|
|
|
| راشد الزهراني |
اللهُ أَكْبَرُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا
وَلَهُ الثَّنَاءُ مُرَتَّلًا وَجَمِيلَا
اللهُ أَكْبَرُ كُلَّمَا هَتَفَتْ بِهِ
مُهَجُ الْعِبَادِ وَسَبَّحَتْهُ طَوِيلَا
اللهُ أَكْبَرُ فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَا
وَالْأَرْضِ حَيْثُ تَجَاوَبَ التَّهْلِيلَا
وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده المُصطفى، ونبيه المُجتبى، وخِيْرَته من خلقه الرسول المُرتضى، صلوات ربي وسلامه عليه ما لمع سرابٌ، وهَمَعَ سَحَابٌ، وقُرِئ كتابٌ.
أمَّا بعد، أيُّها الإخوة الكرام؛ أُحييكم بتحية الإسلام الخالدة، تحية أهل الجنة، فتحيتهم يوم يدخلونها سلام؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أَهْلًا وَسَهْلًا وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمُ
وَتَحِيَّةٌ مِنَّا تُزَفُّ إِلَيْكُمُ
إِخْوَانُنَا مَا أَجْمَلَ الدُّنْيَا بِكُمْ
لَا تَقْبُحُ الدُّنْيَا وَفِيهَا أَنْتُمُ
اللَّهُمَّ لك الحمد أن جمعتنا على طاعتك، ولك الحمدُ أن جمعتنا على ما تُحب وترضى، ولك الحمد أن جمعتنا في هذا المكان الطيب الطَّاهر.
اللَّهمَّ كما جمعتنا في هذا المكان المبارك؛ اللَّهمَّ اجمعنا في دار كرامتك، وفي مُسْتَقَرِّ رحمتك في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنونَ إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليمٍ.
أيُّها الإخوة الكرام، في أولى دروس متن "ثلاثة الأصول"، وفي هذا الجامع المبارك -جامع الشيخ الحصري رحمه الله تعالى- تستهل الأكاديميةُ الإسلامية المفتوحة دروسَها في أرض الكنانة، في مصر العلم والعلماء، في هذه البلاد المباركة التي باركها الله -جل وعلا- بأنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- وباركها الله -جل وعلا- بصحابة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- الذين نشروا في ربوع هذه البلاد المباركة الأمن والإيمان، ونشروا فيها السلامة والإسلام، حتى ذكر بعضُ الباحثين أنَّ أكثر من ثلاثمئة وخمسين صحابيًّا ممن رأى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أتى إلى هذه البلاد المباركة.
في مصر كنانة الله -جل وعلا- يدخل إمامُ المصريين -الإمام أحمد بن صالح- على سفيان بن عُيينة -رحمه الله تعالى- فيقول له سفيان -وهو إمام المُحدِّثين: يا مصري، أين تسكن؟
قال: أسكن الفُسطاط.
قال: هل تأتي الإسكندرية؟
قال: نعم.
قال: تلك كنانة الله، يجعل الله -عز وجل- فيها خيرَ سهامه.
في مصر العلم؛ حيث جامع عمرو بن العاص، أول جامع بُني في القارة الإفريقية، وقد ضبط قبلته أكثر من ثمانين من صحابة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم.
وفي مصر العلم؛ حيث الأزهر الذي خرَّج العلماء، وخرَّج القادة والفاتحين، الأزهر الذي دافع عن الشريعة، وحمى رسالةَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم.
في هذه البلاد المباركة خرج العلماء والصَّالحون، خرج الإمامُ اللَّيث بن سعدٍ، وخرج الإمامُ عبد الرحمن بنُ القاسم صاحب الإمام مالك، وخرج منهم القارئ ورش المصري عثمان بن سعد، ومنهم الإمام المُبَجَّل محمد بن إدريس الشَّافعي -رحمه الله تعالى- الذي قال عنه الإمامُ أحمد: "كان محمد بن إدريس كالعافية للبدن، وكالشمس للأرض".
فرحم الله مصر، ورحم أهلَها، وأسأل الله -عز وجل- أن يحلَّ في هذه البلاد المباركة الأمن والاستقرار، إنَّه جَوَادٌ كريمٌ.
أيُّها الأحبة، حديثنا عن الأصول الثلاثة للإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله.
وقبل أن نتحدث عن هذا الكتاب، وبما أننا اجتمعنا على العلم وطاعة الله وطاعة رسوله –صلى الله عليه وسلم- فيَحْسُن بنا -أيُّها الأحبة- أن نتحدث ولو بشكلٍ مُبَسَّطٍ ومختصرٍ عن العلم وفضل أهله ومكانتهم.
فالله -جل وعلا- في آياتٍ كثيرةٍ يحُثُّ عباده المؤمنين على سلوك طريق العلم، وسلوك طريق أهله، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]، قال الإمام الحسنُ البصري -رحمه الله: "الحسنة في الدنيا: العلم، والحسنة في الآخرة: الجنة".
نسأل الله -عز وجل- أن يمُنَّ علينا وعليكم بفضله.
وفي فضل العلم يقول الله -جل وعلا: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، ما الدلالة على فضل العلم في هذه الآية؟
أولًا: الله -جل وعلا- استشهد العلماءَ على أعظم مشهودٍ، وهو توحيده -جل وعلا.
ثانيًا: قرن الله -جل وعلا- شهادةَ العلماء بشهادته وشهادةِ ملائكته، وكفاهم بهذا فضلًا وشرفًا ومكانةً ومنزلةً، فنسأل الله أن يجعلنا من أهل العلم الذين هم أهل الله وخاصَّته.
ومن الأدلة على فضل العلم في القرآن: قول الله -جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: 7]، إلى أن قال الله -جل وعلا: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8]، ثم قال -جل وعلا- في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، قال الإمام المالكي القرافي -رحمه الله تعالى: "وهذه الآية من أعظم الأدلة على فضل العلم، فالله -جل وعلا- في سورة البينة جعل مَن يخشى الله هم خير البرية، وفي الآية الأخرى جعل العلماءَ هم مَن يخشى الله، فاتَّضح من هذا أنَّ مَن يخشى الله هم العلماء، وأنَّ العلماء هم خير البرية".
ومن الأدلة على فضل العلم في سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رواه الإمامُ الترمذي -رحمه الله- أنَّ شابًّا قدم من مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى دمشق ليلتقي بالصَّحابي الجليل أبي الدَّرداء الأنصاري -رضي الله عنه وأرضاه- فقال له الشابُّ: لقد سمعت أنَّك تُحدِّث بحديثٍ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الدَّرداء: أتيتَ من المدينة من أجل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم.
قال: سألتُك بالله، ألم تأتِ من أجل حاجةٍ؟
قال: لا، والله.
قال: ألم تأتِ من أجل تجارةٍ؟
قال: لا، والله.
قال: أَمَا جئتَ إلا من أجل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم.
قال: إذن فاسمع؛ قال -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
من أعظم من شرح هذا الحديث إمامُنا ابن القيِّم -رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم الذي أنصح إخواني جميعًا باقتنائه وشرائه، وهو كتاب: "مفتاح دار السَّعادة".
يقول -رحمه الله: "وهذا الحديث دلَّ على فضل العلم من خمسة أوجهٍ:
أولًا: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل طلبَ العلم بابًا من أبواب الجنة".
هل تريد الجنة؟
اسلك طريق العلم، إذا رأيتَ مَن يتحلَّقون في حِلَق الذِّكر، ويجتمعون في مجالس العلم، فاعلم أنَّهم يطرُقون بابًا من أبواب الجنَّة -نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم من أهلها.
فالجنَّة لها أبوابٌ، ولها طرقٌ، من طُرقها: أن تطلب العلمَ الشَّرعي.
الوجه الثاني من فضل العلم: قال: «وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ».
الإمام الماوردي -رحمه الله- في كتابه "أدب الدنيا والدين" ذكر عدَّة معانٍ لهذا الحديث، فما معنى: «وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ»؟
قال: "إنَّ الملائكة تتواضع لمُعلِّم الناس الخير".
وقال من الأوجه أيضًا -رحمه الله: "إنَّ الملائكة تطير، فإذا بلغت حِلَق الذِّكْر جلست لتستمع إلى قال الله، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم".
الوجه الثالث: قال: «وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ»، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- فضَّل العالم على العابد.
قال الإمام النووي -رحمه الله- وهو من أئمَّة الشَّافعية: "وبإجماع العلماء أنَّ العالم أفضلُ من العابد؛ لأنَّ نفعَ العابد مُقتصرٌ على نفسه، بينما نفع العالم عامٌّ للناس، والنَّفع المتعدِّي في الشَّريعة أجره أعظم عند الله -جل وعلا".
وقد حقَّق هذا المعنى الإمامُ الشَّاطبي -رحمه الله- في كتابه "الاعتصام".
وهنا لفتةٌ ذكرها الإمامُ ابن القيم -رحمه الله: أيُّهما أشدُّ ضوءًا: الشمس أم القمر؟
الشمس، فلماذا شبَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- العالمَ بالقمر، ولم يُشبهه بالشمس؟
قال: "لذلك فوائد:
- أمَّا الفائدة الأولى: فلأنَّ القمر يستمد ضوءَه من الشمس، فكذلك العالمُ يستمد نورَه من كتاب الله، ومن سُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
- الأمر الثاني: الشَّمس تكون في حالةٍ واحدةٍ في أول الشهر وآخره، بينما القمر تارةً يكون بدرًا، وتارةً يكون محَاقًا، وتارةً يكون هلالًا، وهكذا العلماء، فمنهم مَن هو كالبدر في تمامه، ومنهم مَن هو كالهلال، ومنهم مَن هو دون ذلك، ومنهم مَن هو فوق ذلك، والله يختار ما يشاء".
- قال -صلى الله عليه وسلم- وهذا الوجه الرابع: «وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ المَاءِ».
يقول ابنُ جماعة -رحمه الله- في كتابه "تذكرة السَّامع والمتكلم": "الناس يتنافسون في دعاء الرجل الصَّالح، أو مَن يُظَنُّ صلاحه، فكيف بدعاء هذه العَجْمَاوات التي لم تعصِ الله -جل وعلا؟!"
قال: «وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ -وهم الملائكة- وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ المَاءِ».
- الوجه الخامس: قال: «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
ورد في بعض الآثار أنَّ أبا هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- دخل على الناس في سوق المدينة، فرآهم يبيعون ويشترون، فقام فيهم خطيبًا، فقال: "أيُّها الناس، أنتم هاهنا، وميراثُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- يُقَسَّم؟!"
قالوا: أيُّ ميراثٍ؟
قال: "في مسجد رسول الله".
فذهب الناس ودخلوا مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأوا مَن فيه ما بين مُتَحَلِّقٍ في حلقة علمٍ، وما بين قارئٍ للقرآن، وما بين مُصَلٍّ، وما بين ذاكرٍ لله -جل وعلا- فقالوا: أين ميراثه؟
قال: "هذا ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم".
فالعلماء هم ورثة الأنبياء.
ومن الأدلة على فضل العلم في سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله -عليه الصلاة والسلام: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
قال الإمامُ ابن جماعة -رحمه الله- في "تذكرة السَّامع والمتكلم": "وأنت إذا تأمَّلت هذه الثلاثة وجدتها في مُعلِّم الناس الخير:
فأمَّا العلم الذي يُنتفع به فهذا واضحٌ.
وأمَّا الصَّدقة الجارية التي يتركها المسلمُ بعد وفاته، فلا صدقةَ أعظم من أن يخلف الإنسانُ بعده العلم".
وقد مات كثيرٌ من العلماء، لكنَّهم لا زالوا أحياء بعلمهم وفنِّهم الذي تركوه للناس.
كَمْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ
وَمَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ
قال: "وأمَّا الولد الصَّالح الذي يدعو له؛ فقد يكون الإنسانُ عقيمًا لا يُرزَق بالأبناء؛ فيُسَخِّر الله -جل وعلا- من تلاميذه مَن يدعو له الله -جل وعلا- ليلًا ونهارًا ويترضَّى عنه".
كم بيننا وبين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله؟
مئات السنين، ومع ذلك كلَّما ذكرنا اسمَه أو اسم الإمام مالك، أو الإمام الشَّافعي، أو الإمام أبي حنيفة، أو الإمام أحمد؛ قلنا: رحمهم الله جميعًا.
فرحم الله جميعَ ساداتنا وعلمائنا ورضي الله عنهم.
النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكْفَاءُ
أَبُوهُمُ آدَمُ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ
فَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ مِنْ بَعْد ذَا نَسَبٍ
يُفَاخِرُونَ بِهِ فَالطِّينُ وَالمَاءُ
مَا الْفَضْلُ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمُ
عَلَى الهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ
وَقِيمَةُ المَرْءِ مَا قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ
وَلِلرِّجَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ أَسْمَاءُ
وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يَجْهَلُهُ
وَالجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ
فَعِشْ بِعِلْمٍ وَلَا تَبْغِ بِهِ بَدَلا
فَالنَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَاءُ
فالعلم من أعظم القُربات التي يتقرَّب بها العبدُ إلى ربِّه -سبحانه وتعالى.
والناس في طلب العلم على ثلاثة أقسامٍ:
- من الناس مَن يتعلم ويعي ما يتعلم.
- ومنهم مَن يتعلم وينقل للآخرين ما تعلَّمه دون أن يعيه.
-ومنهم مَن قد أغلق الله قلبَه عن العلم.
يقول -صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ؛ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ»، أرض زراعيَّة طيبة قبلت الماء؛ فأخرجت للناس كنوزها.
قال: «وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ؛ فَسَقَتِ النَّاسَ وَشَرِبُوا، لَكِنَّهَا لَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا، وَكَانَ مِنْهَا قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
العلم -أيُّها الإخوة- نورٌ للقلب، ونورٌ للبصيرة، والله -جل وعلا- يقول في سورة الأنعام: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنعام: 122]، هل يستوون؟ لا يستوون عند الله -سبحانه وتعالى.
ويقول الله -جل وعلا: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنهُمْ أَجْرَهُم بأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، فالعلم نورٌ وبصيرةٌ لصاحبه.
وهنا -أيُّها الإخوة- أُريد أن أهمس في أذن كلِّ طالب علمٍ، وكلِّ مَن أراد أن يتعلم العلم الشَّرعي؛ فقد يأتيه الشيطانُ فيقول له: مَن أنتَ حتى يحتاج إليك الناسُ؟! الناس لا يحتاجون إليك، الناس فيهم العلماء، وفيهم الفُقهاء، وفيهم الأئمَّة، فمَن سيحتاج إلى علمك؟!
وهنا أذكركم جميعًا بموقفٍ لأحد صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأحد آل بيته الطَّيبين، إنَّه حَبرُ الأمَّة وبحرها وترجُمان القرآن -رضي الله عنه وأرضاه- دعا له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وهو غلامٌ صغيرٌ فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، كانت تكفي دعوةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- له من أجل أن ينال هذا الأمر، لكنَّه لم يستَكِن.
تُوفي النبيُّ -عليه الصلاة والسلام، وجعلنا الله من أتباعه، وممن يرد حوضَه الكريم- وعمر هذا الصَّحابي الجليل ثلاثة عشر عامًا، فتوجَّه إلى أحد الأنصار وقال له: "هَلُمَّ". يريد أن يكون صاحبًا له من أجل أن يُعينه على طلب العلم.
وفي أدب الطلب أنَّ مما يُعين الطالبَ على طلب العلم أن يتَّخذ صديقًا وقرينًا وصاحبًا يُعينه على الحقِّ.
وقد قال الله -جل وعلا- عن موسى -عليه السلام: ﴿هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا﴾ [طه: 30- 35].
قال الإمامُ القُرطبي -رحمه الله: "إذا كان موسى الكليم -عليه السلام- يطلب من ربِّه -جل وعلا- أن يجعل له مَن يُعينه على طاعة الله؛ فكيف بغير موسى -عليه السلام؟!"
إذن؛ ذهب إلى ذاك الأنصاري ليستعين به على طلب العلم، فقال: "هَلُمَّ لنتعلم علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
فالتفت إليه الأنصاريُّ وقال: والله إنَّ أمرك عجبٌ يا ابن عباس؟!
ينظر إليه الأنصاري فيجده غلامًا صغيرًا، عمره ثلاثة عشر عامًا، قال: أَوَتَظُنُّ الناسَ يحتاجون إليك وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم جميعًا؟!
مَن أراد أن يستفتي وبحضرته هؤلاء الأئمَّة الأربعة، هل سيذهب إلى ابن عباس -رضي الله عنهما؟!
بطبيعة الحال: لا.
قال ابنُ عباسٍ: "أمَّا أنا فسأتعلم العلمَ". لأنَّ العلم بابٌ من أبواب الجنة، فيكفيك فضلًا وشرفًا أنَّك تطرق بابًا من أبواب الجنة.
فذهب يتعلم العلم، وتعب، وكان يذهب إلى باب الصَّحابي، فيتوسَّد عتبةَ الباب حتى يخرج زيدٌ -رضي الله عنه- فيجد ابنَ عباس، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- قد توسَّد عتبةَ بابه، فقال: "يا ابن عم رسول الله، ألا أخبرتني".
قال: "حديثٌ سمعتُ أنَّك تُحدِّث به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
فابن عباس يريد السند العالي، يريد أن يسمع منه مباشرةً، فحدَّثه بحديث النبي -عليه الصلاة والسلام.
وتمر الأيام والليالي وابن عباس يطلب العلمَ ويجتهد في تحصيله، حتى اجتمعت له أمَّةُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم.
ويمر ذلك الأنصاريُّ بعد سنوات -رضي الله عنه- على مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي صدر المسجد شابٌّ في مُقتبل عمره، والناس يقولون: مَن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليدخل؛ فتدخل أممٌ، فيسألونه ويخرجون. ثم يقولون: مَن أراد أن يسأل عن الشعر واللغة فليدخل؛ فيدخلون ويخرجون، وهكذا.
قال الأنصاريُّ: مَن هذا الغلام الذي اجتمعت عليه أمَّةُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: هذا عبد الله بن عباس.
قال: كان هذا الفتى أعقلَ مني.
فطلبُ العلم من أعظم ما يُقرِّب العبدَ إلى الله -جل وعلا- فلا تحقرن نفسك، وسيكون من بين الحاضرين معنا -بإذن الله جل وعلا- علماء، وسيكون هناك فقهاء، وسيكون هناك أئمَّة اللغة، ولكن تحتاج إلى أن تُعزز الثِّقة بنفسك، وتستعين بالله -جل وعلا.
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى
فَأَوَّلُ مَا يَقْضِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
وأيضًا أُنبه أحبَّتي في طلب العلم إلى أن يَلِجُوا العلم من بابه، وأن يأتوا المسجدَ من محرابه، فإنَّ العلم درجات، ومراتب، ونُقَل، كما يقول الإمامُ الماوردي: "العلم درجات ومراتب ونُقَل، مَن أراد أن يتعدَّاها؛ فقد أراد أن يتعدى سبيلَ المؤمنين، ومَن أراد أن يتعدَّى سبيلَ المؤمنين عامدًا ضلَّ، ومَن أراد أن يتعدَّى سبيلَهم جاهلًا زلَّ".
إذن؛ لابُدَّ أن يأخذ الطالبُ العلمَ شيئًا فشيئًا؛ فإنَّ العلم يُؤخَذ مع الليالي والأيام.
وهذا موقفٌ لأحد علماء مصر-ودائمًا ما أُذَكِّر أحبَّتي بهذا الموقف- هذا العالم حفظ القرآن وعمره تسع سنوات، وكانت عادة علمائنا في مصر أنَّ مَن يحفظ القرآنَ يبدأ بعد ذلك بالنحو، بمتن الآجُرُّوميَّة -الذي يُقدَّم لكم في هذه الدَّورة- ومتن الآجُرُّوميَّة له شروح كثيرةٌ وعديدةٌ، ومن أصعب شروحه على الإطلاق ولا يفهم هذا الشَّرح إلا المتقدِّمون في العلم: شرح الشيخ الكفراوي -رحمه الله تعالى.
فجعل هذا الإمامُ يحاول أن يتعلم النحو من متن الآجُرُّومية بشرح الشيخ الكفراوي، فأتى به من هنا ومن هنا؛ فلم يفقه علمَ النحو أبدًا، فذهب إلى والده وقال: لا أُريد أن أطلب العلم. وكان والده مزارعًا، وقد فرح حين رأى ابنه قد سار في مسير أهل العلم. فقال والده له: يا بني، سأكفيك المئونة، وأكفيك المال، وأنت تطلب العلم، أريد أن أراك من أهل العلم.
فأصر عليه والده، ومع شدَّة الإلحاح هرب هذا الغلامُ إلى قريةٍ أخرى، وأخذ يعمل فيها مُزارعًا -فلاحًا- وأثناء حرثه للأرض كان يُراجع القرآنَ الذي يحفظه، والقرآن له نورٌ في وجه صاحبه، فمرَّ به أحد العلماء، فدنا منه وقال: يا بني، إني أرى فيك نورَ الإيمان والطَّاعة، لماذا لا تذهب فتتعلم العلم؟
قال: إني أحفظ القرآن. ثم أخبره بما حدث له.
قال: يا بني، تعلَّم الآجُرُّوميَّة من خلال شرح الشيخ خالد الأزهري، فهو للمُبتدئين.
فذهب فتعلم العلم وطلبه حتى أتقن علمَ اللغة، وأصبح فيما بعد مُفتيًا لجمهورية مصر العربية.
يقول عنه أحدُ المؤرخين -واسمع إلى هذه الكلمة العظيمة: "ولولا أنَّ الله أراد به خيرًا لكان كسائر الناس، يُكتَب اسمُه في دفتر المواليد، ثم يُكتَب في دفتر الوفيات"، لم يُكتَب في دفتر الحياة، بينما أهلُ العلم هم الذين يسطرون دفتر الحياة، يسطرونه بمداد علومهم وبفقههم وبدعوتهم، وبأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وبطاعتهم لله ولرسوله -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
المتن الذي معنا هو كتاب "ثلاثة الأصول" للشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التَّميمي -رحمه الله تعالى.
وهذا الكتاب من أهم الكتب وأبسطها، والذي يحتوي أصولَ الاعتقاد الذي لا يسع مُسلمًا أن يجهل شيئًا من هذه المعاني.
ألَّف -رحمه الله- هذا الكتاب في بداية حياته، وهذا الكتاب محوره الأساسي هو: الحديث عن توحيد الله -جل وعلا.
لماذا يبتدئ العلماء في طلبهم للعلم بعلم التوحيد والاعتقاد؟
لأنَّ دعوة الأنبياء والمُرسلين -عليهم الصلاة والسلام- كانت مُنصبَّةً على هذا العلم.
الأنبياء جميعًا أتوا إلى أممهم يقولون لهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59]، ويقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، ويقول -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ».
الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- دينهم واحدٌ، فإذا سُئلنا: ما دين موسى -عليه السلام؟
فالجواب: الإسلام.
ودين عيسى -عليه السلام- الإسلام.
ودين إبراهيم -عليه السلام- الإسلام: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132].
وقال -سبحانه وتعالى- عن بلقيس: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44].
فالإسلام هو دين جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
يقول -صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَحَقُّ بِعِيسَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ».
دين الأنبياء جميعًا واحدٌ، وهو الدَّعوة إلى "لا إله إلا الله"، وإفراده -جل وعلا- بالعبادة: ﴿قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 65].
فهذا هو دين الأنبياء -عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام.
تأمَّلوا -أيُّها الأحبة- في دعوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- كم مكث في مكَّة قبل الهجرة؟
ثلاث عشرة سنة، ثلاث منها كانت تُسمَّى: الدَّعوة السريَّة، ثم العشر الأخرى تُسمَّى: الدَّعوة الجهريَّة، خلال هذه السنوات الثلاث عشر كانت دعوةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى توحيد الله -جل وعلا- وكان النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- يُؤسس بهذا التوحيد القِيَم العظيمة في قلوب أصحابه.
إذا أردنا أن نُربي الأجيال، وأن نُربي الأمَّة؛ فأعظم ما نُربي عليه هذه الأمَّة: أن نُربيها على توحيد الله -سبحانه وتعالى- وهذا ما كان عليه نبينا -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
فأعظم واجب على المُكلَّفين هو أن يتعلَّموا هذه العقيدة العظيمة التي أتى بها محمدُ بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
علم التوحيد كغيره من العلوم، يقول العلماء: كلُّ علمٍ من العلوم -التوحيد، الفقه، التفسير- لابد أن تعرف أصوله.
وأي فنٍّ تتعلمه له عشرة مبادئ.
يقول الشاعر:
إِنَّ مَبَادِي كُلِّ عِـلْـمٍ عَشَـرَه
الحَـدُّ وَالمَوضُــوعُ ثُمَّ الثَّمَرَه
وَنِسْـــبَةٌ وَفَضْلُهُ وَالْوَاضِعُ
وَالِاسْمُ الِاسْتِمْدَادُ حُكْمُ الشَّارِع
مَسَائِلُ وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ اكْتَفَى
وَمَن دَرَى الجَمِيعَ حَـازَ الشَّرَفَا
ما المسائل العشر؟
قال أولًا: الحـد.
الحد عند المناطقة هو: التَّعريف.
ما تعريف هذا العلم الذي ستتعلمه؟
ما معنى علم التوحيد؟
قال: هو علمٌ بإفراد الله -جل وعلا- بالعبادة، وإفراده في توحيد الرُّبوبيَّة والأُلوهيَّة والأسماء والصِّفات.
هذا هو معنى التوحيد، أن نُفرد الله -جل وعلا- في ربوبيَّته وأُلوهيَّته وأسمائه وصفاته، وسيأتي معنا -بإذن الله عز وجل- تفصيل الحديث عن هذا الأمر.
ثم قال: الموضوع.
ما موضوع علم العقيدة؟
علم العقيدة يبحث في معنى شهادة "ألا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله"، فيشرح لنا التوحيد بأنواعه، وأركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام، ويشرح العبادة الظَّاهرة والباطنة، ويجعلها مُقتصرةً على الله -سبحانه وتعالى.
قال: ثم الثمرة.
إذا تعلَّمت علم التوحيد، ما الثمار التي ستجنيها؟
أول هذه الثِّمار: أنَّ علم التوحيد من أعظم القُربات التي تتقرَّب بها إلى الله -جل وعلا- لأنَّ شرف كلِّ علمٍ بمُتعلِّقه، وعلم التوحيد يتعلَّق بالله -جل وعلا- فكانت هذه من أعظم ثماره.
أيضًا من ثماره: أنَّه يجعل القلوبَ خاضعةً لله، في رَغَبِها ورَهَبِها، وحينها يمتلئ القلبُ بالتوحيد فلا يخاف إلا الله -جل وعلا.
وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُعلِّم الصحابة التوحيد، ويُعلِّم الصِّغار أيضًا، ومن ذلك: عبد الله بن عباس، فقد جاءه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وهو غلامٌ صغيرٌ فقال له: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ -انظر إلى قوة اليقين بالله والتَّوكل على الله- أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَنْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَنْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ».
قال: ونسبة.
هذا العلم يُنسَب لمَن؟
يقولون: علم أصول الفقه يُنسَب لمَن؟
للإمام الشَّافعي -رحمه الله- في كتابه "الرسالة".
طيب، علم التوحيد يُنسَب لمَن؟
يُنسَب لكتاب الله، ولسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
قال: والواضع.
مَن الذي وضع هذا العلم؟
وضعه ربُّ العالمين، وخير المُرسَلِين -عليه أفضل الصلاة وأتم التَّسليم.
قال: والاسم.
هذا العلم -علم التوحيد- له أسماء، فما أسماؤه؟
من أسمائه: التوحيد -طبعًا أولًا.
وأيضًا من أسمائه: الشَّريعة -كما فعل ذلك الإمامُ الآجُري في كتابه "الشريعة".
وأيضًا من أسمائه: السُّنة، كما فعل الإمامُ أحمد في "أصول السنة" -وهو واحدٌ من الكتب التي ستُدرس لكم في هذه الدورة بإذن الله عز وجل- وكما فعل الإمامُ عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة".
ومن أسمائه: الفقه الأكبر، كما فعل ذلك الإمامُ أبو حنيفة -رحمه الله- في كتابه "الفقه الأكبر".
قال: الاستمداد.
هذا العلم يستمد أصولَه من ماذا؟
من القرآن والسُّنة.
ولذلك -يا أحبَّتي- الأئمَّة الأربعة مُتَّفقون جميعًا في أصول الاعتقاد.
وهناك أربع رسائل (ماجستير ودكتوراه):
رسالة بعنوان: "أصول الاعتقاد عند الإمام الشافعي".
ورسالة أخرى بعنوان: "أصول الاعتقاد عند الإمام أبي حنيفة".
والثالثة بعنوان: "أصول الاعتقاد عند الإمام مالك".
والرابعة بعنوان: "أصول الاعتقاد عند الإمام أحمد".
ثم أُلِّف كتابٌ اسمه: "أصول الاعتقاد عند الأئمَّة الأربعة".
فالأئمَّة الأربعة أصول الاعتقاد لديهم واحدة، فلا يختلفون في مجال العقيدة، وهناك اختلافٌ في القضايا الفقهيَّة، وهو اختلافٌ سائغٌ، وقد كان الاختلاف أيضًا بين الأئمَّة الكبار -رحمهم الله تعالى.
هذا يدلُّ على أنَّهم يستمدون هذه الأصول من مصدرٍ واحدٍ للتلقي، وهو كتاب الله وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
إذا كان مصدر التَّلقي القرآن والسُّنة؛ فلابُدَّ أن يتَّفق الناسُ ويتفق العلماءُ في اعتقادهم الذي أخذوه عن محمَّد بن عبد الله -صلوات ربي وسلامه عليه.
ما حكم تعلم علم التوحيد؟
هل تعلمه مُستحَبٌّ أو مندوبٌ أو فرضٌ أو ماذا؟
يقول العلماء: إنَّ تعلم العلم الشَّرعي على نوعين:
- منه ما هو فرض عينٍ يجب علينا جميعًا أن نتعلمه، العالم، ومَن يطلب العلم، والخبَّاز الذي يعمل في مخبزه، والمُزارع الذي يعمل في مزرعته.
فهناك نوعٌ من العلم يجب علينا جميعًا أن نتعلمه، وهذا العلم يُسمَّى "علم فرض العين"، ومن هذا العلم: علم التوحيد، فيجب علينا جميعًا أن نتعلم علم التوحيد.
قالوا: ومن العلوم ما هو فرضٌ على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الإثمُ عن الباقين، وهذه كلمة مُتداولة، والصحيح: إذا قام به مَن يكفي من الأُمَّة سقط الإثمُ عن الباقين.
بالمناسبة: لفظ العلم في القرآن والسنة لم يرد دائمًا في سبيل المدح، فأحيانًا يرد في سبيل الذَّم، فقد يكون العلمُ ضارًّا: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ﴾ [البقرة: 102].
لهذا يقول العلماء: من العلوم ما يجب تعلمه، وهو علم التوحيد.
ومن العلوم ما يكون تعلُّمه تارةً واجبًا، وتارةً محرَّمًا، مثل: تعلم علم النُّجوم، فعلم النُّجوم على قسمين:
- علم التَّأثير.
- وعلم التَّسيير.
فعلم التأثير: هو الاستدلال بالحوادث الفلكيَّة على الوقائع الأرضيَّة؛ فهذا لا يجوز؛ لأنَّ الغيب بيد الله -جل وعلا.
وعلم التَّسيير: أن نعلم من النُّجوم ما نستدل به على القبلة، وعلى الاتجاهات ونحو ذلك؛ فيكون بهذا الأمر جائزًا.
فالعلم تارةً يكون واجبًا، وتارةً يكون محرمًا، وتارةً يكون مُباحًا.
والعلم الواجب هو العلم النافع الذي ينبعث وينطلق من كتاب الله، ومن سُنَّة رسوله -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
والآن نبتدئ بشرح هذا الكتاب، وسنأخذ قليلًا ريثما يأتي الشيخُ محمد -جزاه الله عنا خير الجزاء.
يقول المصنف -رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم).
وعادة العلماء أن يبتدئوا مُصنفاتهم بالبسملة.
لماذا؟
أولًا: اقتداءً بالكتاب العزيز: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾ [الفاتحة: 1، 2].
ثانيًا: تأسِّيًا بالنبي الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه- فقد كانت عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كتب كتابًا أن يبتدئ هذا الكتاب بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، ففي صُلح الحُديبية لما أراد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب الصُّلح مع المشركين قال النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- لكاتبه الصَّحابي الجليل علي بن أبي طالب: «اكْتُبْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».
قالوا: يا محمد، أمَّا "الرحمن الرحيم" فلا نعرفه، ولكن اكتب: باسمك اللَّهمَّ.
وقد ورد في الحديث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبتدئ حديثه بالحمد لله، كما ورد في سُنن الترمذي: أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يُعلِّمنا دعاء الحاجة، فكان النبيُّ إذا تحدث يقول: «إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَسْتَهْدِيهِ».
قال العلماء: السُّنة في حقِّ مَن يكتب أن يبتدئ بـ "بسم الله الرحمن الرحيم".
والسُّنة في حقِّ مَن يتحدث أن يبتدئ بـ "الحمد لله".
ورد في الحديث فيما يُروى عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «أَيُّمَا كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ». وهذا الحديث لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
وورد في حديثٍ آخر أنَّه -عليه الصلاة والسلام-قال: «أَيُّمَا كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيِه بِالحَمْد للهِ؛ فَهُوَ أَقْطَعُ»، وهذا الحديث حسَّنه بعضُ العلماء، ولكن الأكثر على عدم تحسينه.
وقد قام الإمامُ الشيخُ الألباني -رحمه الله تعالى- في مقدمة كتابه "إرواء الغليل" ببحثٍ نفيسٍ حول هذين الحديثين، وقام في نهاية الأمر بتضعيفهما، لكن ليس معنى أنَّ الحديث ضعيفٌ أننا لا نبتدئ في الحديث بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، فنحن نبتدئ الحديثَ بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" تأسِّيًا واقتداءً بالكتاب العزيز، وبسُنَّة نبينا وسيدنا محمَّد بن عبد الله -صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطَّاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، ونُكمِل -بإذن الله عز وجل- في درسٍ قادمٍ، ولكن -بإذنه سبحانه وتعالى- خلال الأيام القادمة لن نُغادر هذا الجامع -إذا أحيانا الله جل وعلا- إلا وقد أتممنا شرح هذا الكتاب العظيم، وهو الأصول الثلاثة، وفيه ثلاثة أصول يُسأل عنها العبدُ في قبره، ويُسأل عنها في الدنيا، ويُسأل عنها في الآخرة: معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد نبيه، ومعرفة العبد دين الإسلام -دين محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه.
طبعًا -أيُّها الأحبة- أُريد أن أتقدَّم بشكرٍ خاصٍّ لجميع الإخوة الذين قاموا على هذه الدورة؛ لأنَّ مَن لا يشكر الناسَ لا يشكر الله -جل وعلا- والشكر موصولٌ لشيخنا الكبير الشيخ محمد حسان على مُشاركته معنا في هذه الدَّورة.
والشكر لإخواننا في قناة الرحمة على تبنيهم لهذه الدورة، ونقلها على الهواء مباشرةً.
وكذلك الشكر لإخواننا الذين أتوا من لبنان واليمن وتونس وليبيا للمُشاركة معنا في هذه الدَّورة؛ فأسأل الله -عز وجل- ألا يحرمهم الأجرَ، وأن يجعل اجتماعنا هذا مرحومًا، وتفرُّقنا من بعده معصومًا.
اللَّهمَّ لا تجعل فينا ولا معنا ولا بيننا شقيًّا ولا محرُومًا.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=60