الحقوق محفوظة لأصحابها

راشد الزهراني
مادة البناء العلمي

لفضيلة الشيخ/ راشد الزهراني

الدرس (4)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أمَّا بعد:

أيُّها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم بمنِّه وكرمه أن يجعلنا وإيَّاكم من السُّعداء، وأن يجعلنا ممن إذا أُعطِيَ شكر، وإذا ابتُليَ صبر، وإذا أذنب استغفر، إنَّه -عز وجل- جواد كريم.

نُرحب بإخواننا الحاضرين معنا، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل اجتماعنا هذا مرحومًا، وتفرُّقنا من بعده معصومًا، وألا يجعل فينا ولا معنا ولا بيننا ولا مَن يستمع إلينا شقيًّا ولا محرومًا، إنَّه -عز وجل- جوادٌ كريمٌ.

نستأنف في هذا اللِّقاء الحديث عن أُسس البناء العلمي، وهي مجموعةٌ من القواعد التي يُراعيها طالبُ العلم في سيره في طلب العلم.

فالعلم له أبوابٌ وله أوائل، يجب على الطالب أن يأخذ بهذه الأوائل، وأن يدخل البيوت من أبوابها.

أول هذه القواعد التي سنتحدَّث عنها في هذا اللِّقاء، وهو أساسٌ من أهمِّ الأسس: التَّدرج في طلب العلم.

يقول ابنُ عبد البر -رحمه الله تعالى: "العلم درجاتٌ ومراتبُ ونُقَل، مَن أراد أن يتعدَّى سبيلها فقد رَامَ أن يتعدَّى سبيل المؤمنين، ومَن رام أن يتعدَّى سبيلَ المؤمنين عامدًا ضلَّ، ومَن رامَ أن يتعدَّى سبيلَهم جاهلًا ذلَّ".

والإمام الماوردي في كتاب "أدب الدنيا والدين" يقول: "اعلم أنَّ للعلوم أوائلَ تُفضي إلى أواخرها، ومداخل تُؤدِّي إلى حقائقها، فمَن رام أواخرَها فعليه بأوائلها، ومَن رامَ حقائقها فعليه بمداخلها".

إذن العلم له أبوابٌ واضحةُ المعالم، فمَن رام أن يطلب العلمَ يجب أن يسلك هذه الأبواب.

أهمُّ هذه الأبواب هو ما ذكرناه: أن تتدرج في طلب العلم الشرعي، فتبدأ بصغار العلم قبل كباره.

تَرَقَّ إِلَى صَغِيرِ الأَمْرِ حَتَّى *** يُرَقِّيكَ الصَّغِيرُ إِلَى الكَبِيرِ

وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذٍ حينما بعثه إلى اليمن: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّل مَا تَدْعُوهُم إِلَيهِ: شَهَادَة أَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحمَّدًا رَسُولُ اللهِ -وفي روايةٍ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ- فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُم أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيهِم خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَومِ وَاللَّيلَةِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُم أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيهِم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِم فَتُردُّ عَلَى فُقَرَائِهِم، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ إِلَى ذَلِكَ فَإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالهِم، وَاتَّقِ دَعْوةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ».

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتاب "التَّوحيد": "وفيه من المسائل: البداءة بالأهم ثم المهم".

الأهم: أن يبدأ طالبُ العلم بصِغار العلم قبل كِبَاره، وهذا أيضًا معنى: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران: 79]، قال: "الرَّبَّاني: هو الذي يُعلِّم طلاب العلم صغار العلم قبل كباره".

ما المراد بصغار العلم؟

بعض الناس يقول: صغار العلم: المسائل الواضحة أو البسيطة.

وليس هذا هو المراد بصغار العلم، بل المراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، فهناك مسائل واضحة إذا استطعت أن تستوعبها وتفهمها تستطيع بالتالي أن تصل إلى أواخرها -بإذن الله عز وجل.

في علم الاعتقاد هناك بعض المصطلحات الكلامية التي أدخلها أهل الكلام، والمصطلحات الفلسفية التي أدخلها الفلاسفة -وخاصَّة الفلاسفة المُنتسبون إلى الإسلام- فيها من الغموض ما يجعلك حائرًا، ولا تستطيع أن تستوعب ما فيها من كلام إلا أن تحلَّ رموزها، ولا تستطيع أن تحلَّ هذه الرموز إلا إذا بدأت بصغار العلم قبل كباره.

فحينما تقرأ مثلًا كتاب "التَّدمريَّة" لابن تيمية -رحمه الله- تحتاج إلى قاعدةٍ تنطلق منها إلى فهم هذا الكتاب، وهي صغار العلم حتى تستطيع أن تستوعب ما في هذا الكتاب من أُسسٍ وقواعد.

كيف يكون التدرج؟

كلّ علمٍ من العلوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

- علوم مختصرة.

- وعلوم متوسطة.

- وعلوم مُطوَّلة.

ولهذا يقولون: يُبدأ بالمُختصرات، ثم العلوم المُتوسطة، ثم المُطوَّلات.

وهذا صنيع العلماء، فابن قُدامة –وهو من أئمَّة المذهب الحنبلي- ألَّف في الفقه أربع كتبٍ، فألَّف كتاب "عمدة الفقه" وجعله على روايةٍ واحدةٍ في مذهب الإمام أحمد، ثم ألَّف بعده "المقنع" وجعله على روايتين في مذهب الإمام أحمد، ثم ألَّف "الكافي" فجعله على ثلاث رواياتٍ وأكثر، ثم ألَّف "المُغني" وفيه الروايات والخلاف بين المذاهب الأربعة.

أذكر أنَّ الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله تعالى- كان يقول: ألَّف ابنُ قُدامة في الفقه على هيئة التقسيم التعليمي في وقتنا، فجعل للابتدائي "عمدة الفقه"، وجعل للمتوسط كتاب "المقنع"، وجعل للثانوي كتاب "الكافي"، وجعل للجامعة كتاب "المغني".

لكن الآن الجامعة تبدأ بـ"عمدة الفقه"، وكما قال الإمام ابن جرير الطبري لتلاميذه: "هل تنشطون في كتابة التاريخ؟" قالوا: في كم؟ قال: "في ثلاثين ألف ورقةٍ". قالوا: كثير، تفنى الأعمار. فقال: "سبحان الله! ماتت الهمم". فكيف بزماننا هذا!

إذن كلُّ علمٍ من العلوم فيه هذا التقسيم الثلاثي.

كيف تبدأ؟

كلُّ علمٍ من العلوم حتى تضبطه تحتاج إلى أمورٍ:

أول هذه الأمور: أن تحفظ مختصرًا فيه: وسيأتي معنا الحديث عن الحفظ؛ لأن هناك للأسف بعض الناس يقول لك: لا، لا يحتاج إلى الحفظ، يكفي الفهم. وقد قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله: "كثيرٌ من الناس أرادوا أن يلعبوا علينا حينما كنا صغارًا، فقالوا لنا: لا تحفظوا المتون، فلما كبرنا من الأمور التي حفظت لنا العلم هو حفظنا لهذه المتون". لأنَّ المتون كلمات قصيرة تحفظ لك معاني كثيرة.

أيضًا بعد حفظ مختصرٍ في هذا العلم عليك أن تضبطه على شيخٍ مُتقنٍ، فمثلًا لو أردت أن تقرأ في الفقه لابُدَّ أن تقرأ على شيخٍ، وسيأتي بإذن الله -عز وجل- الحديث على التلقي على يد العلماء.

أيضًا: ألا تنشغل بالمُطولات، فمثلًا وأنت تقرأ "عمدة الفقه" تجد أنَّ قلبك وروحك ومشاعرك مع "المغني"، فتجد أنَّك تذهب وتأتي مرةً أخرى، ستأتي إليه، اصبر، بالصبر والمُثابرة ستجد نفسك يومًا من الأيام وأنت تدرس كتاب "المغني".

إذن لا ينفع أن تنتقل إلى المُطولات وأنت تقرأ المُختصرات.

كذلك لا ينفع أن تنتقل من مُختصرٍ إلى مُختصرٍ دون معنى، وهذه مشكلة عند طلبة العلم، فيبدأ في الفقه عند شيخٍ يقرأ "عمدة الفقه"، فيحضر درس أو اثنين، ثم يذهب إلى شيخٍ آخر فيبدأ بـ"زاد المُستقنع"، فيتنقل بين المتون دون فائدةٍ، والثَّمرة في النهاية لا شيء.

كيف نتدرج في العلوم؟

ذكرنا لكم أنَّ العلوم على قسمين:

-علوم غاية.

- وعلوم وسائل.

وعلوم الغاية يجمعها الأربعة: العقيدة، والفقه، والحديث، والتفسير.

كيف تتدرج في علم العقيدة؟

علم العقيدة تدرس فيه أمرين:

الأمر الأول: تدرس توحيد العبادة، ولكي تضبط هذا التَّوحيد تحتاج إلى أمرين:

- تحتاج إلى أن تفهم القواعد العامَّة لتوحيد العبادة، مثل: ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، فأيُّ عبادةٍ لا يجوز أن تصرفها لغير الله.

- ثم تحتاج تحت هذا الأمر إلى أنواع توحيد العبادة: الاستعانة، الاستغاثة، الذبح، النذر، وكلّ نوعٍ تحتاج فيه إلى الدليل.

في بلادنا -في المملكة- العلماء يحرصون في تدريس توحيد العبادة على كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- فهل معنى ذلك ألا نتلقَّى العلم على كتب غيره؟

لا، بإمكان أن تتلقى العلم من كتب أخرى، فهناك -ولله الحمد- العديد من العلماء الذين كتبوا في الاعتقاد من خارج هذه البلاد، ومن خارج علمائها، فقد كتب في ذلك العلماء في مصر، وفي المغرب، وفي جميع العالم، وهم على مذهب أهل السنة والجماعة.

لكنني سأذكر كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لسببٍ: وهو أنَّ طالب العلم إذا أراد أن يبتدئ في الطلب فإنَّه يحتاج إلى عددٍ جيدٍ من الشُّروح حتى يستفيد، فأكثر الشروح العلمية للمُبتدئين في التَّوحيد هي شروح كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله.

كيف تتدرج؟

أول ما تبدأ بكتاب "الأصول الثلاثة"، أو "ثلاثة الأصول"، فتحفظ هذا الكتاب، وهو من أنفس الكتب؛ لأنَّه جمع الأصول التي يُسأل عنها الإنسانُ في حياته الدنيا وفي البَرْزَخ ويوم القيامة: مَن ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ بطريقةٍ سهلةٍ ومختصرةٍ، وبكلماتٍ بسيطةٍ يستطيع الطالبُ أن يحفظها ويستوعبها.

و"الأصول الثلاثة" طبعًا لها عدَّة شروح، من شروحها: شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- وشرح الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى.

ثم كتاب "القواعد الأربع"، وفيها ذكر المؤلف -رحمه الله- أربع قواعد مهمة، من المناسب جدًّا دراستها بعد "الأصول الثلاثة" حتى تكتمل لك الصورة.

بعدها يبدأ طالب العلم بكتاب "التَّوحيد"، وكتاب "التَّوحيد" يتميز عن غيره بأنَّه ليس فيه كلامٌ للبشر، فكله قال الله وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيُربِّي لدى طالب العلم أن أيَّ أمرٍ يقوله أو يفعله لابُدَّ أن يستدلَّ عليه بالقرآن والسنة، وطالب العلم بحاجةٍ في بداية الطلب إلى أن يُعزَّزَ فيه هذا الأمر، وهو أن قيمته العلمية إنما تكون بقدر استدلاله بكتاب الله وبسُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم.

وكتاب "التَّوحيد" له شروحٌ عديدةٌ، من هذه الشروح: شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وشرح التَّمهيد شرح كتاب التَّوحيد للشيخ صالح آل الشيخ، وشرح كتاب التَّوحيد أو تعليقات على كتاب التَّوحيد، أو كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التَّوحيد" للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، و"تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التَّوحيد" للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ.

وهناك كتبٌ كثيرةٌ لكنَّها تنقل من هذه الكتب الأربعة التي ذكرناها.

يلي ذلك: كتاب "كشف الشُّبهات"، ما الميزة؟

الآن طالب العلم أصَّل نفسه في توحيد العبادة تأصيلًا علميًّا من خلال هذه الكتب، وحينما تُؤصِّل نفسك في توحيد العبادة تحتاج أيضًا إلى سلاحٍ تردُّ به على الأعداء الذين ينقضون هذا التَّوحيد، فأتى الشيخ -رحمه الله- فألَّف كتابه ورسالته النفيسة وهو كتاب "كشف الشُّبهات"، فجعل لكلِّ شخصٍ يُلقي عليك شبهةً في التَّوحيد جوابين: إجمالي، وتفصيلي، وهذا الكتاب من أجمل الكتب ومن أيسرها، وأيضًا هناك شرح للشيخ محمد بن عثيمين له، وكذلك شرح مسموع للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ.

بعد ذلك يتوسَّع طالبُ العلم في توحيد العبادة، ويتوسع من خلال قراءته في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وأيضًا كتب ابن القيم -رحمه الله.

هذا التقسيم يتعلَّق بتوحيد العبادة.

هل هناك سؤالٌ في هذا التَّوحيد؟ تفضل.

{هل المقصود بتعلُّم التَّوحيد هو تعلُّم الإيمان؟}

سيأتي الآن.

طيب، التَّوحيد الآخر: الاعتقاد، كتب الاعتقاد يدخل فيها الإيمان والإسلام وأركانه، والإحسان وأركانه، وما يتعلق بتفاصيل الإيمان.

وكتب الاعتقاد يبتدئ الطالبُ فيها بكتاب "لُمعة الاعتقاد"، وكتاب "لُمعة الاعتقاد" لابن قدامة -رحمه الله- وهناك بعض المسائل التي نبَّه عليها العلماء في هذا الكتاب، لكنَّها لا تُقلِّل من قيمة هذا الكتاب.

"لُمعة الاعتقاد" له شروحٌ، من أجملها ومن أنفسها: شرح الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- شرح لُمعة الاعتقاد، وأيضًا شيخنا الشيخ عبد الله بن جبرين له شرح على لمعة الاعتقاد.

يلي هذا الكتاب: كتاب "العقيدة الواسطية"، و"العقيدة الواسطية" تُربِّي فيك ما يُربِّيه فيك كتاب "التَّوحيد"، فتجد فيها الاستدلال على الأسماء والصفات؛ فكلُّ صفةٍ واسمٍ يريده لله -عز وجل- يأتي بالدليل من القرآن والسُّنة عليه.

وأيضًا هذا الكتاب له عدة شروح، من أجملها شرح الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- وهناك شرح أيضًا للشيخ صالح آل الشيخ مطبوع.

بعد "العقيدة الواسطية" يحتاج الطالب إلى أن يتوسَّع بشكلٍ أكبر في مسائل الاعتقاد من خلال متن "العقيدة الطَّحاوية"، و"العقيدة الطَّحاوية" للإمام أبي جعفر الورَّاق الطَّحاوي -رحمه الله- ومن أنفس شروحها: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، وقد طُبِعَ في مجلدين، وقد أكثر من الاستدلال فيها عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وعن الإمام ابن القيم.

بعد هذا الكتاب ينتقل طالب العلم فيما بعد إلى كتاب "الحَمَويَّة"، وكتاب "الحموية" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ويأخذ معها "فتح ربِّ البرية بتلخيص الحموية" للشيخ ابن عثيمين، وكذلك شرح مسموع للشيخ صالح آل الشيخ.

بعدها ينتقل الطالبُ إلى "التَّدمريَّة"، وهذا من الكتب العظيمة التي ردَّ فيها الشيخ -رحمه الله- على أهل الكلام بسبع أدلةٍ على من أثبت بعض الصِّفات وأنكر بعض الصفات، وأتى بسبع أدلةٍ منها: القول في الذَّات كالقول في الصِّفات، والقول في الصِّفات كالقول في الصِّفات الأخرى، وغيرها من الأدلة التي استعرضها -رحمه الله تعالى.

بعد هذا يكون طالبُ العلم قد تأسَّس وتأصَّل تأصيلًا علميًّا قويًّا في الاعتقاد.

ثم يبدأ بعد ذلك بالتَّوسع بقراءة كتاب "التَّوحيد" من صحيح البخاري، وكتاب "الإيمان" من صحيح البخاري، وأبواب الاعتقاد من السُّنن، ويقرأ كتاب "الإبانة" لابن بطَّة -رحمه الله- وكتاب اللَّالَكَائِي في أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة، ويبدأ يتوسَّع بشكلٍ كبيرٍ.

بعد ذلك أيضًا يتوسع في الحديث عن الفِرَق، وهناك العديد من الكتب التي تحدَّثت عن الفِرَق، مثل "الفَرْق بين الفِرَق" للبغدادي، و"أصول الفِرَق"، وغيرهما.

هذا هو التَّدرج السليم والصَّحيح لطالب العلم فيما يتعلق بتوحيد العبادة، وكذلك فيما يتعلَّق بالاعتقاد بشكلٍ عامٍّ، ويستطيع الطالبُ من خلالها -بإذن الله سبحانه وتعالى- أن يستوعب العديدَ من المسائل.

لماذا قدمنا علم العقيدة؟ لأنَّه الأهم، وشرف كلِّ علمٍ بمُتعلَّقه، وعلم الاعتقاد يتعلَّق بالله -جل وعلا- ولذلك فإنَّ أول ما يُطلب هو علم الاعتقاد.

بعد ذلك يأتي علم الفقه، والفقه من أشرف العلوم، وإذا أردت أن تعرف شرف أيّ علمٍ فانظر إلى ثمرته، فإذا نظرت إلى ثمرة علم الفقه وجدت أنَّه لا تُقارنه ثمرة، وكما يقول ابن الجوزي -وكان مُتعَصِّبًا للفقه رحمه الله: "إذا أردتَ أن تعرف قيمة الفقيه، فانظر إلى قيمة سيبويه، وانظر إلى قيمة الأصمعي، وانظر إلى قيمة أهل البلاغة، ثم انظر إلى قيمة الأئمَّة الأربعة". أئمَّة المذاهب الأربعة: الإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام أحمد -رحمهم الله- وطبعًا هذا لا يُقلل من الآخرين، فالناس دائمًا بحاجةٍ إلى أهل الفقه، وأهل العلم بالحلال والحرام.

يقول ابن الجوزي: "إذا كان لديك سعة من الزمن واتِّساع فليتسع للفقه"، وأكثر حاجات الناس هي للمسائل الفقهية.

كيف يكون التَّدرج في علم الفقه؟

أولًا: هناك قضية في غاية الأهمية، وهي: هل يتمَذْهَب الطالبُ أو يأخذ الفقهَ مباشرةً من فقه الأحكام؟

الذي أراه -والله أعلم- بعد استعراضي لحياة كثيرٍ من العلماء من الفقهاء ومن المُحدِّثين، وجدتُ أنَّ كلَّ واحدٍ منهم انطلق من مذهبٍ، وغالبًا ينطلق من المذهب الذي عاش في بيئته، فابن حجر -رحمه الله- كان شافعيًّا، والبدر العيني كان حنفيًّا، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان حنبليًّا، فمن الطرق المهمة لضبط علم الفقه هو أن تتلقى الفقه على مذهبٍ مُعينٍ.

والشيخ ابن باز -رحمه الله- كان من المُحدِّثين، وكان اهتمامه في آخر حياته بالحديث، لكنَّه في بداية حياته درس "زاد المُستقنع"، ودرس كتب الفقه، فلما أحكمها في آخر حياته انشغل بالحديث -رحمه الله تعالى.

إذن أول الخطوات في دراسة علم الفقه: أن تتمَذْهَب: فحدِّد لك مذهبًا، وتحديد المذهب لا يعني التَّعصب، ولا يعني التَّقليد؛ ولكن ميزة أن تكون على مذهبٍ: أن تكون عندك أصولٌ تنطلق منها في معرفة الأحكام، وإذا أتت النَّوازل فإن الفقيه قادرٌ -بإذن الله عز وجل- على أن يربط هذه النوازل بأوائل العلوم التي تحدَّث عنها العلماء في كتب الفقه.

في المذهب الحنبلي: اعتاد طلبة العلم أن يبتدئوا بأحد كتابين: إمَّا كتاب "عمدة الفقه" لابن قُدامة، وهو من أسهل الكتب وأبسطها وأيسرها، وقد ألَّفه ابنُ قُدامة -رحمه الله- بطريقةٍ ليس فيها تكلُّفٌ، ولأهمية هذا الكتاب شرحه شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وطُبعت بعض الأبواب التي شرحها -رحمه الله- في هذا الكتاب.

أو يبتدئ بـ"زاد المُستقنع" للإمام الحِجَّاوي -رحمه الله- وهذا الكتاب له شروحٌ كثيرةٌ، ومن أميز شروحه: "الرَّوض المُرْبِع"، ومن أميز ما يُميز "الروض المُرْبِع": الحاشية التي كتبها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم -رحمه الله تعالى- وأسماها "حاشية الرَّوض المُرْبِع" في سبع مجلدات، وهي من أهم الكتب، وفيها تحقيقات علمية تُظهِر دقَّة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم -رحمه الله- في التَّصنيف والتَّأليف -رحمه الله عز وجل رحمةً واسعةً.

أيضًا من شروح هذا الكتاب "زاد المستقنع": "الممتع شرح زاد المُستقنع" للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، وهذا الشرح الآن مطبوع في عدَّة مجلدات.

لكن من المهم جدًّا سواء في علم الاعتقاد أو في علم الفقه: ألا تقتصر على الكتب المشروحة؛ بل احرص على أن تلتقي بالعلماء، فإن لم يتيسر لك اللِّقاء بهم؛ فاحرص حرصًا شديدًا على أن تستمع إلى أشرطتهم، وأعتقد أنَّ العلم لم يتيسر للناس في زمانٍ كما تيسر في زماننا، فالعلم موجودٌ للناس جميعًا، ولكن يحتاج مَن يجد ويجتهد حتى ينال في العلم غايته.

ثم يبدأ التَّدرج بعد ذلك في المذهب الحنبلي، فيبدأ بكتاب "المقنع" -كما تقدم- ثم "الكافي"، ثم كتاب "المُغني" لابن قُدامة -رحمه الله- وكتاب "المغني" لابن قدامة من أنفس الكتب، يقول العز ابن عبد السلام: "لم تطب ليَ الفُتيا حتى قرأتُ "المغني" لابن قُدامة"، وبالفعل حينما تقرأ هذا الكتاب وتقرأ تحقيقات الإمام، وذكره للأدلة والنقل عن العلماء الآخرين والمذاهب الأخرى؛ تجد دقَّةً عاليةً منه -رحمه الله تعالى- وهو الذي أفنى حياته في تدريس علم الفقه.

هذا ما يتعلَّق بالمذهب الحنبلي.

طيب، الذي يريد أن يتلقَّى العلم على المذهب الحنفي نقول: يبدأ بكتاب "الكتاب" للشيخ الميداني، ثم "بداية المبتدئ"، ثم "بدائع الصنائع"، وإذا أراد أن يتوسع بعد ذلك فعليه بكتاب "المبسوط" في الفقه للإمام السَّرخسي -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.

أمَّا في الفقه الشافعي: فيبدأ بكتاب "متن المُهَذَّب" للشِّيرازي، أو "متن أبي شُجاع"، ثم بعد ذلك بـ"منهاج الطالبين" للإمام النووي -رحمه الله تعالى- ثم بعد ذلك يتوسع في "المجموع شرح المُهَذَّب" وغيره.

وفي الفقه المالكي: يبدأ الطالبُ بكتاب "مختصر خليل"، ثم ينظر في الشروح التي استوفت هذا الكتاب حتى يصل إلى "حاشية الدُّسوقي على الشرح الكبير" للإمام الكبير ابن عرفة المالكي -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.

هذا باختصارٍ، وإلا فهناك تفاصيل أكثر، لكن هذا باختصارٍ.

نحن الآن تحدَّثنا عن كيفية التَّدرج في علم الفقه، وأجبنا على سؤال: كيف أدرس الفقه دراسةً صحيحةً تضمن لي ألا يكون هناك تقليدٌ ولا تعصُّبٌ؟ لأننا ضد التقليد وضد التَّعصُّب، وقد حدث في تاريخ الإسلام في مرحلةٍ من المراحل هنا في بلاد الحرمين قبل توحيد الملك عبد العزيز للمملكة أن كان في مكة أربعة محاريب، فكان هناك مِحْرَابٌ للإمام الشافعي، ومِحْرَابٌ للحنفي، ومِحْرَابٌ للمالكي، ومِحْرَابٌ للحنبلي، فكان كلُّ إنسانٍ يذهب إلى المِحْرَاب الذي يتَّبعه في بلده، فجمعهم الملك -رحمه الله- على إمامٍ واحدٍ.

وهناك أحداثٌ كثيرةٌ في تاريخ الإسلام، فأحد الأحناف يقول: "إذا رأيتم قول أبي حنيفة يُخالف آيةً أو حديثًا، فالآية قد تكون منسوخةً، والحديث قد يكون ضعيفًا". فالأصل عندهم قول الإمام، مع أنَّ الإمام -رحمه الله تعالى- والأئمَّة من قبله قالوا: "إذا رأيتم قولنا يُخالِف كلام الله وكلام رسوله فارموا بقولنا عرض الحائط".

وأيضًا من الأمور التي حدثت: أنَّ أحد العلماء سُئِلَ: هل يجوز للشافعي أن يُزوِّج ابنته من شابٍّ حنفي أو لا؟

وطبعًا هذا التَّعصب المَقِيت لا ندعو إليه ولا نُريده، إنَّما التَّمَذْهُب الذي ندعو إليه من أجل أن يضبط طالبُ العلم أصولَ العلم الذي يُريد، وسيكون له أثرٌ كبيرٌ في حياته فيما بعد.

طيب، حددت المذهب، وحددت الكتاب، كيف تقرأ؟

أولًا: إذا قرأت المتن فاقرأه جملةً واحدةً حتى تستوعب المرادَ منه؛ لأنَّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ولا تستطيع أن تُبين الحكمَ حتى تتصور حقيقة هذا الأمر.

طبعًا أنا لستُ مع التَّفصيلات الطويلة والوقوف مع الألف والباء والتاء إلا في الرموز التي قد يضعها، فمثلًا في "زاد المُستقنع" إذا قال: "ولو" فهي إشارةٌ إلى الخلاف ونحو ذلك.

أمَّا التَّفصيل الزَّائد والوقوف الكثير مع المتون؛ فإنَّ هذا لا شكَّ أنَّه مضيعةٌ للوقت ولا فائدةَ منه، فأحيانًا بعض العلماء يشرح في كتاب من كتب العقيدة، فالمؤلف يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم" فيأخذ في تفسير: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فيأخذ ذلك منه صفحات كثيرة حتى يملّ الطلابُ من هذا، وليس هذا هو المقصود من تأليف الكتاب، فقد يكون هذا الأمر عندما تُفسِّر القرآن الكريم، فتأخذ تفاصيل أكبر، لكن المقصود من تأليف الكتاب أمرٌ آخر، والتدريس لا شكَّ أنَّه فنٌّ.

أيضًا من الأمور التي تُراعى في الفقه: أن تأخذ كلَّ بابٍ على حدة، فلا ينفع التَّنقل بين الأبواب: (كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب الصيام)، لا ينفع التَّنقل بينها حتى تُحْكِم ما قبلها.

الأمر الثالث: أن تعرف المذهبَ بدليله، أي تقول: والله المذهب الحنبلي كذا ودليله كذا، والمذهب الحنفي كذا ودليله كذا، والشافعي والمالكي كذلك. فتعرف الحكمَ بدليله في المذهب، فإن كان المذهبُ راجحًا فتكتفي بذلك، وإن كان مرجُوحًا فتعرف المذهب بدليله، ثم تقول: والراجح كذا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا، لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الشخص الوحيد الذي يجب أن نتعصَّب لأجله، وهذا يجمع بين الأمرين، فأخذنا بالحديث ولكننا أيضًا لم نُهمِل جانب الفقه.

أيضًا من الأمور التي يُراعيها طالبُ العلم في دراسته الفقهيَّة: أن يحرص على معرفة أقوال العلماء المعاصرين في المسائل التي يتلقَّاها، وأن يقرأ في الفتاوى كثيرًا، ما الفائدة؟

الفتاوى هي تطبيقٌ عمليٌّ للفقه، فأنت إذا أتيت إلى كتب العلماء المعاصرين تجد أن كتبهم أيضًا قد قُسِّمت بحسب التقسيم الفقهي: (كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب البيوع، الأسرة، الحدود، الجنايات) فهي مُقسَّمةٌ على أبواب الفقه، وهذا الفقه يكون له أثرٌ كبيرٌ في حياتك إذا كان له تطبيقٌ عمليٌّ.

أين تجد التَّطبيق العملي؟

تجده من خلال كتب الفتاوى، وخاصَّة إذا استطعت أن تُحْكِم قراءة السؤال، وتُحْكِمَ قراءة الجواب في هذه المسألة.

هناك مسألةٌ قد تكون خارج الموضوع، لكن أُحب أن أُشير إليها: بعض الناس لا يكون لديه علمٌ ويُفتي للناس من خلال قراءته لكتب الفتاوى، وهنا أنا أُحذِّر؛ لأنَّ كتب الفتاوى تُنزِل الجوابَ على السؤال، فأنت إذا لم تستوعب السؤالَ المكتوب فقد تكون إجابتك للآخرين خاطئةً، وأنت لستَ مُكلَّفًا إلا بما تعرف، فلا يُعرِّض الإنسانُ نفسه للفُتيا وهو لم يُحْكِم أصولَ الفقه.

هذا باختصارٍ الحديث عن التَّدرج وطريقة دراسة علم الفقه.

كذلك من الأمور المُهمة في علم الفقه: علمٌ أسماه الإمامُ القرافي في كتاب "الذَّخيرة" علم الاستشكال، ما معنى علم الاستشكال؟

هو أن تستشكل أمرًا في الآية التي قرأتها، فالله -عز وجل- يقول هنا كذا، وفي الآية الأخرى يقول كذا، كيف أستطيع أن أجمع؟ وهنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كذا، وهنا يقول كذا.

هذا علم الاستشكال، وهو من العلوم العظيمة لطالب العلم؛ لأنَّ معناه أنَّه يُفكِّر، وإذا كان طالبُ العلم دائمًا يستشكل ويُفكِّر فمعناه أنَّ ذهنه دائمًا مشغولٌ بالعلم، وهذا في حدِّ ذاته عبادةٌ من العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ إلى الله -عز وجل.

ننتقل إلى العلم الثالث: علم الحديث:

وهناك قضية مُهمَّة هي التي جعلتني أتحدَّث قبل قليلٍ عن التَّمذهب، فقد وقعت في تاريخنا معركةٌ عنيفةٌ ذكرها ابنُ عساكر -رحمه الله- بين الفُقهاء والمُحدِّثين، فالفقهاء يَلْمِزُون المُحدِّثين بأنَّهم لا يعرفون فقه الأحكام، وأنَّهم زَوَامِل يحملون هذا العلم ولا يفقهون ما فيه من معانٍ، يقول: هو يعرف أنَّ هذا الحديثَ صحيحٌ أو ضعيف؛ لكن لا يعرف ما في هذا الحديث.

وأهل الحديث يقولون عن الفقهاء: إنَّهم لا يُفرِّقون بين الحديث الصَّحيح والضَّعيف.

وحدثت نفرةٌ شديدةٌ -كما يقول الخطيب البغدادي- بين الفقهاء والمُحدِّثين، حتى إنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- اتُّهِمَ بأنَّه لا يُجيد علمَ الفقه، وإنَّما يُجيد علم الحديث، ولا شكَّ أنَّ هذا من مداخل الشيطان على الإنسان، ومن الفتن التي يُوقِعها الشيطانُ بين طلبة العلم، فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.

فعلم الحديث هو أشرف العلوم وأجلّها، ولا يمكن لعالم الفقه أن يستدلَّ بالفقه دون الرجوع إلى سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- ودون معرفة صحَّة الحديث من ضعفه.

كيف تتدرج في علم الحديث؟

كتب الحديث كثيرةٌ، وهي على قسمين:

- كتب عامَّة.

- وكتب أحكام.

أولًا الكتب العامَّة: من أهم ما يبتدئ به طالبُ العلم كتاب "الأربعين النَّووية" للإمام النووي -رحمه الله- وهذه الأربعين جمع فيها الإمامُ -رحمه الله- الأحاديث التي عليها مدار الدين، وأتى ابنُ رجبٍ -رحمه الله- في "جامع العلوم والحِكَم" فأوصلها إلى خمسين حديثًا، وشرحها في هذا الشرح النافع الماتع -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.

ثم يتدرج فيما بعد من خلال كتاب "رياض الصَّالحين"، أو كتاب "التَّرغيب والتَّرهيب"، أو غيرهما.

ثانيًا أحاديث الأحكام: من أهم كتب أحاديث الأحكام التي لا يستغني طالبُ العلم عن حفظها كتاب "عمدة الأحكام"، وهذا الكتاب جمع فيه ابنُ قُدامة -رحمه الله- ما صحَّ من الأحاديث، وما اتَّفق عليه الشَّيخان البخاري ومسلم، إلا بعض الأحاديث التي انفرد بها أحدُهما، لكن كلّ ما في الكتاب من أحاديث هي من أحاديث البخاري ومسلم، ومن الأحاديث الصَّحيحة، وقسَّمها تقسيمًا جميلًا على أبواب الفقه.

ومن أبسط ومن أجمل شروحه: "تيسير العلام شرح عمدة الأحكام" وهو كتابٌ في مُجلدين للشيخ ابن بسَّام -رحمه الله- وهناك شرح مسموع للشيخ محمد المختار الشَّنقيطي العالم المعروف المعاصر، وهذا تقريبًا في مئة شريطٍ، وهو من أنفس الشروح التي استمعتُ إليها.

بعد ذلك ينتقل إلى "بلوغ المرام" لابن حجر -رحمه الله- وفي "بلوغ المرام" تبدأ الصناعة الحديثية تنتقل مع طالب العلم؛ لأنَّ الأحاديث في "بلوغ المرام" من البخاري ومن الكتب ومن السُّنن ومن مسند الإمام أحمد، فهناك تنوعٌ في الأحاديث التي يُوردها الإمامُ ابن حجر -رحمه الله- وهنا يبدأ أيضًا فقه الخلاف العالي؛ لأنَّك هنا تأخذ المسألة وتعرف دليلها، وتأخذ الحديثَ وتستنبط منه الأحكام، ثم مع هذه الأحكام تُورد الأدلة والخلاف بين العلماء.

ولـ"بلوغ المرام" شروحٌ مُهمةٌ: أهمها شرح الصَّنعاني -رحمه الله- وهو "سُبُل السَّلام شرح بلوغ المرام" في أربعة مجلدات.

وإذا كان هناك وقتٌ لطالب العلم وأراد أن يستزيد فليقرأ كتاب "المُنْتَقَى" للمجد ابن تيمية، وهذا هو جدّ شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وكان يُقال عن هذا الرجل أنَّه من شدّة عنايته بالوقت كان إذا دخل الخلاءَ يأمر أحدًا أن يقرأ وهو يسمع؛ حتى لا يضع وقته -رحمه الله.

والشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في آخر حياته اهتم كثيرًا بهذا الكتاب، وله عدَّة شروح عليه أُذِيعت في إذاعة القرآن الكريم، وأظنّ أنَّها مُتوفرة عبر شبكة الإنترنت.

وقد شرح "مُنتقى الأخبار" الإمامُ الشَّوكاني في كتاب "نيل الأوطار".

العلم الرابع هو: علم التفسير:

وعلم التفسير لا شكَّ في شرفه، ولا شكَّ في فضله ومنزلته، فهو يتعلَّق بكلام الله -سبحانه وتعالى- وللأسف عناية العلماء المُعاصرين في العالم الإسلامي بالتفسير في الفترة الأخيرة ضعيفةٌ، فهل يعود ذلك لانشغالهم بالعلوم الأخرى؟ أو يعود لورعهم وخوفهم من الله؟ لأنَّ الإنسان إذا أراد أن يُفسِّر كلام البشر فإنَّه يقلق، فكيف بتفسير كلام الله -سبحانه وتعالى؟ وتقول للناس: المراد من قول الله كذا وكذا؟!

إذن في علم التفسير مسؤولية عظيمة على الإنسان، لكن نحن بحاجة ماسَّة إلى إحياء هذا العلم بمساجدنا، وفي جامعاتنا، وهناك -الحمد لله- في الفترة الأخيرة بعض الأنشطة التي يقوم بها المُهتمون بهذا العلم.

كيف تعرف تفسير القرآن؟

نبدأ بمعرفة طريقة التفسير قبل أن نذكر لكم التَّدرج، فدائمًا إذا قرأت آيةً من كلام الله -سبحانه وتعالى- فحاول أن تُفسِّرها في نفسك، فتقول: والله أعتقد أنَّ معنى الآية كذا وكذا وكذا. ثم تعود إلى كتب التفسير، فإن كان التَّفسير الذي عرضته مُطابقًا فهذا يرسُخ في ذهنك. وإن كان ما ذكرته خطأً فإنَّ تصحيح الخطأ أشدّ رُسُوخًا في الذهن.

طيب، قد يقول قائلٌ: أبو بكر -رضي الله عنه- قال: "أيّ أرضٍ تُقلُّني، وأيّ سماءٍ تُظلني إذا قلتُ في كلام الله بغير علمٍ!".

نقول: أنت لا تُفتي هنا، فأنت تتعلم وتقولها في نفسك من أجل أن تصل إلى النتيجة التي تريدها.

كيف تتدرج في علم التفسير؟

أهم الأمور في علم التفسير للمُبتدئ: هو علم غريب القرآن، وهو أن تعرف الكلمة ومعناها، وللأسف الآن تجد كثيرًا من الناس يقول لك: يا شيخ، أنا لا أخشع في الصلاة! فمن أسباب عدم خشوعه عدم فهمه لكلام الله –عز وجل.

طيب، نحن نقرأ كلنا: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات: 1- 5]، ما معنى هذه الآيات؟ إذا لم نستطع أن نفهم معناها؛ فلن يكون هناك خشوعٌ في الصلاة.

أيضًا من كتب غريب القرآن: "تفسير الجلالين"، وتحرص أن تأخذ معه تعليقات الشيخ عبد الرزاق عفيفي، أو الشيخ محمد بن الخميس -حفظه الله- لأنَّ فيها تصحيحًا لبعض الأخطاء في الجانب العقدي.

كذلك من الكتب المهمة في التفسير: كتاب "المصباح المنير تهذيب تفسير ابن كثير"، وكتاب "زُبدة التفسير من فتح القدير" للأشقر، وغيرهما.

ثم بعد ذلك يبدأ الطالبُ في التوسع، فهناك التفسير بالرأي، وهناك التفسير بالمأثور، وهناك التفاسير التي تهتم بالإعراب، وهناك التفاسير التي تهتم بالبلاغة، فيبدأ طالبُ العلم بالتَّوسُّع في طلب العلم.

طبعًا هذا هو التدرج في أربعة علوم، وكنت أتوقع أنني سأتحدث في أكثر من ذلك، فكنت أنوي أن أتحدث عن التَّدرج في علوم الآلة، ثم بعد ذلك نذكر مجموعةً من القواعد، لكن الوقت داهمنا، فلعلنا نكتفي بهذه المسائل التي قدَّمناها لكم، ونُجيب على أسئلتكم وأسئلة الإخوة الموجودين معنا في موقع الأكاديمية.

{هل الأفضل عند عدم وجود المشايخ القراءة من الكتب أو التتلمذ على الصَّوتيات والكتب؟}

لا، الأفضل التتلمذ على الصَّوتيات والكتب، ثم بعد ذلك القراءة.

{معظم المسلمين اليوم تربوا على أشياء مُخالفة لعقيدة أهل السُّنة، وإذا حاول الإنسانُ أن يُخبرهم وبَّخوه، فما الأشياء التي تُعين الإنسانَ على الصبر؟}

أن تعلم أنَّك على طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبي -عليه الصلاة والسلام- أفضل عند الله منا، وأكثر الناس حكمةً، وأكثر الناس علمًا، ومع ذلك هناك مَن ردَّ دعوته، وهناك مَن آذاه وضربه، وأخرجه من أرضه، وأدمى عقبه الطَّاهر -عليه أفضل الصلاة والسلام.

فإذا أراد طالبُ العلم أن يدعو إلى الله؛ فعليه أن يصبر ويحتسب، وكانت هذه من القواعد التي لم نتمكن من الحديث عنها.

أيضًا نود أن نجعل في أذهاننا أنَّ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يأتون يوم القيامة، فيأتي النبيُّ وليس معه أحدٌ، ويأتي النبيُّ ومعه الرجل والرجلان، قال تعالى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]، فعليك أن تُبلِّغ هذا الدين، فإن هدى الله -عز وجل- الناسَ وأقبلوا فالحمد الله، وإلا فقد برأت ذِمَّتُك.

{ما رأيكم فيمَن يدرس الفقه المُقارن؟}

لا بأس، لكن ليس من الآن، فبعض الناس يدرس الفقهَ المُقارن لقضيةٍ أخرى، وهي أن يأخذ من الأحكام ما يُناسبه، والفقه المُقارن هو مرحلةٌ مُتقدمةٌ، وذكرنا أنَّ الكتب ثلاثة أقسام:

- مختصرة.

- ومتوسطة.

- ومُطوَّلة.

فإذا أتى الحديث عن المُطوَّلات يكون الحديث عن الفقه المقارن.

{بالنسبة للعقائد: حين أبدأ بكتاب "الأصول الثلاثة"، وبعده "القواعد الأربع"، وبعده كتاب "التَّوحيد"، هل أبدأ فيها بحفظ المتن أولًا؟}

بالأمرين جميعًا يا شيخ، تبدأ بحفظ المتن مع قراءته على المشايخ.

{هل يجب عليَّ حفظ المتن؟}.

لا، هو على حسب قُدرة الإنسان، فعندنا قاعدةٌ من القواعد المهمة، وهي قاعدة الحفظ؛ لأنَّ الحفظ من الأمور المُفيدة جدًّا لطالب العلم، فإذا لم يكن لدى طالب العلم قُدرة على الحفظ فلا بأس، فالناس تختلف، فبعض الناس لديه قُدرة جيدة في الحفظ والتواصل فيه، وبعض الناس ليس لديه هذه القُدرة، فلا يُلزم بهذا الأمر، فإذا وجد طالبُ العلم أنَّ لديه القدرة على الحفظ فليحفظ، فنحن أيام الطلب كنا نحفظ "الأصول الثلاثة"، و"القواعد الأربع"، وكتاب "التَّوحيد"، وكان تواصلنا مع المشايخ يُسهِّل علينا هذه المُهمة، وهي مهمة الحفظ.

فإذا لم تتمكن فلا أقلّ من أن تحفظ النُّصوص التي تستدلّ بها على المسائل في هذا الكتاب.

{انتشر عندنا في العبادات المذهب الشافعي، ما التَّدرج فيه؟}

تحدَّثنا عن التدرج في المذهب الشافعي.

{هل النظر في الاختلافات في الفتاوى الفقهية والبحث فيها ومحاولة التَّرجيح مضيعةٌ للوقت وخطأ؟}

لا، ليست مضيعةً للوقت، وهو أمرٌ مُهمٌّ؛ لأنَّ طالب العلم يحتاج إلى أن يجمع الأدلة ويجمع النُّصوص، فقد ذكرنا من القواعد علوم الوسائل، كعلم الأصول، وعلم القواعد الفقهية، وعلم مصطلح الحديث، فهذه تُعِين طالبَ العلم على معرفة الراجح والمرجوح، لكن أيضًا هذه مرحلةُ مُتقدمةُ وليست مُبكرةً.

{بالنسبة للتدرج في العلوم الشرعية نفسها: هل أبدأ بالقرآن، ثم علم الاعتقاد، ثم يليه علم الفقه والحديث وهكذا؟ وماذا عن علوم الوسائل؟ وماذا يفعل كبار السن؛ لأنَّ طلب العلم هكذا سيأخذ عمرنا كله؟}

لا، لن يأخذ العمر، فما ذكرته لكم يستطيع الإنسانُ أن ينتهي منه في سنتين أو ثلاث، فالقضية بسيطةٌ، ولكن تحتاج إلى جدٍّ ومُثابرةٍ حتى تصل.

وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعلُّمِ سَاعَــةً *** تَجَرَّعَ كَأسَ الجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ

فأول ما يبتدئ به طالبُ العلم هو القرآن الكريم، فالشافعي -رحمه الله- يقول: "مَن حفظ القرآن عَظُمت قيمته".

وكان العلماء -رحمهم الله- إذا رأوا طالبَ علمٍ لا يحفظ القرآنَ يُخرجونه من الحِلَق، ويقولون: احفظ القرآنَ ثم عُدْ إلينا. لكن إذا لم تكن لدى الإنسان القُدرة على الحفظ فلا يُمنع أيضًا من طلب العلم، وبعد ذلك يبدأ بالاعتقاد، ثم بالفقه، ثم بالحديث، ثم بالتفسير.

طيب، هناك سؤال: هل يُقرَن بين هذه العلوم؟

بعض علماء الشَّناقطة -رحمهم الله- كانوا ينهون عن الاقتران، ويقولون: حدد لكلِّ سنةٍ علمًا. فقل: هذه السَّنة سأتفرغ فيها لعلم العقيدة.

هل معنى ذلك أنَّك لا تقرأ في التفسير والفقه والحديث؟

لا، اقرأ في التفسير وفي الفقه وفي الحديث، لكن التَّأصيل الذي تسعى إليه والذي يأخذ أكبر حيِّزٍ من وقتك هو علم العقيدة.

والسنة التي تليها تبدأ بالعلم الثاني، وهكذا حتى تجد نفسَك بعد عدَّة سنواتٍ قد استطعت أن تحوز علومًا كثيرةً -بإذن الله عز وجل.

{لمَن كتاب "العقيدة الواسطية"؟}

لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى.

{هل تنصح المبتدئ أن يقرأ "حاشية الرَّوض المُرْبِع" لابن قاسم، وكذلك شرح العثيمين -رحمه الله- نظرًا لأنَّ الكتابين ضخام الحجم؟}

نعم هما ضِخَام الحجم، فأنا أنصح المبتدئ أن يبدأ بكتاب "الشرح الممتع"؛ وذلك لأنَّه أيسر وأسهل.

{هل المتون تُحفظ نصًّا؟}

العلماء كانوا يحفظون المتون، وأذكر أنَّ الشيخ عبد الله بن جبرين -رحمه الله- كان يحفظ "زاد المُستقنع" ولا يُخطئ في حرفٍ واحدٍ منه، فيقرأه من أوله إلى آخره كما يقرأ القرآن، والناس تختلف في مقدار وفي سعة حفظها، فالذي لا يستطيع أن يحفظ نقول له: إذا كان هذا الحفظُ يشقّ عليك، فاحفظ فقط القرآن وسُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسائل بأدلتها.

فنحن نضع القواعد العامَّة التي سار عليها العلماءُ، وبقية المسائل تختلف من شخصٍ لآخر.

{ما معنى علوم الآلة؟}

ذكرنا في الدرس الماضي أنَّها هي العلوم الصناعية أو علوم الوسائل، وهي العلوم التي يُتوصل بها إلى فهم علوم الغاية، كأصول الفقه حتى تفهم الفقه، ومصطلح الحديث حتى تستطيع أن تُميز الحديثَ الصَّحيح من الضَّعيف، وأصول التفسير حتى تستطيع أن تستوعب تفسير القرآن، وتعرف كلام العلماء في هذه المسألة.

{يُقال لنا: البداية يجب أن تكون بالقرآن، نرجو التوضيح}.

نعم، يحفظ طالبُ العلم القرآن أولًا.

طيب، بعض الناس لا يستطع أن يحفظه في سنةٍ، فيأخذ منه وقتًا، فنقول له: احفظ القرآن واطلب العلم، أي اجمع بين الأمرين، فحدد وقتًا مُعينًا يوميًّا من بعد صلاة العصر لمدة ساعة لتحفظ فيها عددًا مُعينًا من الآيات حتى تختم القرآنَ، وبقية الوقت تستفيد منه في طلب العلوم الأخرى.

بالمناسبة: قبل قليلٍ كنت أقول لكم: إنَّ العلماء يقولون: اجعل في عامٍ علمًا أو فنًّا. والإمام النووي -رحمه الله- لم يكن يرى هذا، فالإمام النووي كان في المجلس الواحد يحضر درسَ الفقه والعقيدة والمصطلح وغيرها، فكان يجمع بين العلوم.

ما الضابط إذن؟

الضابط هو قُدرة الإنسان على استيعاب هذه العلوم جميعًا، أو عدم قُدرته على استيعابها.

طبعًا الأسئلة كثيرةٌ جدًّا، فأرجو من إخواني أن يعذروني لعدم استطاعتي أن أُجيب عنها.

أسأل الله -عز وجل- بمنِّه وكرمه لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وأن يجعلنا وإيَّاكم من أهل العلم ومُحصِّليه، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة الخير والسَّعادة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

http://islamacademy.net/cats3.php