة خمسمئة سنة، وكِثَفُ كلِّ سماء -سُمْك السماء الواحدة- مسيرة خمسمئة سنة، وبين السماء والسابعة والعرش -عرش الرحمن جل وعلا- بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله -عز وجل- فوق ذلك لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم).

يقول الإمام الشافعي -رحمه الله:

يا من يرى مد البعوض جناحها ** في ظلمة الليل البهيم الأليلِ

ويرى نياط عروقها في نحرها ** والمخ في تلك العظام النُحَّلِ

اُمنن عليَّ بتوبة تمحو بها ** ما كان منِّي في الزَّمانِ الأولِ

فالغاية من معرفتنا لتوحيد الله هو أن نصل إلى تعظيم الله -جل وعلا- ولذلك فإن مَن لم يُعظِّم الله؛ فإنه لم يعرف الله -عز وجل- حقَّ المعرفة، ولم يقْدُر ربَّه حقَّ قدره، كما قال -جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].

ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما السماوات السبع -هذه التي نتحدث خمسمئة سنة وخمسمئة سنة- والأرضون السبع في كفِّ الرحمن إلا كخردلة ألقيت في فلاة)، تأخذ عملة معدنية وتلقي بها في الصحراء. ما حجمها؟ لا حجم لها -سبحانه وتعالى.

المرتبة الثاني، قال: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

تعبد الله -عز وجل- في المرتبة الأولى وأنت تستشعر مراقبة الله -عز وجل- لك، إذا لم تصل إلى هذه المرتبة؛ فاعلم أن الله يراك ويطلع عليك، ومَن يصل إلى مرتبة الإحسان ما جزاؤه؟ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، يصل إلى معيَّة الله -عز وجل-، وكما قال الله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء 217-220].

إذا خلا العبد بنفسه فلا يقل: إن الناس لا يرونني، ولكن ليعلم أن الله يراه ويطلع عليه، وهكذا كان الصحابة يربُّون أبناءهم، يربونهم على هذه المرتبة، لا يقل له: انظر إلى الناس، لا تفعل هذا، لا يراك الناس ثم بعد ذلك تصبح عيبًا وسُبَّة؛ بل يقول: لا يراك الله في موطن لا يحبه الله، لا يراك الله في موطنه يكرهه الله -سبحانه وتعالى.

قال: (وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}[يونس: 61]).

فالله -عز وجل- يطَّلع على أعمال بني آدم.

ثم قال -رحمه الله: (وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ جِبْرِيلَ -أو جبرائيل- الْمَشْهُورُ: عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ).

وقلت لكم ان الإمام ابن دقيق العيد أسماه حديث أم السنة.

هذا الحديث مقدمته: (قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ).

وهنا أدب من آداب طالب العلم: أنه إذا ذهب إلى حِلَق العلم أن يلبس أحسن ما لديه، وأن يتزيَّن بأحسن ما لديه، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].

كان الإمام مالك -رحمه الله- إذا أراد أن يخرج إلى تلاميذه لبس أحسن ما يجد، وتطيب بأحسن ما لديه، ثم خرج إلى تلاميذه وقال: "إني أُحدِّث حديثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأريد أن أتأدَّب مع حديث رسول الله" صلوات ربي وسلامه عليه.

الإمام سعيد بن المسيب مرَّ به أحد تلاميذه وهو مريض مضطجع على فراشه، فقال: يا إمام، حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا حدِّثني به.

فقام الإمام سعيد من مكانه، فقال: يا إمام، أجهدتَّ نفسك!

قال: أتريدني ان أُحدِّث بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا مضطجع على فراشي؟!

فانظروا كيف أدبهم مع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم.

قال: (، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ -وهذا أمر غريب- وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ - لأنه بأحسن ثياب وأيضًا لا يُرى عليه أثر السفر- فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ)، من باب الأدب حتى يتلقى العلم من النبي -صلى الله عليه وسلم.

إن المعلم والطبيب كلاهما ** لا يخلصان إذا هما لم يُصدقا

إذا لم تكن صادقًا معه مؤدبًا معه؛ الطبيب والمعلم لا يُعطيك أحسن ما لديه.

ثم قال: (أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ)، وتقدم شرحه.

ثم فَقَالَ: (أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ). وتقدم كذلك شرحه.

ثُمَّ قَالَ:(أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ).

بعد ذلك قال: (أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ).

الساعة من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، لا يعلمه مَلَك ولا نبي.

قال: (فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ").

قال الله -عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات 42-44]. وقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

ولذلك حينما يقوم البعض بحساب نهاية الزمان ونهاية الساعة، وتذكرون قبل أشهر معدودة كان الناس يقولون إنها نهاية الساعة، وبدأ الغرب يدخلون في أقبية حتى يحتمون من الموت، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، لا يعلم الساعة إلا الله.

إذا قرأت الذي يقول: الساعة تقوم في يوم كذا في ساعة كذا في تاريخ كذا؛ فقل له: لا حقيقة لهذا الأمر.

(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا). إذا كنت لا تعلم وقتها؛ فأخبرني عن أماراتها.

(قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)، أن تكون هناك جارية، فتلد هذه الجارية فمولودها يكون سيدها.

(قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ). وهل حدث هذا؟ حدث هذا.

أشراط الساعة على نوعين:

- أشراط صغرى.

- وأشراط كبرى.

الأشراط الصغرى منها مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلى الله عليه وسلم: (بُعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بإصبعيه -عليه الصلاة والسلام.

ومن أشراط الساعة الكبرى: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وغيرها من الآيات التي بيَّنها نبينا -صلى الله عليه وسلم.

هذا البحث -وهو البحث عن أشراط الساعة، أو البحث عن أركان الإيمان، أو البحث عن أركان الإسلام- أوصيكم بقراءة كتب أحد علمائنا من الأردن وهو الشيخ عمر الأشقر -رحمه الله تعالى- له مجموعة رسائل في العقيدة عن الإيمان بالله، ورسالة بعنوان: الإسمان بالملائكة الأبرار. ورسالة بعنوان: عالم الجن والشياطين، ورسالة بعنوان: أشراط الساعة الصغرى. ورسالة بعنوان: أشراط الساعة الكبرى. وغيرها من الكتب المتخصصة في العقيدة.

وميزة كتبه -رحمه الله- انها تقوم على الكتاب والسنة، فأوصيكم باقتنائها وبقراءتها، وما لم نتمكَّن من الحديث عنه في هذه المجالس المختصرة ستجدونه مفصَّلًا في كتب الدكتور عمر بن سليمان الأشقر -رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

(قَالَ: فَمَضَى، فَلَبِثْنَا مَلِيَّا، فَقَالَ: (يَا عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم).

يؤخذ من هذا الحديث من الفوائد التربوية:

- أن تعليم العلم كما يكون بالإلقاء، يكون كذلك بالسؤال.

وقد قال الإمام الزهري -رحمه الله: "العلم خزائن، والسؤالات مفاتيحها".

وحينما أُخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذاك الرجل الذي أصابته الجنابة في سفر شديد البرد، فقال لأصحابه: هل لي أن أتيمم؟

قالوا: لا نجد لك رخصة في التيمم وأنت تجد الماء.

فتيمم وكان به جراح فمات! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: (قتلوه؛ قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟! فإنما شفاء العيِّ السؤال).

- ويؤخذ منها كذلك أن الشخص أو المسلم قد يعلم بحكم المسألة، ويعلم أن هناك في المجلس مَن لا يعرف حكمها؛ فيسأل عنها ليفيد غيره، ولكن يسأل عنها كما أمر الله -عز وجل- باحترامنه لأهل العلم.

والسؤال دلَّ عليه القرآن وأمر الله به فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]

ننتقل بعد ذلك إلى الأصل الثالث.

(الأَصْلُ الثَّالِثُ.

مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

الأصل الأول: معرفة الله.

والأصل الثاني: معرفة الإسلام.

والأصل الثالث والأخير: معرفة نبيكم -صلى الله عليه وسلم.

قال: (وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَأَتَمُّ السَّلامِ).

نبينا -صلى الله عليه وسلم- يجب علينا أن نعرفه، ويجب علينا أن نقلب سيرته، لا ينبغي لمسلم ولا يجوز له أن يكون خليًّا عن معرفة بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هناك قدر واجب يجب علينا جميعًا أن نعرفه عن نبينا -صلى الله عليه وسلم.

قال: (وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ)، وآباء النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا سادة أهل مكة، وأول مَن وليَ ولاية في أجداد النبي -صلى الله عليه وسلم- هو قصي بن كلاب.

كانت مكة أول ما عُمرت عُمرت بوجود هاجر وابنها إسماعيل، ثم بعد ذلك بعد وفاة إسماعيل انتقلت الولاية إلى أبنائه، ثم بعد ذلك انتقلت إلى أخوالهم من بني جُرهم، وحكمت جُرهم سنين عديدة في مكة فظلموا الناس، فانتقم الله -جل وعلا- منهم، فأسقط الله ملكهم على يد خزاعة، وحكمت خزاعة وكانوا قومَ سوء وكانوا مشؤومين في ولايتهم، فأول ما عُبدَت الأصنام كانت في عهد خُزاعة على يد عمرو بن لحي بن خندف الخزاعي.

قال -صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن خندف الخزاعي يجر قُصُبَخ في نار جهنم، فإنه أول مَن سيَّب السائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، وهو أول مَن جلب الأصنام إلى أرض العرب).

ثم بعد ذلك كان الحكم لقصي بن كلاب جدِّ النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام- واستمر الحكم في أبنائه حتى كان له أربعة من الأبناء "عبد الدار، وعبد العزى، وعبد مناف، وعبدًا"، فكان هؤلاء الأربعة تُنسب إليهم جميع بطون مكَّة، ولذا فإن بطون مكَّة جميعًا -بني عبد الدار، وبني مخزوم- كلهم يعودون إلى نسبٍ واحد.

أجداد النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم مآثر كثيرة في قومهم، وكان آخرهم جده عبد المطلب، والذي له قصته المشهورة حينما أتى أبرهة ليهدم الكعبة، فذهب إلى أبرهة يقول: أيها الملك، لقد أخذت عليَّ مئتين من الإبل، أريدك أن تعيدها إليَّ.

قال: والله حينما رأيتك أكرمتك وهبتك، تسألني في مئتين من الإبل وتتكر بيتك هو دينك ودين آبائك لا تسأل عنه؟!

فقال كلمته الشهيرة: أما الإبل فأنا ربها، وللبيت رب يحميه.

فكان بعد ذلك قصة الفيل إلى أن قال الله -عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل 1-3].

النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث في خير أنساب العرب، يقول -عليه الصلاة والسلام: (إن الله اصطفة كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)، فهو خيارٌ من خيارٍ -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

العرب يعودون -لأنه قال: (وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ).

العرب يعودون إلى ثلاثة أنواع:

أولًا: العرب البائد. التي انتهت، وهي ثمود وجديس وغيرهم.

ثانيًا: العرب العاربة. وهم القحطانيُّون.

ثالثًا: العرب المستعربة: الذي يُنسبون إلى إسماعيل -عليه الصلاة والسلام.

إسماعيل لم يكن يتحدث اللغة العربية؛ وإنما باحتكاكه مع قبيلة جُرهم -وهي من القبائل العربية الأصيلة- أتقن اللغة وفاقهم بذلك، وصاهرهم وتزوج منهم -عليه أفضل الصلاة والسلام.

فسمي من ينتسب إلى إسماعيل -عليه السلام- بالعرب المستعربة.

قال:(وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً).

مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمره ثلاث وستون سنة.

(مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ).

ولو أردنا أن نمر سريعًا: النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما وُلد كان والده عبد الله قد توفي؛ فكفلته أمه، ثم انتلقت كفالته إلى جده عبد المطلب، ثم بعد ذلك انتقلت كفالته إلى عمه أبي طالب وعمره ست سنوات، ثم بعد ذلك استمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في كفالة عمه إلى أن وافته المنيَّة.

عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، عُرف بين قومه بأخلاقه الكريمة، وقيمه العالية، دعا إلى التوحيد، وأنذر الناس، وصبر على دعوته لله -جل وعلا.

في السنة العاشرة من البعثة مات عمه أبو طالب وزوجته خديجة؛ فسمي ذاك العام بعام الحزن، ثم ذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف وعاد لتحدث في السنة الحادية عشرة من البعثة حادثة الإسراء والمعراج.

مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاثة عشرة سنة، ثلاث منها سريَّة، وعشر سنوات جهرية، ثم أُذن له بالهجرة -عليه الصلاة والسلام- فهاجر -صلى الله عليه وسلم- وعمره ثلاثة وخمسون سنة، ومكث في المدينة عشر سنوات، بنى المدينة، وبنى الإنسان، وأمضى في الدعوة إلى ربه -عز وجل.

قال: (مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَثَلاثٌ وَعِشْرُون َفِي نَبيَّا رَسُولًا. نُبِّئَ بـ {اقْرَأ} ، وَأُرْسِلَ بـ {الْمُدَّثِّرْ}).

قلنا لكم ان هناك فرق بين النبي والرسول:

والنبي: هو مَن أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه إلى قوم موافقين.

والرسول: مَن أوحيَ إليه بشرع، وأمر بتبليغه إلى قومِ مخالفين.

حينما نزلت عليه "اقرأ" كان نبيًّا -عليه الصلاة والسلام- لم يُؤمر بالدعوة إلى الله، ثم أُرسِل -عليه الصلاة والسلام- بقول الله -عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر 1-3]

قال: (وَبَلَدُهُ مَكَّةُ) -عليه الصلاة والسلام- هذه معلومات يجب عليما جميعًا أن نعيها.

قال: (بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَبِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ).

لماذا أُرسل النبي -صلى الله عليه وسلم؟

من أجل أن يدعو إلى توحيد الله، وإلى عبادة الله، وإفراده بالعبادة.

قال: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7]).

ثم بيَّن فقال: ({قُمْ فَأَنذِرْ}: يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}).

الثياب: هي الأعمال.

قال: ({وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}: الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَالمُرَادُ بِهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلَهَا، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا).

وهذا هو معنى "لا إله إلا الله".

قال: (وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ).

في قصة الإسراء والمعراج تلك القصة العظيمة، أُسْرِيَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس بدابة تسمى البراق، يصل حافرها حيث منتهى بصرها.

فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- بيت المقدس وربط البراق، وصلى بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ثم قُدِّمَ له اللبن والخمر، فأخذ اللبن، فقال جبريل -عليه السلام: هُديت إلى الفطرة وهُديت أمتك.

ثم أُتيَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعراج. ما هو المعراج؟ لا نعرفه، لكن المعراج في اللغة: هو السُّلَّم الذي يصعد به.

كيف حال هذا المعراج؟ كيف هيئته؟ لا يعلمها إلا الله، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُخبرنا شيئًا من أمرها.

صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء الدنيا، واستفتح، فقيل: مَن؟

فقال جبريل -عليه السلام: هذا محمَّد.

قالوا: أوَقد أوحيَ إليه؟

قال: نعم.

قال: مرحبًا بك وبمَن جاء معك.

ووجد في السماء الدنيا آدم -عليه السلام- ثم السماء الثانية وجد عيسى -عليه السلام- ثم في السماء الثالثة يحيى -عليه السلام- ثم في الرابعة يوسف، ثم في السماء الخامسة هارون، ثم في السماء السادسة موسى، ثم في السماء السابعة وجد والده وجدَّه إبراهيم -عليه السلام- مسندًا ظهره إلى الكعبة.

في تلك القصة العظيمة المشهورة وفيها فرض الله -عز وجل- خمس صلوات في اليوم والليلة، حينما صعد من موسى؛ بكى موسى -عليه السلام- فقيل: ما يبكيك؟ قال: أن غلامًا أتى من بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي.

وهكذا رحمة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- باممهم.

حينما فُرضَ على النبي خمسون صلاة نزل، فقال موسى -عليه السلام: ما فرض الله عليك؟

قال: (خمسون صلاة).

قال: يا محمد إن خبرت الناس قبلك، وإن قومك لا يطيقون، فسل ربك التخفيف -عليه الصلاة والسلام.

فعاد إلى ربه وسأله التخفيف، فحطَّ عشرًا، ما زال النبي -صلى الله عليه وسلم- يتردد حتى أصبحت خمسًا.

قال موسى: يا محمد، إن قومك لا يطيقون، فسل ربك التخفيف.

قال: (والله لقد استحييت من ربي من كثرة ما سألته)، فقال الله: "لقد أمضيتُ فريضتي على عبادي، فهي خمسٌ في العمل، وخمسون في الميزان -أو في الأجر".

قال: (وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْهِجْرَةُ الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ).

الهجرة عرَّفها بقول: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.

قال: (وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ). لا تنقطع.

قال -صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، أو كما قال سيدي -صلى الله عليه وسلم.

والهجرة أمر الله -عز وجل- بها، وهي قد تكون واجبة أو مستحبة.

متى تكون واجبة؟ إذا كان المسلم يقيم في بلد ليس بلد كفر وليس بلد إسلام، ولا يستطيع أن يُظهر شعائر دينه، فيجب عليه أن يهاجر إلى بلاد المسلمين.

طيب، ماذا نقول في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)؟

نقول: لأن مكة أصبحة دار إسلام، فلا هجرة بعد فتح مكة لأن مكة أصبحت دار إسلام.

ثم استدل -رحمه الله- بقول الله -عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.

استثنى الله -جل وعلا- قال: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ}، فهؤلاء لا تجب عليهم الخجرة.

قال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}، لا يستطيعون السفر، ولا يستطيعون جمع مال.

قال: {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}، لا يعرفون الطريق إلى هذا الأمر.

ثم بعد ذلك انتقل -رحمه الله، قال: (فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ: الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالأَذَانِ، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ).

كانت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشرة سنة في مكة خالصة لتوحيد الله -جل وعلا-، فُرِضَت الزكاة أول ما فُرضت فُرضت في مكة، لقول الله: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]، وهذه الآية مكيِّة، لكن الأنصبة وتقسيم الزكاة وكيف تكون، وشروطها؛ هذه فُرضت في المدينة -مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: (وَتُوُفِّيَ - صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ - وَدِينُهُ بَاقٍ).

قال -عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال -جل وعلا: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34].

لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت صدمة كبيرة على الصحابة، تخيل أن بلال يأتي لصلاة الفجر لا يجد النبي ليصلي بالناس، مصيبة كبيرة حلَّت بالصحابة، حتى قام عمر، فقال: "إن رسول الله ما مات، وإنما رُفع كما رُفع عيسى بن مريم، ولينزلنَّ -صلى الله عليه وسلم- فليقطعنَّ أيدي أقوام وأرجلهم زعموا أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قد مات".

فقام أبو بكر بكل تؤده بعد ان أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجده مسجًّى ببرده، فَقَبَّله، فقال: "ما أطيبك حيًّا، وما أطيبك ميِّتًا يا رسول الله".

قام يخطب، ثم قال أبو بكر -رضي الله عنه: "أيها الناس مَن يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَن يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

يقول عمر: "فوالله لكأن تلك الآية نزلت ذلك الوقت.

قال: (وَهَذَا دِينُهُ). لأن الله تكفل بحفظه.

قال: (لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ).

يقول سلمان حينما سأله رجل أخبركم النبي -صلى الله عليه وسلم- كل شيء؟ قال: "حتى الخراءة" حتى آداب قضاء الحاجة.

وقال أبو الدرداء: "لم يمت -صلى الله عليه وسلم- ولا طائر يطير في السماء إلا أخبرنا من خبره -صلى الله عليه وسلم".

قال: (وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ).

أعظم الخير -أيها الأحبة- التوحيد، التوحيد أعظم واجب أمرنا الله به، وأعظم واجب يجب أن ندعوا الآخرين إليه، إذا صلح التوحيد صلُحت أمورنا، وإذا فسدت العقيدة؛ فسدت جميع أمورنا.

قال الله -عز وجل: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

قال: (وَالشَّرُ الَّذِي حَذَّرَهَا مِنْهُ الشِّرْكُ، وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُ اللهُ وَيَأْبَاهُ. بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً).

فليست دعوته خاصة بالعرب، وليست دعوته خاصة بالإنس؛ بل دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- عامة للناس جميعًا، الأسود والأبيض، العربي والعجمي.

قال -صلى الله عليه وسلم- يتحدث عن الخصائص التي ميَّزه الله به عن غيره، قال: (وبعثت إلى الناس كافة وكان النبي يُبعَث في قومه خاصة).

ثم قال -رحمه الله: (وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا} [الأعراف158].: وَكَمَّلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ).

لا ياتينا شخص ويقول: والله الشريعة لم تكتمل، أنا سأكملها، ولذلك فأن مَن يتدع في دين الله فإنه يطعن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكأنه رأى خيرصا لم يره رسولنا -صلى الله عليه وسلم.

وخير الأمور السَّالفات لعى الهدى ** وشر الأمور المحدثات البدائعُ

قال الله -عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا} [المائدة: 3].

قال يهودي لعمر -رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، آية لو علينا معشر اليهود نزلت؛ لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا.

قال: ما هي؟

قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا} [المائدة: 3].

فقال: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والوقت الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله ونحن بعرفة.

ثم قال -رحمه الله: (وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُواْ يُبْعَثُونَ).

هنا يتحدث عن البعث والجزاء، وقد سبق تفصيل هذه المسألة في حديثنا عن الإيمان باليوم الآخر، وكذلك قوله:(وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ).

قال بعد ذلك: (وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. [النساء: 165]).

وهذا تقدم في الحديث عن الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- وهذا من رحمة الله، من رحمة الله أن أرسل إلينا الرسل، ومن رحمة الله أن أنزل علينا القرآن رحمة منه -عز وجل.

لماذا أرسل الرسل؟ ليكونوا مبشرين ومنذرين، ولئلَّا يقول أحدٌ: ما جاءنا من نذير.

فقطع الله -عز وجل- بهؤلاء الرسل حجة كل مَن يحتج بغير ذلك.

قال: (وَأوَّلُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ).

هل أولهم نوح؟

نحن قلنا هناك أنبياء ورسل.

هنا قال: (وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ)، أول الرسل هو نوح -عليه السلام- وأول الأنبياء مَن؟ آدم -عليه الصلاة والسلام.

قال: (وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا رَسُولا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ؛ {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]).

رأيتم هذه الآية تكررت معنا كثيرًا، هذا يؤكد علينا -أيها الأحبة- أننا لا نحضر هذه الدروس فقط لنأخذ العلم، وإنما لنأخذ العلم ونعمل وندعوا الناس إلى هذا الأمر، لابد أن نغرس في قلوب أبنائنا هذه القيمة: أن التوحيد هو أعظم أمر أمر الله به -عز وجل- به.

قال: (وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ -جل وعلا).

وهذا معنى "لا إله إلا الله"، لا يتم إثبات الإله إلا بالكفر بالطاغوت.

ما هو الطاغوت؟

قال: (مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ).

هؤلاء هم الطواغيت.

قال -رحه الله: (وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ: إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ). الذي أمرنا الله -عز وجل- أن تخذه عدوًّا، {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]، وقال -سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22].

قال: (وَمَنْ عُبِدَ وَهُوَ رَاضٍ).

الذي يُعبَد وهو راضٍ؛ فإنه يُعتبر طاغوت.

من الأمور التي وردت في هذا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما بيَّن قول الله -عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].

لما نزلت هذه الآية قال المشركون: الآن نفحم محمد -صلى الله عليه وسلم.

وقف النضر بن الحارث فقال: يا محمد، أنت تزعم أننا وما نعبد حصب جهنم؟

قال: (نعم).

قال: فإننا نعبد الملائكة، واليهود يعبدون عزيرًا.

فأنزل الله -عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنبياء 101-103].

فهنا قيد، وهو: أن يُعبَد وهو راضٍ.

يقول الله -سبحانه وتعالى- في دليل هذا الأمر: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ}[المائدة: 116] هنا فائدة تكتب بماء الذهب.

نحن نتحدث عن الأدب مع الناس، أعظم الأدب هو الأدب مع الله -سبحانه وتعالى- كيف نتأدب مع الله؟

نتأدب مع الله بثلاثة أمور:

أولها: صيانة معاملته أن يشوبها نقيصة: فإذا قمت إلى الصلاة فأتم الصلاة كما أمر الله، لا تلتف وكن حاضر القلب، خاشع الفؤاد لله -جل وعلا.

أولًا: صيانة معاملته أن يشوبها نقيصة.

ثانيًا: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره: قال: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، لا يكن في قلبك إلا الله -سبحانه وتعالى.

الثالث: صيانة إرادته: أن تتعلق بما يمقتك عليه، تتعلق بنساء، تتعلق بمال، تتعلق بجاه، تتعلق بدنيا، لا تتعلق بأمر يمقتك الله عليه.

مَن أعظم الناس أدبًا مع الله؟ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

اسمع إلى قول إبراهيم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء 78-80]، نسبها إلى نفسه، بينما الخلق والهداية نسبها إلى الله -سبحانه وتعالى.

قال هنا في الآية الأخرى وهي قول الله -عز وجل- في هذه الآية التي أيضًا تدل على الأدب مع الله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} ما قال: "لا".

{قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].

ثم انظر إلى الأدب: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116].

ثم بعد ذلك قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117].

قال: (وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ).

السحرة والكهَّان والمنجمين؛ هؤلاء طواغيت.

قال: (وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ).

أيضًا فهؤلاء من الطواغيت.

ثم استدل بقول الله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256].

وهو استدل بهذه الآية من أجل أن يبيِّن ان التوحيد يقوم على الإيمان بالله، وعلى الكفر بالطاغوت.

قال: (وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا إله إِلا اللهُ).

ختامًا قال: (وَفِي الْحَدِيثِ: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ).

بهذه الأمور الثلاثة نحافظ على هذا الدين، نحافظ على ديننا بقيامنا بالإسلام، وبمحافظتنا على هذه الصلاة، ونقوم كذلك بهذا الدين بالجهاد في سبيل الله لنحافظ على هذه العقيدة العظيمة.

كان هذا هو آخر كلام المصنف -رحمه الله- وآخر هذه المجالس الإيمانية التي تحدثنا فيها عن ربنا -سبحانه وتعالى.

وهذه أيها الإخوة الوصية الأخيرة التي أقولها لكم: الله -عز وجل- خلقنا لحكمة عظيمة، وهي أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأعظم واجب يجب علينا أن نبذله هو أنندعوا الناس إلى دين الله -سبحانه وتعالى-، وهذه المجالس من أعظم المجالس التي يأنس بها المسلمون بطاعة الله -سبحانه وتعالى-، اجتمعنا على طاعته، فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينظر إلينا بنظر الرحمة والغفران.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم كما جمعتنا في هذا المكان الطيب المبارك إخوة متاحبِّين؛ اللهم اجمعنا في دار كرامتك، وفي مستقر رحمتك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وعلمائنا، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.

اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا عسيرًا إلا يسَّرته، ولا مريضًا إلا شفيه، اللهم يسِّر أمورنا، وفرِّج كروبنا، واشرح صدورنا، اللهم اجعلنا ممن يرفع "لا إله إلا الله" وارفعنا بها، واجعلها آخر كلامنا من الدنيا.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات 180- 182].

http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=60