الحقوق محفوظة لأصحابها

سعد الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

أما بعد.. فأرحب بكم في هذا اللقاء الأخير من لقاءاتنا في قراءة الورقات في علم الأصول.

نتحدث فيه بإذن الله -عز وجل- عن الحظر والإباحة، وعن الاستصحاب، وعن المفتي والمستفتي، وأحكام الاجتهاد.

تقدم معنا في اللقاء السابق الكلام عن الحظر والإباحة، وقلنا بأن حكم الأفعال قبل ورود الشرع اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال:

-منهم من يقول بأنها على الإباحة.

- ومنهم من يقول بأنها على الحظر.

- ومنهم من يقول بأنها لا حُكم لها.

- ومنهم من يقول: لا يوجد وقت قبل ورود الشرائع.

وقلنا بأن هذا القول هو أرجح الأقوال في هذه المسألة.

بعد خروجنا سألني أحدكم عن حكم أهل الفترة، ما الحكم فيهم إذا قلنا بأنه لا يوجد وقت قبل ورود الشرائع، فنقول: أهل الفترة لهم حكم الجاهل في الشريعة التي سبقت وجودهم.

مثال ذلك: إذا كان عندنا في زماننا الحاضر أناس لم تبلغهم الدعوة، ما حكمهم؟ لهم حكم الجاهل في هذه الشريعة من جهة أن الأحكام الدنيوية لا يُطبق عليهم أحكام الإسلام فيها.

وأما في الآخرة فإننا نقول بأنهم يتعرضون للاختبار، ثم بعد ذلك يُرى مصيرهم إلى جنة أو إلى نار لقول الله -عز وجل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15].

أما بعد ورود الشريعة فإن الفقهاء اتفقوا على أن الأصل في الأفعال هو الإباحة، ويستدلون على ذلك بعدد من النصوص الشرعية من مثل قوله -عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ [البقرة: 29]، فدل هذا على أن الأصل في الأفعال هو الإباحة، ولا يُقال بتحريم فعل من الأفعال إلا بدليل شرعي، وهذا وقع اتفاق عليه.

بعض العلماء ظن أن مسألة ما قبل ورود الشرائع يترتب عليها حكم ما بعد ورود الشرائع، كما هو ظاهر كلام المؤلف هنا، ولكن هذا البناء ليس بصحيح لوقوع الاتفاق من الفقهاء على أن حكم الأفعال بعد ورود الشرائع هو الإباحة لعدد من الأدلة، منها: قوله -عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾.

لكن يُلاحظ أن الاستدلال بهذه القاعدة إنما يكون لعلماء الشريعة، أما عوام الناس فلا يصح لهم أن يقولوا: الأصل في الأفعال هو الإباحة ثم يُقدِموا على أي فعل يريدونه؛ لأنهم لا يعرفون هل ورد أدلة ترفع هذه الإباحة الأصلية أو لا.

ومن ثم نقول بأن هذه القاعدة: أن الأصل في الأفعال هو الإباحة، إنما يستدل بها علماء الشريعة، أما عامة الناس فإنهم لا يستدلون بها.

الموضوع الثاني الذي نتكلم عنه: موضوع الاستصحاب.

والمراد بالاستصحاب: الاستدلال بدليل مع تفاوت الزمن.

أو نقول عن الاستصحاب: إثبات ما كان ثابتًا، استدامة إثبات ما كان ثابتًا، واستدامة نفي ما كان منفيًا.

والأفعال الإنسانية على أنواع، عندنا في دليل الاستصحاب لا يصح أن نستدل بالاستصحاب إلا إذا لم يوجد دليل شرعي، والاستصحاب على أنواع:

النوع الأول: استصحاب الإباحة الأصلية -كما تقدم معنا في القاعدة التي قبلها- وهو أن الأصل في الأفعال هو الإباحة.

وبذلك نعلم أن المسائل التي فيها دليل إباحة فقط نأخذ بالإباحة، والمسائل التي فيها دليل تحريم فقط نأخذ بدليل التحريم، والمسائل التي فيها دليل إباحة ودليل تحريم نُرجح دليل التحريم، والمسائل التي ليس فيها دليل إباحة ولا دليل تحريم بنص المسألة نأخذ بأن الأصل في الأشياء هو الإباحة.

مثال ذلك: نقول: الأصل في المياه أنها مباحة، الأصل في المأكولات أنها مباحة، الأصل في الحيوانات الإباحة، حتى يأتي دليل يدلنا على أن هذا النوع محرم فنحكم بالتحريم.

إذن: النوع الأول من أنواع الاستصحاب: استصحاب الإباحة الأصلية.

الثاني: استصحاب براءة الذمة.

الأصل أنه لا يوجد واجبات على الإنسان، وبالتالي لا نثبت عليه واجبًا من الواجبات إلا بدليل.

لو جاءنا أحمد وقال: لي دين على خالد. فحينئذٍ نقول: لا نقبل هذه الدعوة منك إلا بدليل، وإلا أخذنا يمين المُدَّعى عليه. لماذا؟ لأن الأصل عدم لحوق الواجبات بالذمة إلا بدليل.

وبالتالي إذا جاءنا إنسان وقال: يجب عليك أن تصوم يوم الاثنين. نقول: الأصل عدم الوجوب، والأصل براءة الذمة، لا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل.

النوع الأول: استصحاب الإباحة ينفي التحريم.

والنوع الثاني: استصحاب براءة الذمة ينفي الوجوب.

النوع الثالث: استصحاب النصوص، الأصل في أن النص لا زال دليلًا شرعيًّا يُعمل به، فمن جاءنا وقال: هذا الدليل منسوخ، لم نقبل منه هذه الدعوى، لأن الأصل العمل بالنصوص الشرعية كتابًا وسنة.

كذلك هنا استصحاب العموم، في الأصل أن اللفظ العام يشمل جميع أفراده، ولا نُخصص منه بعض الأفراد إلا بدليل شرعي.

وهناك استصحاب الوصف، مثال ذلك: كنت متوضئًا في الصباح، في الظهر شككت هل لا زلت على الوضوء أو انتقض وضوؤك؟ نقول: الأصل بقاء الوصف الأول.

تزوج بفلانة قبل أربع سنوات، ثم جاءه الشيطان وقال: يمكن أن تكون قد طلقتها، فنقول: الأصل بقاء الوصف السابق وهو أنها زوجته، لا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل، وهذا يسمى استصحاب الوصف.

قال المؤلف: (معنى استصحاب الحال: أن يستصحب الأصل)، يعني الحكم المقرر في الزمان الأول عند عدم ورود دليل يُغير ذلك الأصل.

فمثلًا: عندنا الإباحة الأصلية هي الأصل، لا ننتقل، نستصحب هذا الأصل حتى يأتينا دليل يدل على التحريم.

والاستصحاب إنما يُستدل به عند عدم وجود دليل شرعي يُغير الأصل، ولا يصح أن يستدل بالاستصحاب إلا علماء الشريعة من أهل الاجتهاد.

ننتقل بعد ذلك إلى ترتيب الأدلة.

الفقيه عندما ينظر إلى مسألة فقهية يجب عليه أن ينظر في جميع أدلتها، فإن كانت الأدلة متوافقة فحينئذٍ يقوم بالعمل بمدلول هذه الأدلة لتوافقها.

أما إذا كانت الأدلة مختلفة وبعضها يدل على إباحة مثلًا وبعضها يدل على تحريم، فحينئذٍ نحاول أن نجمع بين الدليلين بأن نحمل أحد الدليلين على محل، ونحمل الدليل الآخر على محل آخر، كما تقدم معنا في مباحث التعارض والترجيح في لقاء سابق.

إذا عجزنا عن الجمع بين الدليلين؛ نظرنا في التاريخ، فعملنا بالدليل المتأخر وجعلناه ناسخًا للدليل المتقدم.

إذا لم نعرف التاريخ؛ نرجح بين الأدلة، هذا الترجيح هو مبحث ترتيب الأدلة، هذا هو مبحث ترتيب الأدلة، بحيث نعرف ما هو الدليل الذي يُقدم عند وجود التعارض بين الأدلة.

قال المؤلف: (وأما الأدلة فيُقدم الجليُّ منها على الخفيِّ)، بعض الأدلة يكون واضحًا جليًّا، وبعضها يكون خفيًّا في دلالاته، فنقدم الدليل الواضح على الدليل الخفي.

ونمثل لذلك بمثال: لو تعارض دليل الاستدلال فيه بالمنطوق مع دليل بالمفهوم، فحينئذٍ نقدم الدليل المنطوق.

ما المراد بالدليل المنطوق؟ هو الدليل الذي يدل بلفظه على محل الحكم، أما الدليل المفهوم فهو دلالة اللفظ على غير محل النطق.

مثال ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «في سائمة الغنم الزكاة»، الحديث أوجب الزكاة في السائمة. ما هي السائمة؟ التي ترعى، الحديث أوجب الزكاة في السائمة وهي التي ترعى، هذا المنطوق.

طيب.. التي لا ترعى فُهم من الحديث أنه ليس فيها زكاة، هذا يسمى مفهوم، هذا هنا مفهوم مخالفة؛ لأن المنطوق يخالف المفهوم في الحكم.

ومرات قد يكون مفهوم موافقة، مثال ذلك: قوله -عز وجل: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]، فيه إثبات الجزاء في مثقال ذرة الخير. هذا المنطوق.

طيب.. لو عمل أكثر؟ لو عمل أكثر فحينئذٍ نقول: من باب أولى أن يُجازى عليه، هذا يسمى مفهوم؛ لأنه في غير محل النطق، لأن محل النطق في ذرة، وهذا يسمى مفهوم موافقة.

لو قُدّر أنه تعارض منطوق مع مفهوم؛ قدَّمنا المنطوق لأنه جليّ على المفهوم لأنه خفي.

نمثل بمثال: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان»، فيه أن المصَّة في الرضاع لا يثبت بها المحرمية والتحريم، وهكذا أيضًا بالنسبة للمصتين لا يثبت بها التحريم، يُفهم منه أن الرضعات الثلاث تُحرم لأنه إنما نفى التحريم في المصة والمصتين، يُفهم منه أن ثلاث مصات يثبت بها التحريم، لكن وردنا في حديث آخر أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان فيما أنزل ﴿عشر رضعات محرمات﴾، فنُسِخْن بخمس رضعات معلومات"، فدلَّ هذا على أن المُحرم هو خمس رضعات، وأن ما كان أقل من ذلك فإنه لا يُحرم، فبقينا في ما كان ثلاث رضعات وأربع رضعات، هل يُحرم؟

على الحديث الأول: يُحرم.

وعلى الحديث الثاني: لا تُحرم.

فحينئذٍ نحتاج إلى المقارنة بينهما، الحديث الأول «لا تحرم المصة ولا المصتان»، إنما دلَّ بالمفهوم، بينما حديث «فنسخن بخمس رضعات»، هذا يدل بالمنطوق، فنقدم المنطوق على المفهوم، ومن ثمّ نقول بأن ثلاث رضعات وأربع رضعات لا تُحرم.

مما يحصل به الترتيب في الأدلة: أن الموجب للعلم يُقدم على الموجب للظن.

تلاحظون أن المؤلف هنا سار على طريقة المعتزلة في قوله (الموجب) لأن الأشاعرة يقولون: الدليل لا ينتج العلم، وإنما يحصل العلم عنده.

وأهل السنة يقولون: الدليل يؤثر في تحصيل العلم، لكنه ليس على سبيل الإيجاب، وإنما يؤثر بفعل الله -جل وعلا.

لو كان عندنا حديثان، أحدهما دلالته قطعية، والآخر دلالته ظنية؛ فحينئذٍ نُقدم القطعي.

مثال ذلك: ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم: «كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه»، ورد من حديث جماعات كثيرة من الصحابة، بعضهم يقول: يصلون إلى عشرين، وقيل: يصلون إلى خمسة عشر، وبهذا قال الجمهور.

لكن ورد في السنن من حديث ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم: «كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام ثم لا يعود»، فنقول: الحديث الأول رواه جماعة كثيرة يوجب القطع، أو يثبت به القطع، فنقدمه على الدليل الثاني الظني.

وهكذا أيضًا يُقدم الدليل النطقي على القياس. فلو تعارض القياس مع آية من القرآن، أو حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فأيهما نقدم؟ نقدم الآية على القياس، والقياس يكون فاسد الاعتبار.

نمثل لهذا بمثال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان معه في الحج رجل سقط عن ناقته فمات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه وكفنوه في ثوبين، ولا تُقربوه طيبًا ولا تغطوا رأسه، فإنه يُبعث يوم القيامة مُلبيًا».

القاعدة والقياس أن الموتى يُغسلون ويُطيبون وتُغطى رؤوسهم، هذه القاعدة. فلو قسنا المُحرم على غيره من الموتى لقلنا بأنه يُطيَّب وبأنه يُغطى رأسه، فأيهما أولى. نقدم القياس أو نقدم الخبر؟ نُقدم الخبر

مثال آخر: إذا جاء في الحديث أن المرأة تماثل دية الرجل إلى الثلث، ثم تكون على النصف منه، كما في السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، معناه أنه: إذا قُطع من المرأة أصبع ففيه عشر من الإبل، وإذا قُطع أصبعان ففيه عشرون، وإذا قطع ثلاثة ففيه ثلاثون، وإذا قُطع أربعة الجواب؟ أربعون خطأ، عشرون. لماذا؟ لأن المرأة تماثل الرجل في الدية إلى الثلث، ثلاثون أقل من الثلث، أربعون هذا زيادة عن الثلث، بالتالي تكون على النصف من الرجل.

هذا الحديث يُخالف القياس، فأيهما نقدم، القياس أم نقدم الخبر؟ نقول: نقدم الدليل النطقي على القياس.

هكذا لو تعارض قياسان، فإننا نقدم القياس الجلي على القياس الخفي.

والقياس الجلي قد يكون منصوص العلة، وقد يكون القياس في معنى الأصل، وقد يكون القياس الجلي مفهوم الموافقة على ما يقوله طائفة من علماء الشافعية.

إذن: قد تتعارض الأقيسة، فإذا تعارضت الأقيسة فإننا نقدم القياس الجلي.

مثال ذلك: شخص أغمي عليه لمدة ثلاث سنوات ثم أفاق، قال بعض الفقهاء: يقضي قياسًا على النائم.

وقال بعض الفقهاء: لا يقضي قياسًا على المجنون، المجنون لا يقضي الصلوات التي فاتته في أثناء جنونه، فأيهما يُقدم؟ نقول: هذا المغمى عليه أوضح شبهًا وحالًا بالمجنون، وبالتالي لا نطالبه بالقضاء.

قال المؤلف: (فإن وجد في النطق ما يُغير الأصل، وإلا فيستصحب الحال)، هذا تبع درس الاستصحاب، بحيث أن الأصل أنه إذا ورد دليل أخذنا بالدليل، ولا ننتقل إلى الاستصحاب والإباحة الأصلية إلا إذا عُدم الدليل.

ولهذا المعنى قلنا بأنه لا يصح أن يستدل بالاستصحاب إلا الفقهاء، لأنهم هم الذين يعرفون هل وُجد دليل يُغير الحكم أو لم يوجد؟

ننتقل بعد ذلك إلى المبحث الآخر وهو شروط المفتي.

المفتي: هو المُبين لأحكام الله -عز وجل- من العلماء، والمفتون هم الذين يأخذون الأحكام من الأدلة، لا يأخذونها من أقوال غيرهم، ولا يأخذون الأحكام من المذاهب الفقهية، ولا من الكتب الفقهية، وإنما يأخذون الأحكام من الكتاب والسنة.

والمفتي لا يكون مفتيًا ولا يكون مجتهدًا إلا بشروط:

- الشرط الأول: أن يكون عارفًا بالأدلة الشرعية الواردة في المسألة المُجتهد فيها.

- الشرط الثاني: أن يكون قادرًا على استخراج الأحكام من الأدلة بمعرفته لعلم الأصول، فيعرف ما يصح الاستدلال به مما لا يصح، ويعرف طرائق الفهم والاستنباط، بحيث يعرف علم الأصول، ليس معرفة نظرية، وإنما يكون عنده معرفة تطبيقية يقدر على تطبيق هذه القواعد.

- الشرط الثالث: أن يعرف من لغة العرب ما يمكنه من فهم النصوص الشرعية؛ لأن القرآن والسنة نزلا بلغة العرب.

- الشرط الرابع: أن يعرف مواطن الإجماع والاختلاف؛ من أجل ألا يجتهد في مسألة، فيُخالف الإجماع، أو يُحدث قولًا جديدًا.

ومن أجل أن يكون مقبول الفتوى عند الناس، بحيث يجوز للناس أن يعملوا به، فلا بد أن يكون عدلًا موثوقًا به؛ لأن الفاسق لا يؤمَن أن يكذب في أخباره.

قال المؤلف: (ومن شروط المفتي)، والمفتي لاحظوا أنه لا يقتصر على مَن يجيب الأسئلة فقط، بل الفتوى تشمل من يُبين الحكم ولو كان ذلك على سبيل الابتداء، وبشرط أن يُبين حكم الله، أما إذا كان ناقلًا للأحكام فهذا ليس مفتيًا.

يشترط في المفتي: (أن يكون عالمًا بالفقه أصلًا)، يعني يعرف القواعد الأصولية، يعرف علم أصول الفقه الذي نتدارسه، فيعرف ما يصلح الاستدلال به مما لا يصلح، ويعرف شروط الفتوى والمفتين، والاجتهاد والتقليد، ويعرف قواعد الفهم والاستنباط.

وكذلك لا بد أن يكون عارفًا بالفقه فروعًا خلافًا ومذهبًا بحيث يعرف أقوال الفقهاء، ويعرف مواطن الإجماع من مواطن الخلاف.

وبهذا نعرف أن المفتين على نوعين:

- النوع الأول: من يكون مجتهدًا في الفقه وفي الأصول، وبالتالي فهذا مجتهد مطلق؛ لأنه غير متقيد بمذهب من المذاهب، وإنما قواعده الأصولية بناء على ترجيحاته الخاصة، ومسائله الفرعية أيضًا يأخذ باجتهاده هو، وهذا المجتهد المطلق عند التدريس قد يُدرس كتب المذاهب الفقهية، لكن عند الفتوى وعند القضاء يفتي بناء على اجتهاده وترجيحه الخاص به.

- النوع الثاني: المجتهد في المذهب، وهو الذي يتقيد في القواعد الأصولية بمذهبه الفقهي.

مثال ذلك: يأخذ بالقواعد الأصولية والترجيحات الأصولية عند الإمام أحمد، لكنه في الفروع الفقهية قد يختلف مع المذهب.

مثال ذلك: الإمام النووي -رحمه الله- فقيه، ولكنه في الأصول يتقيد بمذهب الإمام الشافعي، بحيث لا يُرجح في القواعد الأصولية خلاف مذهب الإمام الشافعي، ولكنه في الفروع الفقهية قد يُرجح خلاف مذهب الإمام الشافعي، فيقول بأن أصول الإمام الشافعي تقتضي القول الفقهي الذي يخالف ما هو مقرر في مذهب الإمام الشافعي.

مثال ذلك: مثلًا في مسألة انتقاض الوضوء بأكل لحم الجزور، الإمام النووي يقول بأن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء، لماذا؟ قال: لأن الحديث قد صحَّ في هذه المسألة.

والإمام الشافعي يقول: "إذا صَحَّ الحديثُ؛ فهو مذهبي"، مع أن الإمام الشافعي يقول إن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء.

وهذا القول يسمونه العلماء: هذا وجه في المذهب، بحيث أن هذا الوجه قول جديد في المذهب لكنه مبني على القواعد الأصولية في المذهب.

وهناك من يتقيدون بالروايات الواردة عن الإمام فيختارون أحدها بناءً على أنها الراجحة، ولا يختارون روايات خارج المذهب، وهؤلاء يسمون أصحاب الترجيح؛ لأنهم يرجحون بين الروايات في المذهب.

وهناك من الفقهاء من يُخرِّج، بحيث يقيس المسائل الجديدة على مسائل مقررة في المذهب.

إذن الشرط الأول عند المؤلف: أن يكون المفتي عالمًا بالفقه أصولًا وفروعًا، وخلافًا ومذهبًا.

كذلك من شروط المفتي: أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد بحيث يعرف القواعد الأصولية التي تمكنه من فهم الأدلة الشرعية، يعرف أن الأمر للوجوب، يعرف أن النهي للتحريم والفساد، وهذا هو معنى قول المؤلف.

ثم قال المؤلف من شرط آخر: (عارفًا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة)؛ لأن القرآن والسنة جاء بلغة العرب، ولا يمكن فهمها إلا بهذه اللغة.

هكذا أيضًا قال المؤلف: (ومعرفة الرجال)، يعني يشترط في المفتي أن يكون عارفًا بأحوال رجال الإسناد.

وهناك من الفقهاء من يقول بأن الفقيه والمفتي لا يشترط فيه أن يكون عارفًا بالرجال، بل يجوز له الاعتماد على أقوال المحدثين في تصحيح الأحاديث وتضعيفها.

كذلك لا بد أن يكون عارفًا بتفسير الآيات التي وردت في الأحكام، وعارفًا بتفسير الأخبار التي وردت في الأحكام، فينزِّل هذه الآيات على المراد بها، أما إذا كان لا يعرف الآيات والأحاديث الواردة في الأحكام، فهذا لا يصح له ولا يجوز أن يكون مفتيًا مجتهدًا.

هذا الكلام كله في المفتي، يقابل المفتي المستفتي الذي هو السائل الذي يسأل.

أهل الفتوى لا يجوز لهم أن يسألوا، بل يجب عليهم أن يعملوا باجتهادهم؛ لقوله -تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 3]، ومن ثمَّ من كان قادرًا على العمل بالكتاب والسنة لا يجوز له أن يعمل بقول غيره، ولو كان أعلم منه وأرجح منه وأقوى في النظر منه، بل لا بد أن يعمل باجتهاد نفسه. ومن ثمَّ ليس المفتي مستفتيًا ولا يجوز له أن يعمل بقول غيره؛ بل يجب عليه أن يعمل بقول نفسه.

المستفتي هو السائل، يُشترط فيه ألا يكون عالمًا، فإن الله تعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، معناه: أن أهل الذكر لا يجوز لهم أن يكونوا سائلين؛ بل لا بد أن يكونوا مسؤولين، فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

المستفتي من يعمل بقوله؟ يعمل بقول المفتي الذي وجدت فيه شروط الفتوى السابقة.

لو قُدر أن البلد فيها أكثر من مفتي؛ فحينئذٍ لا يجوز أن تعمل بقول واحد منهم، إذا سألت أي واحد فاعمل بقوله، ويجزئك هذا عند الله -عز وجل.

وفي عصر الصحابة كان يُسئل المفضول مع وجود الفاضل.

لكن لو قُدر أنك علمت بالأقوال، وعرفت أن العالم الأول يفتي بالتحريم والعالم الثاني يفتي بالإباحة، فماذا تفعل؟ هل تختار؟ نقول: لا. هل تأخذ بما يوافق نفسك؟ نقول: لا، لا يجوز لك ذلك.

إذن ماذا تفعل؟

نقول: رجِّح بينهما. انظر مَن هو العلم، فإن كان الثاني هو الأعلم فخذ بقوله، سواء أفتى بإباحة أو تحريم، فإذا تساووا في العلم أو جهلتَ التفاوت بينهما، ما عرفت ترجح بينهما، فحينئذٍ تأخذ بقول صاحب التقوى والورع، يعني صاحب التقوى والورع حريٌ أن يُوفق، فإن الله -عز وجل- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ [الأنفال: 29]، أي قدرة تفرقون بها بين الحق والباطل، فمن اتقى الله وُفِّقَ للصواب.

ومثل قوله -عز وجل: ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، من الذي يهتدي بالكتاب؟ هم أهل التقوى، كلما كانت التقوى عندك أكثر ازدادت معرفتك بكتاب الله وتمكنت من فهمه.

وأما إذا لم تستطع الترجيح بينهما بحسب الورع فتنظر بقول الأكثر، فتسأل عالمًا ثالثًا وتأخذ بقول اثنين؛ لأن هذا أغلب على ظنك أنه هو شرع الله، لأنك أنت لا تأخذ بقول المفتي فلان لأنه فلان، وإنما تأخذ بقول المفتي لأنه يغلب على ظنك أنه يوصلك إلى حكم الله -جل وعلا-، ما الدليل على هذا؟ قوله -عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ‏﴾ [الزمر: 18]، يعني أقواه وأرجحه، قال -تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾ [الزمر: 55].

قال المؤلف: (وليس للعالم أن يقلد فيأخذ بفتوى غيره؛ بل لا بد أن يجتهد)، كما تقدم معنا.

قال: (والتقليد)، التقليد: أخذ قول العلماء والعمل به، هذا نسميه تقليد.

إذن التقليد هو الالتزام مذهب من ليس قوله حجة لذاته، فأخذك بقول العالم هذا نسميه تقليدًا، لكن أخذك بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا لا يسمى تقليدًا، يعني قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة في نفسه.

ومثله أيضًا: الأخذ بالإجماع، هذا لا يُعد تقليدًا، لأن أقوال المُجمعين حجة بنفسها.

قال المؤلف: (والتقليد قبول قول القائل بلا حجة)، يعني قبول قول القائل الذي ليس قوله حجة لذاته.

فبناءً على هذا التعريف يكون قبول قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس تقليدًا، لأن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة ودليل في نفسه.

بعض العلماء قال: التقليد: قبول -يعني أخذ والتزام- قول القائل وأنت لا تدري من أين قاله، فهذا تعريف آخر للتقليد.

فإن قلنا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول بالقياس، فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليدًا.

هناك اختلاف بين الفقهاء، هل يجتهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهل يعمل بالقياس أول لا؟ فطائفة منعوه، وبالتالي قالوا: الأخذ بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُعد تقليدًا.

وطائفة قالوا: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهد ويمكن أن يقيس. وهذا القول أصوب، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قاس في بعض المواطن.

والمؤلف يقول: (يتفرع على هذا القول بأنه يجوز أن نسمي الأخذ بأقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- تقليدًا)، لكن هذا ما يقوله أحد من أهل العلم.

ننتقل إلى المبحث الأخير من مباحث هذا الكتاب وهو: الاجتهـاد.

قلنا بأن الاجتهاد هو عمل الفقيه في استخراج الأحكام من الأدلة الشرعية، ويشترط في الاجتهاد أربعة شروط، هي:

- المعرفة بالأدلة الشرعية الواردة في المسألة تصحيحًا وتضعيفًا، ثبوتًا وعدمًا.

- والشرط الثاني: القدرة على تطبيق القواعد الأصولية واستنباط الأحكام من الأدلة بواسطتها.

- والشرط الثالث: معرفة مقدار من لغة العرب؛ يُمكنك من فهم النصوص.

- والشرط الرابع: أن تكون عارفًا بمواطن الإجماع ومواطن الخلاف.

عرَّف المؤلف الاجتهاد بأنه: (بذل الوسع في بلوغ الغرض)، لا بد أن المجتهد إذا نظر أن يستغرق وسعه بحيث يظن أنه لا يوجد دليل آخر في المسألة غير ما ورده من الأدلة.

قال: (وأما الاجتهاد فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض)، أي في تحصيل الحكم الشرعي.

إذا كان الشخص الذي اجتهد ليس مؤهلًا للاجتهاد فهو آثم.

ومن أمثلة هذا: لو وُجد عندنا كاتب في الصحيفة بدأ يستخرج الأحكام وهو ليس من علماء الشريعة؛ فحينئذٍ نقول: هذا الاجتهاد لا قيمة له، وهذا المجتهد آثم، لأنه قد دخل في باب ليس أهلًا له.

لكن لو كان المجتهد مؤهلًا للاجتهاد، وكان عنده شروط الاجتهاد، وكان كامل الآلة في الاجتهاد، فحينئذٍ لا يخلو من أحد أمرين:

- إما أن يجتهد فيصيب، فيكون له أجران.

- الحال الثاني: أن يجتهد في المسألة فيُخطئ، فحينئذٍ يكون له أجر واحد.

ودليل هذا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فأصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فأخطأ؛ فله أجر واحد».

لكن لا بد أن تلاحظوا أن هذا في المجتهد الذي اجتهد في مسألة، أما من أصدر الأحكام قبل تمام النظر في المسألة فهذا آثم على كل حال سواء أصاب أو أخطأ، لو وُجد عندنا مجتهد عُرضت عليه مسألة فلم يجتهد فيها، وقال: هذه المسألة جائزة، فهو آثم، آثم ولو أصاب الحق.

القول بأن المصيب واحد وأن ما عداه مخطئ، هو قول جماهير أهل العلم لعدد من الأدلة، منها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فأصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فأخطأ؛ فله أجر واحد»، معناه أن المجتهد قد يصيب وقد يُخطئ، وهذا قول جماهير أهل العلم، ومنهم أهل السنة والجماعة.

الأشاعرة يقولون: كل مجتهد في الفروع مصيب.

وهذا القول قول خاطئ يرده عدد من الأدلة، منها الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، وهذا القول يؤدي إلى أنه ما دام أن جميع الأقوال صواب فإنه يجوز أن نأخذ بأحدها بدون ترجيح. وهذا قول خاطئ؛ لأن الله -عز وجل- أمر بالترجيح بين الأقوال.

جاء المؤلف بدليل الجمهور في هذه المسألة فقال: (ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً، هو قول النبي-صلى الله عليه وسلم: «من اجتهد وأصاب؛ فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ؛ فله أجر واحد»).

قال: (ووجه الدليل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطأ المجتهد وصوبه أخرى)، معناه أنه قد يصيب وقد يُخطئ، هذا الكلام في الفروع الفقهية، بمعنى المسائل التي ليس فيها دليل قاطع، التي فيها أدلة ظنية.

المصيب عند الجمهور واحد والبقية مخطئون، والمصيب له أجران والمخطئون لهم أجر واحد.

أما في المسائل التي فيها دليل قاطع فحينئذٍ نقول: بأن المصيب واحد وما عداه مخطئ، والمصيب له الأجر وأما المخطئ ليس له أجر، هل عليه وزر؟ جمهور أهل العلم قالوا: عليه وزر؛ لأنه أخطأ في مسألة قطعية ثابتة.

وهناك طائفة قالوا بأنه ليس عليه وزر إذا بذل وسعه، ولعل هذا القول الثاني أرجح القولين، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعب على أصحابه في عدد من المسائل القطعية التي أخطأوا فيها لخفاء الدليل القطعي عليهم، ولذلك لما وضع عدي الخيطين تحت وساده كان مخطئًا في مسألة قطعية، ومع ذلك لم يثبت له النبي -صلى الله عليه وسلم- الإثم.

ومثل ذلك في أصحاب عيسى عندما قالوا له: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: 112]، هذا قول كفر لأن الشك في قدرة رب العزة والجلال، لكنهم لما كانوا جاهلين عُفي عنهم ولم يثبت الإثم في حقهم.

وهناك نصوص كثيرة تدل على هذا المعنى، مثال ذلك: الحديث الذي فيه: «أن رجلًا لما قرُبَ موته أوصى أبناءه أن يحرقوه وأن يفرقوا رماد بدنه في البر والبحر، فجمع الله بدنه، فسُئل لمَ فعلت ذلك؟ فقال: مخافتك يا ربي، فغفر الله -عز وجل- عنه»، فهذا مؤمن لأنه يخاف من الله، ولكنه أخطأ في مسألة قطعية تتعلق بالتشكيك في قدرة الله -عز وجل-، ولما كان هذا اجتهادًا خاطئًا؛ فحينئذٍ عفا الله -جل وعلا- عنه.

وبهذا نعلم أن الاجتهاد لا بد فيه من إتمام النظر، ولا يصح أن يبادر الإنسان في المسائل التي تعرض عليه فيفتي فيها قبل تمام النظر ولو كان مجتهدًا، لا بد أن يقلب النظر وينظر في الأدلة الواردة في المسألة، وأن ينظر في عواقب الأمور.

الاجتهاد لا يكون إلا في الأدلة الشرعية، الاجتهاد الشرعي لا يكون إلا في الأدلة الشرعية، ومن ثمّ لا يصح أن تستخرج حكمًا شرعيًا من الحوادث الفلكية أو المقارنة والمصادفة.

هنا شرط هنا لا بد أيضًا أن نلاحظه، وهو: أن الاجتهاد لا يكون معتبرًا إلا إذا صدر من الأهل للاجتهاد، المؤهل للاجتهاد، أما لو وُجد اجتهادات من أناس ليسوا مؤهلين، فهذا لا قيمة لقولهم، ولا قيمة لاجتهادهم، ولا يؤثر على الاتفاق والاختلاف، بل هذا الاجتهاد من هذا الشخص يُعد من القول على الله بغير علم ولو أصاب في اجتهاده.

وقد وردت نصوص كثيرة تحذر من القول على الله بلا علم، وتُبين أن العقوبات العظيمة تنزل على من يقول على الله بغير علم، قال الله -عز وجل: ﴿وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ [طه: 61]، وقال الله -جل وعلا: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ [الأنعام: 21]؛ أي لا يوجد أحد من أولئك الذين ينسبون إلى الله أحكامًا شرعية هم غير مؤهلين لذلك.

وقال الله -عز وجل: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 168، 169].

وبهذا نعلم أن جرأة بعض الناس في المسائل الشرعية وكونهم يبدؤون بالحكم تحليلًا وتحريمًا وإيجابًا بدون أن يكونوا مؤهلين، هذا من القول على الله بغير علم، وهو من أكبر الذنوب والآثام، وخصوصًا إذا كان ذلك القول سينتشر في الأمة كما يفعله كتاب الصحف أو يتكلم به المتكلمون في الوسائل الإعلامية.

ومن هنا نعرف، من خلال ما سبق نعرف أن المسائل على نوعين:

- مسائل قطعية، منها أغلب مسائل العقائد، فهذه المصيب فيها واحد باتفاق والبقية مخطئون، والمصيبون يجزمون بخطأ من خالفهم. لماذا؟ لأنها مسألة قاطعة، وبالتالي يجزمون بخطأ من خالفهم، لكنهم لا يثبتون على المخطئ الإثم إلا إذا وصل إليه الدليل القطعي فعاند ولم يلتزم به.

- بينما مسائل الفروع لا نجزم بخطأ المخالف، ونقول بأن قولنا صواب يحتمل الخطأ، بخلاف المسألة الأخرى.

وبذلك ننتهي من هذا الكتاب، ونفتح المجال لكم فيما يتعلق بالأسئلة، من الذي لديه سؤال؟ عبد الحكيم، نعم.

{شيخ -أحسن الله إليكم- كيف يكون في المسائل القطعية اجتهاد؟}.

الشيخ:

نعم، الاجتهاد هو العمل بالدليل، يقابله التقليد الذي هو أخذ المسألة من المجتهدين، فالعمل بالدليل هذا يسمى اجتهادًا، ولو كان في مسألة قطعية.

ونشير هنا إلى أن الإنسان ينبغي به أن يعتمد في المسائل الشرعية على من يُوثق بهم، وعامة الناس لا يتمكنون من الاجتهاد في المسائل القطعية، ومن ثمّ يجب عليهم التقليد فيها.

ولذلك قول بعض الناس: لا تقليد في المسائل القطعية. هذا ليس بصحيح لأن بعض المسائل القطعية فيها أدلة قطعية، لكنها تخفى على العامة، مثل وقوع الإجماع على بعض المسائل، العامي ما يعرف ذلك الإجماع، وحتى في أصل دين الإسلام -لذلك لعلنا نشير إلى هذه المسألة، وهي التقليد في أصول الإسلام-، بعض الفقهاء ومنهم الأشاعرة يقولون: لا يصح التقليد في أصل الإسلام، بل قد يحكمون مَن لم يكن كذلك بأنه لا يدخل في دين الإسلام ويحكمون ببطلان إيمان المقلد. وهذا القول قول خاطئ؛ بل الصواب: أن من وصل إلى الحق ولو في أصول دين الإسلام بأي طرق صحّ إيمانه.

ولذلك كان الناس في عهد النبوة يأتون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسلمون فيقرهم ولا يسألهم هل كان إسلامكم عن نظر واجتهاد أو لم يكن كذلك؟

ويدل على هذا أيضًا ما ورد في الأحاديث أن بعض الصحابة كانوا يسلمون فيعودون إلى أهليهم، ويقولون: لا نكلمكم ولا نخاطبكم حتى تتدخلوا في هذا الدين، فيدخلون تبعًا لذلك المسلم الأول.

عبد الفتاح، سؤال واحد..

{أحسن الله إليكم، هل يجوز للمستفتي أن يطلب المفتي أن يفتيه على المذهب الفلاني لأنه أعلم؟}

الشيخ:

المستفتي لا يجوز له أن يطلب أو أن يعمل بناءً على المذاهب الفقهية؛ وإنما تكون الفتوى ويكون الاستفتاء عن حكم الله -عز وجل- بحسب ما يترجح لدى المفتي.

ولذلك نقول: العامي ليس له مذهب، وإنما مذهبه مذهب إمامه، ولا يأتي المستفتي ويقول: ما هو الحكم في هذه المسألة على المذهب المالكي، وإنما يقول: ما هو الحكم الفقهي في هذه المسألة على حسب ما تعتقده يا أيها الفتي، والمفتي ما يفتي بناءً على المذاهب الفقهية، إنما يفتي بناءً على ما يظهر له من الراجح من الأقوال، نعم..

{أحسن الله إليك يا شيخنا، لو اختلف الآن مجتهدان وكلاهما يعني على تقوى وورع وديانة في مسألة اجتهادية، فمن نأخذ بقوله؟}.

الشيخ:

تقدم معنا أنه لا بد من الترجيح بحسب ثلاثة أمور:

- الأول: بقول الأعلم بحسب ما يغلب على ظن السائل، فيعمل بقول الأعلم لأنه أقرب أن يوصل إلى شرع الله.

- إذا تساووا في العلم أو لم يتمكن من الترجيح، نظر إلى الورع.

- إذا لم يتمكن، سأل عالمًا ثالثًا، فأخذ بقول الثالث؛ لأن قول الاثنين أغلب على الظن أنه هو شرع رب العزة الجلال، نعم..

{أحسن الله إليكم، ما الحكم في الشبهات، متى نأخذ بالأحوط؟}

الشيخ:

كما تقدّم معنا الاحتياط يكون شيئين:

- عند اختلاف الأدلة، بالنسبة للمجتهد يأخذ بالأحوط.

- عندنا العامي إذا اختلف عليه مفتيان ولم يُرد أن يسأل ثالثًا، يجوز له في هذه الحال أن يأخذ بالأحوط من القولين، ويكون حينئذٍ قد برئت ذمته بيقين، وهنا أشير إلى تفسير حديث: «استفتِ نفسك وإن أفتاك المفتون ثم أفتوك»، ليس معناه أن الإنسان يرجع إلى نفسه فيأخذ الحكم، وإنما يأخذ بالقول الأحوط الذي ليس فيه لجاجة في الصدر؛ لأن القول الآخر قد يكون في الصدر منه لجاجة، فيستفتي نفسه بمعنى أنه يترك ما يشكّ فيه من الأقوال.

عندك سؤال؟ لعله الأخير.

{نعم، أحسن الله إليك يا شيخ، لو أن رجلًا أخذ بمذهب معين، وأخذ بكل ما فيه، علم بكل ما فيه وعمل بكل ما عند هذا المذهب..}.

الشيخ:

هذا يسمى التمذهب، والتمذهب للتعلم فقط، وأما بالنسبة للعمل، المجتهد يأخذ بالأدلة، والعامي يأخذ بقول أحد المجتهدين.

أسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة، وأن يسبغ عليكم وعلى المشاهدين الكرام نعمه، وأن يرفع درجاتكم في عليين.

كما أسأله -عز وجل- أن يجمع كلمة الأمة على الحق، وأسأله -عز وجل- أن يحقن دماء المسلمين في كل مكان، كما أسأله -عز وجل- أن يجزي القائمين على ترتيب هذه اللقاءات وإعدادها وبثها خير الجزاء.

هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

http://islamacademy.net/cats3.php