الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد حسان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، إمام الغر الميامين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

فحياكم الله جميعًا أيها الإخوة الفضلاء، وطبتم وطاب سعيكم ممشاكم وتبوأتم جميعا من الجنة منزلا، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني بحضراتكم في هذا المجلس الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.

نحن الليلة على موعد مع اللقاء الثالث، ومع الدرس الثاني من الدروس المهمة لعامة الأمة لسماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى.

وقبل أن أشرع في الشرح باختصار شديد، أتوجه بخالص العزاء لخادم الحرمين الشريفين، ولشعب المملكة كله في بلاد الحرمين، في وفاة سمو ولي العهد الأمير نايف بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، اسأل الله أن يغفر له وأن يرحمه، اللهم عافه واعف عنه، واغفر له وارحمه، اللهم أكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا، كما ينقِّي الثوب الأبيض من الدنس، وقه فتنة القبر وعذاب النار، وزد في إحسانه وتجاوز عن سيئاته، وأنزل على قلوب أهله وأهل بلاد الحرمين برد السكينة والرضى، واسأل الله أن يختم لي ولكم ولجميع إخواني وأخواتي بخاتمة التوحيد والإيمان، وأن يحشرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفردوس الأعلى إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أيها الأحبة، يتحدَّث شيخنا -رحمه الله تعالى- في الدرس الثاني عن أركان الإسلام، ويقول: بيان أركان الإسلام الخمسة، وأولها وأعظهما: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

بشرح معانيها مع بيان شروط لا إله إلا الله ومعناها.

لا إله: نافيًا جميع ما يُعبد من دون الله.

إلا الله: مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك له.

وأما شروط لا إله إلا الله فهي: العلم المنافي للجهل، واليقين المنافي للشك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والمحبة المنافية للبغض، والانقياد المنافي للترك، والقبول المنافي للرد، والكفر بما يُعبد من دون الله -جل وعلا.

قال الشيخ -رحمه الله تعالى: وقد جُمعت في البيتين الآتيين:

علم يقين وإخلاص وصدقك مع

محبة وانقياد والقبولِ لها

أو "والقبولُ"، كلاهما يصح لغةً.

وزيد ثامنها الكفران منك بما

سوى الإله من الأشياء قد ألِّها

مع بيان شهادة أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتضاها:

- تصديقه فيما أخبر -عليه الصلاة والسلام.

- وطاعته فيما أمر.

- واجتناب فيما نهى عنه وزجر.

- وألا يعبد -أي العبد-، وألا يعبدَ الله إلا بما شرعه الله -عز وجل.

وألا يعبدَ الله: أي وألا يعبدَ العبدُ الموحد اللهَ -عز وجل- إلا بما شرعه الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم.

ثم طلب الشيخ -رحمه الله تعالى- من الشارح لهذه الدروس المهمة أن يُبيِّن للطالب بقية أركان الإسلام الخمسة، وهي: الصلاة، والزكاة، والصوم، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا.

هذا هو الدرس الثاني من الدروس المهمة لعامة الأمة، وها أنتم ترون الدرس في كلمات قليلة، لكنني شرحتُ هذا الدرس في مجلدين من كتاب "جبريل يسأل والنبي يُجيب"، فالأمر يحتاج إلى تفصيل، لأنك تتحدث الآن في هذا الدرس الثاني عن الإسلام كله، عن أركان الإسلام كله.

وفي الحقيقة: لا يتسع الوقت أبدًا للتفصيل، لكنني سأُعرِّج سريعًا على هذه المعاني والمفردات الجميلة.

أركان الإسلام، الركن -أيها الأحبة- كما قال أهل العلم: هو ما يقوم عليه الشيء.

أركان الإسلام باختصار: خمسة، لا يقوم الإسلام إلا عليها، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا».

أنا لا أريد أن أتحدث عن الإسلام لغة واصطلاحًا، وعن أهمية الإسلام وعظمة الإسلام، وعن عالمية الإسلام، وأنه دين بعث الله -عز وجل- به الأنبياء والمرسلين جميعًا، فلم يبعث الله نبيًا ولا رسولًا إلا بالإسلام، لا يتسع الوقت لهذا التفصيل.

أيضًا من الأدلة على أركان الإسلام: ما رواه الإمام البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، في حديث جميل طويل، قال: «نُهينا أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، فكان يُعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فجاءه رجل من الأعراب، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، فقال -صلى الله عليه وسلم: صدق.

فقال له الأعرابي: فمن الذي خلق السماء؟

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: الله.

قال الأعرابي: فمن الذي خلق الأرض؟

قال النبي -صلى الله عليه وسلم: الله.

قال الأعرابي: فمن الذي خلق الجبال- أو نصب الجبال- وجعل فيها ما جعل؟

فقال -صلى الله عليه وسلم: الله.

فقال الأعرابي: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب الجبال وجعل فيها ما جعل، آلله أرسلك؟

هذا أعرابي فقيه.

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: نعم.

قال: فبالذي أرسلك، يزعم رسولك: أن الله فرض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة -هذا هو الركن الثاني.

قال: صدق.

قال: فبالذي أرسلك: آلله أمرك بهذا؟

قال: نعم.

قال: ويزعم رسولك: أن الله فرض علينا زكاة في أموالنا.

فقال له -صلى الله عليه وسلم: صدق.

قال: فبالذي أرسلك: آلله أمرك بهذا؟

قال: نعم.

قال: وزعم رسول: أن الله فرض علينا صوم شهر رمضان.

قال: صدق.

قال: فبالذي أرسل: آلله أمرك بهذا؟

قال: نعم.

فقال الأعرابي: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن.

فقال -صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة. -وفي رواية: أفلح إن صدق»

والأدلة على أركان الإسلام كثيرة، أكتفي بحديث آخر منها رواه الإمام البخاري ومسلم، أنه -صلى الله عليه وسلم- حين بعث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إلى اليمن، قال له: «يا معاذ، إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأعلمهم -أو فأخبرهم- أن الله -عز وجل- قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».

لم يذكر النبي هنا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث صوم رمضان؛ لأن الصوم لم يكن قد فُرِض بعد.

هذه هي أركان الإسلام باختصار شديد جدًّا.

أركان الإسلام -أيها الأفاضل- الركن الأعظم منها: الشهادتان، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

هذه الشهادة هي أساس الإسلام، وبقية أركان الإسلام متفرعة عنها، ما خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، وما أنزل الكتب، وما أرسل الرسل إلا من أجل هذه الشهادة، إلا من أجل أن يُفرِدَ الخلق بها الحق -سبحانه وتعالى.

كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ليست مجرد كلمة ترددها الألسنة، ولكن لها معاني، ولها شروط، ولها مقتضيات، باختصار شديد جدًا: كلمة التوحيد متضمنة للنفي والإثبات.

قال شيخي ابن القيم: "النفي المحض ليس توحيدًا، وكذلك الإثبات بدون النفي، بل لا بد أن يكون التوحيد متضمنًا للنفي والإثبات معًا".

لو قلت: "لا إله" هذا النفي توحيد؟ أبدًا.

لو قلتَ: "إله" هذا الإثبات يُعدُّ توحيدًا؟ أبدًا.

فالآلهة المُدَّعاة والمكذوبة والباطلة كثيرة، فمن الناس مَن عبد الشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والفئران، والبقر، والأشخاص، والمناهج والأفكار والأوضاع، إلى غير ذلك.

والشرك فاحذرْه فشركٌ ظاهرٌ

ذا القسم ليس بقابل للغفرانِ

وهو اتخاذُ الندِّ للرحمنِ

أيًّا كان من حجر ومن إنسانِ

يَدعوه أو يرجوه ثم يخافهُ

ويحبه كمحبة الديانِ

هذا شرك أكبر كله، كل هذا شرك أكبر، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، وسنتحدث في درس مستقل -إن شاء الله تعالى- عن أقسام الشرك الثلاثة التي ذكرها الشيخ -رحمه الله-، عن الشرك الأكبر وعن الشرك الأصغر وعن الشرك الخفي، وإن كان الشرك الخفي يندرج تحت هذين القسمين من أقسام الشرك الأكبر والأصغر.

الشاهد: أن كلمة التوحيد نفي وإثبات، نفي للآلهة، نفي للأنداد، نفي للأرباب، نفي للطواغيت.

باختصار شديد: إثبات للتوحيد بأقسامه الثلاثة: إثبات لتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

وسأتكلم في درس مستقل -بإذن الله تعالى- باختصار أيضًا عن أقسام التوحيد التي ذكرها الشيخ -رحمه الله تعالى.

إذن: كلمة التوحيد: نفي وإثبات، نفي للآلهة.

الآلهة: جمع إله، والإله: هو المألوه، والتأله: هو التنسُّك والعبُّد.

والعبادة: أصل ومعناها الذل، يُقال: طريق مُعبَّد، أي طريق مذلل قد وطأته الأقدام، لكن العبادة التي كُلِّفنا بها وأمرنا بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي كمال الذل لله مع كمال الحب لله -جل وعلا-، لا يمكن أبدًا أن تُحقق العبادة المرجوة على مراد الله -تبارك وتعالى- ورسوله بالحب فقط، أو بالذل والانقياد والاستسلام والإذعان فقط؛ وإنما لا بد أن تكون عبادتك مُتضمنة للحب والذل، أي والاستسلام والإذعان والانقياد.

فكلمة التوحيد: نفي للآلهة المكذوبة الباطلة المُدَّعاة من دون الله -تبارك وتعالى-، ولا يتسع الوقت لسرد الأدلة.

نفي للأرباب، والرب: هو المالك المتصرِّف.

قال الواسطي: "الرب: هو الخالق ابتداءً، والمربي غذاءً، والغافر انتهاءً".

والله -تبارك وتعالى- هو ربُّ كل شيء، وهو خالق كل شيء، وهو مالك كل شيء، ﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54].

فكلمة التوحيد تنفي الأرباب، وتثبت الربوبية لله كما تثبت الألوهية لله -جل وعلا- وحده بلا منازع أو شريك، وهي نفي للأنداد، والأنداد: جمع ندّ، الأنداد: جمع الند.

والندُّ: هو الشبيه والنظير والمناوئ والمثيل، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، فكلمة التوحيد تنفي الأنداد وتثبت التوحيد كله، والألوهية والربوبية والعبودية كاملة لله -عز وجل- وحده بلا منازع أو شريك.

ونفي للطواغيت، جمع طاغوت، والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد.

قال عمر -رضي الله عنه: "الطاغوت: الشيطان".

قال مالك -رحمه الله تعالى: "الطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبدُ حدَّه، أو كل معبود من دون الله".

قال ابن القيم: "الطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حدَّه من مَعبود أو مَتبوع أو مُطاع". هذا تعريف جامع لابن القيم -رحمه الله.

"الطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع".

ولا يصحُّ لك أبدًا توحيد ولا إيمان إلا بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله؛ بل لقد قدَّم الله الفكرَ بالطاغوت على الإيمان به -سبحانه وتعالى- إذ لا بد من تخلية القلب من الأرباب والآلهة والأنداد والطواغيت، ليكون قلبك مفرغًا سليمًا كاملًا، مُبرَّأ من كل شرك، خالصًا كله لله -تبارك وتعالى-، ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام 162، 163].

قال تعالى ﴿ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]

لاحظْ: أنه -جل جلاله- قد قدَّم في هذه الآية الكفرَ بالطاغوت عن الإيمان بالله، إذن: لا بد من التخلية قبل التحلية، لا بد من تطهير القلب من كل شوائب الشرك من الأرباب والأنداد والآلهة والطواغيت، وإفراد الله -تبارك وتعالى- وحده بالعبودية والألوهية بلا منازع ولا شريك.

لا إله إلا الله: إثبات لتوحيد الألوهية، وهذا سأتكلم عنه في أقسام التوحيد -إن شاء الله-، إثبات لتوحيد الربوبية، إثبات لتوحيد الأسماء والصفات. فهي تثبت التوحيد الخالص، والتوحيد بشموله وكماله وصفائه ونقائه لله -عز وجل.

كثير من الناس لا يُدرك معاني كلمة التوحيد، ولا يعرف مقتضياتها، ولا يقف على شروطها.

ومن أهم هذه الشروط باختصار شديد -أيها الأفاضل: العلم المنافي للجهل، واليقين المنافي للشك، وقد جُمعت في البيتين اللذين ذكرنهما لحضراتكم آنفًا، وجمعهما أيضًا صاحب "معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد" الشيخ حافظ أحمد حكمي -رحمه الله تعالى- في بيتين آخرين سهلين رقيقين، فقال:

العلمُ واليقينُ والقبولُ

والانقيادُ فادرِ ما أقولُ

والصدقُ والإخلاصُ والمحبهْ

وفَّقكَ الله لما أحبهْ

يُعجبني هذا النظم جدًّا، لأنه جميل ويسير وسهل الحفظ؛ بل والوقوع في القلب.

العلمُ واليقينُ والقبولُ

والانقيادُ فادرِ ما أقولُ

والصدقُ والإخلاصُ والمحبَّهْ

وفَّقكَ الله لما أحبَّهْ

العلم: العم كشرط من شروط "لا إله إلا الله" هو العلم المنافي للجهل، قال الله -تبارك وتعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، سامحوني، حيث هذا اختصار شديد جدًّا، وأرجو الله ألا يكون مُخلًّا.

لاحظ: كما قال شيخنا الحافظ بن حجر -رحمه الله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19] ؛ أن الله -جل وتعالى- قدَّم..، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية الكريمة بأمرين:

- بالعلم، في قوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ ﴾.

- وبالعمل، في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ ﴾، فقدَّم الله العلم على العمل، لأن العلم هو المصحح للنية التي يصحُّ بها كل قولٍ وكلُّ عملٍ.

قال الله -عز وجل: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وأنا لن أتحدَّث عن فضل العلم، فقد ذكرتم لكم في أول درس مقدمة مختصرة في فضل العلم ومكانته أهله وطلبته، لكنني أتكلم عن العلم المنافي للجهل، عن العلم لما تنفيه كلمة التوحيد وبما تثبته كلمة التوحيد.

مَن قال: لا إله إلا الله يجب عليه أن يكون عالمًا بأنها نفي للآلهة والأرباب والأنداد والطواغيت، وإثبات لتوحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.

قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه: «مَن مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة».

انظر: هذه الحديث مطلق أم مقيد؟ مقيد بشرط العلم، وأرجو أن أُجيب باختصار شديد جدًّا؛ لأن بعض المصنفين قد زعم أن كثيرًا من الأحاديث التي وردت في فضل كلمة التوحيد -وكنت أود أن أذكر بعض الأحاديث في فضل كلمة التوحيد، لكن لا يتسع الوقت- ظن بعض المصنفين أن بعض هذه الأحاديث منسوخة، وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق.

بل الصحيح: أن الأحاديث الواردة في فضل التوحيد إن كانت مطلقة فقد قُيِّدت بأحاديث أخرى.

والقاعدة تقول: "بوجوب حمل المطلق على المقيد إذا اتفقا في الحكم والسبب"، هذه قاعدة من قواعد الأصول، بوجوب حمل المطلق على المقيد إذا اتفقا في الحكم والسبب، يزول الإشكال بهذا الحديث.

على سبيل المثال: إذا علمتَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قيَّد العلم بكلمة التوحيد بشرط..، قد قيَّد نطق كلمة التوحيد ودخول الجنة بسببها بشرط العلم، أن يكون قائلها عالمًا بها، عالمًا بمقتضياتها، عالمًا بشروطها، لا يصح أن يردد بلسانه "لا إله إلا الله" وهو لا يعلم أنه يجب عليه أن يتبرأ وأن يكفر بالطاغوت والآلهة والأرباب والأنداد المكذوبة المُدَّعاة، وأن يُفرد ربه -جل وعلا- وحده بتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأن نؤمن بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، وأن الأمر كله له، ﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة».

اليقين باختصار شديد: اليقين هو المنافي للشك، فاليقين ضد الشك، لا يكون المؤمن مؤمنًا بكلمة التوحيد إلا إن استقر هذا اليقين بها في قلبه، فالإيمان لا يُغني فيه علم الظن، فكيف إذا دخله الشك، ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾ [الحجرات: 15]، أي لم تعصف ريح الشك بحقيقة وأصل الإيمان في قلوبهم ﴿ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾.

﴿ إِنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: 45]، وهذا شأن المنافقين -أعاذني الله وإياكم من النفاق.

إذن: اليقين كشرط من شروط "لا إله إلا الله" هو: اليقين المنافي للشك، بمعنى: أن يكون قائل "لا إله إلا الله" مستيقنًا بمدلول هذه الكلمة يقينًا جازمًا، وهذا هو الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة الطويل، وهو حديث جميل جدًا في الصحيحين، أنه -صلى الله عليه وسلم- «أعطى نعليه لأبي هريرة وقال: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت أن وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله مستيقنًا بها قلبُه؛ فبشره بالجنة».

إذن هذا الحديث أيضًا مقيَّد بشرط اليقين، يزول الإشكال هنا في الأحاديث الواردة في فضل كلمة التوحيد، وإلا فإن المنافقين قالوا كلمة التوحيد.

﴿ إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1].

هم رددوها بألسنتهم دون أن يُوفِّروا ويُحققوا هذه الشروط، كالعلم واليقين والقبول والصدق والانقياد والإخلاص والمحبة، وإلا فقد رددها عبد الله بن أُبيّ، ورددها المنافقون جميعًا وفي حضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك قال -جل وعلا: ﴿ إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145].

لم تنفعهم هذه الكلمة؛ لأنهم رددوها بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم، وهذا هو نفاق الاعتقاد، لكن مَن قال "لا إله إلا الله" وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله دون أن يُنكر ويكفر بها بقلبه تنفعه هذه الشهادة يومًا من الدهر، فأنا أتكلم عن نفاق الاعتقاد لا عن نفاق العمل.

فالمنافقون، أي الذين وقعوا في نفاق الاعتقاد رددوها بألسنتهم، نفعتهم؟ نعم، نفعتهم في الدنيا، عصمت أموالهم ودماءهم، بل وتزوجوا بسبب النطق بها من المسلمات والمؤمنات، وحضروا بسبب النطق بها الغزوات، وشاركوا الغنائم مع المسلمين.

الشاهد: أن كلمة التوحيد لا بد فيها من شرط اليقين لينتفع بها قائلها، وهو اليقين المنافي للشك، «اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة».

باختصار شديد جدًّا: اليقين والقبول، القبول لما اقتضته هذه الكلمة، يجب على المؤمن أن يقبل ما اقتضته هذه الكلمة -أقصد كلمة الشهادة، كلمة التوحيد- أن يقبل هذه المقتضيات بلسانه وقبله.

يقول ربنا -تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾ [الصافات 36،35]، فالمؤمن هو الذي يقبل ما تقتضيه كلمة التوحيد بلا تردد ولا انحراف، والمنافق هو الذي يصد ويُعرض ويرفض ما تقتضيه كلمة التوحيد.

تدبر معي قول الله -عز وجل: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ﴾ [النور 51، 52].

وقال -جل وعلا- في شأن المؤمنين أيضًا: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً﴾ [الأحزاب: 36].

وقال -جل وعلا: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65].

ويصح أن أستدل بكل هذه الأدلة القرآنية في شرط الانقياد أيضًا، فالانقياد هو المحكُّ العملي، يقول -تبارك وتعالى- ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [النساء: 65].

انظر إلى الصورة المقابلة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾ [النساء 60، 61].

إذن: القبول لما تقتضيه كلمة التوحيد شرط من الشروط الثِّقال التي قُـيِّدت بها كلمة التوحيد والجلال، والأدلة في هذا الباب كثيرة.

الانقياد: هذا المحكّ العملي -الانقياد- القبول المنافي للترك، القبول لما تقتضيه كلمة التوحيد المنافي للترك، قال الله -عز وجل: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54]، قال الله -عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ [النساء: 125].

إذن: الانقياد هو المحك العملي أو الصورة العلمية التي تُثبت أن مَن قال: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يمتثل الأمر، ويجتنب النهي، ويقف عند الحد عند كل ما تقتضيه هذه الشهادة من معاني ومقتضيات، وهو في غاية الحب لله والرضى عن الله، وفي غاية التعظيم والتسليم لله -تبارك وتعالى-، لا بد من هذين القيدين: المحبة والتعظيم، الاستسلام والانقياد والإذعان.

قال -صلى الله عليه وسلم-، والحديث من باب الأمانة في سنده ضعف: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به»، الحديث في سنده ضعف، ضعفه الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرحه لبعض الأحاديث المختارة في "جامع العلوم والحكم"، وضعفه غيره من أهل العلم، لكن المعنى صحيح، لا يصح إيمان المؤمن إلا إذا وافق ما جاءت به كلمة التوحيد من أوامر ونواه وحدود، كما بيَّنتُ في الآيات السابقة.

الصدق: كشرط من شروط "لا إله إلا الله" وهو الصدق المنافي للكذب، وهو أن يرددها المؤمن أو المسلم صدقًا من قلبه؛ لأنَّا لا بد من أن نعلم أن الإيمان الذي ينجو به صاحبه: قولٌ باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.

إذن: لا بد في الإيمان من قول اللسان وتصديق القلب، وبعض أهل العلم قالوا: الإيمان هو التصديق، واستدلوا على ذلك بقول الله -تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، حكاية عن إخوة يوسف، ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾، أي بمصدق لنا.

وإن كان شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- قد فسر الإيمان تفسيرًا لغويًّا يختلف عن هذا التفسير، وسأذكر ذلك -إن شاء الله تعالى- في اللقاء المقبل في الحديث عن أركان الإيمان، وأنا أُعرِّف الإيمان لغة واصطلاحًا، ونحن نتحدث عن حلاوة الإيمان، وعن طعم الإيمان، وعن نور الإيمان، وعن حقيقة الإيمان، وأركان الإيمان، إلى غير ذلك.

الشاهد: أن الصدق كشرط من شروط "لا إله إلا الله" معناه: أن يقولها المسلم صدقًا من قلبه يواطئ قلبُه لسانَه، أو يواطئ قلبَه لسانُه، لا بد أن يكون صادقًا وهو يرددها، وأن يوافق القلب والمعتقد نطق اللسان.

قال الله -عز وجل: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت 1-3].

وقال -جل وعلا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 8- 10].

إذن لا بد من الصدق في النطق بكلمة التوحيد.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار».

«ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا» اشترط الصدق، «صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار».

وقد ذكرت حديث ضمام بن ثعلبة حين قال: «والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص عنهن» وهو وافد بني سعد بن بكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال -صلى الله عليه وسلم- «أفلح إن..» وفي رواية «لئن صدق ليدخلن الجنة»، اللهم اجعلني وإياكم من الصادقين.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].

الحديث في فضل الصدق يعني حديث جميل، فالصدق هو الطريق الأقوم، الذي من لم يسِر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وهو الجواد الذي لا يكبو، اسأل الله أن يرزقنا الصدق وأن يحشرنا مع الصادقين.

الإخلاص كشرط من شروط "لا إله إلا الله"، الإخلاص: هو تصفية العمل، أقصد عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح، تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك.

والإخلاص شرط في قبول الأعمال، وفي قبول كلمة التوحيد والإخلاص أيضًا.

قال -تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].

وقال -جل وعلا: ﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 2]، إلى آخر الآيات.

وفي الصحيح الحديث الذي رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أسعد الناس بشفاعتي مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه -أو من نفسه».

وفي رواية عتمان بن مالك في حديث عبادة في الصحيحين، قال -عليه الصلاة والسلام- «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».

وفي رواية عتمان بن مالك «فإن الله حرم على النار مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قبله -أو يبتغي بها وجه الله تعالى».

وهو الإخلاص، فالإخلاص كشرط من شروط كلمة التوحيد أن يقولها الموحد خالصة من قلبه يبتغي بها وجه الله -سبحانه وتعالى- لا أن يرددها بلسانه ويُنكرها بقلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الشرط السابع هو: المحبة، أي المحبة لهذه الكلمة ولما دلَّت عليه، ولما جاءت به، ولما اقتضته.

رأيت الشروط؟ ليس كما يظن البعض أنه مجرد أن يردد بلسانه فقط؛ فقد دخل قصر الإيمان من نوافذه قبل أبوابه، لا بد من أن تردد بلسانك، ولا بد أن يعتقد جنانك، ولا بد أن تُترجم بجوارحك وأركانك، هذا هو الإيمان الذي ينجو به أهل الإيمان في الدنيا والآخرة.

وما أحوج الأمة الآن إلى أن تعيَ حقيقة كلمة التوحيد، ووالله إننا في أمسِّ الحاجة الآن إلى أن نذكر مرة أخرى، وأن يُجدد علماؤنا ودعاتنا الحديث في قضية التوحيد من جديد، فأنا أدين لله -تبارك وتعالى- بأن التوحيد قضية أهل الإيمان الأولى، وستبقى قضية التوحيد قضيتنا الأولى، وهي قضية الأمة الأولى، بل هي قضية كل رسول وكل نبي، ما بعث الله رسولًا ولا نبيًّا أبدًا إلا بقضية التوحيد والإيمان، وما دعا نبي ولا رسول قومه أبدًا إلا إلى التوحيد والإيمان ابتداءً، ويجب على كل داعٍ إلى الله سالك لطريق الرسل والأنبياء أن يبدأ بقضية التوحيد وبقضية الإيمان، وأن يُركِّز على هذا.

وتعجبني كلمات شيخ الإسلام ابن تيمية -طيب الله ثراه- في مجموع الفتاوى وهو يقول: "كلما تعددت العبارة في مادة التوحيد كانت نورًا على نور"، زِدْ وكرر وأعدْ ولا تستحيي ولا تتردد، فأنت تقرأ الفاتحة كل يوم في كل ركعة من ركعات الصلاة الفرائض والنوافل، وهو كلام ربنا -جل وعلا.

فما أحوجنا إلى أن نعيد ونزيد ونكرر، فكلما تعددت عباراتنا وكلماتنا في قضية التوحيد وقضية الإيمان كانت نورًا على نور وجددت الإيمان في القلوب، فما أحو الأمة الآن إلى أن تجدد الإيمان في قلوبها بربها، فوالله لا نجاة لنا ولا سعادة إلا بتحقيق الإيمان.

لا أريد أن أطيل والله، وإلا فالموضوع طويل، وأنا أشعر بسعادة وانشراح صدر وفرح قلب وأنا أتكلم عن التوحيد، ومن رحمة الله وفضله عليَّ يعني شرحتُ هذا الكلام منذ أكثر من ثلاثين سنة، وأذكر أنني شرحتُ ذلك لطلابنا في جامعة الإمام محمد بن سعود -بفضل الله تبارك وتعالى-، وشرحتُ أيضًا التوحيد في عنيزة، وشرحتُ التوحيد في بُريدة، وهذا كان من فضل الله عليَّ، وشرحت الواسطية لطلابنا في مدينة المنصورة، وشرحتُ الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وشرحتُ الطحاوية، وشرحت معارج القبول، وشرحت حديث جبريل في سبعة مجلدات طُبعَت بفضل الله، وأنا لازلت أشرح هذا أيضًا بنفس العنوان "جبريل يسأل والنبي يُجيب" على شاشة قناة الرحمة، فأنا يعني عاشق للتوحيد، محبٌّ له، أسأل الله أن يحييني وإياكم على التوحيد، وأن يختم لي ولكم بالتوحيد.

فقضيتي الأولى التي نذرت نفسي لها هي قضية التوحيد، ولا يمكن أبدًا أن أقدِّم في الأمة قضية وأن أبلغ الأمة قضية قبل قضية التوحيد، ولا تظنوا أن الأمة لا تحتاج إلى أن تُذكَّر بالتوحيد الآن بدعوى أن النبي بدأ بالتوحيد أنه بُعث في أمة مشركة! هذا كلام يُقال، يُقال لنا الآن: كفُّوا قليلًا عن الحديث عن التوحيد، ولا تصدعوا رؤوسنا في كل مناسبة بالحديث عن التوحيد، فإن الأمة موحِّدة ولله الحمد والمنة.

وأنا لا أنفي التوحيد عن الأمة -حاشا لله- فكانت ولا زالت وستظل خير آية أخرجت للناس -بإذن الله جل وعلا-، وما شُرِّفت إلا بالتوحيد، وإلا باتباع النبي، وإلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

لكنني أود أن أذكر بأنه يجب على أهل العلم والعلماء والدعاة وطلبة العلم ألا يملوا تذكير الأمة بقضية التوحيد، لأن الله أمر أهل الإيمان بالإيمان، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ﴾ [النساء: 136]، أمر أهل الإيمان بالإيمان، لماذا مع أنهم أثبت لهم الإيمان ابتداءً في صدر الآية في هذا النداء بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؟ وإنما أمرهم بالإيمان ليظل الإيمان عقيدة حية في قلوبهم، راسخة في ضمائرهم، عاملة في واقع حياتهم، لأننا ندين لله أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فيحتاج إلى أن نُجدد هذا الإيمان في قلوبنا بتذكير أهل العلم بما نُجدد به إيماننا بربنا -سبحانه وتعالى.

اسأل الله -عز وجل- أن يملأ قلوبنا إيمانًا.

المحبة: أي المحبة لكلمة التوحيد، ولما اقتضته هذه الكلمة ودلَّت عليه، قال الله -عز وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ -أعوذ بالله- ﴿ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ ﴾[البقرة: 165]، المحبة الحديث فيها طويل وجميل.

وكما يقول شيخي ابن القيم: "إذا غُرست شجرة المحبة في القلب وسُقيت بماء الإخلاص والمتابعة؛ أثمرت كل خير".

وكل أنواع الاتباع والاقتفاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- محبة واجبة، محبتك لله ولرسوله وللمؤمنين، ومحبتنا لنبينا محبة لازمة تابعة لمحبة ربنا -جل وعلا-، تزيد محبتنا لرسول الله بمحبتنا لله، وتنقص محبتنا لرسول الله بنقصان محبتنا لله، هي تابعة لازمة لمحبة أهل الإيمان لله -جل جلاله.

فمحبة أهل الإيمان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54].

نسأل الله أن يملأ قلوبنا بحبه وحب رسوله وحب دينه وحب كل من أحبه وكل عمل يقربنا إلى حبه -تبارك وتعالى.

قال الله -عز وجل: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [الجاثية: 23]، الهوى قد يظن البعض أنه محب لله، لكن محب لهواه، ليس محبًا لمولاه، وليس محبًا لرسول الله، وإلا فلو كان محبًا لله لقدَّم محبته لله ورسوله على محبته لهواه ولمات هواه نفسه؛ لأن الهوى ملك غشوم ظلوم جهول يصمُّ الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، ولو كان واضحًا كالشمس في ضحاها والنهار إذا جلاها.

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ﴾ [الجاثية: 23].

فالمحب ليس متبعًا لهواه، وإنما المحب متبع لربه ومولاه، ومتبع لسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، شعاره: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].

فكل مَن عبدَ الحق -تبارك وتعالى- عبادة صحيحة مبنية على الحب، وجب عليه أيضًا أن يكون مطيعًا لله -تبارك وتعالى- مستسلمًا منقادًا مُذعنًا لأوامره ونواهيه، وقَّافًا عند حدوده.

فالحبة تقتضي التسليم والتعظيم، ولا يمكن أبدًا أن يحقق العبد العبادة لله على مراده ومراد رسوله إلا بهذين الركنين: بكمال الحب مع كمال الذل.

قال -صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنَّ فيه؛ وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار».

وفي الصحيحين أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين».

هذا باختصار شديد جدًا جدًا أرجو ألا يكون مُخلًا في الشروط الثقال التي قُيِّدت بها كلمة التوحيد والجلال.

أما الشق الثاني لكلمة التوحيد هو: شهادة أن محمدًا رسول الله، لا تصح الشهادة إلا بشقها الآخر، إلا بهذا الشطر، نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

قال شيخ الإسلام: "اعلم أن دين الله الذي هو الإسلام مبني على أصلين:

الأول: أن نعبد الله -عز وجل- وحده لا شريك له.

والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-".

وهذان هما حقيقة قولنا: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدًا رسول الله.

فبالشاهدة الأولى: يُعرف المعبود -عز وجل، وبالشهادة الثانية: يُعرف الطريق الموصل إلى المعبود -عز وجل.

كلمة: "نشهد أن محمدًا رسول الله"، ليست مجرد كلمات ترددها الألسنة أيضًا، ولكنها حقيقة كبيرة جدًا ذات تكاليف، وأمانة ثقيلة وعظيمة ذات أعباء.

أول هذه المقتضيات لهذه الشهادة: أن نُحقق الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان برسول الله ليس مجرد كلمة أيضًا تُرددها الألسنة، ولكن الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو: إقرار اللسان بنبوته، وتصديق القلب برسالته، وانقياد الجوارح لطاعته، واتباع سنته، والتزام شريعته.

ليست مجرد كلمات: إقرار اللسان بنبوته، وتصديق القلب برسالته، وانقياد الجوارح لطاعته، واتباع سنته، والتزام شريعته. ليست مجرد كلمات.

من يدعي حبَّ النبي ولم يفدْ

من هديه فسفاهةٌ وهراءُ

فالحبُّ أولُ شرطِه وفروضِه

إن كان صدقًا طاعةٌ ووفاءُ

أول مقتضى: الإيمان به -صلى الله عليه وسلم.

قال الله -عز وجل: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾ لام الأمر، لام الإلزام، لام الإيجاب ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ﴾ أي عهدي ﴿ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمنْ بما أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»، ولا يتسع الوقت لأكثر من ذلك.

الإيمان به: تصديقه أو طاعته فيما أمر.

-المقتضى الثاني: والانتهاء عما نهى عنه وزجر.

المقتضى الثالث لأجمع بين هذين المقتضيين الكبيرين الجليلين في آية محكمة في قوله -جل جلاله- ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾ [الحشر: 7].

طاعته طاعة لله، ومعصبته -صلى الله عليه وسلم- معصية لله، قال -جل جلاله ﴿ مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، قال -جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ [النساء: 59].

ولم يُكرر لفظ "وأطيعوا" مع أولي الأمر، لأن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعته لله ورسوله.

قال -جل وعلا: ﴿ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]، والآيات كثيرة جدًا.

وقال -صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني».

وفي رواية جميلة جدًّا طويلة في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله قال: «جاءت ملائكة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم، فقال بعضهم: إن لصاحبكم هذا مثلًا فاضربوا له مثلًا، فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان.

قالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة، وأرسل داعيه، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يُجِب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة.

قالوا: أوِّلوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان.

قالوا: الدار الجنة. والداعي: محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، من أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرْقٌ بين الناس -أي فرَّق بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر- فمن آمن بالله وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- فحقق الإيمان، ومن كفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فقد كفر».

والأدلة في هذا الباب كثيرة.

«كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»، والحديث رواه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة.

طاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، قال -صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم».

تصديقه فيما أخبر، قال الله -عز وجل: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم 1- 4]، فالقرآن والتاريخ والواقع، كل هذا يشهد بصدق محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الذي شهد بصدق رسولنا هو ربه -جل جلاله-، قال -تعالى: ﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].

ولا يتسع الوقت لذكر الأدلة الجميلة، وقد فصَّلتُ ذلك تفصيلَا، لكننا نقصد من تصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نصدقه في كل ما بلَّغ عن ربه -تبارك وتعالى.

فما أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- وقع بمثل ما أخبر، وما لم يقع بعد سيقع بمثل ما أخبر، لنزداد يقينًا في أن المرحلة القادمة لدين الله ولدين رسول الله، كما أخبر الصادق -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا يتسع الوقت للتفصيل.

يكفي فقط أن أُدلل بدليل مما قاله -صلى الله عليه وسلم- ولم يحدث في زمنه وحدث في زمننا، والحديث رواه الإمام مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما، رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا».

هل تحقق ما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى؟ مع أنه قال في أول الحديث «لم أرهما».

أنا ضربتُ هذا كمثال لأبيِّن أن كل ما أخبر عنه الصادق وقع بمثل ما أخبر، وهو لا ينطق عن الهوى، ومن ثمَّ فيجب على أهل الإيمان أن يصدقوا كل ما أخبر به عن ربه وبلَّغه عن ربه، ولنعلم ولنزداد يقينًا أن المرحلة القادمة كما أخبر هو -بأبي وأمي وروحي- لدين الإسلام، ولدين محمد -عليه الصلاة والسلام.

وكذلك من مقتضيات هذه الشهادة العظيمة -لأن الوقت بكل أسف قد أزف، ولا أدري كيف تمضي الساعة سبحان الله!: محبته -صلى الله عليه وسلم- دون غلوٌ أو إطراء، محبته دون غلو أو إطراء.

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرت الحديث آنفًا في الصحيحين «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».

وفي صحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر حين قال والذي نفسي بيده لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال «لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والذي نفسي بيده لأنت أحب إليّ من نفسي يا رسول الله، قال: الآن يا عمر» يعني الآن قد كمُلَ إيمانك يا عمر.

ويُعلق الإمام الخطابي، نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري، ويقول: "حب الإنسان نفسه طبع، وحب الإنسان غيره اختيار بتوسط الأسباب" واضح الكلام أم ثقيل؟

أعيد: حب الإنسان نفسه طبع جبلة، يعني أنا جُبلتُ على حب نفسي، وكذلك أنت، وحبك لغيرك اختيار لأسباب معينة بينك وبين مَن تُحب، يعني أنت تحبني لسبب وأنا أحبك لسبب، "حب الإنسان نفسه طبع، وحب الإنسان غيره اختيار بتوسط الأسباب، وما طلب النبي من عمر حب الطبع، إذ لا سبيل إلى قلب الطباع عما جُبلت عليه، وإنما أراد النبي من عمر حُب الاختيار، فلما نظر عمر في الأسباب وجد النبي سبب نجاته من النار، قال حينئذ: والذي نفسي بيده لأنت أحب إليّ من نفسي يا رسول الله".

هذا من أبدع وأروع ما قرأتُ في التعليق على هذا الحديث، لأنه قد أحدث إشكالًا عند بعض طلبة العلم، فمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- من المقتضيات العظيمة.

وأنا أقول أيضًا: من مقتضيات الشهادة؛ أن تتبع النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن تتبع رسول الله، ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31].

الاتباع من مقتضيات الإيمان، من مقتضيات نطقك بشهادة أن محمدًا رسول الله، يجب عليك أن تكون متبعًا له -صلى الله عليه وسلم-، وأن تمتثل أمره، وأن تجتنب نهيه، وأن تقف عند حدِّه، وألا تُقدِّم عقلك أبدًا على نقله الصحيح الثابت أبدًا، لا تقدم عقلك ولا رأيك ولا فكرك.

"لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح أعلاه"، هكذا قال عليٌّ وقال سهل بن حنيف في يوم صفين: "أيها الناس اتهموا رأيكم -وفي لفظ: اتهموا أنفسكم- فوالله لقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أردُّ أمر رسول الله لرددته"، فلا تقدم رأيك، ولا تقدم عقلك على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والأدلة يعني في هذا الباب أكثر من أتُذكر الآن في هذه العجالة.

أيضًا من مقتضيات هذه الشاهدة العظيمة: أن تنصر شريعته، وأن تنصر سنته، وأن تنصر دعوته، بل لا يصح انتسابك للنبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إن حققت الإيمان به، ورفعت نفس الراية التي رفعها، ودعوت لما كان يدعو إليه، وعشتَ لما كان يعيش من أجله، فتِّش في حقيقة انتمائك وانتسابك للنبي -عليه الصلاة والسلام: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾، أنا وحدي؟ ﴿ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].

قال شيخنا ابن القيم: "لا يكون الرجل من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- حقًا حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة".

فحقق انتماءك وانتسابك، تحرك للدعوة، بعد تحقيق هذه المقتضيات التي ذكرتها آنفًا، حقق الدعوة، ولا تجلس بدعوى أنك لا زلت طالب علم، ومَن قال لك: بأن طلبك للعلم سينتهي؟!، طلبك للعلم سيظل إلى أن تلقى ربك، كما قال إمام أهل السنة: "مع المحبرة إلى المقبرة"، فقم بلِّغ عن الله وعن رسوله ما حفظتَ من كتاب الله، وما حفظت من كتاب رسول الله.

قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري وغيره: «بلغوا عني ولو آية»، وأنا أقول: «بلغوا» تكليف، «عني» تشريف، «ولو آية» تخفيف، «بلغوا عن ولو آية»، لا تكن سلبيًّا، ولا تتخلَّ عن الدعوة والبلاغ بدعوى أنك لا زلت طالب علم، ستظل وسأظل معك طلاب علم إلى أن نلقى الله -تبارك وتعالى.

أيضًا من المقتضيات: أن نكثر من الصلاة والسلام عليه -صلى الله عليه وسلم-، فكثير منا قد يغيب عن باله وعن قلبه الصلاة والسلام عليه، وربما لا يتذكر ذلك إلا في مثل هذه المناسبات إن ذكَّره عالم أو شيخ من أهل العلم والفضل، لا، كن دائمَ الصلاة والسلام على رسول الله؛ لأن الله أمرك بهذا، فقال -جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وبكل أسف لم يتسع الوقت في هذه الساعة كاملة إلا للحديث عن الركن الأول من أركان الإسلام، وأنا لا أستطيع وما تعودت أن أقرأ قراءة عابرة، وإلا أخشى أن يكون شرحي مخلًّا، فسامحوني وأرجو أن تعودوا إلى الشرح التفصيلي لي إن أردتم في كتاب "الأصول الثلاثة".

فقد شرحت الأصول الثلاثة في مجلد ضخم للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، أو إن شئتم أن ترجعوا إلى موقع الأكاديمية الإسلامية المفتوحة فقد شرحتُ أيضًا الدروس المهمة لشيخنا -رحمه الله تعالى- قبل ذلك بالتفصيل في عشرات الدروس، لا في هذه الدروس المختصرة الموجزة.

ومن أراد أن يقرأ الموضوع بتفصيل أكبر فليرجع إلى كتاب "جبريل يسأل والنبي يُجيب"، وهذه والله ليست دعاية تجارية، أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص، وإلا فالكتب بفضل الله مباعة ليست لي، لكنني فقط أردت أن أنبه من أراد أن يتوسع، فقد شرحت هذا كله بالتفصيل في ثلاثة مجلدات من سبعة مجلدات.

الكتاب كله شرح لحديث جبريل، وأنا أتناوله أيضًا على شاشة قناة الرحمة بالشرح والتفصيل إلى أن نلقى الله -سبحانه وتعالى- لأن العمر سينقضي، ولن نستطيع أبدًا أن نفِيَ هذا الحديث حقه وشرحه، وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على أن ربنا -جل وعلا- قد آتى نبينا -صلى الله عليه وسلم- جوامع الكلم.

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلني وإياكم جميعًا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

http://islamacademy.net/cats3.php