الحقوق محفوظة لأصحابها

محمد حسان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

أما بعد.. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

حياكم الله جميعًا أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء، وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلًا، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني بحضراتكم في استوديو قناة الرحمة المباركة على طاعة، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك ومولاه.

يشرفني ويسعدني كثيرًا أن أشارك مشايخنا الفضلاء، وإخواننا الأجلاء، من الأكاديمية الإسلامية المفتوحة بمدينة الرياض العامرة، وزاد فخري وشرفي حينما كلفني إخواني بشرح الدروس المهمة لعامة الأمة، لشيخي سماحة الوالد العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى-، وقلت في نفسي: من أنت يا ابن حسان ليذكر اسمك إلى جوار شيخك، بل لتنتدب لشرح كتاب شيخك؟!

فبكيت خجلا وحياء من الله عز وجل ورددت بقلبي ولساني وكياني:

أسير خلف ركب القوم ذا عرج

مؤملا جبر ما لاقيت من عوج

فإن لحقت بهم بعدما سبقوا

فكم لرب السما في الناس في فرج

وإن ظللت بقفر الأرض منقطعًا

فما على أعرج في ذاك من حرج

فوالله، لست أهلًا ليذكر اسمي على كتاب واحد أو في برنامج واحد مع سماحة الوالد الإمام، بركة الزمان، وحسنة من حسنات الأيام، والدنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

وأود في أول لقاء من هذه الدروس الطيبة أن أقدم الليلة بمقدمة مهمة، لأعرف بالشيخ ولأعرف بالكتاب، ولأذكركم وأذكر طلبة العلم في أنحاء الأرض بفضل العلم ومكانة العلماء.

ثم بعد ذلك إن قدر الله البقاء واللقاء، شرعنا في شرح الدروس إن شاء الله تعالى.

أولا: الشيخ هو سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن باز.

ولد الشيخ بمدينة الرياض، في شهر ذي الحجة، في عام 1330 من الهجرة النبوية، فقد شيخنا بصره بالكلية، في عام 1350 من الهجرة، وعوضه الله عز وجل نور البصيرة والعلم، حفظ القرآن الكريم كله قبل سن البلوغ، وهذه بركة أنصح بها كل طالب علم صادق، أن يبدأ بحفظ كتاب الله جلا وعلا.

بدأ الشيخ -رحمه الله تعالى- طلب العلم في سن مبكرة جدًّا، على أيدي كثير من علماء مدينة الرياض، من بين هؤلاء الأعلام:

سماحة الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى.

ومن مشايخه أيضًا الذين تتلمذ على أيديهم:

سماحة الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى.

ومنهم: سماحة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض.

ومنهم: سماحة الشيخ حمد بن فارس، وكيل بيت المال بالرياض.

ومنهم: سماحة الشيخ سعد وقاص البخاري، الذي تلقى شيخنا وإمامنا -رحمه الله تعالى- على يديه علم التجويد.

ومن أبرز شيوخ سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- من أبرز شيوخه: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ.

وقد لازم شيخنا ابن باز حلقات الشيخ ملازمة تامة، صباحًا ومساءً، ودرس على يديه العقيدة، والفقه، والحديث، والنحو، والفرائض، وقرأ الشيخ على الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، قرأ شيخنا ابن باز عليه شيئًا كثيرًا من التفسير ومن كتب التاريخ، وقرأ عليه أيضًا السيرة النبوية كاملة.

ومن تأثر الشيخ محمد بشيخنا ابن باز، رشحه ليتولى القضاء، وهذه تزكية من الشيخ لتلميذه، مذهب شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- في الفقه هو مذهب الإمام أحمد، لكن على سبيل الاتباع لأصول الإمام وأصول المذهب، لا على سبيل التقليد، فشيخنا -رحمه الله تعالى- وقَّاف مع الدليل، يدور مع الدليل من كتاب وسنة رسوله حيث دار، فهو لا يتعصب للمذهب أبدًا، وهذه من مناقب الشيخ -رحمه الله تعالى-.

إذا وجد الحق بدليله مخالفًا للمذهب انتصر للحق بدليله وقال به؛ امتثالا عمليًّا منه لقول الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾.

فالشيخ يُرجح ما رجحه الدليل، ولا يتعصب أبدًا للمذهب، وما أحوجنا الآن إلى هذا الصنف من العلماء الربانيين، الذين يدورون مع الدليل حيث كان.

اعرف الحق؛ تعرف أهله، فإن الحق لا يُعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يُعرفون بالحق.

أفخر وأشرف بأن الله عز وجل قد أكرمني ومنَّ عليَّ بالتتلمُذ على يد الشيخ -رحمه الله تعالى-، فلقد شرفني الله بالجلوس تحت قدميه، وبالتتلمذ وبالتربي على يديه، فتعلمت منه أنا شخصيًّا العلم والأدب وحسن الخلق.

فسماحة الشيخ -أيها الأحبة- جبل من جبال العلم، وكُنيف مُلئ علمًا، وهذا أمر يَعرفه كل علماء الأرض، حتى ولو كانوا من المخالفين للشيخ، جبل من جبال العلم، إمام في العقيدة، إمام في الحديث، إمام في اللغة، إمام في التأريخ والتحقيق، والسيرة.

وأنا لا أريد أن أطيل النفس مع كل جزئية.

سماحة الشيخ جبل من جبال التواضع، والله يا إخواني لو رأيتم الشيخ -رحمه الله- داخلًا مسجده أو مجلس علمه، الذي يجلس فيه العلماء، ونجباء طلبة العلم، والله لظننتم أنه رجل قد دخل المجلس ليطلب العلم على يد الشيخ ابن باز، أو لظننت أنه رجل قد دخل المجلس ليطلب الصدقة من الشيخ ابن باز.

أذكر أن أول مجلس جلست فيه بين يدي الشيخ، كنت بصحبة شيخنا ووالدنا فضيلة الشيخ محمد صفوت نور الدين -رحمه الله تعالى-، وإذ به يدخل عليَّ في غرفة كنت فيها في فندق في مكة، في دار كانت تسمى حينئذ بدار الزواوي، قبل أن تهدم، فدخل علي الشيخ صفوت -رحمه الله- وأيقظني من نومي، التفت إليه وهو يجلس إلى جواري على سريري، وقال لي انتبه استيقظ، سنتناول الغداء بعد ساعة عند الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-.

فبكيت فرحا، وهذه هي المرة الأولى التي كنت سأشرف فيها بلقاء شيخنا -رحمه الله تعالى-.

الشاهد: دخلنا المجلس قبل أن يدخل الشيخ، وأنا أجلس إلى جوار شيخنا الشيخ محمد صفوت نور الدين، وإذ برجل يلبس ثوبًا سودانيا، لا زلت أذكر لونه، وهو اللون البيج، وساقه لا زلت أذكر شكلها إلى الآن، من قصر ثوبه، ويلبس الشماغ بدون قلنسوة، بدون الطاقية، ويدخل ومعه مجموعة من طلبة العلم، وأنا لم أر الشيخ قبل ذلك، ولم تكن وسائل الإعلام قد انتشرت بهذا الشكل.

فلم أعرف أن الشيخ دخل، وإذ بالحضور يتسابق ويسرع للسلام ولتقبيل رأس الشيخ، فإذ بالشيخ صفوت يقول: هذا هو الشيخ ابن باز، قلت: أين هو؟ فأشار إليه، فبكيت لهذا السمت المتواضع، ثم لما جلست معه على الغداء، جلست معه على مائدته لا آكل بل لأنظر إليه، لأرقب لحظه، وقوله، وحركاته، بكل حب.

الشاهد: لما انتهى المجلس، وإذ بالشيخ صفوت يقول لي: ما تعليقك؟

قلت: تعليقي أنا!

قال: نعم، أود أن أسمع تعليقك.

قلت: والله يا شيخ صفوت لو لم تشر لي وتقل: هذا هو الشيخ ابن باز؛ لظننت أنه رجل مسكين دخل مجلس الشيخ يطلب منه الزكاة أو الصدقة.

فبكى الشيخ صفوت -رحمه الله- وقال: لقد لخصت حياة الشيخ وتواضعه في هذه العبارة، التي خرجت منك بصورة تلقائية.

الشيخ أيها الأفاضل إمام في الأدب، وحسن الخلق، ونحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم.

والله ما سمعت الشيخ قط وقد جلست بين يديه عامًا كاملًا بفضل الله جل وعلا، والله ما سمعت الشيخ قط يرد الإساءة إلا بالإحسان، لا أقول بالصمت وبالسكوت، وإنما لا يرد الإساءة إلا بالإحسان.

وكان شعاره دوما:

يخاطبني السفيه بكل قبح

فأكره أن أكون مجيبا

يزيد سفاهة فأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبًا

هذا منهجه، وما أحوجنا الآن إلى الأدب، وإلى حسن الخلق.

ما الحرج في أن يختلف العلماء مع بعضهم البعض، لا حرج، لكن فلتطرح المسائل في بوتقة الخلاف، ولتظلل بأدب الخلاف، ولو سكت من لا يعلم؛ لسقط الخلاف.

فالعلماء الربانيون في خلافهم، يعلمون الأمة الأدب، لا زلت أذكر هذا المجلس المبارك، الذي جمع أئمة الأمة وعلماءها، وعلى رأسهم الشيخ ابن باز والشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين في آخر موسم حج فيه الشيخ الألباني رحم الله الجميع.

وامتلأت الخيمة من بعد الفجر بطلبة العلم بل بالعلماء، والكل ينتظر العلماء الأجلاء والمشايخ الفضلاء.

وكان شيخنا ابن باز أمير المجلس، كانت تطرح الأسئلة فيتلقاها هو ويستقبلها، فإذا كان السؤال في مبحث الاعتقاد، أجاب هو، وإذا كان السؤال في الحديث أحاله إلى شيخنا الألباني، وإذا كان السؤال في المناسك والفقه والأصول أحاله الشيخ ابن باز إلى الشيخ ابن عثيمين، بكل أدب.

وحان وقت صلاة الظهر في هذا المخيم بمنى، وانتظر كل طلبة العلم من يتقدم ليصلي بهؤلاء إمامًا، وإذ بنا نفاجأ بالشيخ ابن باز، بأدب جم، وتواضع عجيب، يقول لشيخنا الألباني تقدم يا أبا عبد الرحمن، صل بنا، قال: لا شيخنا، أنت شيخنا، لا أتقدمك، قال: أنت أعلمنا برسول الله، وكلنا نحفظ كتاب الله، بالدليل، فتقدم الشيخ الألباني ليصلي إمامًا بهؤلاء الأئمة.

ثم التفت الشيخ الألباني إلى الشيخ ابن باز وقال: يا شيخنا أصلي بكم صلاة رسول الله أم أخفف؟

فرد الشيخ ابن باز وقال: صل بنا صلاة رسول الله، علمنا يا شيخ، علمنا يا شيخ، علمنا يا شيخ.

هؤلاء هم العلماء، هؤلاء هم السادة، هم الأئمة.

الشيخ ابن باز يقول للشيخ الألباني: علمنا يا شيخ.

وهو إمام المعلمين، وأستاذ المؤدبين، وأستاذ الأستاذِين، أنا أحب هذا الرجل، ربما تجد العلم عند الكثيرين، وما أكثر العلماء، أسأل الله أن يبارك في علماء أمتنا وأن يزكيهم، لكن أن ترى عالمًا ربانيا، من أجود الناس بالعلم، والجود بالعلم أغلى وأعظم من الجود بالمال، كما قال شيخي ابن القيم.

ترى إمامًا يجمع بين العلم والأدب وحسن الخلق والورع، والهمة العالية، كان يجلس كنت أصلي الفجر في مسجد الراجحي بمنطقة الربوة بالرياض وأسرع إلى مسجد الشيخ -رحمه الله-، فيجلس ما يقرب من ثلاث ساعات متواصلة، لا يفارق كرسيه.

أنا قد أحتاج في هذا المجلس إلى أن أقوم -أعزكم الله- لأجدد وضوئي مرة أو مرتين لأجدد النشاط لأستطيع أن أتابع الشيخ؛ لأنه كان ينتقل من حلقة إلى حلقة، وهو في مكانه، يعني تجلس في حلقة ليشرح فيها فتح الباري صحيح البخاري، وتقوم حلقة وتأتي حلقة أخرى، يشرح فيها يتناول فيها الفقه، وتقوم الحلقة الثانية، وتأتي الحلقة الثالثة كان يشرح فيها وقتها النونية لابن القيم.

والكل يجلس ويقوم والشيخ لا يقوم، يصحح للطالب الذي يقرأ اللغة، ويشرح ويفسر ويبين، الشاهد أنني أشعر بسعادة، وأشعر بفرح، من أعماقي، وأنا أتكلم عن سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى-، وأسأل الله عز وجل أن يجعل كل ما تعلمه طلبة العلم في الأمة كلها من هذا الإمام في ميزان حسناته، وأن يجمعنا به مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الفردوس الأعلى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الشيخ له مؤلفات عدة، تربو عن الثلاثين مؤلفًا، منها هذا المؤلَّف العظيم الذي بين أيدينا، وهو مؤلَّف صغير الحجم، عظيم النفع جدًّا: الدروس المهمة لعامة الأمة.

حين قدم الشيخ بنفيه لهذا الدروس قال: "هذه كلمات موجزة في بيان بعض ما يجب أن يعرفه العامة عن دين الإسلام، سميتها "الدروس المهمة لعامة الأمة"، وأسأل الله أن ينفع بها المسلمين، وأن يتقبلها مني؛ إنه جواد كريم".

فقط، هذه مقدمة الشيخ للرسالة.

هذه الرسالة المباركة يا أحبابي تشتمل على ثمانية عشر درسًا، هذا هو المحور الثاني في لقاء الليلة للتعريف بالكتاب الذي سنشرحه، الرسالة تشتمل على ثمانية عشر درسًا، كما يلي:

الدرس الأول: سورة الفاتحة وقصار السور.

وسنقف مع هذه السور -إن شاء الله تعالى- ولن أطيل النَّفَس في التفسير لأننا لو أطلنا النَّفس قد نحتاج إلى وقت طويل جدًّا.

الدرس الثاني: أركان الإسلام. وسأشرح أيضًا باختصار.

الدرس الثالث: أركان الإيمان.

الدرس الرابع: أقسام التوحيد وأقسام الشرك.

الدرس الخامس: الإحسان.

الدرس السادس: شروط الصلاة.

الدرس السابع: أركان الصلاة.

الدرس الثامن: واجبات الصلاة.

الدرس التاسع: بيان التشهد.

الدرس العاشر: سنن الصلاة.

الدرس الحادي عشر: مبطلات الصلاة.

الدرس الثاني عشر: شروط الوضوء.

الدرس الثالث عشر: فروض الوضوء.

الدرس الرابع عشر: نواقض الوضوء.

الدرس الخامس عشر: التحلي بالأخلاق المشروعة لكل مسلم.

الدرس السادس عشر: التأدب بالآداب الإسلامية.

الدرس السابع عشر: التحذير من الشرك وأنواع المعاصي.

الدرس الثامن عشر والأخير: تجهيز الميت والصلاة عليه ودفنه.

أسأل الله أن يرزقني وإياكم جميعًا حسن الخاتمة.

هذا هو التعريف بالرسالة، سنتعرض -إن شاء الله تعالى- لشرح هذه الدروس باختصار شديد جدًّا أرجو الله أن يعيننا على شرح كل درس ولو في لقاءين، وإلا فلو أطلنا النفس سنحتاج إلى أكثر من عام بدون مبالغة، نتحدث عن الدين كله في هذه الرسالة الموجزة البليغة، تتحدث عن دين الإسلام كله، عن أركان الإسلام، وأركان الإيمان، وعن الإحسان، وعن الآداب، وعن الأخلاق، وعن الصلاة، إلى غير ذلك من الدروس التي ذكرتها لحضراتكم آنفًا.

أودُّ أيضًا في محورٍ ثالث أن أتكلم في مقدمة مهمة جدًّا لكم ولإخواننا من طلبة العلم ممن يتابعوننا في هذه الأكاديمية العلمية المباركة لأحثَّ الجميع على الاهتمام بطلب العلم لا سيما في زمان الفتن الذي نعيشه الآن.

وأقول أيها الأحبة: من سلك طريقًا بغير دليل؛ ضل، ومن تمسك بغير الأصول؛ زل.

والدليل المنير في الظلماء، والأصل العاصم بفضل الله من جميع الفتن والأهواء هو العلم.

فلم يأمر الله -جل وعلا- نبينا -صلى الله عليه وسلم- بطلب الازدياد من شيء في الدنيا إلا من العلم، قال تعالى ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]، ورفع الله -عز وجل- قدر أهل العلم، فقال -سبحانه-: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏﴾ [المجادلة: 11].

بل وشهد لهم بالخشية، فقال -سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، بل واستشهد بهم -جلَّ جلاله- على أجلِّ مشهود عليه، ألا وهو التوحيد، فقال -سبحانه: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18].

يقول شيخي ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "إن أول مَن شهد لله بالوحدانية هو الله، ثم ثنّى بملائكته، ثم ثلَّث بأهل العلم".

يقول -انتبه لهذا الكلام البديع-: "وهذه هي العدالة في أعلى درجاتها، فإن الله -جل وعلا- لا يستشهد بمجروح".

هل انتبهتم؟

أكرر..، يقول: "إن أول مَن شهد لله بالوحدانية هو الله" ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: 18].

"ثم ثنى بالملائكة"، ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ﴾، "ثم ثلَّث بأهل العلم"، ﴿وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ﴾.

قال: "وهذه هي العدالة في أعلى درجاتها، فإن الله -جل وعلا- لا يستشهد بمجروح، ويُترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب العلم بابًا من أفقه تراجم الإمام البخاري.

وعلماؤنا يقولون من أمثال شيخنا الدكتور عبد الله، علماء الحديث، يقولون: "فقه البخاري في تراجمه"، فَمِن أفقه تراجم الإمام البخاري في كتاب العلم بابًا بعنوان: "باب العلم قبل القول والعلم"، ويُصدِّر الإمام هذا الباب بقول الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19].

يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية بأمرين:

- بالعلم في قوله ﴿فَاعْلَمْ﴾.

- وبالعمل في قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾، فقدم الله العلم على العلم؛ لأن العلم هو المصحح للنية التي يصح بها كل قول وكل عمل".

لا بد أن تتعلم قبل أن تتلكم، لا بد أن تتعلم قبل أن تعمل، وأخطر صنفٍ على الأمة المتعالمون، المُدَّعون للعلم، المتزببون قبل أن يتحصرموا، والمبالغون قبل أن يبلغوا، والمُدَّعون للعلم قبل أن يتعلموا؛ لأن هؤلاء واقفون على العتبة الفاجرة الجائرة، ألا وهي القول على الله بغير علم.

يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذا عُرضت المسألة على أحدهم ردها للآخر حتى ترجع المسألة إلى أولهم".

انظروا إلى أدب الصحابة وتورعهم مع علمهم وفضلهم -كما سأبيِّن -إن شاء الله تعالى- في آخر هذا المحور الثالث من محاور هذه الحلقة -بإذن الله تعالى-.

الشاهد يا إخواني: أن الآيات الكريمة في القرآن كثيرة في فضل العلم، وكذلك تأتي السنة المطهرة ليبيِّن صاحبها -عليه الصلاة والسلام- فضل العلم ومكانة العلماء، ومكانة طلبة العلم، فيقول -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء»، ولذلك موت العالم مصيبة كبيرة جدًّا من أعظم المصائب، أسأل الله أن يحفظ علماء الأمة.

«إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا -وفي لفظ: حتى إذا لم يَبقَ عالمٌ-؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالًا -وفي لفظ: رؤساء جهَّالًا- فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

الناس من جهة الأصل أكفاء

أبوهم آدم والأم حواء

نفس كنفس وأرواح مشابهة

وأعظم خلقت فيها وأعضاء

فإن يكن لهم من أصلهم شرف

يفاخرون به فالطين والماء

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم

على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما قد كان يحسنه

و الجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش به أبدًا

فالناس موتى وأهل العلم أ حياء

«إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

في صحيح البخاري ومسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- «من يُرد الله به خير يفقهه في الدين»، أي: من لم يفقه في الدين ما أراد الله به خيرًا.

انظروا إلى كثير من الخلق الآن يفقهون في كل شيء إلا الدين.

﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: 7]، ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل: 66].

ربما يحصل على شهادة الدكتوراه، وورب الكعبة قد لا يعرف أركان الإسلام أو أركان الوضوء، أو مبطلات الوضوء، أنا لا أبالغ، ولا أريد بذلك أن أحقِّر من شأن أحد؛ إنما أريد أن أُبيِّن الخطر العظيم الذي وقع فيه كثير من الناس الآن ممن تفقهوا في كل جوانب الحياة الدنيا دون أن يعرفوا شيئًا عن دينهم، بل ربما عن فروض الأعيان، فالعلم نوعان: فرض عين وفرض كفاية.

فرض عين: وهو ما يجب على المسلم أن يتعلمه من التوحيد، وأركان الدين من العبادات والمعاملات التي يحتاج إليها من أوامر الله نواهيه وحدوده.

والقسم الثاني: فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، من رحمة رب العالمين بأمة سيد النبيين -صلى الله عليه وسلم-.

«من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، حديث طويل جميل، رواه الإمام أبو داوود والترمذي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم بسند حسن من حديث أبي الدرداء أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء -الأسماك- حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»، حديث رقراق جميل.

وفي الصحيحين أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي -رضي الله عنه- تدبر هذه الروية الجميلة: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمُر النعم».

انظروا إلى فضل العلم، وفضل التعليم، وفضل الدعوة إلى الله، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «من دعا إلى هدى كان له منا لأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

وربما أزفُّ لكم أنتم يا طلبة العلم هذا الحديث الذي يحمل لكم هذه البشرى، الحديث رواه أحمد في مسنده، ورواه الطبراني بسند حسن من حديث صفوان بن عسَّال المراديّ -رضي الله عنه-، قال صفوان: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متكئ في المسجد على برد له أحمر -عليه الصلاة والسلام-، فقال صفوان: يا رسول الله إني جئتُ أطلب العلم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «مرحبًا بطالب العلم، مرحبًا بطالب العلم، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها حتى يركب بعضهم بعضًا، حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب»، هل تدبرتم هذه الرواية الجميلة.

انظروا إلى هذه البشرى «مرحبًا»، انتبه: الذي يرحب بطلبة العلم مَن؟ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مرحبًا بطالب العلم، إن طالي العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضًا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب».

في رواية رقية جدًا أيضًا في سنن الترمذي بسند حسن أيضًا من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أنه ذُكِرَ للنبي -صلى الله عليه وسلم- رجلان، عابد وعالم، فقال -صلى الله عليه وسلم- «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنى رجل في الأمة، أنا لا أعلم مَن مِن البشر يستطيع أن يعرف هذا الفضل، والله لا أعرفه إلا من أرسله -سبحانه وتعالى- قال -بأبي وأمي-: «فضل العالم على العابد كفضلي» أي كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- «على أدناكم»؛ أي على أدنى رجل في الأمة، ثم قال -بأبي وأمي: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في حجرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير».

وأختم بهذا الحديث، وإلا فالأحاديث في فضل العلم والعلماء كثيرة جدًا، وهو حديث جميل رواه البخاري ومسلم من حديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: «بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، فوقفا على رسول الله» أي وقفا بالقرب من الحلقة، المجلس النبوي، «فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا»، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي من مجلسه ودرسه، قال «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم» هذا هو الأول الذي جلس في الفرجة وسدها، «أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله» طيب.. الذي استحيى وجلس خلف المجلس ؟ قال: «وأما الآخر فاستحيى فاستحى الله منه».

طيب.. الذي أعرض ولم يعجبه المجلس؟ هل كان هناك أحد لا يعجبه مجلس النبي؟ نعم، فيه هناك من يعرض عن مجلس رسول الله نفسه، ورسول الله في المجلس، فلا تستغرب أن يُعرض الكثيرون الآن عن مجالس أهل العلم في المساجد أو حتى على الفضائيات، ربما يرى إمامًا من الأئمة، عالمًا ربانيًا من العلماء يقول: قال الله قال رسوله، ولا يستحيي ولا يتردد أن يحول على قناة أخرى تافهة ساقطة ليُشاهد فيلمًا أو مسلسلًا أو برنامجًا ربما يؤذيه ويضره في دينه ودنياه، فهذا أمر موجود حتى في عهد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

قال: «وأما الآخر فأعرض؛ فاعرض الله عنه».

الأحاديث كثيرة جدًا، أظن أن هذه الآيات والأحاديث ترفع الهمم، وترد الناس مرة أخرى في عصر صار فيه كل الناس ساسة، ترد الناس مرة أخرى إلى هذين النبعين الصافيين الكريمين، إلى كتاب ربنا، وإلى سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وإلى الجلوس مرة أخرى بين أيدي العلماء الربانيين والدعاة الصادقين، وما أكثرهم في أمة سيد النبيين، حذار أن تقول بأن الأمة قد خلت من هؤلاء أهل الحق، أبدًا، وإلا فأنت تكذب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم مَن خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك -وفي لفظ: هم ظاهرون على الناس» فأبناء الطائفة المنصورة موجودون في الأمة، لأنه لا بد من قائمٍ لله بحجة إلى أن تقوم الساعة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الحق الذين ينصرون الحق ويعيشون بالحق؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

طيب.. ربما يسألني طالب علم الآن بعد هذه المقدمة، ما هو العلم المعتبر شرعًا؟ أعني: ما هو العلم الذي مَدَحَ الله ورسوله أهلَه على الإطلاق؟

يقول الإمام الشاطبي في كتابه القيم الماتع "الموافقات" الذي أنصح به أيضًا كل طلاب العلم أن يقرؤوه مرة ومرة ومرة، فقد لا يستطيع الطالب أن يستوعبه من مرة أولى؛ بل من مرة ثانية؛ بل من مرة ثالثة.

يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى- في المقدمة الثامنة من الموافقات، يقول: "العلم المعتبر شرعًا هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يخلي صاحبه جاريًا مع هواه"، هذا هو العلم يا إخواني، "العلم المعتبر شرعًا هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يخلي" يعني لا يترك "صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان؛ بل هو المقيِّد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعًا أو كرهًا"، هذا هو العلم، لا ينطق العالم بالهوى ولا بالجهل، وإنما بالعلم وبصدق النية وطهارة السريرة والطوية، لا يحركه الهوى، ولا ينطلق من الجهل.

ثم يقول في المقدمة السابعة: "إن كل علم لا يفيد عملًا ليس في الشرع ما يدل على استحسانه"، هذا الكلام غالي جدًا، "إن كل علم لا يفيد عملًا ليس في الشرع ما يدل على استحسانه"، ما قيمة العلم الذي لم يورثنا العمل؟ ما قيمة العلم إن لم يورثنا الخشية من الله؟ ما قيمة العلم إن لم يورثنا الأدب؟ ما قيمة العلم إن لم يورثنا التواضع؟ ما قيمة العلم إن لم يورثنا عفة الألسن وطهارة السرائر وصدق النوايا والطوايا؟ ما قيمة العلم؟

كان مالك بن دينار -رحمه الله تعالى- يقوم الليل يبكي وهو قابض على لحيته ويقول: "يا رب لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟". وأنتم تعلمون أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: منهم عالم وقارئ للقرآن، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص، وأن يجنبنا وإياكم الرياء والنفاق إنه ولي ذلك والقادر عليه.

كل علم لا ينتفع به صاحبه فهو وبال عليه وحجة عليه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2]، ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44].

وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يؤتى بالرجل يوم القيمة، فيُلقى في النار فنتدلق أقتاب بطنه –أي: أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان، يا فلان ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر آتيه»، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولذا كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله -جل وعلا- من علم لا ينفع، فيه علم لا ينفع؟ نعم. كما في صحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي من حديث زيد بن أرقم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدو الله -عز وجل- ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها» دعاء نبوي جميل، «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها».

وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "إنما أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمتَ أم جهلتْ؟ فأقول: علمتُ. فلا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتقول الآمرة: هل ائتمرتَ؟ وتقول الزاجرة: هل ازدجرتَ؟ ثم قال: أعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها".

وكان علي بن أبي طالب يقول -وإن كان في سند الأثر ضعف-، يقول: "يا حملة العلم، اعملوا به، فإن العالم مَن علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيأتي أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يقعدون حِلقًا يباهي بعضهم بعضًا، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه وجلس إلى غيره، أولئك لا تُرفع أعمالهم تلك إلى الله -عز وجل-".

أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص.

كم مذكرٍ -يا إخواني- بالله وهو ناسٍ لله! أسأل الله ألا نكون منهم أبدًا.

كم من مذكرٍ بالله وهو ناسٍ لله، وكم من مقربٍ إلى الله وهو بعيد عن الله، وكم من مخوِّفٍ من الله وهو جريء على الله، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن أحكام الله.

فالعلم المعتبر شرعًا هو العلم الذي يدفع صاحبة للعمل، هو العلم الذي يقرب صاحبه إلى الله، هو العلم الذي يورث صاحبه الخشية والإنابة والتفويض والأدب وحسن الخلق والصدق، إلى غير ذلك من أخلاق العلماء وأخلاق طلبة العلم.

أنفع الطرق لتحصيل العلم طريقان:

هذا أيضًا من بركة العلم أن ننسبه لأهله، فهذا من نفيس كلام الشاطبي -رحمه الله تعالى-: أنفع الطرق -يا إخواني- لتحصيل العلم طريقان:

الأول: المشافهة: هو ما نحن فيه الآن، أن يجلس طالب العلم بين يدي معلمه.

يقول الشاطبي في لفتة رقيقة جدًّا: "فإن الله تعالى يفتح على طالب العلم بين يدي معلمه بما لا يفتح به عليه دونه"، هل استوعبتم هذه الكلمات؟ أنت تجلس في المكتبة تقرأ كتابًا، أو تقرأ مسألة في الأصول أو في المصطلح، أو حتى في التفسير، أو حتى في اللغة، فيستشكل عليك الأمر، ويُغلق عليك باب الفهم، فإذا ما خرجت إلى شيخك وأستاذك ومعلمك وقرأ الشيخ عليك المسألة بطريقته فتوقف عند موضع وبدأ عند موضع، وبيَّن لك معنى لفظة أو ذكرك بقاعدة أصولية أو فقهية، أو.. أو..، إلى غير ذلك؛ فتح الله -عز وجل- لك مغاليق الفهم.

ولذلك يقول الشاطبي أيضًا: "كان العلم قديمًا في صدور الرجال" يقصد الصحابة -رضي الله عنهم-، "ثم انتقل من صدور الرجال إلى بطون الكتب، وصارت مفتحه بأيدي الرجال" يقصد العلماء.

"كان العلم قديمًا في صدور الرجال، ثم انتقل إلى بطون الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال" يعني العلماء، ولذلك مَن كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه.

لا بد أن تجلس بين يدي العلماء الربانيين والمشايخ الصادقين لتسمع منهم عن الله ورسوله.

فأنفع طريق لتحصيل العلم: المشافهة، أن تجلس بإخلاص نية وتواضع للعلم، وتواضع لشيخك.

كان أحد السلف يقول: "اللهم احجب عيب شيخي عني، ولا تحرمني بركة علمه".

ولما ذهب رجل إلى الإمام أحمد، وقال: يا إمام: إن فلانًا يعلمنا ويحدثنا ولا يعمل بعلمه، قال: "اعلم يا هذا أنك ستُسأل عن علمه الذي يعلمك إياه ولن تسأل عن عمله".

فأخلص النية في مجيئك للمجلس، وتواضع للعلم ولشيخك الذي يُعلمك، ولا تتعصب لشيخ.

منذ أكثر من ثلاثين سنة -والله- وأنا أعلم أحبابنا وطلابنا وأقول: لا تتعصبوا لشيخ؛ بل كونوا ودوروا مع الحق بدليله، واقبلوا الحق على لسان أي أحد، وردوا الباطل على لسان أي أحد ولو كان على لسان شيخكم الذي تتعلمون منه، فالعصمة قد دُفنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا المصطفى -عليه الصلاة والسلام.

الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين من أهل العلم بشرطين:

الأول: أن يكون الطالب فاهمًا لمصطلحات أهل العلم، وإلا سيَضِل ويُضِل، إن لم تكن فاهمًا لمصطلحات أهل العلم ستزيغ، ولقد زلَّ أقوامٌ بسبب الإعراض عن الدليل واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل، فهموا الأدلة بالهوى، فلا بد أن تكون فاهمًا للدليل، واقفًا على مراتب الدليل، محققًا لمناط الدليل، مفرقًا بين المجمل والمبين، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ حتى لا تستشهد بدليل عام لمناط خاص، وحتى لا تسحب دليلًا خاصًا لمناط عام.

إذن: لا بد من فهم مصطلحات أهل العلم.

الشرط الثاني: أن تتحرى كل كتب المتقدمين من أهل العلم من أئمة السلف، فهم أقعد بالعلم من غيرهم، وهم خير القرون بشهادة سيد النبيين: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، ليس معنى ذلك أنني أقول لك: عليك أن تقتصر على كتب المتقدمين دون الاستفادة أو الإفادة من كتب المتأخرين من أهل العلم؛ أبدًا.

فمن كتب المتأخرين من أهل العلم ما لا غنًى إطلاقًا لطالب علم أيًا كان وزنه عنها، ككتب التحقيقات والتخريجات والفهارس وغير ذلك.

الشاهد: أن أنفع الطرق لتحصيل العلم طريقان:

- الأول: المشافهة.

- والثاني: مطالعة كتب المصنفين من أهل العلم بشرطين:

الأول: أن يكون الطالب فاهمًا لمصطلحات أهل العلم.

والثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم، فهم أقعد بالعلم من غيرهم.

وأذكر في دقيقة واحدة في آخر اللقاء محذرًا من خطورة التعالم، لا تتكلم بغير علم، ولا تستحيي أبدًا أن تقول: لا أعلم، وأن تقول: لا أدري لما تجهله ولما لا تعلمه.

فلو ذُكر العلماء فعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- نجم ساطع في سماء العلم، يأتيه سائل يومًا فيسأله عن مسألة فيقول عبد الله بن عمر: "لا أعلم، اذهب إلى العلماء فاسألهم"، فيضرب الرجل كفًّا بكف، ويقول: "أنت يا ابن عمر تقول: اذهب إلى العلماء فسألهم. قال: نعم، والله لا أحسن جواب مسألتك"، فانصرف السائل، وقبَّل ابن عمر يدَ نفسه، ثم قال لنفسه: "نِعْمَ ما قال أبو عبد الرحمن، سُئِل عما لا يدري، فقال: لا أدري".

مالك إمام دار الهجرة نجم ساطع أيضًا في سماء العلم والعلماء، يقول الشافعي تلميذه النجيب: "صحبتُ مالكًا، فسئل في ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري".

الشافعي شيخ أحمد الذي قال في حقه إسحاق بن راهويه: "قال لي أحمد بن حنبل يومًا: تعالَ يا إسحاق لأريكَ رجلًا بمكة ما رأت عيناك مثله، قال إسحاق: فأراني أحمدُ الشافعيَّ، قال: فناظرتُ الشافعي في الحديث؛ فلم أرَ أعلم منه، فناظرته في الفقه، فلم أرَ أفقه منه، فناظرته في اللغة؛ فوجدته بيت اللغة، فناظرته في التفسير؛ فلم أرَ أعلم منه، ووالله لقد صدق أحمد: ما رأت عيناي مثله".

هذا الشافعي الإمام يأتيه سائل فيسأله فيسكت الشافعي، فيقول السائل: ألا تجيب -يرحمك الله- فيقول الشافعي: "انتظر يا أخي حتى أعلم هل الفضل في سكوتي أم في جوابي".

أرجو من أبنائنا وإخواننا من طلبة العلم أن يتعلموا هذا الدرس، فهو من أغلى الدروس، هذه أيها الأحبة كلمات، مضت الساعة سريعة جدًا، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وألئك هم أولوا الألباب.

وأستمع إلى سؤالين سريعين، وسأجيب أيضًا إجابة سريعة، تفضل..

{أحسن الله إليك، ما هي النصيحة في حال اختلاف العلماء في النوازل؟ والنصيحة لطلبة العلم؟}.

الشيخ:

في حالة ماذا؟

{في حال اختلاف العلماء في النوازل}.

نعم، اختلاف العلماء في النوازل وفي غير النوازل أمر قدري ثابت، قال الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118]، هذا خلاف مذموم وهو الخلاف في أصل الملة باتفاق، ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].

قال الشاطبي وابن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن حزم وغيرهم: "الخلاف المذموم باتفاق هو الخلاف في أصل الملة".

أما الخلاف في مسائل الأحكام وفي مسائل الفروع فضلًا عن الفتاوى، فهذا أمر قدري لن يزول إلى قيام الساعة، فلا ينبغي على الإطلاق أن يتوهم أحد من طلبة العلم أن هذا الخلاف بين أهل العلم من العلماء الربانيين والدعاء الصادقين سينتهي في يوم من الأيام أبدًا، لقد وقع الخلاف بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل وقع بين الملائكة، وكلكم يحفظ الحديث في قصة الرجل الذي قتل مئة نفس، قال: «فاختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب» فوقع الخلاف بين الملائكة؛ بل وقع بين الأنبياء في قصة داود وسليمان، وموسى وآدم في الحديث، الاحتجاج بالقدر، فالخلاف وارد، فأنا أرجو أن يعلم طلبة العلم أن هذا الخلاف في مسائل الأحكام ما دامت المسائل تطرح بالأدلة فهذا خلاف سائغ، وهذا خلاف معتبر.

ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء من مسائل الأحكام تهاجرا، لم يبقَ بين المسلمين عصبة ولا أخوة".

فخذ قول شيخك الذي تدين لله تبارك وتعالى بأنه الأقرب إلى الحق، وبأنه الأصوب، وبأنه الأقرب إلى الدليل، ولا حرج عليك في ذلك؛ لأن التقليد للمقلد ممن لا يحسن التعامل مع الدليل أمر ثابت وجائز.

أما مَن عرف التعامل مع الأدلة ووقف على مراتب الأدلة ومناطات الأدلة، فهذا لا يجوز له أبدًا أن يقلد أحدًا بحال ما دام قد ظهر له الحق بدليله -والله أعلم- نعم..

{شيخنا، كيف نتأدب بأدب شيخنا الذي نتلقى منه العلم؟ وسمته؟}.

الشيخ:

بكلمات ذكرتها في ثنايا اللقاء:

- أولًا: أن تخلص النية.

يقول -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان وابن ماجة وغيرهما «من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار».

فأول أمر: أن تخلص النية. ما الذي جاء بك إلى المجلس؟ أو إلى مجلس أي شيخ من شيوخنا؟ سل نفسك وحدد الغاية، وأخلص النية، وطهِّر السريرة والطوية، واستعن برب البرية أن يُعينك على تحقيق الإخلاص.

- الأمر الثاني: أن تجلس متواضعًا للعلم ولشيخك، فلا يطلب العلم مستحٍ ولا متكبر.

إذن: أن تخلص النية أولًا، وأن تتواضع للعلم ولشيخك الذي تتعلم منه.

ثم أن تسأل ربه -سبحانه وتعالى- أن يُعينك على التخلق بأخلاق شيخك الذي تتلمذ على يديه، ولا حرج على الإطلاق إن رأى الطالب من شيخه شيئًا مخالفًا للحق بدليله أن يذكره بأدب السنة، وبأدب النصيحة، فالكمال لله والعصمة لنبيه.

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعلمني وإياكم، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال والأحوال، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

على موعد -إن شاء الله تعالى- مع الدرس الأول من الدروس المهمة لعامة الأمة في اللقاء المقبل بإذنه سبحانه، وهو درس مع سورة الفاتحة ومع قصار السور.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

http://islamacademy.net/cats3.php