الحقوق محفوظة لأصحابها

راشد الزهراني
مادة البناء العلمي

لفضيلة الشيخ/ راشد الزهراني

تفريغ الدرس (1)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم بمنِّه وكرمه أن يجعلنا وإيَّاكم ممن إذا أُعطِيَ شكر، وإذا ابتُلِيَ صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنَّ هذه الثلاث عنوان السعادة. اللهم آمين.

في هذا اللقاء وهو الدرس الأول من دروس البناء العلمي، والتي تُقدَّم من خلال هذه الدورة العلمية نتحدث -بإذن الله عز وجل- عن موضوعٍ أعتقد أنَّ كلَّ مَن يروم طلب العلم الشرعي ويقصده لابُدَّ أن يقرأ في هذا الموضوع، ولابُدَّ أن يبني فيه نفسه بناءً علميًّا سليمًا صحيحًا.

ومع كثرة العلوم والمعارف التي ألَّف فيها العلماءُ -فقد ألَّفوا في علم العقيدة، وفي علم التفسير، وفي علم المصطلح، أو ما يُسمى بعلوم الوسائل وعلوم الغاية- نجد أن هناك عناية خاصَّة من العلماء بما يُسمَّى بأدب الطلب أو المنهج العلمي أو البناء العلمي لطالب العلم، وذلك لأنَّ العلماء يحرصون في هذه القواعد وهذه الضوابط على أن يبنوا الطالب بناءً سليمًا، فإن العلوم كثيرةٌ، والكتب عديدةٌ، ويستطيع طالب العلم إذا عرف البناء العلمي وعرف المنهجية في طلب العلم أن يصل إلى العلم في أقرب وقتٍ، وبأسهل طريقٍ.

وأذكر لكم في مقدمة هذه اللِّقاءات قصة حدثت لأحد علماء مصر، وقد أصبح هذا الرجل في يومٍ من الأيام هو المفتي الأكبر في جمهورية مصر العربية.

بدأ هذا العالِم تعليمه منذ الصِّغر، فحفظ القرآن ولم يتجاوز التاسعة من عمره، وكانت عادة العلماء هناك أنهم بعد أن ينتهوا ويفرغوا من حفظ القرآن يتوجهوا إلى دراسة النحو، فبدأ بشرح الآجرومية، والآجرومية لها عدة شروحٍ مختلفة، لكن من أصعب شروحها على الإطلاق شرح الشيخ الكفراوي -رحمه الله- فأول درسٍ يبدأ فيه في هذا الكتاب يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، الباء حرف جر". فبدأ بالإعراب قبل أن يُعلِّم النحو.

حاول هذا الإمام أن يصل إلى العلم عن طريق هذا الكتاب؛ فلم يُفلِح ولم يجد إليه سبيلًا، فذهب إلى والده -وكان مُزارعًا- فقال: أنا أكتفي بدراسة القرآن وحفظه ولا أُريد أن أطلب العلم. فأصر والده على أن يكون ابنه من العلماء، ومع شدة الإصرار هرب الابنُ إلى قريةٍ أخرى، وبدأ يعمل فيها مزارعًا، فكان وهو يحرث الأرض يقرأ القرآنَ، فمرَّ به أحد العلماء فقال له: أراكَ تُكرر أشياء تقرؤها. فقال: أنا أحفظ القرآن. فقال: لماذا لا تتوجه إلى العلم؟ فأخبره بالقصة. قال: قد آتاك الله علمًا وعقلًا، لكن لابُدَّ أن تبدأ بصغار العلم قبل كِباره.

فذهب فتعلم النحو على شرح الشيخ خالد الأزهري، وهو من أبسط وأسهل الشروح في متن الآجرومية؛ حتى أصبح فيما بعد من كبار علماء المسلمين.

يقول أحد المؤرخين -وقد كتب عن هذا العالم: "ولولا أن الله -عز وجل- أراد بهذا العلم خيرًا؛ لكان مثله مثل سائر الفلاحين، يُكتب اسمه في دفتر المواليد، ثم يُكتب بعد ذلك في دفتر الوفيات". لم يتعلم ولم يُعلِّم، فهو أيضًا ليس له دفتر في الحياة -كما ذكر هذا الإمام.

إذن معرفتنا بالبناء العلمي تجعلنا نطلب العلم بطريقةٍ سليمةٍ وصحيحةٍ، ونصل إلى غايتنا وبُغيتنا.

فكم عدد الذين يتخرَّجون من الجامعات الإسلامية في العالم الإسلامي بشكل عامٍّ في أيامنا هذه؟

أعدادٌ كبيرةٌ هائلةٌ، لكننا إذا أردنا أن نبحث عن العلماء في هذه الأعداد الهائلة من الذين يطلبون العلم نجد أنَّ العلماء أعدادهم قليلة، لماذا؟ بسبب المنهجية في طلب العلم، فالذي لا يُوفَّق لسلوك ولطلب العلم بالطريقة السَّليمة الصحيحة لا يستطيع أن يصل إلى غايته.

ما الذي يجعل إمامًا كالإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يتصدر للفُتيا وعمره خمسة عشر عامًا؟

ما الذي يجعل أحد العلماء يُؤلِّف كتابًا أسماه "العلماء الذين لم يبلغوا سن الأشد"، كم سن الأشد؟ أربعون عامًا.

هناك من الناس مَن بزُّوا وبرزوا وتميزوا في العلم وهم لم يبلغوا الأربعين من عمرهم، والسبب هو: المنهجية في طلب العلم التي سلكوها.

فالشيخ حافظ الحَكَمي -رحمه الله تعالى- توفي وعمره 37 عامًا، لكن انظر إلى الإرث العلمي الذي خلَّفه بعد وفاته -رحمه الله- وهو هذه المؤلفات العديدة والمُؤصَّلة تأصيلًا علميًّا، وإن لم يكن فيها إلا كتاب "معارج القبول" لكفى به، ومع ذلك توفي -رحمه الله تعالى- وعمره 37 عامًا.

فالبناء العلمي الذي سنقدمه في هذه اللقاءات يُساعد طالب العلم على أن يرسم له المنهج الصحيح في طلب العلم، فأنت لو أردت أن تقرأ في كتب الفقه مثلًا فهناك العشرات من كتب الفقه، لكن بعضها قد يكون أوعى من بعضٍ، فمعرفتك بالطَّريقة تختصر لك الزمان، وتختصر لك المكان، وأيضًا تكون سائرًا في طلبك للعلم على ما كان عليه العلماء -رحمهم الله تعالى رحمةً واسعةً.

إذن الذي يدفعنا للحديث عن هذا البناء العلمي هو أننا نريد أن نُقدِّم العلم الشرعي لطالب العلم بطريقةٍ سهلةٍ ومُيسرةٍ مع مراعاة الأدب -أدب الطلب- وأيضًا معرفة الطريقة المختصرة حتى يكون طالبُ العلم -بإذن الله عز وجل- في مستقبل أيامه من العلماء، فنجد الآن بعض الناس يقرأ كثيرًا، لكن لا يجد أثرًا لهذه القراءة في حياته، ولا يستطيع أن يتحدث مع الناس بما يقرأه، ولا يستطيع أن يُمارس هذه القراءة واقعًا عمليًّا في حياته.

إذن البناء العلمي يُساعد الطالب أيضًا في كيفية قراءة الكتب بطريقةٍ سليمةٍ وصحيحةٍ.

هذا -بإذن الله عز وجل- ما سنتحدث عنه في هذه اللِّقاءات، ولكن يحسن بنا في مقدمة حديثنا عن البناء العلمي أو التأصيل العلمي لطالب العلم الإجابة على سؤال: كيف أطلب العلم الشرعي؟ فيحسُن بنا في مقدمة هذه اللِّقاءات أن نتحدث عن فضل العلم ومنزلته ومكانته.

الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم تفضَّل على الأنبياء بنِعَمٍ ومِنَنٍ كبيرةٍ، فمن هذه المنن أنَّ الله -عز وجل- تفضل عليهم بأن جعلهم من أهل العلم، قال -عز وجل- عن يعقوب -عليه السلام: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ [يوسف: 68]، وأيضًا يقول -سبحانه وتعالى- عن يوسف: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ [يوسف: 6]، وقال عن داود وسليمان -عليهما السلام: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الحَمْدُ لِله الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15].

والآيات القرآنية التي تتحدث عن العلم وفضله كثيرة، لكنني سأكتفي بإيراد ثلاث آياتٍ منها، مع بيان وجه الاستنباط من هذه الآيات.

يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18].

هذه الآية الكريمة في سورة آل عمران دلَّت على فضل العلماء من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ الله -عز وجل- قَرَن شهادة العلماء في الأرض بشهادته -عز وجل- بنفسه وشهادة ملائكته، ولا شكَّ أنَّ هذا الاقتران يدلُّ على فضلهم ومكانتهم ومنزلتهم.

الوجه الثاني: أنَّ الله -عز وجل- استشهدهم على أعظم مشهودٍ، وهو توحيد الله -سبحانه وتعالى- فقال: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، قال العلماء: فهذا دليلٌ على فضل العلم وفضل أهله ومنزلتهم ومكانتهم.

وقد استنبط الإمامُ ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "مفتاح دار السعادة" وفي "مدارج السالكين" عشرة أوجه من هذه الآية، كلها تدلُّ على فضل العلم ومنزلة أهله ومكانتهم.

الآية الثاني: يقول الله -عز وجل- في سورة البقرة: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 31].

فضَّل الله -عز وجل- آدم وميَّزه على الملائكة، ولما سألوا عن سبب هذا التَّمييز كانت الإجابة: أنَّ الله -عز وجل- علَّم آدم الأسماء كلها، فقال العلماء -رحمهم الله: "وهذا يدلُّ على شرف العلماء ومكانتهم؛ لأنَّ الله -عز وجل- ميَّز أبو الأنبياء آدم -عليه السلام- على الملائكة بالعلم، وشرَّفه به".

أيضًا من الآيات التي تدلُّ على فضل العلم -وأرعوا أسماعكم لهذه الآيات لأنَّها عبارة عن آيتين في سورتين يُبنى بعضهما على الآخر.

يقول الله -عز وجل- في سورة البينة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة 7، 8].

إذن في بداية الآية قال: ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾، ثم قال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.

وقال -سبحانه وتعالى- في سورة فاطر: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

يقول الإمام القرافي -رحمه الله- في كتابه "الذخيرة" -والإمام القرافي من كبار علماء المالكية: "إنَّ مَن خشي الله فهو خير البرية كما في سورة البينة -فمَن خشي الله فهو خير البرية- وكلُّ مَن خشي الله فهو عالم، فينتج عن هاتين المقدمتين النتيجة وهي: أن خير البرية هم العلماء".

إذن هذا أيضًا دليلٌ من الأدلة التي يسوقها العلماء -رحمهم الله تعالى- في بيان فضل العلم ومنزلة أهله.

وقد دلَّت أحاديث كثيرة من سُنَّة النبي -عليه الصلاة والسلام- على فضل العلم، وسنقتصر منها على ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول: رواه الإمامان البخاري ومسلم، فعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

خذ هذا الحديث وقارن بينه وبين قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ».

يقول العلماء: "ولو كانت هناك دعوة لابن عباس أفضل من هذه يدعو له بها النبي -صلى الله عليه وسلم- لدعا له بها، ولكن لأنَّ العلم هو أفضل ما يُدعى به فقد دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُفقهه في الدين ويُعلمه التأويل". وكان ما دعا به النبي -عليه الصلاة والسلام- فقد أصبح ابن عباس حبر الأمة وبحرها -رضي الله عنه وأرضاه.

قال ابن حجر -رحمه الله في "فتح الباري": "ويُؤخذ من هذا الحديث أنَّ علامة إرادة الله -عز وجل- بعبده الخير أن يكون من طلبة العلم، فإذا رأيت طالب العلم يرتاد المساجد لطلب العلم على أيدي العلماء، ويرتاد منازلهم ومجالسهم؛ فهذه علامة على أنَّ الله -عز وجل- أراد به خيرًا".

هل يُؤخذ من هذا مفهوم المخالفة؟

وأعتقد أنَّكم -إن شاء الله- ستدرسون مفهوم المخالفة في أصول الفقه.

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، ومفهوم المخالفة أنَّ مَن لم يُرد الله به خيرًا لا يُفقهه في الدين، وقد ورد في بعض الروايات: «مَنْ لَمْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا لَمْ يُبَالِي بِهِ»، لكن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ضعَّف هذه الزيادة، لكن المعنى صحيح، فعلامة إرادة الله -عز وجل- بعبده الخير أن يسلك طريق العلماء، ويسير على هديهم، ويأخذ بطريقتهم -رحمهم الله تعالى.

الحديث الآخر: هو حديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة: عن أبي الدرداء -رضي الله عنه وأرضاه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِر لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَان فِي جَوفِ المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ علَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمْرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَم يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».

وهذا الحديث الصحيح دلَّ على فضل العلم من خمسة أوجه:

أول هذه الأوجه: أن طلب العلم طريقٌ من الطرق الموصلة إلى الجنة؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في بداية الحديث: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ».

الوجه الآخر: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ»، ما معنى: «تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا»؟

طيب، هذا أحد الأوجه، والإمام ابن القيم -رحمه الله- قال في كتابه "مفتاح دار السعادة" -وهذا من الكتب التي أنصحكم بها، وأنصح إخواننا كذلك بها، فهو من الكتب الجميلة التي تحدث فيها -رحمه الله تعالى- عن فضل العلم ومنزلته، وعن الخير العظيم الذي يجده طالب العلم في حياته، فتحدَّث -رحمه الله- عن العلم وفضله بكلامٍ عظيمٍ يُكتَبُ بماء العيون -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً- فقال: "وهذا الحديث يدلُّ على أنَّ هناك تناسُب وتوافق بين العلماء والملائكة؛ فإنَّ الملائكة من أنصح خلق الله لبني آدم -ولذلك كان جبريل -عليه السلام- هو الملك المُوكَّل بالوحي- وكذلك العلماء، فإنَّهم من أنصح الناس لخلق الله".

قال: «وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ». قال العلماء: معنى «لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا» ما ورد في بعض الأحاديث: «أَنَّ لله مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ، فَإِذَا بَلَغُوا مَجَالِسَ الذِّكْرِ أَنْصَتُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِم: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ». فهذا دليلٌ على فضل حِلَق الذكر، وأنَّ الملائكة تحُفّها، وكما في الحديث الآخر: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَمَا اجْتَمَعَ قَومٌ فِي بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيهِمُ السَّكِينَةَ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ». فهذا أيضًا يدلُّ على فضل أهل العلم ومكانتهم.

وبعض العلماء ذكر معنًى آخر لوضع الملائكة أجنحتها، فقال: أنها تخفض أجنحتها توقيرًا للعالم.

ومنهم مَن قال أنَّها ترفعها بالدعاء للعالم. وسيأتي أيضًا بيان هذا الأمر.

فهذه بعض المعاني التي ذكرها العلماء في هذا الحديث، والإمام الماوردي -رحمه الله- في كتاب "أدب الدنيا والدين" ساق نقولات عديدةً، وكذلك الإمام ابن جماعة -رحمه الله تعالى- في كتابه "تذكرة السامع والمتكلم".

الوجه الثالث: قال: «وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِر لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَان فِي جَوفِ المَاءِ».

المقصود بـ«مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ» الملائكة؛ لأنَّ الله -عز وجل- قال: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيؤْمِنُونَ بِهِ وَيسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: 7]، قال العلماء: وهذا دليلٌ على فضل أهل العلم؛ لأنَّه إذا كان يُنافس في دعاء الرجل الصالح أو مَن يُظنُّ صلاحه كما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أويس بن عامر، وذهب إليه عمر من أجل أن يستغفر له -أن يطلب من الله أن يغفر ذنوبه- قال: فكيف بدعاء واستغفار الملائكة الكرام الكاتبين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون؟!

طيب، قال: «حَتَّى الحِيتَان فِي جَوفِ المَاءِ»، وفي روايةٍ: «حَتَّى النَّمْلَة فِي جُحْرِهَا»، لماذا يستغفرون لأهل العلم؟ مَن يعرف؟

يقول ابنُ جماعة -رحمه الله- في "تذكرة السامع والمتكلم": "لأنَّ العلماء هم الذين يُبَيِّنون ما يحلُّ منها وما يُشرع، ويُبيِّنون الرفقَ بها والإحسانَ إليها؛ فلذلك تستغفر لهم هذه الحيوانات البهيمة كما ورد في قول النبي -صلى الله عليه وسلم".

الوجه الرابع الذي دلَّ عليه هذا الحديث: قال: «وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ».

يقول ابن القيم -رحمه الله: "وهذا دليلٌ على فضل العلم؛ لأنَّ الله شبَّه العلم بالنور". وبالتالي فإنَّ الجهل يكون ظلامًا، وهذا دليلٌ على فضل العلم.

طيب، سؤال: أيهما أشد ضوءًا: الشمس أم القمر؟

الشمس، فلماذا لم يُشبه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- العلماء بالشمس وعدل إلى تشبيههم بالقمر؟

تفضل:

{لأنَّ القمر له وقت تمامٍ ووقت نقصانٍ؛ فيكون هناك مجال للتفريق بين ليلة تمام القمر، وليلة الهلال، أو كذا، فيكون هناك فرقٌ بين الجاهل والعالم}.

نعم، يقول العلماء: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- شبَّه العلماء بالقمر ولم يُشبههم بالشمس لأمرين:

الأمر الأول: أنَّ القمر يكون على حالاتٍ، فيكون بدرًا، ويكون هلالًا، ويكون مُحاقًا، فكذلك العلماء في ترتيبهم في العلم، فإنَّ منهم مَن هو كالبدر في تمامه وفي سعة علمه، ومنهم مَن هو كالهلال في قلَّة علمه، ومنهم مَن هو أدنى من ذلك، ومنهم مَن هو بين ذلك.

فهذا هو السبب الأول.

الأمر الثاني -وهو مهم- أنَّ نور القمر مُستمَدٌّ من الشمس، فكذلك نور العالم لا يُضيء إلا إذا استمد نوره من كتاب الله وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- العلماء بهذا المثال العظيم.

الوجه الخامس: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ»، وهذا دليلٌ واضحٌ على فضل أهل العلم؛ لأنَّ الإنسان يرثه مَن؟ أقرب الناس إليه، وأقرب الناس إلى الأنبياء هم العلماء، ولذلك هم ورثتهم.

يقول -صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؛ وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ».

دخل أعرابيٌّ على مجلس ابن مسعود -رضي الله عنه- فرأى فيه طلبة العلم، فقال: علامَ اجتمع هؤلاء؟ قال ابن مسعود -رضي الله عنه: "اجتمعوا على ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم".

قال الشاعر:

العِلْمُ مِيرَاثُ النبيِّ كَما أَتَى *** في النَّصِّ وَالعُلَماءُ هُم وُرَّاثُه

فهذا أيضًا دليلٌ على فضل أهل العلم ومكانتهم ومنزلتهم.

الحديث الثالث الذي يدلُّ على فضل العلم: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

يقول ابنُ جماعة في "تذكرة السامع والمتكلم": "وأنت إذا تأمَّلت إلى هذه الأشياء الثلاثة وجدتها في مُعلِّم الناس الخير".

أولًا: قال: «عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» وهذا واضحٌ، فالعلم الذي يُعلِّمه للناس.

قال: وأمَّا الصدقة الجارية، فأعظم الصدقات التي يتركها الإنسانُ هي العلم الذي يبقى في هذه الأمة، فكم بيننا وبين الإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة ومالك وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم من العلماء –رحمهم الله تعالى- ولا زالت علومهم حيَّةً بيننا.

والدليل على أنَّ الصدقة في هذا الحديث يدخل فيها العلم: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذاك الرجل الذي دخل مُتأخِّرًا في الصلاة، ماذا قال النبيُّ لصحابته؟

قال: «مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا» فالإنسان بعلمه يتصدَّق على الآخرين بما آتاه الله -سبحانه وتعالى.

قال: «أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، ولا أعظم من أن يكون الذين يدعون لك هم أهل العلم، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لم يتزوج، وكذلك الإمام النووي، وبالتالي لم يُرزقوا بالأبناء، لكن لهم من الطلاب ومن الأتباع الذين يدعون لهم ليلًا ونهارًا -رحمهم الله تعالى رحمةً واسعةً- ما يجعل الإنسان بالفعل ينظر إلى فضل العلم ومكانة أهله، فهم إن وُسِّدوا في التراب لكنَّهم أحياء بعلومهم وتلاميذهم، وبما تركوه من إرثٍ عظيمٍ، وهو ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي هذه العلوم العظيمة.

هذه ثلاثة آياتٍ تدلُّ على فضل العلم، ومثلها ثلاثة أحاديث تدلُّ على فضل العلم أيضًا.

فالمسألة الأولى التي تحدثنا عنها: فضل العلم في القرآن.

والثانية: فضل العلم في السنة.

والثالثة التي سنتحدث عنها: مُقارنات: فهناك مقارنة بين بعض الأمور التي أحيانًا قد تصرف الإنسان عن طلب العلم، ومن هذا المقارنة بين العلم ونوافل الطاعة، فأيُّهما أفضل: أن يشتغل طالبُ العلم بالقراءة والبحث والتحصيل والدراسة في ليله أم يقوم لصلاة الليل؟

{أن يتعلم فينفع بعلمه الناس، فهو ينفع غيره}.

صحيح، تفضَّل:

{أن يتعلم، فيكون نفعه أو ثوابه مُتعديًا له ولغيره، أمَّا قيام الليل والثواب الخاصّ به فهو له فقط}.

صحيح، جيد، فقد ذكر الإمام النووي -رحمه الله- أنَّه باتِّفاق العلماء أنَّ الاشتغال بالعلم الشرعي أفضل من التقرب بنوافل الطاعة، وهذا أيضًا مروي عن الإمام مالك والإمام أحمد والإمام الشافعي، ومرويٌّ كذلك عن الزهري؛ بل إنَّ ابن عمر-رضي الله عنه- قال: "مجلس فقهٍ خيرٌ من عبادة ستين سنةً".

ولهذا فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق -حديث أبي الدرداء- قال: «وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ»، ما الذي يجعل الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الطاعة؟

عدة أمور، منها:

أولًا: ما ورد في نصوص الشَّريعة من أحاديث، وقبلها آيات تدلُّ على فضل العلم ومنزلة أهله.

الأمر الثاني: أن نفع العلم مُتعدٍّ، فالعالم نفعه له وللآخرين، بينما العابد نفعه مُقتصرٌ عليه، ومن المعلوم أنَّ العبادات مُتعدية النفع أفضل من العبادات التي تكون محصورةً أو مقصورةً على الإنسان.

والعلماء -رحمهم الله تعالى- أيضًا لاحظوا ملحظًا آخر في فضل العلم على النوافل، وهو أنَّهم قالوا: الاشتغال بالعلم الشرعي بالنسبة للأُمَّة فرضُ كفايةٍ، وأجر مَن يقوم بفروض الكفاية أكثر من نوافل الطاعة، لماذا؟

لأنَّه يُسقِط الإثم عن الأُمَّة، ومن أعظم العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ إلى الله هي عبادة تُسقِط بها الإثمَ عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم.

أرسل الإمام عبد الله العمري -وكان من العُبَّاد الزُّهاد- رسالةً إلى الإمام مالك ينصحه فيها، فالإمام مالك صرف حياته في تعليم الناس العلم، فهو بين مجلس الفقه، ومجلس الحديث، ومجلس الفُتيا، فكأنَّ هذا العابد رأى أنَّ الإمام اشتغل بالناس عن العبادة، فأراد أن ينصحه بأن ينقطع عن الناس ويُقبِلَ على العبادة، فقال الإمام -رحمه الله- في ردٍّ لطيفٍ مُؤدبٍ: "إنَّ الله قسَّم الأعمالَ كما قسَّم الأرزاق، فمن الناس مَن فتح الله له في باب الصلاة، ومنهم مَن فتح له في باب الصدقة، ومنهم مَن فتح له في باب الصيام، ومنهم مَن فتح الله له في باب الجهاد، ونشر العلم والخير من أعظم القُربات التي يتقرب بها العبدُ إلى الله، وأرجو أن يكون ما أنا فيه ليس بأقل مما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خيرٍ".

رأيتم التناصح الذي يكون بين الأئمة -رحمهم الله تعالى- وأيضًا فقه الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة حينما بيَّن أنَّ الاشتغال بالعلم لا يقل فضلًا عن الاشتغال بنوافل الطاعة، بل قد يكون أعلى من الاشتغال بنوافل الطاعة.

لكن هل معنى هذا أن يكون طالبُ العلم عريًّا عن أن يكون صاحب عبادة؟

لا، فمن أعظم الأمور التي تُعين طالب العلم على الطلب قُربه من الله -عز وجل- قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282]، ويقبح بطالب العلم أن يكون خاليًا من هذه العبادات: من النوافل وقيام الليل؛ بل إنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- وهو الذي يرى أنَّ صلاة الوتر سُنَّة مُؤكَّدة قال لما سُئِلَ عن رجلٍ لا يُصلي الوترَ: إنَّه رجل سُوءٍ.

فطالب العلم يحتاج إلى قربه من الله -عز وجل- وأعظم ما يكون به القرب من الله أن يحرص العبدُ على هذه العبادة، لكن العلماء يريدون هذه المسألة في حال كان هناك تباين، كإنسانٍ يريد أن يقوم الليل وعنده مسألة يُريد أن يبحثها، قالوا: لا، ابحث هذه المسألة؛ فهذا خيرٌ لك في دينك، وخيرٌ لك في دنياك.

أيضًا من المقارنات التي يُقارنها العلماء: المناصب والعلم: فأيُّهما أفضل: أن تليَ منصبًا أو وزارةً أو أن تكون من أهل العلم؟

هذه تُبحث أيضًا في بابٍ آخر، فالإنسان قد يُقبِل على العلم ثم يلي منصبًا فينصرف عن طلب العلم، والإمام الماوردي -رحمه الله- عدَّ هذه المسألة في كتاب "أدب الدنيا والدين" من الصَّوارف عن طلب العلم الشرعي، ونحن نريد أن يكون ذهن طالب العلم مُتفرِّغًا للعلم الشرعي.

ومما يُذكَر في هذا: أنَّ نبيا الله داود وسليمان –عليهما السلام- كانا أنبياء، وكانا ملوكًا، فلمَّا توعَّد سليمان الهدهد بالقتل وقال: ﴿لَأُعَذِّبَنهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ [النمل: 21]، ماذا قال الهدهد؟ قال: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 22]، فانظر إلى الطائر الذي يتفاخر على نبيٍّ من أنبياء الله بأنَّه أحاط علمًا بشيءٍ لم يعرفه هذا النبي، فقال العلماء: وهذا دليلٌ على فضل العلم ومكانة أهله.

يقول الإمام أبو الحسين ابن فارس اللغوي –وهو من أئمَّة اللغة: "لم أكن أظن أنَّ هناك لذَّة تعدل لذَّة الرئاسة والوزارة حتى جلستُ في مجلس مُناظرةٍ بين سليمان الطبراني وأبي بكر الجعابي، فكان الطبرانيُّ يغلب الجعابي بكثرة حفظه، والجعابي يغلب الطبراني بقوة ذكائه". يقول: "فقال الجعابي للطبراني: سأُحدثك بحديثٍ. قال: قلْ. قال: حدثنا أبو خليفة عن سليمان بن أيوب -ثم حدَّثه بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم- قال الطبراني: أنا سليمان بن أيوب، واسمع مني ليعلو سندكَ. فسمع منه. فتمنيت أنني أنا مكان الطبراني، وأنني غلبته".

هذا أيضًا يتحدث عن فضل العلم ومكانة أهله.

وقد قال أحد حاشية الخليفة أبي جعفر المنصور له: هل بقي شيءٌ من لذَّات الدنيا لم تنلها؟ قال: نعم. قال: ما هي؟ قال: أن أجلس على مصطبةٍ -والمصطبة مثل هذا الكرسي- وحولي أهل الحديث، فيقول المُستملي: حدِّثنا، فأقول: حدَّثنا فلان، وأخبرنا فلان.

يقول الراوي: فلما جاء اليوم التالي إذا بالوزراء وأبناء الوزراء يأتون بمحابرهم وأقلامهم فيجلسون أمام الخليفة -رحمه الله تعالى- فنظر إليهم وقال: لستم أنتم طلبة العلم الذي أريد؛ إنما هم الدَّنَسَة ثيابهم، المُشقَّقة أرجلهم، الطويلة شعورهم، بُرْدُ الآفاق، الذين يطلبون العلم في كلِّ مكانٍ.

فهذه كانت أمنية من أمنيات الخليفة أبي جعفر المنصور، فقد تمنى أن يكون من أهل العلم، وأن يلي هذا العلم.

المسألة الرابعة التي نتحدث عنها في هذا اللقاء: هي ثمرات الطلب:

وهذه من الأمور المهمة، فأي أمرٍ تقصده لابُدَّ أن تكون له ثمرةٌ، وهذه الثَّمرة هي التي تُحفِّزك على الوصول إلى هذا الأمر، فالآن الذي يحرص على المال تجد أنَّه لا يكلُّ ولا يملُّ من طرق جميع الأبواب التي يُريدها؛ لأنَّ لديه ثمرةً وهي أن يصل إلى المال. كذلك طالب العلم إذا طلب العلم، فلطلبه للعلم ثمرات:

أول هذه الثِّمار: أنَّه طريقٌ يُوصِّل إلى تقوى الله -عز وجل- أسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم من المتقين.

فمن أعظم الأمور التي يصل إليها طالب العلم أن يصل إلى درجة التقوى، يقول بعضُ السَّلف: "والله لو علمتُ أنَّ الله تقبَّل مني حسنةً واحدةً لتمنيت بعدها الموت". قيل له: ولِمَ؟ قال: "لأنَّ الله قال: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]، فإذا تقبَّل الله مني كنت من المتقين، فإذا كتبني الله من المتقين فكما قال رب العالمين: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ [النبأ: 31- 34]".

فهذا دليلٌ على أنَّ من أعظم ثمار طلب العلم: الوصول إلى تقوى الله، كيف يصل الإنسانُ إلى تقوى الله؟

إذا علم وعرف ربَّه حقَّ المعرفة، كيف يعرف الله؟

يعرفه بأمرين: يعرفه بآياته، ويعرفه بأسمائه وصفاته.

ولا يصل الإنسانُ إلى هذا إلا إذا طلب العلم الشرعي.

والتقوى كما أنَّها ثمرةٌ من ثمار العلم، فهي أيضًا طريقٌ من الطرق إلى العلم؛ لأنَّ الله قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]، فإذا أُخِذَت الواو على أنَّها استئنافية يكون لها معنى، وإذا أُخِذَت على أنَّها عاطفة فيتمُّ هذا المعنى، وأنَّ من الطرق التي تُعين طالب العلم على الوصول إلى الغاية في العلم أن يكون من المتقين لله -سبحانه وتعالى.

أيضًا من ثمار الطلب: أن يصل العبدُ إلى الإمامة في الدين، فهل من العيب أن يكون الإنسانُ إمامًا في الدين؟ فالله -عز وجل- قال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، وقال أيضًا: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]، فهذا من الأمر الحميد الذي يسعى إليه الإنسانُ، وهو أن يكون قُدوةً في الخير، وأن يكون مُعلِّمًا ومُرشدًا للناس فيما أمر الله -سبحانه وتعالى.

يقول -عز وجل: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، ويقول -عز وجل: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏﴾ [المجادلة: 11] .

وقد ذُكِرَ عن نافع بن عبد الحارث -وكان عمر بن الخطاب قد جعله واليًا على مكة- أنَّه لما وصل عمر إلى عُسْفَان خرج نافع بن عبد الحارث لاستقبال أمير المؤمنين، فقال عمر: مَن جعلت على أهل مكة أو أهل الوادي؟ قال: جعلتُ عليهم ابن أبزى. قال عمر: مَن ابن أبزى؟ قال: مولًى من موالينا. قال: تستعمل على الناس مولًى؟! قال: يا أمير المؤمنين، إنَّه حافظٌ لكتاب الله، عالمٌ بالفرائض. فقال عمر -رضي الله عنه وأرضاه: أَمَا إنَّ نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».

والإمام محمد بن عبد الرحمن الأوقص -رحمه الله تعالى- كان من الأئمَّة الذين اشتهروا بالقضاء، وكان دميمَ الخِلْقة، يُقال عنه أنَّ عنقه كان داخلًا في بدنه، وكان له زجَّان -أي أنَّ منكبيه كأنَّهما زجَّان وهي التي تكون في أسفل الرمح- حتى إنَّه كان يدعو في يومٍ من الأيام ويقول: اللَّهم أعتق رقبتي من النار. فالتفتت إليه امرأةٌ وقالت: يا بني؛ وأي رقبةٍ لك!

فقالت له أمه: "يا بني، إنَّك لا تكون في مجلسٍ إلا وتكون المَضْحُوك منه، المسخور به، فعليك بالعلم فاطلبه في مظانِّه".

فطلب العلم حتى أصبح من كبار القضاة، فكان الخصوم إذا قعدوا وجلسوا بين يديه إذا بهم يرتَعِدُون من الخوف منه -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.

يقول الشاعر:

النَّاسُ مِنْ جِهة التَّمثيل أَكْفَاءُ *** أَبُوهُمُ آدمُ والأمُّ حَوَّاءُ

فَإِن يكُن لهم في أصلهم نَسَبٌ *** يُفَاخِرُون به: فَالطِّينُ والمَاءُ

مَا الفَضْلُ إلا لأَهْل العلمِ إنَّهمُ *** عَلَى الهُدى لمَن استَهْدَى أَدِلَّاءُ

وَقَدْرُ كُلِّ امرئٍ مَا كَانَ يُحسِنهُ *** وَالجَاهِلُون لأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ

فَفُز بعلمٍ تَعِشْ بِهِ أَبَدًا *** فالنَّاسُ مَوتَى وأَهْلُ العِلْمِ أَحْياءُ

أيضًا من فضائل ومن ثمار طلب العلم الشرعي: أنَّه يُنجي من الفتن، خاصَّة أننا نعيش في زمانٍ قد كثرت فيه الفتنُ، وكثر فيه الحديثُ، وكثر فيه الكلامُ، وقلَّ فيه العملُ، وابتعد الناسُ عن كتاب الله، وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما الذي يُنجي الإنسان من هذه الفتن: فتن الشَّهوات والشُّبهات؟

يُنجيه أن يكون طالبًا للعلم، يعرف مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم.

فلما خرج قارون على قومه في زينته قال عامَّة الناس: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [القصص: 79]، ماذا قال أهل العلم؟ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [القصص: 80].

فالعلم يُنجي صاحبه من فتن الشَّهوات والشُّبهات.

أيضًا من ثماره: الحياة الطيبة. يقول ابن القيم: "العلم نورٌ في القلب، وحياةٌ في الروح يجدها الإنسانُ كلما أقبل على ربِّه -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- يقول في كتابه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، وقال -عز وجل- في سورة الأنعام: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ [الأنعام: 122]".

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم، وارعوا أسماعَكم لهذا الحديث العظيم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، أَمْسَكَتِ المَاءَ؛ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ». فهي أرض طيبة قبِلَت الماءَ وأنبتت الزرع، «وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ؛ فَنَفَعَ اللهُ النَّاسَ بِهَا، فَسَقَوا وَشَرِبُوا». لكن الأرض ليست أرض زراعةٍ، ثم قال: «وَمِنْهَا قِيعَانٌ، لَا تَقْبَلُ مَاءًا، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».

يقول ابنُ القيم -رحمه الله: "والعلماء على ثلاثة أنواعٍ:

• علماء يحفظون سُنَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويحفظون كلام الله ويفهمونه". وذكر له مثالًا ابن عباس -رضي الله عنه.

• "وآخرون يحفظون العلمَ لكنَّهم لا يفقهون معناه، فهذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوعَى مِنْ سَامِعٍ».

• وآخرون هم الذين يُعرِضون عن كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- فذلك قول الله -عز وجل: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه: 124- 126]".

أيضًا مما يقود إليه العلم: تحصيل اللَّذة:

أحيانًا يتوقع بعضُ الناس أنَّ اللَّذة يمكن أن يجدها الشخصُ في معصية الله -عز وجل- فيجدها في شرب خمر، أو يجدها في فعل الفواحش.

أقول: في هذا الدين لذَّةٌ لا تعدلها أيُّ لذَّةٍ، وهذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمُ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- نَبِيًّا». وقال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».

يقول الإمامُ الزَّرنُوجي -رحمه الله تعالى- في كتابه "أدب المتعلم": "مَن وجد لذَّة العلم قلَّما يرغب فيما عند الناس".

واقرؤوا حياةَ العلماء الذين وجدوا هذه اللَّذة؛ فستجدوا أنَّهم لا ينظرون إلى الآخرين لأنَّهم وجدوا مُتعةً وسعادةً لا يعلم بها إلا الله -عز وجل- ولا يصفها إلا مَن عاشها.

يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله تعالى- وهو يُؤلِّف كتابه: "كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأُسجلها في موضعها من الكتاب، فأبيت سهرانًا فَرَحًا مني بتلك الفائدة".

فتخيل أنَّه جاءك خبرٌ سعيدٌ في ليلةٍ من الليالي؛ فتقول: والله ما نمت من ماذا؟ من الفرح والسعادة، فيسهر الإنسانُ لأنَّه ينتشي، فإذا انتشى لا يكون للنوم مكانٌ لديه.

هذا الانتشاء وهذه السَّعادة عند هذا العالم حصَّلها حينما وجد فائدةً.

وحياة العلماء ممتلئة بالكثير من ذلك.

الثَّمرة الأخيرة -والثِّمار كثيرةٌ لكننا نختصر- الوصول إلى خشية الله -عز وجل- فالعلم -يا أحبتي- ليس بكثرة الرواية، وليس بكثرة التأليف، وليس بكثرة الكلام؛ وإنَّما العلم ما وقر في القلب وصدقه العمل.

لهذا يقول الله -عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فإذا خشي العالم ربه -عز وجل- فإنَّ هذا العلم تكون له ثمرةٌ وأثرٌ كبيرٌ.

يقول بعضُ السلف: "ليس العلم بكثرة الرواية، وإنَّما العلم خشية الله -عز وجل".

ويقول بعضُهم: "العلم النافع هو ما وقر في القلب، أمَّا ما تلفَّظ به الإنسانُ فهو حجَّة الله -عز وجل- على بني آدم".

ولما كانت الخشيةُ طريقًا للعلم؛ كان بعضُ العلماء إذا رُؤيَ يُذكر الله -عز وجل- فيقولون: "إذا رأينا فلانًا أو تذكَّرناه ذكرنا الله -سبحانه وتعالى".

وكان يُقال عن الإمام ابن الشَّجري -رحمه الله تعالى: من خوفه من الله أنَّ مجالسه لم يكن فيها إلا أدب الدرس أو أدب النفس. فلا يوجد فيها شيءٌ من كلام الناس، فهو إمَّا فائدة تستفيد منها علمًا، وإمَّا أن تكون للإنسان فائدةٌ أخرى يكتسبها في نفسه.

نختم الحديث بالحديث عن أنواع العلوم، فما حكم تعلم العلوم؟

يقول العلماء: العلوم على ثلاثة أقسامٍ:

- من هذه العلوم ما يُنهَى عنه ابتداءً.

- ومن العلوم ما يُنهَى عن كثرة الاشتغال به.

- ومنها ما يكون تارةً مُحرَّمًا، وتارةً واجبًا، وتارةً مُباحًا. لماذا؟

لأنَّ مصطلح العلم لم يرد في القرآن أو في السُّنة دائمًا على سبيل المدح؛ بل ورد أحيانًا على سبيل الذم، يقول الله -عز وجل: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ﴾ [البقرة: 102]، فهو علمٌ ولكنَّه لا ينفع.

وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الروم: 7]، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ».

فالقسم الأول: ما يُنهَى عنه ابتداءً، مثل ماذا؟ مثل علم السِّحر، فالسِّحر علمٌ، لكنَّه علمٌ ضَارٌّ لا ينفع صاحبَه؛ بل تعلمه كفرٌ بالله -عز وجل- فالله -عز وجل- قال في كتابه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: 102].

الثاني: ما يُنهَى عن كثرة الاشتغال به، مثل ماذا؟ مثل علوم الآلة.

فالعلوم على قسمين -كما سيأتي- علوم آلةٍ، وعلوم غايةٍ.

- فعلوم الغاية مثل: العقيدة، والحديث، والتفسير، والفقه.

- وعلوم الوسائل -وهي الآلة- مثل: مصطلح الحديث، واللغة العربية، والبلاغة، وغيرهـا.

فالعلماء نهوا مثلًا عن كثرة الاشتغال بالنحو، فيكفي من النحو ما تُقيم به اللِّسان، وتفهم به مراد كلام الرحمن -عز وجل- أمَّا ما زاد عن ذلك من تشقُّقاتٍ وبحثٍ طويلٍ ومُضْنٍ لا يخرج صاحبُه بنتيجةٍ؛ فهنا نهى عنه العلماءُ، بل قالوا: إنَّ النحو في الكلام كالملح في الطعام. فيأخذ منه الإنسانُ بقدر حاجته.

والثالث من العلوم: ما يكون تارةً مُحرَّمًا، وتارةً واجبًا، وتارةً مُباحًا، مثل: علم النجوم، فعلم النجوم إذا كان لمعرفة القبلة فهو واجبٌ، وإذا كان لمعرفة الطريق فهو مُباحٌ، وإذا كان لما يُسمَّى بعلم التأثير، وهو ربط القضايا الأرضية بالحوادث الفلكية، كأن يحدث حدثٌ ما فيقال: وقع ذلك لأنَّ النجم الفلاني خرج عن مداره، أو فعل كذا. فهذا مُحرَّمٌ.

لهذا لما مات إبراهيمُ ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: كُسِفَت الشمسُ لموته. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ لَا تُكْسَفُ لِمَوتِ أَحَدٍ وَلَا لحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ إِذَا رَأَيْتُم هَذَا فَاهْرَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ».

هذه أقسام تعلُّم العلوم.

والعلماء بشكلٍ عامٍّ يقولون عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»، أنَّ المراد بـ«فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» أنَّ العلم على نوعين:

- ما هو فرضُ عينٍ يجب علينا جميعًا أن نتعلَّمه، وهذا هو المراد بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»، وفي روايةٍ: «وَمُسْلِمَةٍ»، فهناك علومٌ يجب علينا جميعًا أن نتعلَّمها، كالتوحيد، وتعلم كيفية الصلاة.

ولما سُئِل ابن المبارك عن هذا الحديث قال: "هو أن يقع الإنسانُ في مسألةٍ فيجب عليه أن يسأل عنها ويعلم مراد الله -عز وجل- فيها".

وقال الإمام الخطيب البغدادي: "«طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» المراد به علم التوحيد".

وكذلك علم الصلاة، والذي يُريد الحجَّ يجب عليه أن يتعلم الحج، والذي يُريد أن يُزكِّي يجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة، وهكذا.

وأخيرًا: من العلم ما هو فرضُ كفايةٍ، فإذا قام به مَن يكفي في الأُمَّة سقط الإثمُ عن الباقين، وهو قول الله -عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ ليَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].

فهذه أهمَّ العناصر التي أردنا أن نجعلها كمُقدِّمةٍ بين حديثنا عن البناء العلمي.

وإن شاء الله سنتحدث في اللِّقاء القادم عن أدب الطلب؛ لأنَّ طالب العلم بحاجةٍ قبل أن يتعلم إلى أن يحمل أدبَ هذا العلم، ولهذا قالت أمُّ الإمام مالك -رحمه الله- له: "يا بني، اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل أن تتعلم من علمه".

أسأل الله -عز وجل- بمنِّه وكرمه أن يُبارك لنا ولكم في الأعمار والأعمال، ونعتذر لإخواننا الذين لم نتمكن من الإجابة عن أسئلتهم، لكن -إن شاء الله- سنُخصِّص لها إجابةً في موقع الدورة العلمية على الإنترنت.

جزاكم الله خيرًا على حضوركم وإنصاتكم، وأسأل الله كما جمعنا وإيَّاكم في هذا اللِّقاء أن يجمعنا في دار كرامته ومُستقَرِّ رحمته، إنَّه -عز وجل- جوادٌ كريمٌ.

وأسأل الله -عز وجل- أن ينصر دينَه وكتابه وسُنَّة نبيه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

http://islamacademy.net/cats3.php